اصطففنا فور سماع الصافرة. كنا على وشك اجتياز المسافة كلها في وثبة واحدة لولا سماعها. أظنني سأحتفظ بسرعة الانصياع لو سمعت هذا الصوت بالخارج.
تهادى نحونا ببطء. نفس خطوته الرتيبة، أناقته الملفتة، وسامته، ثبات عينيه، عطره الذي تتلقفه أنوف أهلكتها رائحة العطن. يحسب تحركاته بدقة صارمة. لا ينطق الكلمة إلا بعد دراسة مستأنية. يحرك الجميع كالأحجار على رقعة الشطرنج. يعرف متى تتم التعبئة ومتى يهاجم. ليس هذا بشرًا، بل آلة صُنعت بإحكام.
عيوننا على السور الفاصل بين الإنسان والإنسانية. بإشارة من يده قد يقبع أحدنا فترة ثمانية عشر شهرًا أخرى. لا جريرة إلا الشك. خلف هذا السور تنتظرنا عيون وأحضان باتساع الكون. أمي بالخارج. أشم رائحة حضنها. أتوق للارتماء باكيًا في باحة صدرها. راهنت على الدموع منذ جئت هنا، لم أبك مرة واحدة. لعل هذا هو سبب انبعاج ملامحي ونحولي.
هل ما زال يذكر لقاءنا القديم يوم وصلت؟ أم أنني أصبحت بالنسبة إليه مجرد رقم؟ مفعمًا كنت بالأمل: “السجن من أجل الثورة شرف”، “لن يسكت العالم بالخارج”، “الحرية فكرة، والأفكار لا تموت”. صارحته أنه زائل عما قريب.
تلقاني بهدوء حينئذ، لم يعبأ بروح التحدي التي واجهته بها. صلف العينين بالنسبة إليه ماء، يجف بمرور الوقت. وكذلك الدموع، يراها قربانًا حيث لا ينفع الندم. بقيت حريصًا ألا أمنحه ذلك القربان. أرسلني إلى زنزانتي وأنا أزهو بشعور نصر زائف. ما هي إلا سويعات وينقضي الأمر وتقضي الحرية على كل القيود، ولا بد لليل أن ينجلي.. هكذا ظننت!
متأنيًا كعادته سار بيننا، هادئًا يحشد قواته ليفاجئك بنقلة فارقة. بنظرة في العين يستعيد سجل السجين. يثقب الروح إذا التقت الأعين. خلفه جبابرة يطيعون الأمر ولو كان بمحو إنسان من سجل البشرية. الرعب ظل الخطوات. يتعامل معهم بإشارات لا يفهمها سواهم. يُبقي ويُحرر حسبما شاء. لا أوراق ثبوتية، نحن هنا بلا أسباب، أو بأسباب يمكن اختلاقها ببساطة نقلة بيدق.. لذا، فإشارة من يديه تكفي.
بولة زميل تسللت من تحت بنطاله فصنعت خطًا ذا رائحة يسري تحت أقدامنا. ليس هذا جديدًا عليه، ولا علينا.. ذابت مقاومة كل واحد منا بشكل أو آخر. خطا فوقها وأومأ إليهم بنظرة تعني أن هذا تام الانصياع فأطلقوه. ابتسم الجندي في وجه المتبول فامتلأت عيناه بالسعادة.
شاب جديد تجرأ عليه ذات يوم، صاح في وجهه بأناشيد الميدان. وضع سبابته أمام عينيه وهدد. لم يكن ممكنًا أن يعامله بنفس الحلم الذي واجهني به. الكل شهود على جسارته. لطمه فاهتاج الشاب، كان ليفترسه لولا انكباب الجنود فوقه بالسياط؛ لم يكن مقبولًا أن أقف مشاهدًا. صرخت في وجهه أيضًا، دفعت الجنود فدفعوني. ألهبتني السياط، لكنني كنت أشعر بالسلوى؛ مساندة الرفيق الممتلئ بالحرية، لحظة لا يشعر فيها المرء بالوجع مهما كان، تهب نسائم تحمله بعيدًا عن الألم.
عوقب كلانا بالحجز الانفرادي. الوحدة والظلام والفئران والوجبة الواحدة. تآكل الروح عبر نقصان الجسد. تراكم العرق حتى يسد مسام البدن، لحد الأحياء. رأيت الشمس بعد عدد لا أعرفه من الأيام. أما الشاب فقد بقي اثني عشر يومًا، زيدت عليه عقوبات لم نعلمها. خرج بعدها شيئًا آخر، أصبح بهلوان السجن، يرقص حين يتسامر السجناء، ويمجن حين يتسامر السجانون، حلق شعر حاجبيه ليتحول مظهره إلى مزحة دائمة.. وأصبح لعابه يسيل معظم الوقت.
الألفة عدو الكرامة. الأحلام لم تعد توافيني، أستسلمت للقيد هي الأخرى؟ هل حاصرتها الجدران؟ رأسي كالعهن المنفوش. حتى الأحلام حُرمتها. كم ليلة بت واقفًا مثبت الرأس إلى الحائط! لا شيء في رأسي، لا فكرة تدور ولا أمل أنتظره، جل خوفي أن أصاب بجرح فيتعفن الجرح قبل أن تنتهي غربتي. الر غبة في الخروج تخفت، الأيام تمر، والأفكار تموت، والعالم بالخارج ينسى، ينغمس في مباريات كرة القدم. الجدران تجفف الروح بالفعل. تنخفض الرغبات إلى الحد الأدنى، الوجبات التي كانت نفسي تعافها أصبحت أنتظرها. حتى الشوق إلى النساء جف. أصبح الجدار مبتغاي، انتخبت مربعًا صغيرًا ناعمًا، أبلله ببصاقي ثم أغمس فيه شوقي…
بيني وبين الباب أن أنوي الرحيل، شيءٌ أقل من الخُطى.. يبرق وميضك يا أسى، أن انتباه.. الآمر جاء. كالسيف يمضي بيننا.. والحلم يخرج بينما أبقى أنا.
توثَّق من نظرة الخنوع في عيني الشاب الذي كان ثائرًا ثم أصبح بهلوانًا. أشار لهم أن يخرج، شرط أن يرقص عاريًا. فعلها منتشيًا بلا حرج، ثم وقف ممتنًا بجوار البائل على نفسه.
ثم وصل إليّ.. نظر في عينيّ قليلًا. اكتست نظرتي بذل غير ذي حياء. اغرورقت عيناي رغمًا عني، قالتا إن أمي في الخارج….
نظر في وجهي فتذكر شيئًا لم يرقه. أجهز عليّ بنقلة حاسمة.. بكلمة حاسمة.. ليس بعد.