تأثير أدب السجون في الوعي العام والحياة السياسية

“إن أخلاق الناس تتبع سلوك الحاكم، فإن كان عادلًا مستقيمًا، عدلوا واستقاموا، وإن جار وسرق، جاروا وسرقوا”
كونفوشيوس

استهلال
لم تكن الكاتبة الكندية نانسي هيوستن التي يعرفها القارئ العربي من خلال كتابها “أساتذة اليأس” عضوة في أيّ جماعة أو تجمّع. كانت تقف وحيدةً في فناء المدرسة، خلال سنوات طفولتها، لأنّها ابنة معلّم كان يتنقّل باستمرار عبر الأراضي الكندية. وحتى عندما جاءت إلى باريس في السبعينيات، وصارت طالبة رولان بارت، وتعرّفت إلى الأوساط النسوية، ونشرت في مجلة “سورسيير” مع مارغريت دوراس وجوليا كريستيفا، لم تفقد مطلقًا تلك المسافة النقدية من الجميع. عاشت هيوستن في بلدها الثاني بالتبنّي، فرنسا، برفقة زوجها عالم “السيميولوجيا” تزفيتان تودوروف مدة 40 عامًا تقريبًا، وظلّت إلى اليوم من المفكرين الذين لا يمكن التنبؤ بمواقفهم، والمثقفين الذين لا يقفون أبدًا على حياد؛ قالت في حوار مع أليكس بيثينتي بمناسبة صدور ترجمة كتابها “شفاه الحجر” إلى الإسبانية، والذي تقارن فيه سنوات تكوينها بفترة حكم الدكتاتور الكمبودي “بول بوت” زعيم الخمير الحمر، حين تواطأ المثقفون الأوروبيون بصمتهم مع الإبادة الجماعية للشعب الكمبودي.
سؤال:
-هل تعتقدين أننا جميعًا مستبدّون محتَمَلون؟
إجابة:
-“لا أعرف نساءً مستبدّات، وهذا يُلغي في الواقع نصف سكان العالم. إذا توافرت الأحوال الملائمة، يمكن لأيّ شخص أن يصبح دكتاتورًا، يتوقّف ذلك كلّه على التعليم الذي تلقّاه. لم يكن “بول بوت” شريرًا بهذا المعنى: إذ تتساوى مدرسة “تيرافادا البوذية” التي تشجّع على عدم العيش بعواطف قويّة جدًا، مع المرور بطفولة غير سعيدة. وهذه حال الألماني أدولف هتلر، من زاوية أخرى”.

تمهيد
أحاول في مقالتي أن أستقصي جدلًا واسعًا ومتشعبًا عن دور منظومة “السجون”، وانعكاساتها على المجتمعات الإنسانية في تحديد السمات السيكولوجية والسلوكية للفرد المسجون الذي أمضى في سجون “الطَّاغية”، أو “الدكتاتور” على حدّ تعبير نانسي هيوستن؛ فترةً قد تطول أو تقصر، يخرج بعدها إلى الحياة العامة -هذا إن خرج سليمًا- بسلوكيات تختلف اختلافًا بيّنًا عمَّا كان يسلكه قبل أن يُسجن. ومن ثمَّ أعمل على اسْتِقصاء مساهمة “أدب السجون” المكتوب في كشف السمات العامّة التي يخرج بها المسجون من سجنه بعد الإفراج عنه، بمعنى محاولة الإجابة عن السؤال الخطِر: من يحدد سلوك البشر في النهاية هل هو الطبع أم التطبع، وهل أنتَ/ أنتِ إلى الشر أَميَل، فيصنع منكَ/ منكِ السجن فردًا خيّرًا صالحًا؟ لأن عبارة “السجن إصلاح وتهذيب” التي تُروّجها الدول والحكومات المستبدّة عن سجونها هي في الغالب الأعم لا تكون كذلك، وحسبك أن تعود إلى “أدب السجون” المكتوب -وهو كثير- أو المصوَّر في أفلام ومسلسلات وبرامج وثائقية، لتكتشف بنفسك ذلك الفرق الكبير بين ما تروّجه الأنظمة القمعية عن سجونها ذات “العيش الرغيد” وبين الواقع المعيش فعلًا. وبكلِّ تأكيد يُضيء لنا كلام الكاتبة هيوستن أعلاه جانبًا مهمًا من عتمة سجون الأنظمة المستبدة “الدكتاتوريَّة” وما يحصل فيها، وحقيقة أمرها، فيُعيدنا كلامها إلى جذور هذه المشكلة التي استعصت على الحل.
طبعًا، يصعب العثور على دليل يُبيِّنٍ اختلافات تشريح دماغ “المسجون” عن دماغ الفرد العادي، أو لنقل عن دماغ الفرد الحرّ الذي لم يُسجن في حياته، ولا حتى مرّة واحدة. وعلى الرغم من اكتشاف علماء الأعصاب عددًا من الفروق في بنية الدماغ ووظائفه بين مختلف الأفراد، أكانوا ذكورًا أم إناثًا، أحرارًا أو سُجناء، فلا أحد يستطيع في الوقت الراهن أن يقول ما إذا كان لهذه الفروق أيّ تأثير في دماغ المسجون، وعلى وجه الخصوص ذلك الذي أمضى سنوات طويلة من عمره مسجونًا سياسيًا، أي سُجن لأنه عبَّر عن رأيه في دولة يحكمها طاغية.
وفي لقاء متَلْفز مشهور يمكن إيجاده في “يوتيوب” مع المناضلة الأميركية أنجيلا ديفيس من الحزب الشيوعي الأميركي، وهي ذات باع طويل في مسألة الدور الاجتماعي للسجون وانعكاسات هذا الدور على الأفراد الصالحين منهم والطالحين. تقول في إجابتها عن سؤال حول دور السجون في المجتمعات الحديثة: “أؤمن أنه من الممكن العيش في مجتمع بلا سجون، وقد تكون الفكرة ملائمةً للمستقبل في مجتمعٍ متبدلٍ حيث القوة الدافعة فيه هي حاجات الناس وليست الأرباح، في الوقت نفسه فكرة إلغاء السجون الآن مستحيلة لأن أيدولوجية تدعيم السجون مغروسة بعمق في جذور عالمنا المعاصر، هناك عدد كبير من الناس خلف القضبان. استخدمت السجون كاستراتيجية لمحاربة الانحراف الناتج عن العنصرية، الفقر، البطالة، الأمية، هذه المشكلات لم تعالج حتى يُسجن من ارتكب جريمةً بسببها، إنها مسألة وقت حتى يدرك الناس أن السجون ليست حلًا”.
وتقترح في بث مباشر في الفيسبوك يوم الأحد 15 حزيران/ يونيو 2020 نقلته عنها جريدة القبس الكويتية في موقعها الإلكتروني: “إن الطريقة الوحيدة للتحرر من العنصرية والتمييز الجنسي والسجون والشرطة هي إلغاء هذه المؤسسة حتى يمكن إعادة النظر في وظائفها وبناء شيء جديد. وإذا كانت الإصلاحات قد فشلت في إحداث تغير للشرطة أو السجون أو المعتقلات، فهل من المنطقي الدعوة ببساطة إلى مزيد من الإصلاحات؟ وإذا نظرنا إلى تاريخ السجون وتاريخ الشرطة، نجد أن دعوات الإصلاح تعددت في تاريخ هاتين المؤسستَين وقد نُفِّذَ عدد منها؛ ومع ذلك، زادت عنصرية منظومَتي السجن والشرطة، وصارتا أكثر قمعًا وعنفًا. نحن لا ننظر إلى السجون والشرطة بصفتهما مؤسستَين منفصلتيَن. يجب أن يبقى هذا في صميم جهدنا لبناء المجتمع الإنساني. نحن ننظر إلى الإلغاء من منظورٍ ثوري يقتضي أن نفهم ونقاوم، ليس المؤسسة وحدها، بل كل الأوضاع والقوى التي تمكّن من استمرار وجودها. نحن لا نُضيف ببساطة كلمة (إنساني) إلى اسم مؤسسة منحرفة، عنصرية جدًا بحكم بنيتها، وواقعة تحت تأثير عميق لأيديولوجيات جنسية أبوية، فنقول إننا نعلم أن الشرطة عنصرية، ونناضل من أجل شرطة أكثر إنسانية! ونقول إننا نعلم أن الحبس متحيّز طبقيًا بطبيعته، لذلك فلنكافح من أجل تحيز طبقي أكثر إنسانية، من أجل شكل أكثر إنسانية للعنف! فهذا بالضبط ما طُرح في شأن عملية الإعدام، من أجل شكل أكثر إنسانية لقتل الناس”.
أقول تعليقًا على كلام ديفيس: يصعب البحث في الفروق السيكولوجية -إن وجدت- بين المسجون والفرد الحرّ، نظرًا إلى امتلاك الأفراد منظورهم وأفكارهم الخاصة عن دور “السجون” في حماية المجتمع، بصرف النظر عمّا إذا كانوا يمحّصونها علميًا أم لا. وهذا يختلف عن موضوعات البحث الأخرى في العلوم البحتة، حيث لا يوجد لدى الأفراد قناعات أو وجهات نظر مسبقة راسخة يمكن أن تؤثر مسبقًا في عملية البحث. ويُطلق على الآراء الشائعة أو الراسخة، غير المؤسَّسة بالضرورة على الدليل، مصطلح أفكار مُنمَّطة، لأنه قد يعتنقها العلماء كما البقية، وهي تجعل البحث في هذه الفروق أكثر صعوبة من البحث في المجالات غير المعرَّضة لأفكار منمَّطة.
تفاوت أدب السجون المكتوب عربيًا في قدرته على التأثير في الوعي العامّ والحياة السياسية، ولكنه سعى بكلّ تأكيد لشرح ظاهرة مهمة جدًا، وهي طرائق التعذيب النفسي والجسدي التي ابتكرتها وطوَّرتها الأنظمة القمعيَّة في تعاملها مع السجين السياسي. ولعل برنامج “يا حريَّة” الذي أعدته وقدمته الصحافية الفلسطينيَّة-السورية سُعاد قطناني على شاشة تلفاز “سوريا” يُعطي صورة واقعيّة وحيّة عن هذه الوسائل المبتَكَرة.

مدخل
سأتحدث هنا عن نفسي؛ وأذكر خمس وقائع حيويَّة عن السجون -بمعنى أنها حيَّة، ويمكننا أخذ دلالاتها وإشاراتها وتعميمها في مقالتنا هذه- ساهمت إلى حدّ كبير في لفت انتباهي في وقت مُبكّر من حياتي إلى محنة السجون وأهلها. هذه القضية التي تؤرّق عيش البشر على امتداد رقعة الكرة الأرضية هي من دفعتني لأن أذهب بعيدًا في رصدها، لأن المعاناة لا تقع على المسجون وحده، ولكن في الحقيقة تتعدى ذلك إلى الأهل خارج السجن أيضًا -الأب والأم والزوجة والأولاد والأخوة والأخوات وحتى الأقارب الأبعد، وهذه ظاهرة تستحق الدراسة- وتحصل لهم مضايقات عنيفة من السلطات المستبدة لا يمكن تصور فداحتها، حيث تصل إلى حدِّ تنغيص عيشهم وجعلهم -عن قصد- يعيشون في جحيم حقيقيّ، وبالأخص عندما يكون سجينهم معتقلًا لأسباب سياسيّة. ومن المفيد هُنا القول إن الطريق إلى مدرستي الابتدائية التي قضيتُ فيها ست سنوات دراسيّة كان يمرّ من أمام باب السجن الوحيد في مدينة إدلب في سبعينيات القرن العشرين. ولأن السجن كان يبعد عشرات الأمتار فقط عن مدرستي فقد ترك في ذاكرتي طيف باب واسع أسود اللون يتوسطه باب آخر أصغر منه يُفتح ويُغلق من داخل السجن. ودائمًا ما كنتُ ألمح الأعداد الغفيرة من الناس ومن أهل الريف خاصةً -يظهر ذلك من لباسهم- ينتظرون أمام باب السجن لأمر ما؛ عند مروري من أمام باب السجن بعد الانتهاء من دوام المدرسة والعودة إلى البيت ظهر كل يوم.

الواقعة الأولى
فعل السجن فعله في حياتي مذ كنتُ “سجينًا” في رحم أمي. فقد ولدتُ في يوم لا أعرف تاريخه لأن أبي كان سجينًا سياسيًا، في دولة الوحدة بين مصر وسوريَّة “الجمهورية العربية المتحدة” أيام جمال عبد الناصر، نعم، كان شيوعيًّا من حزب خالد بكداش. لا أعرف المدة التي قضاها في السجن ولكن ولدتُ في تلك الأيام ولم تُسجَّل واقعة ولادتي في دائرة النفوس في مدينة “إدلب” في الشمال الغربي من سورية. وحين خرج أبي “راشد دحنون” من سجنه لم يفطن لأمري وانتظر حتى ولدت والدتي “عيوش دهنين” مولودًا جديدًا، بنتًا، فذهب إلى معارفه في دائرة النفوس، وسجَّلنا على أننا “توأم” بتاريخ 16 آذار/ مارس 1963 مع أننا لسنا كذلك. حاولتُ بعد ذلك، حين وعيتُ على الدُّنيا وأهلها، أن أستفسر من والدتي -رحمها الله- عن تاريخ ميلادي الحقيقي فكانت الإجابة مُلتَبسة، فقد أنجبت أمي سبعة ذكور وخمس إناث، ليصبح مجموع العائلة مع أبي وأمي أربعة عشر فردًا في منزل واحد مؤلف من ثلاث غرف. هذه عائلتي، وأريد من أمي بعد ذلك أن تتذكر تاريخ ميلادي؟ كثَّر الله خيرها لأنها تذكَّرت اسمي. ومع ذلك فالحزن لا يُفارقني إلى يومنا هذا لأنني فعلًا لا أعرف تاريخ ميلادي الحقيقي، وسبب ذلك أن أبي كان سجينًا سياسيًا في عهدة عبد الحميد السراج في سجن المزّة في العاصمة السوريّة دمشق.
الواقعة الثانية
في أحد أيام شتاء عام 1980 حيث قاربت الساعة العاشرة ليلًا، كنتُ أقفُ خائفًا مرتجفًا في مكتب رئيس فرع مخابرات أمن الدولة القديم في حي “الكسيح” جنوب معمل “الغزَّال- سعادة” لحلج وغزل الأقطان في مدينة إدلب، ليسألني ما علاقتي بالسيدة “ملك كامل عبد الله مروة” ماذا أقول يا سادتي، تلعثم لساني، واصطكت أسناني، وجفَّ ريقي، وفقدتُ النطق، وغابت الكلمات في ضباب كثيف، وما عدتُ أستطيع استحضارها، لا أعرف ما حدث لها، تاهت من الذاكرة ومن ثمَّ عجزت أحرف اللغة العربية في ذهني المثقل بالتساؤلات والرعب عن تشكيل جملة مفيدة. سكتُ لأنني بكل بساطة لم أسمع باسم هذه السيدة من قبل. ألحَّ في السؤال:

  • يا بن آدم تكلَّم، ما علاقتك بالسيدة “ملك كامل عبد الله مروة” كيف تعرفها، هل هي من أقاربك، من معارفك، من تكون حتى تُراسلها؟
    جفَّ ريقي تمامًا، وعجز لساني عن النطق، فاشتغل دماغي، وقلتُ في سري: أُراسلها، ما معنى أُراسلها هنا، ما قصد رئيس فرع أمن الدولة من هذا الكلام، صدقًا لم أفهم؟
    في ذلك الشتاء البارد، وكنتُ طالبًا ما أزال في الصف الحادي عشر العلمي في مدرسة المتنبي الثانوية للبنين، وتحديدًا في الشعبة التي نسميها “قاووش” لاتساعها وبرودتها -وهي تسمية قديمة، عثمانية، لغرفة السجن الكبيرة- جاءت سيارة بيجو 404 بيضاء بأربعة عناصر من مخابرات أمن الدولة إلى ثانوية المتنبي -رحمك الله يا أبا الطيب- استدعاني مدير المدرسة الأستاذ “محمود حميداني” على عجل من حصة مُدرّس الرياضيات “عبد الكريم شامي” نعم هو ابن المفتي المشهور في مدينة إدلب الشيخ “نافع شامي” وكان المُدرّس يشرح لنا درسًا في الهندسة الفراغية على ما أذكر. قالوا رئيس الفرع يُريدك في أمر ما، لا تتأخر في الحضور، الساعة الخامسة بعد العصر يجب أن تكون “مزروعًا” في الفرع. سألني مدير المدرسة بعد أن رحلوا:
    ماذا فعلتَ؟
    قلتُ:
    لم أفعل شيئًا.
    عدت إلى درس الهندسة الفراغية فاختلط أمامي على السبورة الحابل بالنابل، مثلث متساوي الساقين تكسرت “سيقانه” وخرج من ربع الدائرة “بالسيقان”، بالظلط، يعني ظلط ملط، والزاوية الحادة انفرجت نحو مستقيم مماس لمحيط الدائرة، وتفككت أضلاع متوازي الأضلاع في الفراغ وتناثرت في الاتجاهات كلها.
    قلتُ:
    والله العظيم لا أعرفها يا سيدي.
    قال:
    كيف لا تعرفها يا بن آدم وأنت تُراسلها!؟
    مرةً أخرى قلتُ في سري: أُراسلها، ما هذه الداهية التي دهت رئيس فرع أمن الدولة؟ وكنتُ يومها متأثرًا بقراءة رسالة الغفران بتحقيق عائشة عبد الرحمن “بنت الشاطئ” مع أنني لم أفهم الكثير من مفرداتها، ومع ذلك كنتُ أتابع القراءة بين يوم وآخر.
    ثمَّ راح يُفتش بين أوراق مكتبه، فجأة، لمحتها، ورقة دفتر مدرسي مكتوبة بخط يدي مغروزة في ظرف رسالة زُينت حواشيه بالأحمر والأسود -سقى الله تلك الأيام التي كُنا نتراسل فيها بالورق- رفعها رئيس فرع مخابرات أمن الدولة بين أصابع كفه اليمنى، ففهمت الأمر بلمح البصر، وحمدتُ الله في سري لأنني فهمت أخيرًا سبب استدعائي.
    سأل:
    أليست هذه الرسالة لك؟
    أجبتُ بثقة هذه المرّة:
  • نعم، يا سيدي، هذه رسالتي، وأنا كتبتُها، وهذا خطي.
    انشرح صدري، وزال خوفي، وعادت ثقتي بنفسي قليلًا، ولا أدري كيف خطرت في بالي تلك اللحظة كلمات الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم التي يُغنيها الشيخ إمام وهي من أوائل الأغنيات التي وصلتنا عبر أشرطة “الكاسيت” إلى مدينة إدلب:
    الخطّ دا خطّي
    والكلمة دي ليّا
    غطّي الورق غطّي
    بالدمع يا عنيّا
    شطّ الزتون شطيّ
    والأرض عربيّة
    نسايمها أنفاسي
    وترابها من ناسي
    وان رحت أنا ناسي
    ما ح تنسانيش هيّا
    والخطّ دا خطّي
    والكلمة دي ليّا
    قال مستفسرًا من جديد:
  • من تكون السيدة ملك كامل عبد الله مروة؟
  • يا سيدي عفوك، هذه ليست سيدة، وأنا لا أعرف من تكون، هذا عنوان بريد مجلة “الهدف” الفلسطينية التي تصدر في بيروت والتي أسسها غسان كنفاني وهي ناطقة باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي يرأسها جورج حبش، وأنا أنشر فيها بعض المقالات والخواطر والقصص، وهذه التي في الرسالة قصة من قصصي.
    كنت قد تعرَّفتُ إلى مجلة “الهدف” من واجهة مكتبة “ولي زكي” في شارع شكري القوتلي وسط مدينة إدلب، كان ثمن العدد يومها ليرة ونصف ليرة سورية، وكان يحمل الرقم 449 تاريخ 11 آب/ أغسطس 1979 وعلى غلاف العدد صورة طولية ملونة لـ جورج حبش وكنتُ أسمع بالحكيم ولا أعرف صورته قبل شرائي ذلك العدد.
    المهم، وكله مهم، خرجتُ من فرع مخابرات أمن الدولة بعد منتصف الليل بعد حبسي لساعات في زنزانة انفرادية كل شيء فيها مقرف، تجمعت كل أقذار العالم وروائحه المقززة فيها. وكنتُ قد أخبرتُ أصدقائي أن يسألوا عني إن تأخرت حتى الصباح، لأنني لم أخبر أهلي حتى لا نزيد الطين بلَّة، ولكن -الحمد لله- حُلَّت قضيتي بأيسر السبل وعدتُ إلى البيت سالمًا.
    وحكاية الرسالة بسيطة لا تستحق كل ذلك العناء. قصة قصيرة كتبتها تلك الأيام وحملت عنوانًا لافتًا “الانقلاب العسكري” وأرسلتها بالبريد العادي من مدينة إدلب إلى عنوان مجلة “الهدف”: بيروت- لبنان-كورنيش المزرعة- ملك كامل عبد الله مروة- صندوق بريد /212/ رئيس التحرير بسام أبو شريف. فوصلت إلى فرع مخابرات أمن الدولة، كيف!؟ أنا لا أعرف. وقد كان مكتب مجلة “الهدف” في بيروت في بناية يملكها أو هي ملك السيد “كامل عبد الله مروة” صاحب ومؤسس جريدة “الحياة” المشهورة. اشتبه من يفتح الرسائل بالعنوان وبجملة أو جملتين في القصة فوضع تحتها خطوطًا حمراء، سألني رئيس فرع أمن الدولة عما أقصده من تلك الجُمل، فشرحتُ له. وما كنتُ أعلم يومها أن الرسائل تُفتح وتُراقب من الأجهزة الأمنية في سورية.
    بقيت النسخة الوحيدة من قصة “الانقلاب العسكري” عند رئيس فرع مخابرات أمن الدولة لأنه رفض إعطائي رسالتي حين طلبتها منه قبل انصرافي من مكتبه. قال لي يومها: وراء در أمام سر.
    لذلك نسيت القصة ولم أجرؤ على العودة إليها وكتابتها من جديد. ولكن شاءت المصادفة بعد سنوات أن أجد بين أوراقي التي أحتفظ بها، بحكم العادة، مسودات القصة فكتبتها من جديد وأرسلتها إلى مجلة “الهدف” فنشرتها في صفحاتها الثقافية. وكي تكتمل القصة لم يصل ذلك العدد الذي نُشرت فيه إلى المكتبات، صادر ذلك العدد جهاز رقابة المطبوعات في سورية، ولم يسمح ببيعه في المكتبات العامة، لا تظن ظنونًا سيئةً، كلا، ليس من أجل قصتي صُودر العدد، بل كان على غلاف العدد رسم للرئيس المصري وهو يرتدي علمًا أمريكيًا، وكانت علاقة سورية جيدة تلك الأيام مع الرئيس المصري محمد حسني مبارك فمُنع توزيع العدد في المكتبات السورية.

الواقعة الثالثة
كان مصطفى الحسين معلّمي في المرحلة الابتدائيَّة في مادة العلوم الاجتماعيَّة في مدرسة “النهضة الإسلاميَّة” عند أطراف التلة الشرقيَّة في مدينة إدلب، وقد تحوَّلت هذه المدرسة إلى “فرع المخابرات الجويَّة” الذي فُجّر بسيارة مفخّخة يوم الاثنين 30 نيسان/ أبريل 2012 ما أسفر عن مقتل العميد علي يوسف رئيس فرع المخابرات الجويَّة في إدلب وتدمير القسم الأكبر من مدرستي الابتدائيَّة بفعل التفجير، وقد أحزنني هذا الأمر كثيرًا. ومن المفارقات المذهلة في دلالتها أنَّ أغلب أفرع المخابرات في مدينة إدلب كانت مدارس ابتدائيَّة. سُجن معلمي في مدرسة النهضة الإسلاميَّة مصطفى الحسين في عهد حافظ الأسد ثمانيّة عشر عامًا (من 1980 إلى 1998) بتهمة الانتماء إلى المكتب السياسي في الحزب الشيوعيّ السوريّ أو بما بات يُعرف بجماعة “رياض الترك”. والتهمة حقيقيّة، فقد كان فعلًا من أعضاء المكتب السياسيّ في هذا الحزب المحظور، وكان ملاحقًا أمنيًّا ومختفيًا عن أنظار المخابرات خلال الانتفاضة السوريّة التي قادها حزب “الإخوان المسلمين” في سوريّة ربيع عام 1979 والتي جوبهت بعنف شديد وتغول صارم من فِرَق الجيش السوريّ -الفرقة الثالثة بقيادة شفيق فيّاض مثلًا- وأفرع المخابرات السوريَّة المتعددة. كيف استطاع مصطفى الحسين الاختباء في مدينة صغيرة كلّ تلك الفترة؟ يا سيدي أفرغ خزان الماء الحجري من مائه على سقيفة حمّام بيته في المساكن الشعبيّة الجنوبيّة التي قصّ شريط افتتاحها عام 1970 “عبد الله الأحمر” محافظ “إدلب” في تلك الأيام. وصار مصطفى الحسين يختبئ في هذا الخزان بعد أن موَّه باب السقيفة فصار الباب والحائط سواء. وكان مصطفى الحسين كلَّما شعر بأن دورية المخابرات اقتربت من باب بيته يصعد بلمح البصر ويختبئ في خزان الماء الفارغ قبل أن يفتحوا لهم باب المنزل. واستمر الأمر لشهور عديدة. ولكن دوام الحال من المحال كما يُقال، وسبحان مُغيّر الأحوال، فقد كان عنده جار “الحيط ع الحيط” وهذا الجار من الغيورين على مصلحة الوطن ويُحب فعل الخير لوجه الله -لن أذكر اسمه لأنه مات رحمه الله، وعلينا أن نذكر محاسن موتانا، فقد كان شاعرًا، نعم، كان يكتب الشعر والمسرحيات، ويُمثل أيضًا على خشبة مسرح الخنساء في إدلب- وذات مساء خابر دورية المخابرات -باتصال هاتفي- وهو متأكد مئة في المئة بأن جاره مختبئ في بيته الآن وقد سمع صوته، “كَبَسَتْ” دورية المخابرات البيت ووجدت مصطفى الحسين في خزان الماء الفارغ: فكانَ ما كانَ مما لستُ أذكرهُ/ فظنّ خيرًا ولا تسألْ عن الخبرِ. ورحم الله الشاعر العباسي ابن المعتز على هذا البيت الأنيق.
مصطفى الحسين من بلدة “الفوعة” وأهلها شيعة، شرّدتهم الحرب السورية عن ديارهم وتقع إلى الشمال من مدينة إدلب، أبعد من “شلفة حجر” بقليل. وكنتُ أظنُّ في صغري أنّ أهل “الفوعة” شيوعيَّة مش “شيعة”. وكان مصطفى الحسين صديقًا لوالدي يسهر عندنا سهرات طويلة جدًا يخوض مع والدي حتى الركب في حديث السياسة الذي لا ينتهي، ويعبق في أثناء النقاش بيت الضيوف برائحة التبغ المميزة والتي تبقى في هواء الغرفة ومقتنياتها لأيام، فقد كان مصطفى الحسين مدخنًا شرهًا، وأبي لم يُدخن ولو سيجارة واحدة في حياته.
بعد أن خرج مصطفى الحسين من سجنه رأيته في صيف عام 2000 وكان يجلس على الرصيف أمام دكان والدي يشربان الشاي ويتحدثان في السياسة كما كانا في عهدهما السابق، ومصطفى الحسين يُدخن سجائر “حمراء قصيرة” المشهورة في سورية. سألته: كيفك؟ قال: مليح. كان قد تغيَّر كثيرًا والدُّنيا تغيَّرت هي الأخرى. ثمَّ بعد حين سمعت من والدي بأنه مات ودفن في بلدة الفوعة. وقد ترك مصطفى الحسين مخطوطة من ألف صفحة عن الصراع الطبقي في الإسلام. حاولت أن استفسر من ابنه “مالك” -قُتل في ما بعد في أثناء الحصار الطويل لبلدة الفوعة- عن مصير المخطوطة والذي جمعتني به مصادفة سعيدة في يوم الثلاثاء 13 آذار/ مارس 2014 وقد باح بخبر مفرح فحواه أن المخطوطة موجودة عند صديق ويعمل على رقنها على جهاز الكمبيوتر وستصدر في كتاب.

الواقعة الرابعة
تحكي الواقعة الرابعة عن مصطفى آخر، من بلد آخر، وقد عاش محنة السجن الرهيب تسعة أعوام كاملة من دون وجه حق، وشاهد الأهوال في تلك السنوات، وكتب فيها أدبًا محترمًا. ولعل رواية “لا” التي كتبها في السجن ثمّ هرَّبها إلى الخارج، لترى نور الحريّة، هي واحدة من أبدع الروايات عن “أدب السجون” في الوطن العربي، وقد تحولت الرواية إلى مسلسل ناجح عُرض على شاشات التلفاز في عدة أقطار عربيّة. وقد سألتني إحدى الصديقات المُهجّرات من الشمال السوري والمقيمة اليوم في الدنمرك. قالت: كيف حالك مع مصطفى أمين؟ قلت: صاحب جريدة أخبار اليوم؟ قالت: نعم، هو بعينه. قلت: صحبتي جيدة معه، وأكنّ له كلّ احترام وتقدير. وقد جمعتُ في مكتبتي الإلكترونية جميع كتبه التي استطعت الوصول إليها، قرأتُها بشغف أكثر من مرة، خاصة تلك الرسائل التي كان يُهرِّبها من سجنه. ونشرها في كتب: “سنة أولى سجن” و”سنة ثانية سجن” و”سنة ثالثة سجن” وهي متوفرة عبر مواقع تحميل الكتب على “غوغل” وأنتِ لن تفهمي الرجل إلا من خلال كتبه التي كتبها في سجون جمال عبد الناصر، حيث أمضى تسع سنوات مسجونًا بتهمة -على الأغلب كاذبة- وهي تعامله مع الاستخبارات المركزية الأميركية تلك الأيام.
في أوائل سبعينيات القرن العشرين قامت ابنتاه رتيبة وصفية بزيارة للسيدة جيهان السادات مع السيدة أم كلثوم، أملًا في التوسط من أجل الإفراج عن والدهما في عام 1972، ولم تُوَفَّقا في الإفراج عنه فورًا. لكن الرئيس المصري أنور السادات أصدر قرار العفو عنه عام 1974 بعد حرب تشرين الأول/ أكتوبر.
من جهةٍ أخرى، أكد صلاح نصر في كتابه “عملاء الخيانة وحديث الإفك” الذي صدر في عام 1975، أن مصطفى أمين كان جاسوسًا -ولكن من دون دليل- وشرح بالتفصيل علاقته بالمخابرات المركزية الأميركية. والأكثر من ذلك، ذكر صلاح نصر أن جهاز مكافحة التجسس كان يحتفظ بملف حول علاقته بالمخابرات المركزية الأميركية، حتى من قبل ثورة تموز/ يوليو 1952. وطبعًا قرأتُ الكتاب، وأيضًا قرأتُ كتاب عبد الله إمام “صلاح نصر الثورة والمخابرات والنكسة”، وهو عبارة عن تجميع وتلميع ضمَّ صورًا وحوارًا سخيفًا سقيمًا مع صلاح نصر. وفي الكتاب وثائق أيضًا، منها نص الخطاب الذي أرسله مصطفى أمين من سجنه إلى جمال عبد الناصر، ولا نطمئن إلى “موثوقية” هذا الخطاب، وفيه من دسِّ المخابرات الشيء الكثير. وذلك يثبت أن المخابرات المصرية هي التي لفقت تهمة التجسس في ملف مصطفى أمين، ولم يكن الرجل جاسوسًا ولا عميلًا. كان صحافيًا لامعًا راعبًا، حتى لرئيس الجمهورية.
ما يهمني في شأن مصطفى أمين، أن أسجل بعضًا من الحوادث والمواقف التي حصلتْ له في سجنه، وهرَّبها كتابةً لزوجته أو لأخيه علي في لندن. وقد لاحظت أمرًا غريبًا ومهمًا جدًا استخلصته من أعوام سجن مصطفى أمين: عندما يحترم السَّجّان سجينه، فإن المواطن في تلك الدولة يكون محترَمًا في الشارع وفي بيته وفي عمله وفق الدستور والقانون المرعيين. وعندما يكون السجان وحشًا في تعامله مع سجينه، فإن المواطن في هذه الدولة يُجرَّد كليًا من جميع حقوقه المنصوص عليها في الدستور والقوانين، ويصبح عيشه أشبه بعيش الوحش في الغابة. وهذا يوكّد لنا القاعدة الفكرية الخطيرة التي ترجع إلى كونفوشيوس، وتوسع فيها أهل الفكر في الحضارة الإسلامية، وتقول: إن أخلاق الناس تتبع سلوك الحاكم، فإن كان عادلًا مستقيمًا، عدلوا واستقاموا، وإن جار وسرق، جاروا وسرقوا.
سأحكي هنا بتصرف عن واقعة من حياة مصطفى أمين في سجنه تحمل في طياتها دلالات كثيرة ومهمة. وفي العموم ما كتبه مصطفى أمين في سجنه وعن سجنه يستحق دراسة مفصّلة ومنفصلة آمل أن يسمح الوقت في المستقبل القريب الخوض فيها. وفي ظني أغفل الباحثون العرب تجربة سجن مصطفى أمين بسبب التهمة الملفَّقة “عميل أميركي” التي سُجن بسببها:
سجن القبة
تموز/ يوليو سنة 1965
عزيزتي
كان من بين وسائل التعذيب التي لجأوا إليها أن صدر قرارٌ بمنعي من الأكل والشرب. الحرمان من الأكل مؤلم، ولكنه محتمَل. الجسم يتحمل الجوع. ولكن العطش عذاب لا يحتمل. وخاصة أننا في أواخر شهر تموز/ يوليو. والحرارة شديدة قاسية. وأنا مريض بالسكريّ، ومرضى السكريّ يشربون الماء كثيرًا. في اليوم الأول تحايلتُ على الأمر. دخلتُ إلى دورة المياه فوجدتُ فيها إناء الاستنجاء. وشربت من ماء الاستنجاء. وفي اليوم التالي فوجئت بأنهم عرفوا أنني شربت ماء الاستنجاء. فوجدتُ الإناء فارغًا ووجدت معه ورق تواليت. واضطررت إلى أن أشرب من ماء البول، حتى ارتويت. وفي اليوم الثالث لم أجد بولًا لأشربه.
الجوع لمدة ثلاثة أيام أمر محتمَل، أما العطش فهو عذاب مثل ضرب السياط. كنتُ أسير في زنزانتي كالمجنون. الحر في شهر تموز/ يوليو مؤلم. جفّ لساني، جفّ حلقي. أمدّ لساني أحيانًا وألحس الأرض، لعل الحارس نسي نقطة ماء، وهو يغسل البلاط. وبينما أنا أدور حول نفسي وأنا أترنح، رأيت باب الزنزانة يُفتح في هدوء، ورأيت يدًا تمتد في ظلام الزنزانة تحمل كوب ماء مثلج. فزعت. تصورت أنني جننت. بدأتُ أرى شبحًا. لا يمكن أن يكون هذا ماء. إنه سراب. تمامًا كالسراب الذي يرونه في الصحراء. وما لبثت أن وجدت الكوب حقيقيًا. مددتُ يدي ولمست الكوب. فوجدته مثلجًا فعلًا. وقبضتُ على الكوب بأصابعي المرتعشة. ورأيتُ حامل الكوب يضع إصبعه على فمه وكأنه يقول لي: لا تتكلم. وشربتُ الماء. ألذّ ماء شربته في حياتي. أحسستُ بسعادة لم أعرفها من قبل. كل ذلك من أجل كوب ماء.
ومضت أيام التعذيب من دون أن أرى الحارس المجهول. وذات يوم رأيتُه أمامي، وكنا على انفراد وقلتُ له هامسًا: لماذا فعلت ما فعلت؟ لو ضبطوك، لفصلوك. قال باسمًا: يفصلونني فقط؟ كانوا سيقتلونني رميًا بالرصاص. قلت: ما الذي جعلك تقوم بهذه المغامرة؟ قال: إنني أعرفك ولا تعرفني.
منذ تسع سنوات تقريبًا أرسل فلاحٌ في الجيزة خطابًا لك. يقول فيه إنه فلاح في إحدى القرى، وإن أمنية حياته أن يشتري بقرة، وإنه مكث سبع سنوات يقتصد في قوته وقوت عياله، حتى جمع مبلغًا من المال، ثم باع مصاغ زوجته، واشترى البقرة. وكان أكثر أهل القرية تقىً وورعًا وصلاةً وصيامًا. وبعد ستة أشهر ماتت البقرة. مع أن البقر الذي يملكه باقي الفلاحين في القرية الذين لا يصلون ولا يصومون ولا يعرفون الله، بقي في قيد الحياة. وفي ليلة القدر بعد ذلك بأشهر، دُقّ باب البيت الصغير الذي يملكه الفلاح. ودخلت محررة من جريدة “أخبار اليوم” تجرّ وراءها بقرة. وكانت قد اعتادت الجريدة أن تُحقق أحلام مئات من قرائها في ليلة القدر من كل عام. وسكت الحارس المجهول لحظةً، ثم قال: هذا الفلاح الذي أرسلتم إليه البقرة منذ تسع سنوات، هو أبي.

الواقعة الخامسة
وحدها المصادفة قادتني لأتعرَّف على قصَّة نزلاء ذلك السجن الرهيب في “تازمامارت” في المغرب العربيّ، وأنا ابن بلاد الشام، ونادرًا ما كانت تصلنا أخبار المغرب العربيّ قبل ظهور البث الفضائي. كنا نتلقَّف أخبار ذلك المغرب العربيّ البعيد عن طريق بعض الصحف والمجلات العربيّة التي كانت تصدر في بيروت مثل مجلة “الهدف” التي أسسها غسّان كنفاني في صيف عام 1969، ومجلة “الحريّة” التي كانت تصدر شراكة بين الجبهة الديمقراطيّة لتحرير فلسطين نايف حواتمة، وحزب العمل الشيوعي محسن إبراهيم.
أصبح معتقل تازمامارت رسمًا دارسًا الآن، مع ذلك خرج اسمه من السريّة إلى العلن، وانتشرت قصَّته عبر العالم وأصبح نموذج المعتقل الرهيب في أحوال تنعدم فيها أبسط شروط الإنسانيّة، مع أنَّ وزارة الداخلية المغربية ظلَّتْ تنكر وجود السجن إلى حين إغلاقه في 1991 ومن ثمَّ هدمه بالكامل، ولكنه بقي في الذاكرة الجمعية لنزلاء زنازينه أو “قبوره” كأحد أفظع مراكز الاعتقال السرية في زمن ما يسمى بسنوات الرصاص في المغرب.
معتقل تازمامارت في منطقة قروية وعرة المسالك، تتبع محافظة الرشيدية في الجنوب الشرقي للمغرب، على بعد 20 كيلومترًا من مدينة الريش. أقيمت زنازين تازمامارت داخل ثكنة عسكرية قديمة شيدها الجيش الفرنسي عندما كان في المغرب. ضم المعتقل 58 زنزانة موزّعة على مبنيين: ألف وباء. وكل زنزانة عبارة عن علبة مستطيلة من الاسمنت، طولها ثلاثة أمتار وعرضها متران وعلوّ سقفها عن أرض الزنزانة أربعة أمتار وليست كل الزنازين سواء. وهذه الزنزانات في عتمة دامسة، وهذه العتمة ألهمت الروائي المغربي “الطاهر بن جلّون” ليكتب روايته عن أحد نزلاء هذا السجن بعنوان “تلك العتمة الباهرة” ولا يشق صمت تلك العتمة الباهرة غير شعاع من الضوء باهت يتسلل مع الهواء من خلال ثقوب صغيرة في صاج باب الزنزانة المغلق دائمًا.
استقبلت زنازين السجن 58 ضابطًا عاشوا في ما يشبه المقبرة بحسب روايات الناجين. عند اتخاذ قرار الإفراج عن السجناء كان 28 منهم فقط من صمد بإرادة الحياة 18عامًا، بينما قضى الآخرون في محنة البرد القارس والجوع والمرض والعزلة.
تفيد يوميات السجن التي وثّقها عدد من الناجين أن نيَّة القائمين على السجن كانت تتجه إلى جعل تازمامارت مكانًا للموت البطيء، حيث قُطعتْ عن المعتقلين كل أسباب الحياة، والتواصل مع الخارج، غير أنّه مع تسرب قصّة المعتقل، تنامى الضغط الإعلاميّ والحقوقيّ من خارج المغرب في اتجاه الكشف عن مصير المختطفين والمعتقلين، فجاء الإفراج عمّن تبقّى في السجن في 23 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1991.
وقد لعبت كريستين السرفاتي زوجة المناضل الماركسيّ أبراهام السرفاتي دورًا في التعريف بمأساة المعتقلين خارج الحدود وخصوصًا فرنسا، بينما ساهمت الأميركيّة نانسي، زوجة أحد المعتقلين، في تصدير صوت المأساة إلى الخارج، وكذلك ساهمت الطبيبة الصيدلانيّة عايدة، زوجة الطيار صالح حشَّاد، في تقوية صمود المعتقلين بعد نجاحها في تسريب كميات من الأدويّة إلى المعتقل.
ألهمتْ مرحلة السجن بعض الناجين وغيرهم من الأدباء المغاربة كتابة سير ذاتيّة وروايات مستَلهمة من يوميات المعاناة داخل الزنازين. ومن أبرز الناجين الذين كتبوا سيرةً راجت كثيرًا: أحمد المرزوقي بكتابه “الزنزانة رقم ١٠” ومحمد الرايس بكتاب “من الصخيرات إلى تازمامارت: تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم” وكذلك مذكرات الطيار صالح حشَّاد. وألف الكاتب المغربي الطاهر بن جلون رواية بعنوان “تلك العتمة الباهرة” مستندًا إلى كتاب مذكرات السجين عزيز بينبين “تازماموت” ولعل حكاية السجين عزيز بينبين تستحق أكثر من رواية، وهذا ما كان، فقد كتب الروائيّ والفنان التشكيليّ ماحي بينبين روايةً بديعةً عن حكاية أخيه عزيز بينبين أحد نزلاء معتقل تازمامارت وكان والدهما محمّد بينبين جليسًا للملك الحسن الثاني “مؤنس الملك” لا يُفارقه ليل نهار وابنه عزيز مُغيب في ذلك السجن الرهيب مدة 18 عامًا، مفارقة “شكسبيريّة” مذهلة في واقعيتها ودلالتها، ومن هنا استحقت أن تُروى.

ملحوظة
شاعتْ قصة معتقل تازمامارت في مشرق الوطن العربيّ، حين استضاف أحمد منصور في برنامجه المشهور “شاهد على العصر” على قناة الجزيرة في ربيع عام 2009 المعتقلين السابقين في “تازمامارت” الضابط في سلاح المشاة أحمد المرزوقي والضابط في سلاح الطيران صالح حشَّاد في عشر حلقات لكلٍّ منهما.
وأنا إذا أقف هذه الوقفة المستفيضة في مقالي هذا مع أسرة “محمّد بينبين” الفقيه الذي كان مُؤنسًا للملك الحسن الثاني لعقود من الزمان من خلال محنة ابنه “عزيز بينبين” في معتقل تازمامارت، فأنا هنا أستشعر هول المُصاب الذي يُصيب أهل السجين السياسيّ، وهو أعظم هولًا مما أصاب السجين نفسه. نحن نعلم جيدًا من خلال الدراسات البحثية عن الحالة النفسيّة والجسدية -ففي حالات كثيرة يخرج السجين مشوهًا نفسيًا وجسديًا- التي تنتاب السجين من خلال فترة الاعتقال الطويلة. وقد شاهدتُ فعلًا نماذج مروعة في سجون العراق “سجن نقرة السمان” وفي سورية “سجن تدمر” وفي مصر “السجن الحربي في الواحات الغربية” وفي المغرب العربي “سجن تازمامارت”. روّعت هذه السجون آلاف العائلات التي سُجن فيها أحبتهم سنين طويلة، خرج بعضهم إلى الحريّة، ومات الآلاف منهم داخل هذه السجون. ومن خرج منها سليمًا كتب أدبًا مؤثرًا سليمًا عن تلك الأيام في سجنه. وعند قراءة “أدب السجون” هذا يعترينا الخجل من أنفسنا، وهذه أغلى سمة من سمات هذا الأدب، التي ينبغي لنا أن نتعلمها إذا كان من الممكن تعلم ذلك. فهو يجبرنا على أن نستحي، ويقضي على كافة محاولات التهرب وتبرير الشر والفساد الخلقي.

مأساة شكسبيريّة
على الغلاف الأخير لرواية “مؤنس الملك” يكتب المؤلف ماحي بينبين كلمة مؤلمة تختصر مضمون روايته، إذ يقول:
“ولدتُ في عائلة شكسبيرية لأبٍ عاش طوال أربعين عامًا في خدمة الملك، وشقيقٍ أُبعد إلى سجنٍ من سجونه. للحكايات أبوابٌ يعرف الحكّاؤون جيّدًا إنّها تفضي إلى السلطة من جهة، وإلى الحريّة من الجهة المقابلة. عند ذلك الباب، وقف والدي وكان عليه أن يختار. وقد اختار سموَّه. تخلّى عن زوجته وأولاده، وترك شقيقي لمصيره، لتعيش عائلتنا طوال 18 عامًا مسكونةً بألم الغياب. ما حجّة مؤنس الملك؟ وما حجّة الوالد الذي فيه؟ لمَ قد يزجُّ إنسانٌ نفسه في العزلة ويرميها في أحضان العبودية؟ غريبةٌ هذه الدنيا، وغريبة كانت الحياة التي اختارها أبي. منذ سنوات وأنا أحاول أن أروي قصته. اليوم أضعها بين أيديكم: حكايةٌ تفيض بسحر الحكايات الغابرة، وتغرق في كابوس مأساة إنسانية”.
للوهلة الأولى، يبدو المشهد غريبًا جدًا، وكأنه أحد المشاهد الخارجة من حكايات ألف ليلة وليلة، إذ كيف نُصدّق بأن أبًا يعمل نديمًا ومُؤنسًا للملك المغربي الحسن الثاني يترك فلذة كبده في واحد من أفظع سجون المملكة طوال 18 عامًا؛ خصوصًا إذا علمنا أن الأب كان يتمتّع بحظوة استثنائية لدى الملك، من المُفترض أن تُمكّنه من إخراج ابنه من غياهب المعتقل الرهيب؟
يقول ماحي بنبين: “في كتاباتي كلها، وقفتُ إلى جانب أخي الذي أمضى 18 سنة في معتقل الموت تازمامارت، بعد مشاركته في انقلاب عسكري ضد الملك في يوليو 1971. خلال هذا اليوم، كان والدي مختبئًا في قبو إلى جانب ملك البلاد، في الوقت الذي كان ابنه؛ مُدجّجًا بسلاحه، يقوم بمذبحة في القصر. قصة كهذه مُثيرة بكلّ المقاييس بالنسبة إلى أيّ كاتب، وفي هذه الرواية، قرّرت أن أمنح الكلمة لوالدي. أفسحت له المجال كي يدافع عن نفسه؛ ويتحدّث عن جراحه ومأساته”.
وقال ماحي بينبين إنه اعتمد خلال كتابة روايته على تسجيلات لوالده، كان قد سجلها أخوه غير الشقيق على مدار 25 سنة، كان يروي خلالها تفاصيل قصته مع الملك. يقول: “كانت تلك التسجيلات مليئة بالحكايات والطرائف، سواء الحقيقية أو تلك التي ابتكرها والدي، فأخذتُ منها الأكثر إثارة. ثُمّ إنني لم أُهاجم الحسن الثاني لأن الراوي -والدي- كان مجنونًا بملكه، وكأن الأخير نصف إله بالمعنى الميثولوجي للعبارة”.
وعن رأيه في العلاقة بين والده الفقيه محمّد بينبين والملك الحسن الثاني، يقول ماحي بينبين: “هناك مَثَل جميل ورد في الرواية يمدح جمال مؤخّرته، لا يمكنه الجلوس عليها أبدًا. وهكذا رجال الحاشية، جسدًا وروحًا، مِلك لسيّدهم. لقد كان والدي يعيش من دون شك في سجن مُذهّب؛ لكنه على الرغم من ذلك يبقى سجنًا، أما الحسن الثاني فقد كان دكتاتورًا يُمارس سلطة الحياة والموت على رعاياه”.
يكتب ماحي بينبين على لسان والده: “نعم، أدين بكلّ شيء لذاكرتي التي عرفتُ بغريزتي كيف أستفيد منها منذ نعومة أظفاري. دراسة القرآن والحديث كانت بالنسبة إليّ أمرًا سهلًا جدًا، كما أن حفظ ألف بيت من الشعر لأتمكّن من قواعد اللغة كان بالنسبة إلي بسهولة شرب ماء. أما في الشعر، فلا يوجد شاعر لم أحفظ ديوانه كاملًا. هذه حقيقة الأمر، ولا طاقة لي به. عبثًا حاولتُ إفراغ فكري من الأمور التافهة التي تزدحم فيه”.
بالنسبة إلى مؤنس الحسن الثاني، فإن دخول القصر الملكي كدخول طائفة جديدة: الانتساب إليها يكون كاملًا ومطلقًا. يقول: “حين يُصبح المرء تابعًا للقصر، يُصبح الرجوع إلى الوراء مستحيلًا. وإلا الجزاء هو الركوع أو الموت. إنه ميثاق يُوقّعه المرء مع الشيطان”.
بين سطور الكتاب، يكتشف القارئ أن محمّد بينبين كان مزهوًا إلى درجة الجنون بقربه من سيده، فهو كان يملك سلطةً أكبر من كل الوزراء ورجالات الدولة؛ بل إنه لم يجد غضاضة في الاعتراف بذلك: “كان قُربي من صاحب الجلالة يمنحني غرورًا لا يُمكنني إخفاؤه، ونوعًا من السلطة كنت أرى قوتها في نظرة خصومي. الواقع أنني كنت أملك السلاح الأكثر إثارةً للخوف في نظام الملكيّة المُطلقة: أُذُن الملك. من يملك أُذن الملك يساوي الملك قوّةً. الله يعلم أيّ جهد بذلته لئلا أُسيء استعمال هذه الحظوة”.
في أحد الأيام، كان مزاج الملك الحسن الثاني متقلبًا، لكنه قرّر الذهاب إلى ملعب الغولف وطلب حضور الفقيه محمّد بينبين لمرافقته. في المقابل، كان عدد من الوزراء ينتظرون قدوم الملك لأنهم في حاجة إلى التوقيع الملكي على عدد كبير من الملفات المستعجلة. يستذكر الفقيه محمّد بينبين تلك اللحظة: “كان التأخير الذي سبّبه تدهور صحة الملك قد شلّ أعمال المملكة. شعرتُ بذلك الاهتمام المفاجئ الذي أبدوه حيالي. أخذوا يمتدحونني وكأنّ المديح ليس مهنتي، ويعدونني بمعسول الكلام وكأنني لست ضليعًا في فن الكلام”.
عندما تحوّل قصر الصخيرات إلى مجزرة، يوم العاشر من تموز/ يوليو 1971، كان محمّد بينبين مختبئًا برفقة الملك وبعض رجال الحاشية تحت الأرض. إنه انقلاب عسكري، ومستقبل الملكيّة أصبح على كفّ عفريت، ولم يبدُ أن الفقيه محمّد بينبين كان قد فقد شيئًا من حسّه الفكاهي حين توجّه إلى الملك بطلب جعل هذا الأخير ينخرط في ضحك هستيري: “سيّدي، قبل أن يطلقوا عليّ النار، قل لهم ألا يصوّبوا إلى رأسي المسكين، فلا ذنب له. ليفرغوا رصاصهم في بطني الضخم، فهو وحده المسؤول عمّا يجري لي! هذه المعدة التي لا تشبع أبدًا تستحقّ أن تُمزّق إربًا. وهي التي قادتني إلى هذا القبو حيث أختبئ كجرذ”.
غداة فشل المحاولة الانقلابية، ستكون صدمة الفقيه محمّد بينبين كبيرةً: ابنه البكر، الضابط عزيز، كان ضمن فصيل المُهاجمين الذين حاولوا قتل الملك. ابتداءً من هذه اللحظة، سيحدثُ الشرخ في حياة آل بينبين. لم يتردّد الأب في التبرّؤ من ابنه، وهو ما كشفت عنه رواية “تلك العتمة الباهرة” -في الصفحة 35 من الطبعة العربية- التي كتبها الروائي المغربي الطاهر بن جلون على لسان الضابط عزيز بينبين الذي روى التفاصيل: “ما أن بلغ أبي أني كُنت في عداد المُهاجمين، خدش خدّيه إشهارًا لعاره، وارتمى عند قدمي الملك وقبّلهما باكيًا، وعندما أنهضته يد الملك، أنكرني بالعبارات التالية: لقد رزقني الله ولدًا منذ سبعة وعشرين عامًا. وإنّي أدعو الله أن يأخذه، أن يُميته ويصليه بنار جهنم إنني من صميم روحي ووعيي، وبكل إدراكي، أتبرّأ من هذا الابن العاق”.
لكن ماحي بينبين في روايته “مؤنس الملك” منح والده الفرصة لكي يُعبّر، ولو بشكل متأخر-بعد رحيله عن الدنيا وأهلها- عن الألم الذي كان يشعر به طوال فترة اعتقال ابنه البكر. لقد كان مُؤنس الملك أكثر من تألّم في صمت: “جعلتني هذه المأساة أبدو في نظر الجميع حفّارًا لقبر ولدي، وأصبحتُ وحشًا، نذلًا وخائنًا. وحوكمت وأُدنتُ مُسبقًا”.
يقول محمّد بينبين الأب في رواية ابنه ماحي بينبين: “كيف أصف عودتي كلّ يوم إلى المنزل حيث تنتظرني امرأة في حالة حداد دائم، وأم حُرمت حُبّها الأول، أي بكر أبنائها؟ ذات مساء، كنّا راقدين على سريرنا، فمالت نحوي وقالت في أُذني: متى تنوي أن تُعيد إليَّ ابني؟ بقيتُ عاجزًا عن الكلام. نهَضَتْ وغادَرَت الغرفة، وكان ذلك آخر يوم تُشاطرني فيه سريري”.

خاتمة
يُنهي الكاتب المغربي الطاهر بن جلون روايته “تلك العتمة الباهرة” بهذا المشهد المؤثر الحزين. يقول على لسان عزيز بينبين: مضت خمسة أشهر على الحريّة ولا أزال أجد مشقةً في التعوّد على الرفاهيّة والأمور يسيرة المنال. عندما أدخل الحمّام أقف لوقت طويل مستغرقًا في تأمل الصنابير بإعجاب. أنظرُ إليها ولا أجرؤ على فتحها. كُنت أتحسسها مثل أشياء مبارَكة، وأدير مفاتيحها ببطء وطول أناة. وعندما يجري الماء كنتُ أقتصد فيه، وأدّخر كلّ شيء. عانيتُ الأمرّين في اعتياد الخفّين. أسير على رؤوس أصابع قدمي الحافيتين كأني خائف من الانزلاق أو من توسيخ البلاط. أطباء كثر انكبوا على حالتي؛ لا يفهمون كيف تمكنت من البقاء حيًّا. كنتُ أحتاج إلى الصمت والعزلة وهما أمران يصعب توافرهما في عائلة يغلبُ على أوقاتها الاحتفال بالأشياء. كنتُ أفضل الذهاب للجلوس بجانب أمي. كان السرطان يُبرّح أيامها، لكنها لا تشكو. كانت تقول لي: لن أجرؤ أبدًا على الشكوى أمامك. يا بُني إني أُدرك ما قاسيته. لا داعي لأن تحكي لي. إني أعلم مقدار ما يستطيعه البشر إذا قرروا أن يؤذوا بشرًا آخرين. سروري كبير لأني رأيتك. كنتُ أخاف أن أموت وفي قلبي تلك الغصَّة.

قائمة المصادر والمراجع
أمين، مصطفى. سنة أولى سجن، (د. م: دار أخبار اليوم، طبعة عام 1991).
أمين، مصطفى. سنة ثالثة سجن، ط3 (د. م: المكتب المصري الحديث للطباعة والنشر، 1989).
أمين، مصطفى. سنة ثانية سجن، ط2 (د. م: المكتب المصري الحديث للطباعة والنشر، 1975).
أمين، مصطفى. لا، (بيروت: دار الجليل، 1991).
بن جلون، الطاهر. تلك العتمة الباهرة، بسّام حجّار (مترجم)، ط1 (د. م: دار الساقي، 2002).
بينبين، عزيز. تازماموت، عبد الرحيم حزل (مترجم)، ط1 (الرباط: منشورات دار الأمان، 2011).
الرايس، محمّد. من الصخيرات إلى تازمامارت: تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم، عبد الحميد جماهيري (مترجم)، (د.م: منشورات الاتحاد الاشتراكي، د. ت).
قطناني، سُعاد. الشرّاقة: ما قيل وما لم يُقل في برنامج يا حريّة، (د. م: موزاييك للدراسات والنشر، 2021).
المرزوقي، أحمد، الزنزانة رقم عشرة، (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2012).
هيوستن، نانسي. أستاذة اليأس: النزعة العدمية في الأدب الأوروبي، وليد السويكري (مترجم)، أحمد خريس (مراجع)، ط1، (د. م: هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، 2012).

مشاركة: