تدوين الخوف
إضاءة على تجربة اعتقال الماغوط

يحفل الأدب العربي بالكثير من الأعمال الأدبية التي تناولت تجارب في السجون، وتجارب النفي والاعتقال عبر التاريخ ولا سيما الحديث والمعاصر منه، فكما دخلت السلطات حروبها الضروس لتثبيت حكمها ومحاربة الأصوات المعارضة والمناوئة لها بكافة الوسائل من خلال إسكاتها، أو التعتيم عليها، أو مهادنتها حينًا، أو محاولة شرائها، أو تخوينها (وهي السمة الأعم عند مختلف السلطات التي أباحت لنفسها احتكار الوطنية)، أو من خلال الاعتقال كأحد أشرس الحلول الأمنية، للنيل من الخصوم السياسيين، بتهم عدة معظمها تكون جاهزة، ونتحدث هنا عن الفعل السياسي المعبَّر عنه بالرأي المحض وبالطرائق السلمية، كذلك دخل الأدب في حرب مفتوحة، كأحد القوى الناعمة للتعبير وفضح الممارسات القمعية واللا إنسانية، التي تنتهجها السلطات ضد كل صوت مغاير ومختلف عنها.
لقد كانت وما زالت الكلمة الحرة تؤرّق كل سلطة جائرة استولت على الحكم بالقوة، وقد جاء ما سُمِّي أدب السجون كردّ ثقافيّ وإبداعيّ وكتعبير سياسيّ عن رفض ممارسات القمع والتنكيل التي تنتهجها السلطات ضد ما اتُفق على تسميتهم سجناء الرأي، إذ أن كل نظام طبيعيّ ووطنيّ لا بدّ أن يقبل بمعارضة تختلف معه في سياسات واستراتيجيات وبنىً معينة، هكذا تكون وهكذا تبنى الأوطان الطبيعية وتزدهر، بدل أن تدخل في صراعات لا طائل منها سوى تقييد حريات الأفراد وتبديد ثروات الوطن.
وهناك أعمال أدبية عربية كثيرة تتناول تجربة الاعتقال والتعذيب الجسدي والنفسي وسنوات السجن الطويلة، نذكر منها على سبيل المثال:
رواية شرف للكاتب المصري صنع الله إبراهيم، حيث تروي سيرة شاب فقير وجد نفسه مرتكبًا جريمة قتل ضد سائح أجنبي حاول الاعتداء عليه جنسيًا، ليدخل السجن ويكتشف في ذلك المكان الكثير من الاستغلال، والفساد والظلم، فيصوّر الانتهاكات التي تحصل خلف القضبان، في صور تعكس وجهًا آخر للمجتمع المصري.
ومن الروايات الشهيرة أيضًا رواية شرق المتوسط، للكاتب السعودي عبد الرحمن منيف، حيث تصوّر الرواية الكثير مما يحدث في السجون التي تتشابه في ممارساتها القمعية، وتلقي الضوء على تجربة النضال من أجل الحرية، من دون أن يحدد الكاتب أو يشير إلى جغرافية محددة بذاتها، إذ يمكن أن تقع الحوادث نفسها في أي سجن من سجوننا العربية.
ونذكر أيضًا رواية الكاتب المغربي الطاهر بن جلون التي سمّاها تلك العتمة الباهرة، والتي تتحدث عما عُرف بانقلاب الصخيرات، ضد الملك المغربي حسن الثاني بداية السبعينيات، وقد نالت تلك الرواية جائزة دبلن للآداب عام 2004.
كما هناك كتاب نوال السعداوي: مذكراتي في سجن النساء، ومسرحية العصفور الأحدب للشاعر السوري محمد الماغوط الذي سنلقي الضوء على تجربة اعتقاله، وبعض ما كتبه حول ذلك في هذه المقالة.
ولا بدّ أن نذكر أيضًا الرواية السورية الشهيرة القوقعة، للكاتب مصطفى خليفة، والتي تعد من أكثر الروايات وجعًا وألمًا في تصويرها عذابات الاعتقال والتعذيب، ورواية السوريون الأعداء للكاتب فوز حداد، ورواية خمس دقائق وحسب لهبة الدباغ، ورواية نيغاتيف وهي رواية توثيقية ترصد معاناة السجينات في التسعينيات للكاتبة روزا ياسين الحسن، كما يمكن أن نذكر رواية أعياد الشتاء للكاتبة نغم حيدر، وهي تتحدث عن الحرب والاعتقال والمنفى أو اللجوء، وما تحمله كل تلك التجارب من معاناة وألم وتشريد.
تجارب أدبية كبيرة أثبتت حضورها وأهميتها، وتُرجم الكثير منها إلى مختلف اللغات، فساهمت في تعرية الواقع السياسي العربي، وفضح ممارساتٍ كانت وما زالت تحدث في الخفاء، ويُعتّم عليها، كما ساهمت في رفع درجة الوعي وتعرية مجتمعاتنا، وكشف زيف كثير في الواقع المعيش، في مدننا العربية، سواء زيف الأنظمة نفسها، أو مَن بقي واقعًا تحت سلطة احتلال أو وصاية، أو حتى ممارسات قوىً قدمت نفسها -في بعض الدول العربية- كصاحبة مشروع في التحرر والنضال الوطني.
ومن الجدير بالذكر، أن بعض النقاد يرفضون تصنيف بعض الأعمال التي تروي تجارب الاعتقال، ضمن حقل الرواية، معتقدين أن بعضها قد يكون أقرب إلى المذكرات أو السير الذاتية، وأن بعضها لا يمتلك مقومات البناء الروائي، ومستلزمات السرد، وبعضها ليس له مرجعيات واقعية، لكن على الرغم من ذلك كله كان للرواية التي حاولت توثيق مآسي الاعتقال والنضال السياسي، الحصة الأكبر، وتقدمت على أصناف الكتابة الأخرى، لما لها من انتشار أهم وأوسع في السنوات الأخيرة، على عكس الشعر مثلًا الذي شهد تراجعًا عامًا، وتقلّص تأثيره، ولا سيما في جانبه السياسي، وما يمكن تسميته شعر الحرية، عما كان عليه الأمر في الستينيات والسبعينيات.
بالعودة إلى الشاعر محمد الماغوط الذي سُجن عام 1955 في سجن المزة في دمشق؛ يقول واصفًا شعور الخوف الذي حفره السجن في شخصيته: الخوف حفر بداخلي، في أعماقي وروحي، في عيني وركبتي، أنا لا أرتجف من البرد ولا من الجوع، بل أرتجف من الخوف.
فقد سُجن آنذاك لانتمائه إلى الحزب القومي السوري الذي لم يقرأ مبادئه -والذي أنتمي إليه عن طريق المصادفة- فأصبح إثر ذلك يتنقل من سجنٍ إلى آخر، يقول حتى بعد خروجه من المعتقل بسنوات: إذا طُرق الباب في الليل، لا أفتح، أقول: لقد جاؤوا ليأخذوني، مع أني أصبحتُ محميًا ونلتُ وسامًا، ومازلتُ أخاف، ويضيف: السجن له شروش وجذور، جذوره تصل إلى القصيدة، المسرحية، الفيلم، الفم الذي نقبّلهُ، الصدر الذي يُرضع، إلى الله الذي نصلي له.
كما يقول الشاعر الماغوط، وهو مؤلف أعمال شهيرة مثل: سأخون وطني، حزن في ضوء القمر، غرفة بملايين الجدران، الفرح ليس مهنتي، شرق عدن غرب الله، سياف الزهور، والكثير من الأعمال المسرحية الشهيرة، مثل ضيعة تشرين، كاسك يا وطن، غربة وأعمال سينمائية مهمة تركت أثرًا، مثل فيلم الحدود، والتقرير؛ يقول عن الخوف: الخوف سياط، كماشات، أسنان مقلوعة، عيون مفقوءة تغطي العالم، والعالم يرقص ويغني ولا يبالي.
ضع قدميك على قلبي يا سيدي
الجريمة تضرب باب القفص
والخوف يصدح كالكروان
ها هي عربة الطاغية
تدفعها الرياح
وها نحن نتقدم
كالسيف الذي يخترق الجمجمة
آه ما أتعسني
إلى الجحيم أيها الوطن الساكن في قلبي
منذ أجيالٍ، لم أرَ زهرة.
فالشاعر بحسب الماغوط لا يستطيع أن يكون رفيق سلطة، أو صديقًا لها عبر العصو،ر ومع ذلك الخوف كله الذي يصف بأن لديه احتياطيّ منه لا ينضب، على الرغم من ذلك كان محرّضه الأساس للتمرد والمجابهة وكتابة الشعر.
وكل ذلك الخوف نابعٌ من فقدان الحرية وانعدامها، فالسجن ولا سيما المتكرر في حالته، ترك أثرًا لا يزول، أما عن لحظة خروجه من السجن، فيقول: حين خرجتُ من السجن، شعرتُ أن شيئًا في داخلي قد تحطم ويضيف: كتاباتي كلها، في المسرح، والسينما، والشعر، والصحافة، كانت كي أرمّم هذا الكسر، ولم أستطع، يتحدث وهو في السبعين من عمره، عن تلك الندبة التي لم يستطع إخفائها، والتي رافقته طوال حياته، حتى زوجته الشاعرة سنية صالح، رفيقة الشعر والنضال، سُجنت معه، في إحدى المرات، وكان كلٌ في زنزانته.
لقد كان يكتب على علب التبغ وورق السجائر وما تيسر من أدوات الكتابة الشحيحة، وقد هرّب مرةً كتاباته، وخبّأها تحت ثيابه الداخلية.
الآن في الساعة الثالثة من القرن العشرين
حيث لا شيء يفصل جثث المارة عن أحذية المارة
سوى الإسفلت
سأتكئ في عرض الشارع
كشيوخ البدو ولن أنهض
حتى تُجمع كل قضبان السجون
وإضبارات المشبوهين في العالم
وتوضع أمامي، لألوكها كالجِمال، على قارعة الطريق
حتى تفرّ كلّ هراوات الشرطة والمتظاهرين، من قبضات أصحابها
وتعود أغصانًا، مزهرةً، مرةً أخرى في غاباتها.

سُئل الماغوط في أحد حواراته الأخيرة، ماذا تتمنى؟
أجاب: أمنية واحدة تكفي، ألّا يبقى سجينٌ على وجه الأرض.

مشاركة: