ها أنا بعد عشر سنوات من الحرب، دون حقائب أو مواعيد أو خطط تنقذ الريش الذي ربيته وسط ظهري، أقف في مدينة غريبة، على ناصية شارع يأوي اللاجئين والغجر والمنبوذين واللصوص وبعض المتطرفين والهاربين، أحدق في زجاج موقف الباص، وألمحهم كيف يغيبون واحدًا وراء الآخر مع أحذيتهم الرثة ويدخلون المخيم، أخطط بخار أنفاسي كي يبدو مثل يد، يد تلوح، يد تربت، يد تمسك نعش غسان الجباعي وهو يهتز في الظهيرة الثقيلة ساخطًا على هذا العالم، كأنه يقهقه، أو كأنه يودع نفسه الأخرى، متأملًا كعادته في صناعة التفاؤل، في النظر إلى نفسه من الخارج، منتظرًا رؤية غسان جديد في عالم يحب روائح الزهر أكثر من البطولات المزيفة.
أظن بأن غسان الجباعي صادق الموت مرات كثيرة، وقرأ كتابه المقدس، وعرف كيف يحفر قبورًا باليد ذاتها التي نحتت تجاعيد ثمرة المشمش في السجن، حتى صارت وجهًا ينتظر، تعلّمَ من عتم الزنزانة كيف يقيم الجنازات بصمت وخشوع، ويزخرف الشاهدات بخط أنيق آخاذ لكل تلك الحالات التي إن لم تقتلها ستقتلك في السجن.
لا بدّ لك أن تتعلم فن الدفن وأنت تسمع أنفاس المعذبين كل صباح، لكنها كانت التجربة الأولى بالنسبة لي، رحيل صديق بحجم غسان الجباعي في سوريا، تبعدني عنه حدود وطغاة وبيوت مهجورة، بالتأكيد لقد عرف الكثير من الناس هنا هذه اللوعة، فقدان الأحبة والأهل والأقرباء في الغربة، لا أعلم كيف يواسي النحل طريقه وهو يضيع تائهًا في سرب آخر؟ لا أفهم كيف تكوي العتبة بثورها تحت الشمس دون زوار أو أصحاب في الغياب؟ أن يموت ويرحل من كنت تحبه وتجله وتصغي إلى أحاديثه كما لو كنت في غابة، هكذا فجأة دون أن تحبس أنفاسك، دون أن تضع في قلبك خطة تقيك الألم الذي يحدثه وقع خبر كهذا في نفسك.
كما لو أنك تتعلم لغة جديدة، الغربة هي هذه التفاصيل الصغيرة.
“وماذا كنت ستفعلين لو كنتِ في الجنازة؟ هل كان سيحيى؟ اللي مات مات، لو كانت زيارتنا ودموعنا بترجع الموتى كنا نمنا جنب القبور، هنون راحوا وتركونا نتذكر”
جملة مقهورة تخرج من فم أمي، إنها جملة تمس الواقع السوري كله، فالجميع هنا يرددها “وماذا كنت سأفعل في سوريا؟ هل كنت لأنهي الحرب؟”
يا إلهي…البلاد هي الأشخاص، هي هذه الأحاسيس النيئة المفطورة على دموعنا، نحن عكاكيز الشمال البارد، نتألم كي نكون بخير، كي نتأكد أننا بخير، والحكمة العاهرة التي ننطقها في الغياب تصلح لأن تكون نشيدًا وطنيًا يردده المطر وهو يفنى في جذور القمح.
من قال إنني أفكر بإحياء الموتى، أو سوريا، أنا في حاجة كي أحيا أنا، أكون في العزاء كي أصنع مسرحية مع غسان الجباعي، أمارس هذا الوداع الأخير وأحيا به ومعه، أن أتمرن في هذا الطقس النبيل وأسمع صوت الأعشاب كيف تحيا مثلي وهي تودع هذا الرجل، صنع الإنسان العزاء لأنه وقف عاجزا أمام هذا الألم، كان لا بد له من إغلاق الباب جيدا.
هل يتخيل غسان جباعي الجنازة خشبة مسرح هائمة في الهواء؟
ربما كان يظن المعزين جمهورًا عاطفيًا يجلس في مسرح القباني مشدوهًا لإحدى المشاهد الصاخبة.
ربما كان يهندس طريق الجنازة وهو في تابوته المظلم، كان يُخرج موته ويقطع مشانق العالم بأسنانه على طول الطريق، وفي عمق المقبرة ربما وضع مجموعة من الراقصين يقلدون الغيم، ويقفزون بعيدًا.
حسنًا كان لا بد لي أن أرى كيف أخرج غسان الجباعي مسرحيته الأخيرة وهو في طريقه إلى المقبرة.
عشر سنوات أمضاها غسان جباعي في المعتقل، ومع ذلك لم يخطئ الطريق إلى بيته عندما خرج من هناك، لقد تبع حدسه، ولحسن حظه كان الجو ماطرًا، فليس هناك أجمل من أن تعود إلى العالم بعد عشر سنوات اعتقال والسماء تمطر.
فالله يغسل العالم احتفالًا بك، ينظف لك الشوارع والأشجار والحيطان، كي تشم هذه الرائحة، كي ترى الأمور على حالها، كي يغشى بصرك أيضا عن الخطايا، عن تلك الذنوب الصغيرة في عيون المارة، وحفر الطريق وحراس القصور.
وصل غسان إلى السجن وعاش فيه عشر سنوات، ووصل إلى المسرح ووضع صرخته بدل الضوء، ثم وصل إلى كتابه وفتح له النافذة، لكنه لم يصل القبر أبدا هذه المرة، سيدخل جسده ببطء ويودع روحه، روحه ستكون مشغولة في قراءة تشيخوف مرات أخرى، متكئًا على مكتبه الصغير، حيث نافذته المطلة على جبل الشيخ.
حيث العيون صاخبة حادة كأنها تمشي في تظاهرة، لم ينعس لهب الثورة يومًا في غرفة غسان الجباعي، لا تسأل معتقلًا قديمًا عن الطقس، عن الثورة، عن الأموال المسروقة؛ عن الأسماء التي بلعت الدم والنار وتنهدت، لا تسأله عن كل ذلك، إنه لا يرى سوى الأعماق، إنها تتكشف له واضحة كما الشمس، ولا يهمه تشاؤمك، تلك الترهات التي جعلتكَ تشتم الثورة والتاريخ والوطن، لن يهمه سوى الريح التي لفحت وجه التمثال، وصرخت بأنيابها المعمرة في وجهه.
لا أعلم كيف أصنع عزائي في الغربة، تكلمت مع بعض الأصدقاء، كنتُ أريدُ يدًا، سُبحةً، خيمة، طريق، جنازة، حاولت ذلك، لم أستطع، كابلات الانترنت تكذب علي، تمشيت كثيرًا في الشارع حول المخيم حيث أعيش، ثم قطفت لك عشبة خضراء جميلة، ولأن شوارع ألمانيا فارغة كعادتها بأضواء صفراء خافتة كان لي فضائي ومساحتي، أظن أنك تعلم كل شيء الآن، أخذت صورة للقمر، لو أخبرك يا غسان كيف كان القمر حينها؟! صغيرًا وحزينًا مختبئًا بين أوراق الشجر المعتمة.