عراة وراء القضبان

من أصعب الأوقات التي تمرّ عليّ أوقات الكتابة عن السجن وآدابه؛ ففيها رجوعٌ إلى زمنٍ حاولتُ نسيانه، وطمسه في زاوية ثاوية، ستدفق دمعًا ووجعًا، وأنا أفكّ عنها أسلاك الاعتقال الحاضرة والماضية، فكيف بي وأنا وسط ألف ليلة وليلة وسنوات سجنية، وكل ليلة رواية تعجّ بالسجون والتعذيب، فتؤرق نومي، وتغرقني في تيه من درب آلام يطول، وتوسّع مساحة وطن اسمه سورية! ولكي تكتمل سورياليتي الدكناء، تُرمى قطة سوداء تنزف عن سطح الدار إلى فسحته، فأتحوّل إلى كائن متطيّر كبشار بن برد متشائمة من المنظر.
وأعود ثانيةً إلى أدب السجون في سورية، والذي فاق ما كُتب عنه وفيه العالمَ العربي مجتمعًا خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وأصبح جزءًا من المشهد الأدبي السوري، وإن لم يُعترف به كثيرًا.
في هذا السياق يمكن تقسيم أدب السجون إلى قسمين، الأول: كتّاب كتبوا عن السجن بصورة افتراضية مثل نبيل سليمان في رواية (السجن) ومرّ بعض الكتّاب عليه سريعًا كـ حسيب كيالي في مجموعته القصصية (المطارد) وخالد خليفة في (مديح الكراهية) و(لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة)، وخليل صويلح في (جنة البرابرة)، وأيمن مارديني في (غائب عن العشاء الأخير).
أما رواية (نيغاتف) لـ روزا ياسين حسن: فهي مقابلات مع معتقلات سياسيات من (حزب العمل الشيوعي)، ككتاب توثيقي عن تجارب نساء في السجون بلسانهنّ.
والقسم الثاني: سجناء كتبوا عن تجربتهم، وهنا نتوقف قليلًا. فلا تنطبق على كلّ ما كُتب تسمية (أدب). ولكن دفعتنا خصوصية المكان والموضوع للقفز وتجاوز مشروطيات الرواية والقصة وسواها؛ وافتقاد بعضها جزالة اللغة والجمل الأدبية وغيرها لصالح حرارة السرد (الذاتي) ووجعه، يجعل القارئ ينسى ذلك، ويدخل في دروب أنّات الألم بسياط القهر المكتومة بجُدُر عازلة.
ولكثرة ما كُتب في الربع قرن المنصرم عن السجن، ومن زوايا متعددة، يمكننا القول وبجرأة إن أدب السجون سمة من سمات الأدب السوري. وسأتناول ما كتبه السجناء بأنفسهم سواء أكانوا رجالًا أو نساءً. وبحسب روزنامة التاريخ. فقد بدأ جميل حتمل بواكيره من خلال قصصه القصيرة المتتابعة، ولحقه إبراهيم صموئيل، إلاّ أن من فتح باب الرواية السجنيّة والقص الطويل، هي حسيبة عبد الرحمن، وهذا ما قاله المرحوم الكاتب فيصل خرتش في جريدة الشرق الأوسط. وبعدها بسنوات بدأت تنهال الروايات والقصص عن السجن، وهذا ما أحاول رصده في ما يأتي.

البواكير
بدأ المرحوم جميل حتمل الكتابة عن السجن في مجموعته القصصية الأولى (الطفلة ذات القبعة البيضاء) الصادرة عام (1981) وفيها يقترب رويدًا رويدًا من ظاهرة الاعتقال عبر قصته (البنفسج) واختفاء الحبيب، ومنها إلى (الغرفة تحت الدرج) والسوق إلى السجن: “فتح باب غرفته، لمح وجوهًا صلدة، رمي إلى السيارة، أنزلوه إلى قبو رطب”، والقصص العشر المكتوبة تدور حول زنازين عشر مغلّفة. ويتابع جميل قصّه عن السجن بطرائق مختلفة ضمن مجموعاته القصصية الأربع المتتالية، إذ يقع معظم أبطاله في فخ وفك الاعتقال السياسي، وهذا ما يظهر جليًا بعد خوض الكاتب تجربة السجن عام (1983) والذي عكس نفسه بشكل ظاهر في مجموعته (حين لا بلاد)، واعتذاره إلى طفله الوليد: “ذراعاي أعجز من أن تحملاك، لم أكن قادرًا على حمل نفسي”. أما تربيع الدجاجة، أو كيف تصبح الدجاجة مكعب دجاج، وهو السؤال الساخر على ورقةٍ، كلَّفه حفلات من التعذيب: “يتابعون حملات ترحيبهم العضلية به وبجسده”، وبقي “السؤال. يلحون عليه ما معنى أن تصبح الدجاجة مكعبًا”. أما قصة (تلك الشمس) المهداة إلى معتقلين يخرجون كل صباح لبناء حمامات السجون “تهافتنا للبناء، هل تعرف ماذا يعني أن نرى الشمس بعد أن كادت تنسانا”. اثنان رفضا العمل “ومن دون تعليق، كي لا يحرموا الآخرين من الضوء”. وتدور باقي القصص حول المضمون ذاته، مع إهداء إلى سجناء سياسيين فنانين وكتّاب. لم يتأخر عنه صديقه إبراهيم صموئيل (السجين السياسي) فأصدر مجموعته القصصية الأولى (نحنحات) والعنوان كاف ليدلل على المضمون، وهي نحنات السجناء: لغة المساجين في (فترة التحقيق). وتضم أيضًا قصة “المرحاض” الذي يتسلقه سجينٌ كي يرى عائلته من بعيد، وكتب في قصة الزيارة عن قرب في مجموعته القصصية الثانية (رائحة الخطو الثقيل) ولقائه بزوجته: “قفز قلبي من النافذة وتبعتُه من باب المهجع”. “هذه الزيارة لها نكهة خاصة، لأول مرة سأرى خلدون، فخرجتُ خلف قضبان الباب الثاني”. أنكره الابن، فهو لا يعرفه “ارتد حرنًا خلف أمه”. وفي استكمال لحالة الأبوة الناقصة في (الرجل الذي لم يعد أبًا) طفله الذي كبر وهو في المعتقل، وعندما أفرج عنه والتقاه “ضممتُه إلى صدري، حجر بيني وبينه، وقلّد كل ما فعلَتْه الصورة في غيابه من دون جدوى”. وعن تهويمات الزنزانة وضيقها وفراغها، كتب: “دخلت زنزانتي وحطت”. أما فرج بيرقدار ففتح نافذة الشعر للسجناء في ديوانَي (ما أنتَ وحدك) و(جلسرخي: رقصة جديدة في ساحة القلب)، وحط في باريس ليصدر ديوان شعره (لا هو حيّ ولا ميت)، وبعد نيله الحرية أصدر ديوانَي شعر حفرهما في جدران سجن تدمر وصيدنايا، وعلى الكراتين وجمعهما بـ(حمامة مطلقة الجناحين) و(تقاسيم آسيوية)، وفي طياتهما سلال ألم وقهر تزفرهما الروح، وصرخة عالية في وجه قتلة (مضر الجندي) في تقاسيم آسيوية (سورة الجمر): “أرتل جمري، لماذا يضيق الفضاء”؛ “أتلومونه وهو يبكي على غيره، وسمعنا الزنازين تبكي وكنا نبدل حلمًا بطاغية”.
مع بداية التسعينيات من القرن المنصرم، شُقَّ باب السجن، وضرب عشرات السجناء إسفلت الشوارع بأقدامهم عائدين إلى مواطنهم، حاملين جعبًا حبلى بالقهر والوجع، تبحث عن مكان تُرمى فيه، ولم يكن إلا الورق الأبيض، لسكب ما علق من ندبات في ذاكرة متقوقعة، ووشوم تعذيب لا تزال على الجسد، تركت آثارها سوادًا على الورق الأبيض، وهم يقصون يوميات أقفاصهم. عبر حكايات متخمة بكلمات التعذيب والألم المكرَّرة حدّ الملل واليأس، وقتل الروح في سرديات متعددة الوجوه والجوانب والطبقات، أولها:

سردية (التعذيب)
ولهذه السردية فُردت، وفُتِحت صفحات وصفحات، بحيث لا يكاد يخلو نصٌّ عن السجن من أنات التعذيب وصراخ المعذَّبين، الذي يتحول إلى عواء أحيانًا، وإلى صراخ صامت عند توقف القلب؛ وسردية التعذيب لها أكثر من وجه، فهناك الوجه النسائي الذي بدأته هبا دباغ في (خمس دقائق وحسب)، وهي الرهينة بين عام 1981 و1990 عن أخيها (المتَّهم بأنه عضو في تنظيم الطليعة الإسلامي المسلح)؛ تروي بعد مغادرتها سورية تجربة اعتقالها وسجنها، وكيفية استجوابها: “أنتِ من الإخوان، الجميع اعترف عليك”. “إذا ما بدك تحكي وين أخوكِ […..]. توضع على بساط الريح، سقط الجلباب، ولم يعد يغطيها إلا الجوارب والسروال، وأطلق شحنة من الكهرباء سرت كالنار، وجعل يكوي أصابعي بالكهرباء، كنت أصيح يا الله، لا علاقة لي بأحد، [….]. والسؤال الثاني: أنتِ إذًا مسلّحة، رفيقتك اعترفت عليك”. “إذا لم تعترفي فسوف أعرّيك”، “اخلعي جلبابك”. وتروي تعذيب بعض المعتقلات: “أحضروا الزوجة واعتدوا عليها أمام (زوجها)، ومزّق المحقق ثياب طبيبة، وصل إلى جوربيها، وقال سأتركهما”. وتصف ازرقاق أصابع سجينة من إدلب: “مكان أظفارها المقلوعة. قصّ طرف لسانها”. وعن حالتها داخل الزنزانة: “أترقب في زنزانتي أشبه بالقبر، صراصير، تسرُّب بعض الضوء”، عن ولقائها مع والدتها “فوجدتُ أمي أمامي [……]”.
وتبلغ قسوة سجن هبا ذروتها، عندما تسرب إليها خبر “مقتل جزء كبير من أسرتها” في حوادث حماة.
بينما جاءت كتابة حسيبة عبد الرحمن في (الشرنقة) مختلفةً إلى حدّ ما عن هبا، لغياب المكان والزمان الملائمَين للكتابة بحرية أولًا، لأنها تعيش في (دمشق)، فالرموز الأمنية والسياسية لتلك المرحلة لا تزال هي نفسها. وثانيًا تختلف عنها في طريقة القصّ، وتناول الشخصيات ذات الأسماء الوهمية. تُفتَتح الرواية في لحظة اعتقال (كوثر) لتدخل في متاهة اعتقالاتها المتكررة وطرائق تعذيبها المختلفة داخل الأفرع الأمنية المتعددة “من الجَّلد بالخيزران في أول اعتقال، إلى الكبل الرباعي والدولاب، والكرسي الألماني والمقص والشبح والصعق بالكهرباء”، وتصف الكهرباء بأنها “جاهلة ومميتة”. مع سيل من الشتائم: “اعترفي يا بنت العاهرة”.ومن اعتقالها وحدها إلى، الاعتقالات الجماعية “صحوتُ داخل الدهاليز التي تعجّ بآلاف المعتقلين، وما يقرب مئة امرأة كرهائن ومنظّمات”.
وتتحسّس ألم التعذيب: “خفافيش الليل، وطاويطها غرّدت، نهشَتني. صرختُ لا أريد الموت […..]، لسع عقارب […..] الطميشة، لمحت خلف السواد عيونًا، ريش دجاج يخز جلدي، سأضع الحذاء في فمك”.
والعذاب القاسي الثاني، عذاب الزنزانة ووحشتها “كلام مع النفس، وتصرخ في وجه الزنزانة: مللتُ عيشة الفئران، الزفرات الداخلية، أعد أيامي، كي لا أنسى الأيام والأشهر، حولتُ بابك إلى لوح روماني”.
والتعذيب ليس جلدًا جسديًا وحسب، بل ونفسيًا أيضًا، بحيث يصل إلى حالتَي فصام في السجن، إحداهما سجينة شيوعية “نظراتها تائهةٌ تبعد أشباحًا”. والثانية إسلامية، يغزو الشك تفاصيل يومياتها “وتدخل في موجة الشرود، غريبة التصرفات، لا تنام وتمشي في المهجع”.
وفي مجموعة (سقط سهوًا): تحكي حسيبة حكاية العجز الجنسي لعريس (سجين تدمر) ليلة دخلته “يحقّ لك أن تحملقي، ثم تقولي لستَ رجلًا”.
ولـ أميرة حويجة بوحها الخاص في (ظل الغروب)، همسًا مسطّرًا ببعض الكلمات: “شبان من دون ثياب خارجية في الصقيع، وتتساءل من المسؤول عن هذا اللحم المصلوب كله”.
وتكمل همسها: “في التحقيق نلتُ النصيب الأكبر، إذ تناوب الضباط على إتمام الفلقة، وأنا مفتحة العينين من دون طميشة، أخالهم وحوشًا. انتهى الكابوس، خرج ما في جوفي على ثيابي”.
ويعلو بوحها عند انقطاع أخبار زوجها، اختفاء مضر الجندي إثر اعتقاله مباشرةً، يتحول إلى صراخ مقلوب صامت “عندما جاءت معتقلة. ربما أضيف مضر إلى قائمة الشهداء. إنني أقاوم، بين مصدقة ومكذّبة، حاولتُ أن أكذب على نفسي، ساعد التجمّد في عروقي في تيبيس مشاعري، تحوّلت أحلامي إلى كوابيس، بكيتُ ليلًا وداريت البكاء نهارًا، دخل الظلام إلى قلبي”.
وتدخل المرحومة مي الحافظ بعبقها الفلسطيني حكاية جديدة (عينك على السفينة)، ومن نافذتها الخاصة تسرد استجوابها، تعذيبها، وبشكل مقتضب أحوال اعتقالها الأول إذ تقول: “ممددة على بساط الريح” كانوا عشر معتقلات. وتصف حالتهن بعد التعذيب “لم يعد باستطاعتنا الحركة، كنا كالحطام”. وعن اعتقالها الثاني تقول: “تسابقوا على دحرجة جسدي، صحوت من غيبوبتي، ممددة، خراطيم تصب الماء على جسدي”.
وتطرق غادة اليوسف باب (الضابطة الفدائية) في قصة (من العالم السفلي) حيث احتجزت “قسم الاعتقال الموقت، غرف مغلقة في أقبية مظلمة، تعد درجة درجة، لتحسب كم من الوجع بانتظارها (جَلد بالكابلات) وفي أثناء التوقيف تضرب النسوة الباب الحديد، كي تغطى الفتحة بحجر، بقماش …إلخ، نخاف أن يخرج علينا ونحن نائمات”.
أما الوجه الثاني: سردية السجناء الرجال
نبدأ بشيخ المعتقلين عماد شيحا (29) عامًا في السجن، ومعه سوار حديد لخمس مقاصل عُلِّقَت في سماء دمشق ذات صباح في عام 1976 من بينها مقصلة أخيه، وقصيدة نزيه أبو عفش (الله قريب من قلبي): “إن هذا دم، ليس ماء، في أول حبل تتدلى منه المخلوقات ولا تصل الأرض”. رسمت تلك المقاصل ظلالًا للشخصيات الروائية المقهورة والمبعثَرة، على طريقة إدوار الخراط، والضائعة بين الانكسار والتيه والسراديب الضيقة، وغياب الزمان والمكان، وسردية التعذيب عنده طالت بشكل رئيس النساء، وبأبشع الطرائق كالاغتصاب.
ففي روايته (غبار الطلع) وعلى لسان حنان إحدى شخصيات الرواية: “امتلأ جسدها بالكدمات، ما عادت تحتمل وهم يطؤونها وقد تعرت”. ويتابع: “ستة اغتصابات على مرأى من الجميع”. ويصف حالة رباب بطلة روايته (الموت المشتهى) بعد تعرضها للتعذيب: “ركضت نحو الجدار، رسغاها مقيدتان […….] تسحقها الأقدام كأي حشرة”، وعند محاولة تعريتها: “التمع السؤال: أيفكرون في اغتصابي؟”، “ترفس بقوة عاجزة”.
أما المعتقل جميل أو (أدهم) المريض “ورم خبيث، وقد قصّر التعذيب عمره المتاح، انتزعوه من إبطه. لكزه. رماه أرضا”، ” ألا تقر وتريح نفسك”، ولا يتوقف (رمز القمع فاتك) عن محاربته بالمسكّن: “تعلقت عينا جميل بالسائل […..] اعترفْ فأمنحك راحة جسدك”. ويكتمل المشهد وجميل يتوسل الموت عندما جاء دور أخته، والمحقق يصرخ: “سأفتعل بك وبأختك وطفليها”. ولعل الأكثر وجعًا هو اعتقال أفراد المجتمع برموزه وأطفاله في المئة صفحة الأخيرة من غبار الطلع. وفي (عذابات بابل) “اندفاعاتنا المملوءة بالرعب، ارتطمنا ببعضنا [….] كثُرَت الركلات [….] تجمعنا كالفئران”.
ونغادر ساحة عماد إلى راتب شعبو لنرى (ما وراء الجدار) ونلج معه السجن المعتق (الشيخ حسن) بدءًا من تفاصيل المكان وطرائق تعذيبه: “خليك بالكيلوت، انزل بالدولاب، وتتكرر حفلات التعذيب، ربط قدميه […..] والركض كي لا تتورم”. وينتقل إلى “مكان زنزانته، لا يتجاوز طولها المترين وعرضها أقل أو أكثر من متر بقليل، تضم جورة التواليت [….] وأول ما يصدمك رائحة المكان”. “هناك ثلاثة ثقوب في طاقة باب الزنزانة […..] تتسلى بقراءة الخربشات”.
ويروي “اعتقال الطفل عمار (13) سنة، وُجدت معه مناشير للبعث الديمقراطي”، وعندما وضع في الزنزانة “كان الخوف يحرم الطفل من النوم”. ونغلق صفحة (الكراكون) ونترك شقّ تدمر لحينه.
ونذهب إلى رواية (قهوة الجنرال) لـ غسان الجباعي الحافلة بثنائية (الضوء والعتمة)، والتي نقلها إلى نسختين واسمين واحدة باسمه والأخرى باسم مستعار (ربيع عمر)، وحوّلها إلى مسرحية بين ظلمة السجن ونفق ضوء الخارج، يقول الجباعي على لسان إحدى شخصياته عن تعذيبه: “يشتمون يصفعون يركلون [….] تتلقى سياطهم يبصقون عليك. يخلعون ثيابك، يطفئون السجائر في أعضائك، وفي المرة القادمة بالكهرباء والكرسي القلاب، بسحب الأظافر كان اللحم يتمزق، والحنجرة تصرخ”. ويكمل “كنا في الزنازين، تحقيق وتعذيب وتوتر، وصراع إرادات، وصراخ واعترافات”.
ويرى محمود عيسى في (مطر الغياب) أن الزنزانة: “المكان الوحيد الذي أشعر فيه بالأمان، وأتمنى ألا أخرج منها على الرغم من عتمتها، مائها المتساقط، أثر التعذيب الوحشي. كنتُ كتلةً واحدةً، كخدر السُكر يتسرب الموت”؛ “أُربط على بساط الريح، ويبدأ الضرب بالكرباج: اعترفْ”، “والعودة إلى بساط الريح: قدِّم الأسماء، لذتُ بالصمت، الصعق بالكهرباء لامس الخصيتين”. “تهوي رجله على معدتي، على جهازي التناسلي، كهرباء وحشية. مزّق صراخي الليل الهادئ”.
ويشاركنا جمال سعيد القصّ في كتاب (الطريق من دمشق) الذي لم يُترجم إلى العربية بعد، وما سأورده هنا، ترجمه لي جمال نفسه: “بعد سبع سنوات من اعتقالي للمرة الثالثة: شتيمة […..] كذاب وابن قحبة، قلت أمك ليست أحسن من أمي، تحول الصوت إلى خوار ثور هائج، خذوا هذا الوقح اعدمووووه لا نحتاج إلى هذا الكلب، إلى غرفة، تفتقت في ذاكرتي الكثير من الصور والروائح، نسيتُ المطاط، والعصبة التي تغطي عيني. تتالت مشاهد قديمة وكأني أعيشها، وأنا انتظر تنفيذ حكم الإعدام وحيدًا”. سبق وأن أصدر مجموعة قصص قصيرة كتبها في المعتقل (مجنونة الشموس).
ويردد لؤي حسين في (الفقد) كلمة (السلّم) ويسميه سلّم الآلام: “أحبّ الذرى فأذاقوني ذروة الألم، ذروة المهانة [….] والسلّم لم يكن كأي سلّم، مدّوني عليه، وشبحوني [….] ثبّتوني. كان الألم يعبرني بالثواني”. وينتقل إلى تعذيب سجين آخر “عُلّق أكثر من ثلاثين يومًا واقفًا في زنزانة مربوط اليد بسقفها”.
وضعنا رحالنا في (سجن تدمر) سجن الموت الحاضر والمؤجل، حيث القبور السوداء المنسية والمرمية في جوف صحراء منقطعة السبل، السجن الذي لا يشبه حتى سجن (كاتزار) الإسباني؛ وله حصة الأسد في أدب السجون السورية، لأن معظم من كتب في هذا الحقل، نزل فيه ضيفًا غير عزيز، وصاغ رواياتٍ عن ساحات سجن تدمر المميتة (السادسة) بدأها فرج بيرقدار (في خيانات اللغة والصمت) ثم مصطفى خليفة تلاهما عباس عباس، والثلاثة معتقلون بتهمة الانتماء إلى (حزب العمل الشيوعي).
أما الكاتب الرابع فهو محمد برو المتهم بالانتماء إلى (الإخوان المسلمين) والذي سجّل فصولًا قاسية من مأساة اعتقاله وتجربته في (سجن تدمر) ولراتب شعبو ومحمود عيسى وغسان الجباعي حصة المعاقَبين (تأديبًا) فيه.
ونبدأ: بـ مصطفى خليفة في (القوقعة) التي نُشرت (2008) وهو خارج البلاد، وبطل القوقعة راوٍ افتراضي مسيحي معتقل بتهمة (الإخوان المسلمين) وهي المفارقة الأولى في الرواية التي يدخل من خلالها إلى “مظلومية” الإسلام السياسي بكل توجهاته الجهادية والسياسية، ولذا بدّل خليفة دين المعتقل (البريدي) وكذلك تهمته (من بعثي عراقي إلى إسلامي) كي يطبق الدائرة على ظلم النظام، يبدأ التعذيب في الفرع “بالكابل، ارفع يدك، رجلك اليمين”. ويتابع: “لا اعرف لماذا يضربونني، تنظيم إخوان مسلمين، أنا مسيحي”. وفي موقع آخر يعيد الجملة، فيجيبه السجّان: “الطاسة ضايعة”. أما عن سجن تدمر يقول: “فتحت جهنم أوسع أبوابها، وكنا وقودها؛ جَلدٌ وإهانات”. وثقب في الجدار ليتلصص، وعذاب مزدوج قاتل: العذاب الأول السجن، والثاني حَشْره مع الإسلاميين، إذ يقول: “إنهم يكرهونني، يحتقرونني، وبعضهم يريد قتلي”. “وأنا من الداخل أرفضهم”. ويكمل “قاطعوني مقاطعة تامة، في هذا المهجع جماعة المتشددين يفكرون أن واجبهم قتل الكفار. نصراني وملحد”. “لم أكف عن الخوف من المخابرات، من الشرطة العسكرية، وقرقعة المفتاح”. والثاني “أرى الموت يحدق بي، عشرة شبان، وقف أحدهم: يا نجس يا كافر هذه نهايتك يا كلب”. وفي صفحة أخرى “فائض من الحقد والكراهية يتفجر، تضيق الدائرة، استسلام كلي. هل تعّمدوا تعذيبي عبر إطالة عمر خوفي، فجأةً كُسر الصمت، قفز شيخ إسلامي (قُتل على يد مدير السجن لاحقًا) من تنظيم إسلامي آخر لم يحمل السلاح: من يعتدي على هذا الشخص فقد اعتدى علي، سحبني د. زاهي […..] التهديد لا يزال مسلّطًا”. وللمرة الثانية “أصبحت حياتي معلّقة بردة فعل المجموعات، صرختُ: أبو القعقاع، تريد أن تقتلني […..] نصبتك وكيلًا عن الله، عشر سنوات حكمتم عليّ بالسكوت”.
وانضم إلى الراوي (البريء) الدكتور نسيم الذي أصبح صديقه “قمتُ بإدخاله إلى قوقعتي وثقب الجدار. بقي المهجع على موقفه. المقاطعة انسحبت عليه”، ويدخل نسيم مرحلة الصمت إثر إعدام ثلاثة أولاد رهائن، فيتمرد “قفز نسيم، فاجأهم بالهجوم، راح يصرخ […..] اتُّهِمَ بالجنون”. ويرافق التعذيب البطل إلى الفرع ثانيةً: يقال له “خطأ لازم نصححه. وكان الجَلد والضرب؛ بساط الريح والكهرباء. ثلاثة أيام تساوي ثلاث سنوات في السجن الصحراوي. خرج الراوي من السجن، وبقي يتساءل هل سأحمل سجني إلى القبر”.
والقَصّ الثاني المترع باللغة الرفيعة (تَوقًا إلى الحياة) لـ عباس عباس: “تلسع السياط جلدي لحمي يتقد، وكلما اتّسع حريقي أطفئه بالماء، بالصقيع، بملح العرق. وأنا اقضم أنيني فينثال من حنجرتي؛ جسد مشبوح يتقطر من حامض العذاب، خارطة ملطخة بالدم، […..] تأكدتُ أني قتيل مؤجّل، كنتُ كمن بين الحلم واليقظة، سمعتُ صوتًا أنثويًا، لماذا جاؤوا بها إلى هنا […..] تتناهبني الكابلات والأحذية. حملوني على بطانية، تقاسموا جسدي طريدة وممتلكات، قاموا بنقلي إلى المشفى وإعادتي بأمر عاجل ملفوفًا بالأبيض من رأسي حتى قدمي، ما عاد التعذيب ممكنًا إلا بالكهرباء”. وعند إعادة التحقيق معه: “آلام جديدة، فأعادوني إلى الزنازين. كانت الأجساد تصرخ بكل اللغات، وألسنة النار تمتد لتطالنا، عند وضع المفتاح في الجوزة تمور أمعاؤك، توشك أن تلفظ أحشاءك”.
ويتابع “أدخَلوا زوجتي فذُعِرتُ، عانقتني، وراحت تمسّد رأسي ملفوفا بخرقة. وحضور الطبيب: تحوّل إلى غربال من العيون تراقبني توقًا إلى الحياة”. يُعاقب هو و16 آخرين بالنقل إلى تدمر، حيث يُفتح السجن التدميريّ على مصراعيه “أجسادنا في أمسّ الحاجة إلى ترميم. أمرونا بالضرب والشتائم، ووجوهنا إلى الحائط، هي الطقوس التدمرية: العض على النواجذ. تدمر العزلة، البطالة وتعطيل الحواس”. يُفتح باب المهجع “تنهال العصي والكابلات والركلات، وباحة التنفس، تراجيديا من الرقص على الجمر”. وفي مكان آخر يصف الحالة “شُحّ الموارد المادية والروحية”. ولتكتمل المأساة “فُقد رفيقنا عماد أبو فخر”.
ومنه إلى محمد برّو وتراجيديته السودَوية التدمرية (ناجٍ من المقصلة) التي تتقاطع تارةً مع (توقًا إلى الحياة) وحينًا مع (القوقعة) سواء في باحات السجن، أو مهاجع تدمر التي تنتفخ بالمعتقلين الإسلاميين، وبرّو السجين المُتَّهم بالانتماء إلى (الإخوان المسلمين)، والمراهق ابن السادسة عشر عامًا، يدخل أتون التعذيب والموت القابع خلف أبواب سجن تدمر والمحاكم العرفية، وهو الناجي من بين قلةٍ، أحاط به الموت من الجهات كلها مدة ثماني سنوات في تدمر، وقد اختار الكتابة عن “الناجين الذين لا يُنسَون”. وكما يقال “لا يُفتى ومالك في المدينة”، مالكنا هنا محمد برو كـ (ناجٍ من المقصلة)، وهو عنوان الحكاية التي كتبها عن جلود سُلِّخَت، وأظافر قُلِعَت، ودماء سالت ومقاصل عُلقت، وعيناه مفتوحتان، وجسده يتلقى ذلك التعذيب كله في سجن تدمر: “هي حكاية آلاف قضوا في ذلك السجن الرهيب، وضاعت حكايتهم”.
ولذا كتب حكايته بيده، ومنذ انتزاعه من بيته وأسرته “استيقظتُ فزعًا على ألم حاد في خاصرتي، أحدثه أخمص البندقية، وجه أمي الشاحب وقد أسقط في يدها، أخوتي مكوَّرون في الزاوية وقد عقد الخوف ألسنتهم [….] اقتادوني إلى فرع المخابرات، أصوات التعذيب لا تتوقف، أجلسني (المحقق) على أرض الغرفة: نريد أن نحميكم ممن غرر بكم، وأتلقى الضرب بعصي غليظة”.
ومنذ اليوم الأول “سمعنا ارتطام حجر وصرخة عظيمة، صوت سحب الجثة لسجين لا يعرف سببًا يوجب اعتقاله […..] استقبلتنا أصوات، وصفّان من الجلادين، انهالوا علينا السياط والكابلات، فكّوا قيودنا، أمرونا بخلع ملابسنا والبقاء بالسروايل. الضرب. […..] 100 سجين جاوزوا الستين، وفتى بلغ من العمر 16 عامًا، عشرات الجلادين يتعاقبون علينا، الشاب خلدون، انهال عليه الجلاد في إحدى ثورات غضبه بالضرب، بقيت الدماء تنزف. […..] تحول الرقم إلى 99″، وبمنتهى الصفاقة كانت عقوبة الجلاد “سأحلق لك شعرك” وعاد المشهد “كنت مبطوحًا أتلقى السياط، وصراخي مختلط بدم وجهي، لم أكن قد بلغت السابعة عشر يومها، ومصيري أسود مجهول. قهرني تواتر التعذيب، فقدنا الذاكرة، في كل ليلة تعبر أحلامنا أطياف موتانا، لماذا متنا”.
“كنا نودع بضعًا وتسعين شابًا صيدَت أرواحهم بحبال المشانق. والأفظع من ذلك أنهم كانوا يرونهم “من ثقوب الباب، ستتوالى الإعدامات والقتل الكيفي والعبثي والتعذيب الوحشي أعوامًا طوالا”. ويتابع “أنسّل الخيوط لأعمد إلى شنق نفسي، وأنتهي من هذا الجحيم”. قررت إدارة السجن عزل السجناء صغار السن “وصل العدد إلى 170 سجينًا”.
أما ساحة التنفس فكانت جولة تعذيب ساعية “أصلبنا يحمل سطل ماء ليسقي العطشى، يا لهذا الماء الآسن برائحته الكبريتية”. مع الضرب والجلد. وهو ما يحصل “عند إحضار الطعام [….] ويوم الحمام رتل في خط ملتو من وطأة الجَلد المنهمر، والضرب على أجسادنا العارية”.
ولا ينسى برّو مجزرة تدمر، التي عرج عليها خليفة في القوقعة، وعباس في توقًا إلى الحياة. ويروي تفاصيلها، من الناجين منها، لتتداعى في صورة صادمة عند شفاء (الرئيس) من المرض وإطلاق الرصاص ابتهاجًا “صراخٌ متصاعدٌ إثر صوت تأرجح القفل. نتراكض إلى زاوية المهجع، نتكدس فوق بعضنا البعض بسبب الذعر من قدومهم المباغت، توهمنا أنهم يدخلون لرمينا بالرصاص. ارتبك السجّان، هاله المشهد. ضحك وهو يتلعثم بعبارات ليطمئننا”.
ويتابع يومياته بعد الجَلد “تمددتُ متكورًا ألملم شظايا نفسي بحطام جسد متهالك، وحلق يتشقق من شدة العطش ومعدة خاوية”. ويروي مفارقة نجاته من مقصلة ثانية نتيجة تشابه الأسماء، عدا اختلاف اسم الأم: “غابت الرؤى، عقد لساني”. وينتقل إلى انتشار الأمراض، والقمل والجَرب. وهنا يقول: “جرّعنا الطبيب أصنافًا من العذاب. وعندما عرف طبيبًا سجينًا، قال أتعرفني؟ فأومأ. فلكمه بين عينيه وساقيه، وأمر بضرب زميله حتى فارق الحياة”. ويعود إلى المحكمة ثانيةً، ونَقْلها من حمص إلى تدمر، وإعدامات الاثنين والأربعاء. عدا عن الضرب حتى الموت كما حصل مع سجين، وهم يقولون: أدخلوه، إذ أروادوا أن نشهد موته. بعد ساعات لفظ أنفاسه الأخيرة”.
ويستمر الجَلد، “وتحصل مفارقة في مهجع السجناء الضباط، تسريب الضابط (جلال) عن تجارب كيماوية تجرى عليهم. صراخ وضحك”.
وداهمهم زائران خطيران “انتشار السل. ووباء الكوليرا الذي حصد الأرواح كل يوم”.
ويتابع محمود عيسى في (مطر الغياب) الحالة المزرية في سجن تدمر إثر نقلهم كعقوبة بعد سنوات من اعتقالهم في سجن عدرا، ومحاكمتهم أمام محكمة أمن الدولة “عصبوا أعيننا، ووضعوا رؤوسنا في الأرض. وأدخلونا وسط السباب والشتائم وركعنا، طلبوا ملابسنا كلها. وشك عالحيط. ووضعنا في السالول. نظام قائم على إخضاع النزيل وإذلاله. يبدأ مع توزيع الطعام، النزيل يخرج راكضًا، يضرب السجانون كل من يطالون. جرّني من شعري، وانهالت على وجهي الصفعات، كنّا في الباحة معصوبي الأعين. ارفع رجلك. مهمة الحرس الليلي السير على طرف المهجع، وقلي الكل نايمين، قال منبطحًا واقفًا، الرقصة الروسية. حتى خارت قواي.
وينضم محمود إلى قافلة من كتبوا عن ساحة التنفس “فصل من فصول مأساتنا. نخرج رتلًا. ثم جاثيًا على البحص أو الحجارة واليدين على الأذنين. ويتعرض النسق الأخير للتنكيل والضرب، وحرق شعر الأذن بالولاعة والمداعبة بإطفاء السجائر”.
ويكمل راتب شعبو “نجلس من دون أن نتحرك أو نهمس، ويطلب بعض الحراس من الجميع أن يغمضوا عيونهم. أن نقلد الحيوانات”. ويروي عن جلد رفيقهم لأنه اضطر إلى التبول ليلًا، بمئة كرباج”. وضُرب الكاتب لأنه “يتعلم إنكليزي”.
ويرى غسان أنهم “قطعان غير متجانسة، لم نكن نملك أي حق من حقوقنا البشرية، الحيوانية. حلبة غامضة، صمت مريب، تخترقه حناجر المحكومين بالإعدام”.
والسجن ليس تعذيبًا فقط، وإنما لحظات حب وتوق وتهويمات، وخيالات لا تنتهي.

السجن، المرأة، والحب
الحب هو الفيء، وظلال وارف يترجاه ويبحث عنه السجين بين الجدران المرتفعة وقضبان النوافذ والشراقات وشبك الزيارات وبين أضلعه، وحضور المرأة للسجين واحة حرية ولحظة انتشاء “في كل حلم يقظة تكون امرأة حاضرة”. ويغزل فرج بيرقدار قصائد حب على جناحي (حمامة مطلقة الجناحين) “ليست كأي حمامة هدلت لتخضل السماء، الله يا امرأتي”. وفي تقاسيم آسيوية “لا حضور لغيرك […..] هذا الغياب”، وفي قصيدة أخرى: “أسأل نفسي هل أصْلُ الأشياء الحبّ”.
والحب لدى حسيبة عبد الرحمن ينبت وينمو في ظلمة السجن عند البلوعة “سمعت صوتًا، كان يأتي من بلوعة الحمام، ضعي النربيج، عشت مشاعر حب جنوني”. أعادت صوغها ثانيةً المرحومة رغداء حسن في (نجمة الصبح).
وحالة الحب في السجن كالأرجوحة، تعلو تارةً بـ مالك داغستاني ليدور (دوار الحرية) بباقات حب للمرأة، رمز حريته المفقودة، فتتهدّى (الأرجوحة) أمام محكمة أمن الدولة يشكر: “للمحاكم، أمجاد محاكم أمن الدولة، القيود والحرس، استدعى حضورك الآسر والبهي”. ومستعد “للبقاء سجينًا ألف سنة، لو وعدوني، أن يتكرر هذا المشهد”. وعندما سُئل بعد عودته من المحكمة “أجبت ذاهلًا، لقد رأيتُها”. وتعلو الأرجوحة ثانيةً، وتقف خلف القضبان لتزوره “الأنثى الملاك، تحضر متسربلة بالشمس”، بلمسة يد “فتدفق المشاعر ومعها، دعوة لاحتفال بالجنون”. أما رؤاها “اندلاع حلم وسط هذي الكوابيس”. ويتناوب لديه الهز ما بين الهروب إلى الحبيبة “الغنج الأنثوي”، والعودة القسرية إلى جدران السجن الواقعي ” لسجن يا أم والأيام تنثال دمعةً دمعة”، هو “الحرمان اللئيم، إنها سبع سنوات، سبع جفافًا […..] كل الأحلام موشكة على النفاذ”. وتكمل الأرجوحة اهتزازها، وترتفع لتحمل وتعلّق قلب راتب شعبو عند شبك الزيارة، موعده لرؤية (وفاء) الصبية “تسّلم، وتستقرّ على شبك أخيها، غابت وفاء، الزيارة بلا طعم”. يشرد ذهن راتب “تريد أن تربطنا علاقة، فتاة ترغب في أن تقتسم معك حريتها وتقاسمك قيدك”. ويراها أمام باب محكمة أمن الدولة، ويغرق في اللحظة “لحظة ولدت كي تبقى، للمرة الأولى أرى وفاء من هذا القرب، ألمس فيها تلك الصبية، لاحظتْ قيدي، احتضنتُها بيمناي الحرّة، الصبية؛ صاغت مني أملًا، أرادت تقديم قرنفلة حمراء، كان هذا اللقاء وداعًا أخيرًا”. “لم تعِد لي رسائلي الكثيرة التي هرّبتها. وفي المساء انكسر عنق الوردة، عندها قرأ كلمة بحبك”. نزلت الأرجوحة تحت ثقل الزمن، وعَلَت الأرجوحة ثانيةً، وركبتها الصبية ديما، راسلتْ شابًا، قريب رفيقتنا، غزلت له الشعر”. واعتلت “شباك الزيارات، لتلمحه”. وتتقطع حبال الأرجوحة، عندما يذبل الحب، ويضيع في غياهب السجون، وأي نزيف وحرقة للسجين لحظة الفراق “عندما تضجر الانتظار، وتنهي العقد، يترك جرحًا غائرًا في قاع هوة الوجد المطعون، تركت كائنًا نازفًا. من أين يتدفق هذا اللون، تلك المرأة ضاعت، وتركتني أكتنف أحزان مريم”. ويعاود عباس ربط الأرجوحة ليمرجح زوجته فايزة “لك مع سبق العشق يا امرأةً تعلو وتعلو على وَجَع المراكب المحطمة، ما زلتِ دالية خمري”. ويُكمل القصيدة “من وشى لك عني فوجدتُك”.
وتعود وتهوي الأرجوحة، وتنكسر بمنولوج غسان جباعي في (قهوة الجنرال) إذ تتحول الضحية إلى جلاد “كانت تعدّه مسؤولًا عن قدرها، وحظها العاثر، هو من سرق أحلامها، ورمل جسدها الحي، من كسر إرادتها واستغلها ثم رماها في منتصف الطريق، ومن سرق وظلم. وهو ليس الاستبداد! هي الضحية التي ظُلمت وكافحت وبكت، وأصبحت عدوّة أحلامها. صار من حقها أن تنتقم”. وعلى لسان الزوجة: “أذهب إلى زيارته في السجن كالحمارة محمّلةً بالأغراض”. ويردّ “كنتُ أراها من النافذة، لم تكن تعلم، كانت العقوبة ثمنًا لهذه الإطلالة، بينما تبحثين عن بطولة! نعم من حقي أن أكون بطلة. كنتُ سجينةً أيضًا وكان سجني أكثر قسوةً ووحشة”. ويكمل محمد برو الدائرة بتدوين آلام سجين تدمري: “لمس إنكار زوجته، أحس قرفها من رائحته وشكله، بلّغها قراره بالانفصال، قبّل طفليه، وهو لا يكاد يراها لفرط ما نزفت روحه”.
وللحب أيضا خسوفه وهزيمته، ففي (غبار الطلع) الحب مهزوم ومكسور، حب رحاب (العاجزة) لـ أدهم “أضحينا غريبين، عالَمين مختلفين. وفريال هربت من خذلانها. ساهم في انكسارها”. وهناك الهروب إلى الحب، تهرب كوثر إلى الحب “كعشاق صغار نسرق القبل، والورد البري يلمس وجوهنا، خلقت من جديد، كحبق وتين […..] أفتقدك بقدر مرارة التعب”.

السجّانون
لوحة رجل منحنٍ، وآخر يحمل الكرباج ويضرب، هي الصورة التقليدية للسجّان، خصوصًا في سجن (تدمر). “لم نكن نسمع الأسماء الحقيقة، ولا نرى الوجوه إلا من ثقوب، نميز أصواتهم، أشباح، وقد أطلقنا أسماء، هؤلاء الولاة على مصائرنا، أدوات خرساء عمياء”. وكان السجناء يراقبون تحوّلات السجانين الجدد “شميدت يتقيأ لدى حضوره حفلات التعذيب، يبكي، تغيّر بفعل الرقابة، وموت الحواس، أصبح سفاحًا”. والعريف فواز “تعرّف على سجين صديق، انقضّوا عليه، تنكّر له، وأشار، ضربوه”. ويكمل برو وصفهم: “الجلادون يتبارون، أيّهم أبدع ابتكارًا في إذلالنا”، “والفأرة التي أُرّخ لها، الفأرة الميتة” و”المتأرجحة عند (فرج) والحية. الفأرة التي أطعمها السجان للسجين”.
ولكن هناك صورة أخرى ملفوفة بقماش ليّن الملمس للسجانين “هرّبوا لنا الدواء الرسائل والطعام والصور والأسرار، منهم رقيب حُكم عليه بالضرب حتى الموت، لارتكاب جريمة تسريب صفحة من جريدة”. “السجان الممرض: قلبي يبكي”. وهناك الرقيب (السباعي) “نغم شاز وهو يصبّرهم، بيفرجها الله”. “ضرب حتى الموت”. و”في السجون الأخرى العلاقة عادية، وأحيانًا ودية، ففي سجن (الكراكون) علاقات السجناء مع الشرطة ودية، يتخاطبون بالأسماء، ويضحكون معًا”. وكذلك في سجن دوما “ضحكة الشرطي، جاء الجاحظ”.
أما علاقة السجينات مع السجانين، فتختلف من سجّان لآخر، هناك السجّان الذي يضرب، ويشتم، ويردّ بلؤم كحسين “حتى تعترفي”. وآخر يتعاطف معهن “دخل السجان إلى الزنزانة أعطاني كعكًا”. “عنصر متقدم في السن يحسن معاملتي”. وفي مكان آخر: “تريدين أن تأكلي؟ فطوري الخاص”، وعنصر في سجن تدمر “بقايا إنسانية، أدلى صفيحة وعود كبريت”، وسجّان يقف قرب الباب “لا تخافي، كم تريدين أن افتح لك الباب”. ويفاجئها “يحضر لي زجاجات حليب”.ويقول ياسين الحاج صالح (بالخلاص يا شباب): “يتواطأ السجانون لإدخال مال وأغراض”.

القبض على الذاكرة
السجن ليس أبوابًا مغلقة وحسب، وإنما ضيق أفق وانحدار ذاكرة وغدرها أحيانًا، خصوصًا سجن (تدمر) حيث سياسة إلغاء البشر مع ذاكراتهم تحت وطأة القيد والجلد والحرمان والجوع، وتحويلهم إلى كائنات بدائية، وكان الرد بالمقاومة، وإحدى صورها تحفيز الذاكرة: “فالإسلاميون يحفظون القرآن والأناشيد. بدأ الحفظ. يتلون سور القرآن وآياته. يكررونها، وأحاديث النبي محمد، سجّل السجناء”. “الحديث عن صديق والأفضل صديقة، كتاب قرأتَه، قصة مؤثرة، وروي الأمثال الشعبية”. ويستذكر غسان جباعي “كل ليلة، يحدثنا في تخصصه، أو يستعيد شفويًا كتابًا أو روايةً، وما أكثر الروايات التي اخترعناها”.
بينما في مجموعة عباس “أقمنا دورات شفاهية في الشعر واللغات، وابتكرنا وسائل تسلية، المسرح وألعاب الشطرنج والنرد”. وجود المكتبات والكتب “تُحفَّز الذاكرة، نحاول حفظ الأشعار، ونحاول استعادتها بعد أيام، أمرّن ذاكرتي بحفظ مقاطع باللغة التركية، لعبة عناوين أفلام وأغان، […..] وتأتي الزيارات لتوقد بعضًا من الذاكرة، أخبار، رسائل مهرَّبة”. في حين يقبض طالب إبراهيم على ذاكرته بعودته إلى دائرته “السنابلية” مع أمه في (شعاع الشمس) “اشتغل، اتعب واضحك”. “أمه تفتل مغزال الصوف”. ومن أمه إلى براعم أم خليل “مرّ الصيف على كروم القرية، عدا كرم أم خليل”. ومهجع محمد برو يتجه إلى “حلقات التعليم والمثاقفة لا تتوقف”. ولجأوا أيضًا إلى “العمل المسرحي”.

الأمومة والسجن
الاعتقال جريمة وللنساء بشكل خاص، ما بالك وهنّ أمهات أطفال صغار، قهر ووجع مزدوج في فقدان الحرية وهدر الأمومة. وهناك أمهات اعتقلن وأرحامهن، فيأتيهن الطَّلق في السجن، ويلدن فيه، كالطفلة سمية “سُمع في سجن تدمر بكاء المولودة”. ويهمس محمد برو: “هناك مولود جديد في مهجع النساء، نسمع صوت بكاء الصغير”، وأخرى “أخذوها رهينةً، جاءها الطلق، خرج المولود. ولدت في السجن”. وأنجبت معتقلة شيوعية في السجن: جاءت بنت، ظهرت مشاعر الأمومة، “إنها تحلم بإرضاع ابنتها، بعد فطامها”. ويسميهن عباس عباس في (توقًا إلى الحياة): “الأسيرات الأجنّة، سمية وماريا، وتلحق بهما ديانا”.
وتردد الأم المكلومة أميرة حويجة: “دخلتُ إلى القفص، انفجرتُ باكية، كنتُ أحتضنها وأحتضر. عدتُ من الزيارة ودموعي تسبقني، جملة كرصاصة في القلب قالتها: تريدون إنجاب الأطفال والعمل بالنار”. “أجل خفتُ من القادم على نور عيني”.
“أطفال حاقدون علينا، ضفائر البنات طالت، ربطتها الجدات. وعيونهم تتساءل لماذا أنجبتمونا”. “وابنة سخرت من لسانها الطويل”. وأخرى: “سيسمونني الأم الفاشلة”. وأم محمود: “أولادي حارقين قلبي وتدمع”.
وفي صفحة أخرى “وحيدون كاليتامى، لا نقدم لهم سوى الغربة”، وأم تعاتب نفسها”. علمتُكِ الكذب، قولي إذا سُئِلتِ عن اسمي اسمًا آخر”. وأم غزوان: “البكاء على صغارها، تصرخ وترمي البطانيات”.
وينقل جمال سعيد (من دمشق) عن أمه: ” قلبي مرمي على مفارق الدروب بانتظار خطواتك، عاد قلبي إلى صدري”. وأم هبا: “سمعت صوت مشية أخيك”.
وهناك الأب الذي لم يعد أبًا على رأي إبراهيم صموئيل، “حسان: بابا شغف، لم ترد. تشبثت بصدر أمها، زعقت، أشاحت بوجهها عني، ظلت خائفةً”.

الإضراب
سجنٌ وتصحّر روحي ومكاني، ومعهما أسلاك وجُدُر تصطاد الهواء من الفضاء إن أمكنها ذلك، وتكسر قلوب نازليها، وتحرمهم رائحة الأهل والأبناء والطعام البيتي، والحلم بضوء شارد يدخل شراقات أو نوافذ حديد، من دون جدوى، ما الحل ونحن جياع مقطّعو الأوصال ومنقطعون عن العالم؟ ولا سلاح معنا إلا سلاح الضغط: الإضراب! ديدن السجون لتحقيق المطالب، ومن تدمر حيث أنين الجوع والذل والموت المخبأ، وكسر المحرمات: “نعلن الإضراب لتحقيق مطالب: الكتب والصحافة، قام بإجماع يلفه القلق والخوف، ردة الفعل أقل سوءًا، تحققت بعض مطالبنا”، “ألحقناه بإضراب ثانٍ وأضفنا للمطالب: بابور كاز، استمر أحد عشر يومًا، أخرجوا أربعة، وانهالوا عليهم ضربًا، ورددنا الشتائم، وهتافاتنا بإسقاط الدكتاتورية والقمع. ونحن نشعر بأننا أنداد لهم. كضرب من الجنون، ضربة اليأس، نجح الإضراب”. “والثالث: أُمر بتوزيعنا على المنفردات، انتهى إلى ثلاثة أرباع الفشل”. “وفي سجن الشيخ حسن (الكركون)، أُلِّفَت لجنة إضراب لمطلب رئيس: النقل من الشيخ حسن إلى عدرا”. ولكن في المرة الثانية كانت هناك صعوبة “تمكّنا مرة من اتخاذ قرار بالإضراب يومًا واحدًا احتجاجًا على ضعف الاهتمام في إسعاف رفيق أدى إلى وفاته”.
وفي أمكنة أخرى: “أُعلن عن إضرابات متفرّقة منها مكان احتجاز النساء”. حيث أضربت (أم هبا) عن الطعام. حتى تراني”، وإضراب آخر ” حتى تسمحوا بالزيارات، أو تخرجونا، أو تعدمونا”، “ودخل يومه السابع”.
و”إضراب واسع شمل (45) امرأة شيوعية وإسلامية مطالب كثيرة منها الزيارات، الطبابة …إلخ. وفقدنا القدرة على الحركة ثلاثة عشر يومًا”، “صَمَم أصاب الفروع”.

المحاكم
سجون ومحاكم، لا تشبه محاكم التفتيش، مزيج من العرفي والميداني وأمن الدولة …إلخ، ففي حين تسجل (القوقعة) الإعدامات ويروي كاتبها “دخلت هيئة المحكمة الميدانية وسلّمت اللائحتين، لائحة بأسماء مَن سيحاكمون ولائحة الإعدام”. بينما يثري محمد برو رواية المحاكم الميدانية وصفًا “تُقرأ الأسماء ليلًا، نصطفّ رتلًا أحاديًا، معصوبي الأعين ومقيدين إلى الخلف”. يُسمع همس حارسين: “إلى أين؟ إلى حقل الرمي. ارتعدت فرائصي، الموت أمر جلل. لخلاص في أجلى صورة بدأنا نقرأ القرآن”، وينتقل برو إلى وصف المحكمة (الميدانية) في حمص “قاعة محكمة، تهيأ أسد هصور”، ويوم محاكمته يقول: “لم تُعقد المحكمة الميدانية أكثر من ساعة، الأحكام هي الإعدام”، طلبه (غازي كنعان) ثانيةً “أمسك بي من أذني، لا يُعدم. إنه لم يبلغ الثامنة عشر، ردّ القاضي: سوّد الله وجهك، خففنا الحكم إلى عشر سنوات، قالها بغضب”.
ويكمل “ثلاثة أشقاء كانوا رهائن عن شقيق لهم. ولرفع أصواتهم بعد مقتل أخيهم أمر القاضي بإعدامهم”.
وينتقل عباس عباس إلى محاكمته “جرت إحالتي إلى محكمة أمن الدولة العليا، خمس سنوات مضت على اعتقالي عرفيًا، هناك من أمضوا عشر سنوات قبل إحالتهم، صورية، قدمت بيان مقاطعة”.
وقارب راتب شعبو مشوار محكمة أمن الدولة من زاوية ومنظار آخر “عنصر جديد في حياتنا، وسيلة إضافية للظلم وسلب الأعمار بالسجين وأهله، سلب حق المحاكمة من السجين أعدل من منحه إياه”. ويتابع: “تشعر أنك في فرع أمن، على هيئة محكمة، والمحامون لا معنى لوجودهم”. “تُهم ودفاعات، صوت زاجر من رئيس المحكمة، تحاكم أناسًا قضوا سنوات بالتوقيف العرفي”.
“لكنه يرى فيها تنفسًا خارجيًا بعد انقطاع عن العالم” ص182. “نستعد للمشوار بلهفة كلهفة الزيارة”.
ويشبّه محمود عيسى محاكمتهم (محكمة أمن الدولة العليا) “مثل محاكمة (كافكا). ولكن المفاجأة الكبرى في قفص المحكمة “حضرت رئيسة منظمة لحقوق الإنسان، شكّل عناصر الشرطة والأمن ستارًا كي لا تراهم اللجنة”.
وأيضا أعدّ سجناء عدرا “بيان مقاطعة المحكمة الاستثنائية” لاقته هيئة المحكمة باستهزاء، ثم بتوتر، ونحن نتلو العبارة: نقاطع محكمتكم. ونطالب بتحويلنا إلى قضاء مدني وعلني، وقاطع المحامون المحكمة”. تقدم النساء (حزب العمل الشيوعي) إلى المحكمة نفسها، حُكم عليهن وتجريدهن من الحقوق المدنية”. ويرى عماد شيحا في المحاكم “محاكم تفتيش، صورتها الساخرة”.
بينما تقول هبا دباغ: “سمعنا لأول مرة عبارة المحكمة الميدانية، عندما حكمن فيها بداية الثمانينيات، يعيدون قراءة ملف كل واحدة، يسردون ما ألصق بها من تهم واعترافات، إن كانت تقرّ بها، وعرفت الأحكام في ما بعد. مدير السجن المدني، ورقة الأحكام، حكمت محكمة أمن الدولة (10) سنوات مع الأشغال، وواحدة أخرى بعشرين عامًا”. وتبقى محاكمة الأشباح لـ أحمد خليل (ساحة الإعدام) الأغرب “قررت المحكمة إنزال عقوبة الإعدام بالمتنكرين بهيئة أرواح، المساس بالأمن، يُستَعار عشرات المعتقلين ليحلوا محلهم”.

الشبك، الشراقة، شقوق، الشبح. أربع شينات ولكل شين مدلولها
الشين الأولى: الشبك حيث تُرمى عيون السجناء عليه عند اللقاء، وانتظار اللقاء والحمام الزاجل الذي يعشش بين الشبكين على شكل لب تمر وخوخ محشو بأوراق السجائر العابقة بالحب والسياسة والتنظيم، وخلف شبك الزيارة “جريان الزمن، إنها مثل العيد، شيء من الحرية”: بحسب ياسين الحاج صالح. “طبقتان من شبك حديد، كنتُ أمدّ يدي، وبالكاد ألمس إصبع ابني”. و”لقاء حسان مع ابنته شغف، كيف ستتذكر وجهي”. “نفخ العازل الشبكي على حرارة قبلاتنا قبل أن نتبادلها، خطوات إلى أمي”، والشبك يلتصق به وجوه نحتفي بها “أجمل من كل الصباحات التي يتنعم بها الأحرار. عيد صغير. برؤية وجوه أخرى، نشم رائحة الحرية، ووجوهًا نسائية”، والشبك يعني ” موعد وفاء كفراشة”. وإذا كان الشبك يخبئ الرسائل المهرَّبة “غنائم روحية” لـ راتب شعبو، فهو يوقع حسيبة عبد الرحمن في شرك “قصاصة ورق معجونة بأصابع صيّاد أهوج، تهريب الأسرار، الضرب”. بينما كانت زيارات الإسلام السياسي في غرفة “نظير أساور وعقود من ذهب”
والشين الثانية شين الشراقة: منها يُدخلون الأوامر الشفهية، ومنها تنزل أوامر التعليم (العلامة) في سجن تدمر، لمعاقبته في أي وقت “يتقدم 17 شابًا يزعم كل منهم تعليمه. يأمر بجلد الجميع”. وأكره حارس الشراقة ياسين الحاج صالح على “نقل الأحذية بفمي”.
والشين الثالثة شين شقوق الجدران “شقوق الجدران: أودعت وزوجتي القبو نفسه، كنا نتواصل عبر فتحة، فأغلقوها”. و”ثقب آخر صغير حفره الرفاق، كأول وسيلة لتواصلنا في صيدنايا”.
ولن نخرج عن حرف الشين بـ “شارات الموس” شبكة المراسلات، النقر على مواسير المياه (أبجد هوز) في (ناج من المقصلة). “جميع المهاجع ملتصقة، والاتصال على الحائط، والأخبار ينقلها السجناء وفق رموز مورس”.
وتصف هبا دباغ ثقبًا حول أنبوب التدفئة، فطلبن خرطومًا ومددنه، وصرن يحادثن الشبانّ”.
والشين الرابعة شين شبح الموت: “مات في السجن لم يعطَ أدوية القلب، وجوه الأهل مكفهرة.”. “صوت طفل في السجن يُنقَل إلى المشفى متأخرًا. نُبعد أشباح الموت”. و”تظهر أشباح الخوف تطأ كل مكانٍ”.

شيوعيون، إسلاميون
هل يمكن أن نتخيل علاقة في السجن بين طرفين نقيضين فكرًا وأيديولوجيا ورؤى وفي المهجع نفسه! ولكن هم بشر، والحياة المشتركة تقرّب بين السجناء. والألم “دين توحيدي يؤلف ذات البين”. فيروي عباس شهادة (أخ مسلم) عن التباس العلاقة بينهما “التقينا بالشيوعيين، لغز مستعص، منع الاختلاط بهم”، بادرنا لزيارة جماعية مهنئين بعيد الأضحى فخلخلت المزاج العام، بادرة نفاق”. الأخ المسلم: “تدخلت نجرب ثقتنا، ليسوا في حاجة إلينا. أطلعت أحد أصدقائي، فسبقني شوطًا بالمبادرة باتجاههم، قال بعضهم سخّرهم الله لنا”. ويقول برو “التنوع: نقلة أعطت للحياة طعمًا جديدًا”.
ومع أن النساء أكثر ليونة في العلاقات، اتسم موقف هبا دباغ من الشيوعيات بالضغينة، تقول: كان رياض الترك يسكب لي لقيمات، لم أكن آكلها وأعيدها”، وتتهم طالبة طب شيوعية “سرعان ما انقلبت لتصبح مخبرة، وعند الصلاة رفعت صوته بالموسيقى لتشوش علينا”. وفي مكان ثانٍ تتهم دكتورة شيوعية أخرى بمحاولة قتلها: “حقنتني بالإبرة في الوريد، فوجدتني خلال لحظات أفقد الإحساس، صاحت الحجة تريدين قتلها”. “ولم تسلم منها سوى فتاة شيوعية ذات ثمانية عشر عامًا، كانت تحترم تديننا”. ولكن واقع العلاقة مختلف، وهو ما أكدته أميرة حويجة في ردها على هبا بعد عقدين “لم يكن بيننا أحقاد. كنت أعتقد ذلك حتى قرأتُ ما كتبته إحداهن. من مهاترات على الشيوعيات، الحياة المشتركة لم تساعدها أن ترى أغلبنا يحترم معتقداتهن”. “بدموع الفرح ودّعتُ أعز صديقة كانت من الإخوان”. وهو ما توكّده حسيبة عبد الرحمن على لسان أم غزوان الإسلامية لإحدى الشيوعيات “أنت كنتي”. “أم غزوان حنان التجاعيد دمعاتها، تنغرز كالمسامير”. وإحدى السجينات الإسلاميات “سألتني إلى أي مجموعة أنضم. ودعوات الشاي لكوثر”، تصف كوثر علاقتها بسجينة إسلامية “علاقتي الحميمية”.

تفاصيل سجنيّة
في السجن يضيق المكان، ومعه يضيق أفق السجين رويدًا رويدًا، يدخل عالم التفاصيل الصغيرة والبدائية، فتتمحور “المشكلات حول الأمكنة، والفرش”، “وفي مكان آخر سرعان ما دبّ الخلاف بين القادمات”. “بعد زمن دخلنا جميعنا في خلافات على التفاصيل بمبررات السجن”. “وبقي الصراخ في حياتنا. كل تفصيل يكشف عن سلوك ما تحمله النفس من ضعف وقوة”.
وتصف حسيبة عبد الرحمن “السجن مرآة لشخص الإنسان ومشوِّه له”، وتكمل “لم نعد نفكر إلا في أشيائنا الشخصية”. “ضيق مساحات الأحلام، دوامة الاستقرار والأماكن والطعام”. الفراش والرف، أشياء يدَافع عنها بشراسة”. ويتفق مصطفى خليفة مع حسيبة في وصف السجن “عالم الصغائر، أستاذة الجامعة، يتشاجران، حول الشحاطة”.
وللفقر حضوره ودوره في السجن بتعبير واضح (الشح)، والحل بالتوجه “إلى العمل اليدوي، ضرورة، للمساهمة في مصروف سيشغل الوقت الضائع”، وهو التعبير الذي استخدمه عباس عباس “زمن الشح والعوز”، والمفردة المرادفة هي الجوع “نحن جائعون بشدة”، ويعنون محمود عيسى فقرةً: “أطول ليلٍ ليلُ الجائعين”.

الرائحة
للسجن رائحة واخزة يختزنها السجين ولا ينساها طوال حياته: رائحة تخترق المسام وتنحشر في الأنف”، رائحة سجن تدمر لا تنسى، رائحة الناس الممزوجة بالعرق والعفونة، رائحة كريهة”. ويشم محمد برو “رائحة الدم الطازج”. وهذا ما تشمّه حسيبة عبد الرحمن “رائحة الدم وشياط اللحم”، ورائحة الزنزانة “رائحة البطانيات المعجونة بالعرق ودم الآدميين”، وتتذكّر رائحة “رذاذ المحقق مختَلطًا برائحة المرحاض اللعين”. “الخرقة، رائحتها مع الكرباج”، ولؤي حسين تأتيه رائحة السجن “رائحة موت عفن موبوء، رائحة موت ملوث”؛ وللخطى أيضًا رائحة، وقع الخطى الثقيلة لـ ابراهيم صموئيل، تفوح منهم رائحة الرطوبة والعطن، وتهف “رائحة الأنثى” في (دوار الحرية) و”بغيابها لا رائحة لهذا المساء”، ولا تغيب “رائحة الطعام اللذيذ، لمنهكي القوى”.
وتغرز أصوات السجن في الأذن هي الأخرى. وتخترق الطبل وغشاءه “أصوات قعقعة السلاح، صوت الرصاص”، “صراخ الجلادين، السياط”.
“وقع أحذيتهم الثقيلة، أصوات عواء الذئاب: قيف، قيف”، وفي (القوقعة) صراخ السجناء “ثلاثون صرخة ألم، قهر، الكل يصرخ عواء ذئب”. ولإقفال باب السجن صوت لا يُنسى “صليل أقفال أبواب حديد”. وما يحفر في الذاكرة عميقًا “صوت أقدام المحكومين بالإعدام، صوت مشنقة”. “أصوات القصعات”.

الأحجيات
الأحجيات الملفوفة بأوراق الدخان القريبة من القلب، وبتعبير صريح الرسائل لغة التواصل السياسي مع المنظمة “الرسائل المغلفة، التي خبأتها المنظمة”، وبين الأحبة والعشاق والعائلة، والأولاد، الاتصال مع نبض الحياة في الخارج. لحظات الحزن والحب والفراق وسؤال السجين عن الصحة والدراسة، رسائل رفاقنا من السجن لمن يحيونهم”. لو جُمعت رسائل السجناء لمُلئت دفاتر شعر ونثر وتجديد في اللغة، ولا نفتح باب السجن على مصراعيه بكل شفافية وصدق ومن دون تجميل، ولكن مع الأسف، معظم الرسائل مُزِّقَت وضاعت. حاولت حسيبة عبد الرحمن نشر بعضها في مجموعتها (سقط سهوًا) سمتها رسائل الغرباء. التوقيع “معتقل ما”. ونشر عباس عباس بعض الرسائل: “إلى مثقفي سورية، عبر صديق”.
ويبقى الكثير في أدب السجون لم نمرّ عليه من حوادث وتعابير مكررة مثل: الشمس، الشارع، المشي، النوم، ومفردات غيرها لا عدّ لها وردت في السرد طوال عقود، فهناك الكثير مما يُقال وسيقال، وسيُكتب عن تجارب السجن، عندما يخرج معتقلو الانتفاضة السورية.
وكما توقّع عبد الرحمن منيف ذات يوم في مقدمته لمجموعة جميل حتمل “معاناة جيله، وربما الجيل الذي سبقه، وقد يكون مصير الجيل الذي سيأتي”؛ وهي النبوءة التي تحققت، وبدا الغيث مزنًا بعبد الله اليبرودي في (قضبان الربيع).

قائمة المراجع
إبراهيم، طالب كامل. شعاع الشمس، ط1 (د. م: وزارة الإعلام، 2002).
برو، محمد. ناجٍ من المقصلة، ط1 (جسور للترجمة والنشر، 2021).
بيرقدار، فرج. تقاسيم آسيوية، ط1 (دار حوران للطباعة والنشر، 2001).
الجباعي، غسان. قهوة الجنرال، ط1 (د. د، 2012).
الحاج صالح، ياسين. بالخلاص يا شباب، ط1 (بيروت: دار الساقي، 2012).
الحافظ، مي. عينك على السفينة (د. م: د. ت).
حتمل، جميل. المجموعات القصصية الخمس، ط1 (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1998).
حسين، لؤي. الفقد، ط1 (دار الفرات للنشر والتوزيع، 2006).
حويجة، أميرة. ظل الغروب، ط1 (الرحبة للنشر والتوزيع، 2016).
خليفة، مصطفى. القوقعة، ط1 (دار الآداب للنشر والتوزيع، 2008).
خليل، أحمد. ساحة الإعدام، ط1 (دار بعل، 2002).
داغستاني، مالك. دوار الحرية، ط1 (دار البلد، 2002).
شعبو، راتب. ماذا وراء هذه الجدران، ط1 (دار الآداب للنشر والتوزيع، 2015).
شيحا، عماد. الموت المشتهى، ط1 (دار السوسن، 2007).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. بقايا من زمن بابل، ط1 (دار السوسن، 2007).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. غبار الطلع، ط1 (المركز الثقافي العربي للنشر والتوزيع، 2006).
صموئيل، إبراهيم. رائحة الخطو الثقيل، ط4 (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2005).
عباس، محمود عباس. توقًا إلى الحياة، ط1 (دار الخيال، 2015).
عبد الرحمن، حسيبة. الشرنقة، ط1، (د. م: د. د، 1999).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. سقط سهوًا، ط1، (د. م: د. د، 2002).
عيسى، محمود. مطر الغياب، ط1 (دار الخيال، 2016).
اليوسف، غادة. في العالم السفلي، ط1 (دار الينابيع، 2006).

مشاركة: