من موقف الحافلات البعيد إلى ذاك الحي الراقي، حمل جسده النحيل ورزمة من الأوراق والأحلام وسار على درب إنجاز منتظر منذ سنين، وفي أفق طموحه مجدٌ أيقن أنه -لا بدّ -قادمٌ، لم يكن يبالي كثيرا بجنيٍ يزيد عما يسد الرمق، فالماديات لم تكن تعنيه، ما كان يعنيه فقط، أن يصل بفكره وقلمه إلى الناس البسطاء المساكين، أمثاله، علّه يصلح شيئًا من حالهم ولو بعد سنين.
كانت شركة الإنتاج الفني التي أنشأها وافتتحها منذ مدة قصيرة، أحدُ أبناء، ثاني أو ربما ثالث أهمّ أوابدِ البلد، قد أعلنت عن مسابقة في كتابة السيناريو، وذلك لانتخاب أعمالٍ ستقوم بإنتاجها لاحقًا، سعيًا منها إلى امتلاكِ موطئِ قدم في ساح حرب الدراما التلفزيونية، وكان كاتبنا الشاب قد انتهى لتوه من كتابة سيناريو مسلسل ضخم، ظن بأنه سيغير الدنيا ويقلب الموازين، وما خاب ظنه، لكن الدنيا والموازين، كثيرًا ما تتغير وتنقلب إلى غير ما نشتهي.
وقف أمام بوابة الشركة يصوّر بعينيه ويخزن في ذاكرته مشهد دخوله إلى الشركة، فهذا المشهدُ لن يُمحى من ذاكرته، كان حدسه ينبئه بأنه سينجح هذه المرة، فقد حاول ولسنواتٍ خلت، تقديم عدة قصص وسناريوهات إلى عدة شركات إنتاج، لكنها قوبلت جميعها بالرفض بدعاوى عدة، ليس منها قطعا سوء كتابته، إلا أن الزمن تغير اليوم، هكذا قالوا له.
في زمن ليس ببعيد، لكنْ قطعًا قبل العهد الجديد، كان حرفه ممنوعًا من الصرف، وفكره مخالفًا للعُرف، وكانت شركات الإنتاج غير مستعدة لتبني أي عمل قد لا يشق طريقه بسهولة عبر حواجز الرقابة المتتالية، ورغم أن سطوره لم تكن لتقارب مقدسات الساسة والسياسة، لا من قريب ولا من بعيد، لكن العهد القديم كان محكومًا بفتاوى المفسرين والمستفسرين، حتى لو كتب المرء عن أبطال معركة حطين.
أما وقد جاء العهد الواعد الموعود، وأزيلت كل الحواجز البالية البائدة، التي تربصت عُمرًا بأقلام الوطن، فإنه اليوم المنشود.
دخل إلى مكتب المدير العام للشركة، والذي استقبله بحفاوة واستمع منه إلى فكرة العمل، وقرر ترشيح السيناريو للمسابقة.
وبعد أسابيع قليلة لم تكن الدنيا لتتسع لفرحه، عندما جاءه الرد بأن الشركة ستتبنى العمل.
في ذاك السيناريو المحكم كان النقد لاذعًا، وطال رموزًا كانت عصيّةً فيما سبق على الترميز، ورغم ذلك وافقت الشركة على تبني عمله، بل وطلبه أيضًا مدير الشركة لمقابلة شخصية، هنأه فيها على ما خطت يداه، وأيده في جرأته على طرح مواضيع معقدة وشائكة، تلامس صلب الواقع المعاش، وشجّعه زيادةً، على مقاربات مماثلة أخرى في المستقبل القريب لحاجة المرحلة لها، فالمرحلة هي مرحلة التغيير الجديد، وتلك هي توجيهات القيادة العليا في البلد.
بين فنجان قهوة أهلًا وسهلًا، وفنجان قهوة مع السلامة، ناقش المدير معه بعض التغييرات القليلة التي اقترحتها لجنة قراءة العمل، وبعض التفاصيل العملية وكل التفاصيل المادية، واتفقا على توقيع العقد في مطلع أسبوعٍ مقبلٍ، تكون سكرتيرة مدير الشركة قد جهزت له فيه العقد مكتوبًا ومطبوعًا، وتكون الموظفة المسؤولة عن الطباعة قد طبعت العمل، لأن صاحبنا قدم عمله مكتوبا بخط اليد ليس إلا، سأله المدير:
أستاذ، هل صورت نسخة عن العمل؟ ذلك للأمانة فقط.
حضرة المدير، كلي ثقة بكم، أعرف أن العمل في أيد أمينة، أنتم فوق الشبهة يا سيدي.
ردّ المدير: على أية حال، ستبقي لديك نسخة مطبوعة حالما ننتهي من طباعتها، أنت تعرف يا أستاذ، الدنيا حياة وموت.
لم يكن ليخبر المدير أنه إذا صور نسخة من العمل قبل إحضاره إليه، فقد لا يتبقى معه حتى أجرة الوصول إلى الشركة، فالشهر في آخره، وراتبه كموظف في صحيفة حكومية، معيل لأم وأخت وحيدتين، بالكاد يوصله وإياهم إلى منتصف الشهر فقط، ثم يتركهم لغائلة الفاقة وتدابير نَزر مؤونة البيت اليسير.
ما عاد يهم، فما سيدفع له لقاء عمل واحد سيحل مشاكل كثيرة، فما بالُهُ إذا نجح في بيع أعمال أخرى، حتمًا سيودع الفقر، لكن الأهم عنده كلمة لطالما حلم بإيصالها إلى الناس، يا لسعادته، أخيرا ستفهم الدنيا رسالته.
عاش الأيام القليلة التي فصلته عن موعد توقيع العقد بغامر تفاؤل، دهم فيها فيض مسلسله كل تفاصيل واقعه، هو الآن رهن الحلم، رهن الزمان والمكان، رهن المشاهد والحوار والشخوص التي تولد اليوم هناك فوق أوراق الطباعة.
يا ليته لم يحلم، ما أصعب أن تتحطم الأحلام كُلُّها دفعة واحدة على صخور الخيبة القاسية، تبًا لرقابة لم تفتأ تقتات على طموح هذا الشعب إلى واقع جديد، هكذا قال في نفسه وهو يستعيد ما خطّت يده من سكرتيرة مدير الشركة، وخرج إليه مدير الشركة معتذرًا وواعدًا بتبني أي عمل آخر قد يحوز على رضى الرقابة في المستقبل القادم، لم ينبس ببنت شفة، لم يجرب أن يستفسر عما حصل، كانت الغصة تخنقه، فحمل أوراقه وخيبته وعاد إلى بيته يجرّ أذيال زمن ماض عصيّ على الاستحالة، عبثًا حاول.
**
مرت شهور لم يستطع فيها كتابة أو حتى التفكير في كتابة أي شيء، هل يسوق مع السوق (حسب المصطلح الدارج) كي يطفو؟، البقاء في القاع أشرف، فالفكرة كانت مرفوضة بكليتها.
إنها معضلة كل من يحمل رسالة حقيقية أو يدافع عن عقيدة لا لين فيها.
كاد اليأس يقتله.
**
نادت عليه:
أليست قصة هذا المسلسل تشبه قصة مسلسلك الأخير الذي رفضته الرقابة يا بني؟ تعال وانظر قليلًا.
كان جالسا في غرفته لاهيًا عما تشاهده أمه في الصالة من برامج رمضان التلفزيونية، منهمكًا في تنسيق مقال مستعجل لصحيفة يعمل فيها بدوام جزئي، أطرق السمع للحظة، ثم نهض إليها، نظر في الشاشة لدقائق ثم حملق مصعوقًا.
لم يصدق ما تراه عيناه وما تسمعه أذناه، إنه نفس السيناريو والحوار، بالحرف.
لكنه ورغم هول المفاجأة ظل منتظرًا شارة النهاية، ليعرف الجهة المنتجة للعمل، إنها نفس الشركة، والكاتب صاحب الشركة ومديرها العام!
يا ألطاف السماء، ما عساه أن يفعل؟ اتصل بمقر الشركة، ما من مجيب، طبعًا الوقت متأخر والشركة مغلقة.
قضى ليلة لم يغمض له فيها جفن، ممزقًا بين حسرته وحيرته.
في الصباح الباكر وقف عند باب الشركة، منتظرا قدوم أي موظف فيها، ناسيًا حتى الاتصال بأي من زملائه في الصحيفة لتقديم إجازة طارئة.
كان الغضب والخوف يعتصرانه معًا، فهو قادم كي يواجه ذلك اللص: لص نعم ولكن، ذلك اللص هرم مال وسلطة، وإن يكن، بما أن الزمن تغير فهو مستعد لمواجهته حتى ولو في المحاكم، لن تخيفه سلطته فتثنيه عن مطالبته بحقه، ولكنه سيبدأ حديثه معه بهدوء دبلوماسي ريثما يتبين نواياه، كذا حدثته نفسه.
**
الحديث لم يكن وديا البتة، لكنه أمسك بزمام غضبه بينما المدير ممسك بزمام وقاحته، ولكن إلى حين.
لم يطل الحال على ما هو عليه كثيرًا حتى رماه رجال المدير مبرحًا ضربًا في الشارع بعد فض اشتباك مقتضب بين الغضب والوقاحة.
لم يشعر يوما بكل هذا الكم من القهر من قبل.
رغم كل الظلم والفقر الذي عاناه كما الآلاف مثله ومن سنين، لكن طعم القهر هذه المرة كان أشد مضاضة.
مشى في الشارع متعاليًا على رضوضه وجراحه، جملة استفهامية واحدة كانت تتردد في ذاكرته وتعمل فيه سيفها طعنًا متواليًا:
أأنت قادم كي تتطاول على أسيادك يا كلب؟
عين واحدةٌ ذرفت دمع ألمه، بينما فتح الأخرى مليًا أمام المخرز القادم.
**
كانت جلسةُ المحكمة الأولى قد حُددت من قبل القاضي قبل أسبوعين، وكان مصرًا على مقاضاة الشركة ولو كلفه ذلك بيع ثيابه، وكان محاميه، والخصمُ العتيد ومحاميه أيضًا، في انتظار وصوله إلى قاعة المحكمة.
فات الوقت المحدد ولم يحضر، فأجّل القاضي جلسة الاستماع لحين حضور المُدّعي، اتصل المحامي فور خروجه من المحكمة به في المنزل فلم يجده، واتصل أهله بمكتبه في الصحيفة فأخبروهم أنه لم يحضر في ذلك اليوم، وبدأ أهله ورفاقه رحلة البحث المتواصل عنه بدءًا بالمستشفيات وأقسام الشرطة وانتهاء بفروع الأمن، لم يتركوا مكانًا إلا وبحثوا فيه وما زال البحث منذ سنوات جاريًا.
(تتبخر الأحلام أحيانًا وقد يتبخر معها الحالمون)
التوقيع:
العبد المأمور، سَـــجَّانـُه. بتصرّف