صعود أدب السجون
The Rise of Prison Literature

خلاصة: أصبحت كتابة أدب السجون نوعًا ثقافيًا مميزًا للفترة الحديثة المبكرة في إنكلترا. استندت شعبيتها إلى زيادة عدد السجناء، وكثيرون منهم من فئة النُخب المتعلمة المسجونين بسبب السياسة أو الدين أو الدَين؛ وازدياد أعداد المتعاطفين السياسيين والدينيين؛ وانتشار الكتب.
على الرغم من الحريات الممنوحة للكتابة، إلّا أن السجن كان مهينًا وضارًا بالسمعة وخطِرًا على الصحة. تبقى العديد من الأسئلة حول أسباب وتأثيرات هذا الشكل من الكتابة؛ ومع ذلك، فمن الضروري فهم الثقافة الحديثة المبكرة، بما في ذلك طبيعة الجريمة والعقاب وتاريخ الإصلاح.

الكلمات المفتاحية: الأهمية التاريخية لكتابة السجون؛ السجين كمذنب؛ الشرف والثقة؛ السجن والإصلاحيات.

مثل الدراما، تعود جذور كتابة أدب السجون في الفترة الحديثة المبكرة عبر العصور الوسطى إلى العالم الكلاسيكي؛ ومثل الدراما أيضًا، جُدِّدَت وأُعيد ابتكارها في القرنين السادس عشر والسابع عشر، لدرجة أنها أصبحت واحدة من أكثر الأصناف الثقافية المميزة في إنكلترا في تلك الفترة. هناك عدة أسباب لظهور أدب السجون. من الواضح أن هناك عددًا مذهلًا حقًا من الكتّاب المعاصرين الأوائل يتبادرون إلى الذهن بسرعة، مثل: توماس مور Thomas More؛ توماس وايت Thomas Wyatt؛ هنري هوارد Henry Howard، إيرل ساري the Earl of Surrey؛ توماس ديكر Thomas Dekker؛ بن جونسون Ben Jonson؛ روبرت ساوثويل Robert Southwell؛ جورج تشابمان George Chapman؛ وريتشارد لوفلايس Richard Lovelace؛ وجميعهم قضوا فترةً في السجن. ومع ذلك، عند كتابتهم عن السجن، لم يكتبوا فقط عما عرفوه وتعرضوا له، لكن أيضًا عما يثير اهتمام رعاتهم وجماهيرهم. لأول مرة في التاريخ الإنكليزي، جرى التفكير بجدية في الغايات الاجتماعية للسجن، وبُنيَ نوع جديد من السجون لإصلاح السجين، وهو الإصلاحية. وإضافةً إلى مشاهدة التغيرات في السجون نفسها، شهد العصر الحديث المبكر إحياء ما أصبح صنفًا من أصناف الكتابة الرئيسة في السجن: خطابات السجون التي كانت خاملةً منذ أيام الكنيسة المسيحية الأولى().
كما ظهرت أصناف أخرى من الكتابة في السجون من دون أي مقدمات تقريبًا -بما في ذلك حكاية المتكلم، أي سرد الراوي لمحاكمة سجين واستجوابه- في القرن السادس عشر().
كما زاد كمّ كتابات السجون وأنواعها بشكل كبير في القرنين السادس عشر والسابع عشر. في حين استُخدم السجن كعقوبة قانونية طوال العصور الوسطى، ارتفع عدد السجناء بشكل كبير في القرن السادس عشر، حيث أصبح السجن عقوبة مقررة لعدد متزايد من الجرائم().
علاوة على ذلك، ظهرت أنواع أو فئات جديدة من السجناء في إنكلترا الحديثة المبكرة. ملأت الجدالات حول حركة الإصلاح السجونَ بالمذنبين الدينيين، وفي القرن السابع عشر، أدت الحرب الأهلية نفسها والتي أجّجتها الصراعات الدينية إلى حد كبير، إلى خلق عدد أكبر من السجناء، كما يذكّرنا جيروم دي جروت Jerome de Groot. وبينما كان الفقراء من ضمنهم دائمًا، ذلك عندما انتبه الإنكليز بشكل مفاجئ في القرن السادس عشر إلى الارتفاع الملحوظ في أعداد المتشردين، فسنّوا قوانين جديدة تقضي بحبسهم(). كذلك كان يُسجن المَدينون في إنكلترا في العصور الوسطى، إلا أنه ارتفعت أعدادهم في إنكلترا الحديثة المبكرة، حيث لم يصبح التسليف متاحًا بسهولة فحسب، بل أصبح أيضًا جزءًا لا يتجزأ من التجارة. وزيادة الاعتماد على التسليف يستلزم حتمًا زيادة الديون، وعلى الرغم من أن عدد الأشخاص المسجونين بالفعل بسبب الديون كانوا نسبة صغيرة من أولئك الذين تعرضوا لإجراءات قانونية من طرف دائنيهم، فكانت النتيجة أن شهد القرن السادس عشر ارتفاعًا كبيرًا في عدد المَدينين المسجونين().
ساهمت مجموعتان من هذه المجموعات، وهما المذنبون الدينيون والمدينون، بشكل ملحوظ في تصاعد كتابات السجون في إنكلترا الحديثة المبكرة. كان أعضاء هذه المجموعات، على عكس عامة السكان، متعلّمين بوجه عام، وكان لديهم دافع قوي للكتابة، وإن كان لأسباب مختلفة. كان المذنبون الدينيون يرغبون في كسب التعاطف وحتى اعتناقًا لقضيتهم، وكانوا في حاجة أيضًا إلى تشجيع وتوحيد مؤيديهم في الخارج. بينما كانت آمال المدينين الوحيدة للإفراج عنهم، هي الحصول على إعفاء من دائنيهم أو على موارد مالية بديلة، وكلا الهدفين لا يمكن تحقيقهما في كثير من الأحيان إلا من خلال العرائض والخطابات. أكد العديد من المساهمين في هذا الكتاب بشكل صحيح، على الاستمرارية بين كتابة السجون الحديثة المبكرة وتلك التي سبقتها؛ الكلاسيكية، المتعلقة بالباباوات، والوسطى. من حيث الموضوعات والاستعارات والإطار المفاهيمي، صحيح أن الكتابات السابقة كانت مؤثّرة، لكن لا ينبغي لهذا أن يحجب التغييرات الاجتماعية التي غيرت كتابة السجون وأعطتها بروزًا أكبر (وضّحت الرؤية في ما يخصها) في الثقافة المعاصرة. على سبيل المثال، كانت لبعض التغييرات أثر مزلزل (لها تأثيرات كبيرة)، كتطور الطباعة وتجارة الكتب وكذلك ظهور التعليم، ما وسّع نطاق وانتشار كتابات السجون، وأعاد تنظيم العلاقات الاجتماعية في جميع أنحاء أوروبا.
كانت التغييرات الأخرى أكثر محلية -خاصة في إنكلترا- وأيضًا أكثر عرضية. على سبيل المثال، بينما كان الانقسام الديني متفشيًا في أوروبا القرن السادس عشر، خلقت الأوضاع في إنكلترا حصادًا وفيرًا بشكل خاص من كتابات السجون. ضمنت التحولات المتواترة في الولاء الديني للملوك وجود أعداد كبيرة من المذنبين الدينيين، ما حفز كل مجموعة دينية رئيسة في المملكة لإنتاج مجموعة من كتابات السجون خاصة بها. إن عدم قدرة السلطات الإنكليزية على قمع المعارضة الدينية تمامًا، خلافًا للعديد من نظرائهم في القارة (الأوروبيين)، كفل صمود واستمرار هذه الانقسامات الدينية، بحيث كانت هناك أجيال جديدة من مؤلفي السجون طوال القرنين السادس عشر والسابع عشر.
لم تلهم هذه الصراعات الدينية والسياسية المستمرة والسائدة السجناء الأفراد للكتابة فحسب، بل وحفزتهم أيضًا عليها، ولكنها عنت أيضًا وجود جماهير جاهزة من القرّاء المتشابهين في التفكير، ومن ثمّ جماهير جديدة لكتابات السجون بشكل عام. (من الجدير بالملاحظة أن ما يمكن عدّه أول مجموعة من كتابات السجن باللغة الإنكليزية: خطابات هنري بول Henry Bull المؤكدة الأكثر إلهية ونفعًا وراحة لمثل هؤلاء القديسين الحقيقيين وشهداء الله المقدسين، وهي عبارة عن مجموعة من رسائل البروتستانت المسجونين في عهد ماري، كانت نتاج الانقسام الطائفي)(). غالبًا ما كان السجناء الدينيون والسياسيون في إنكلترا الحديثة المبكرة يتمتعون بدعم منظّم، وكان المتعاطفون معهم يُهرّبون كتاباتهم من السجن وينشرونها مطبوعةً أو مخطوطة باليد، أو كليهما. علاوة على ذلك، كانت المنظمات في حاجة إلى الدعم وتقديمه، وغالبًا ما يُدفَع أولئك المسجونين لأسباب سياسية أو دينية -ليس أقلها مؤيدوهم والمتعاطفون معهم- للكتابة سياسيًا أو جدليًا أو رعويًا من السجن. بحلول الوقت الذي خط فيه بنيان Bunyan بالقلم على الورق في سجن بيدفورد Bedford، كان عالم السجين، ولا سيما سجين الرأي، مختلفًا تمامًا عن عالم بوثيوس Boethius.
ومع ذلك، فمن أحد الجوانب على الأقل، كان عالم بنيان Bunyan أقرب إلى عالم بوثيوس Boethius منه إلى عالم القرن الحادي والعشرين. كانت نظرة المجتمع إلى السجناء في إنكلترا الحديثة المبكرة مختلفة تمامًا عن نظرته إليهم في العالم الناطق باللغة الإنكليزية اليوم. هناك اعتقاد عالمي حديث، وإن كان نادرًا ما يُناقَش، وهو أن أولئك المسجونين مختلفون من نواحٍ رئيسة عن أعضاء المجتمع “الطبيعي”. على الرغم من أن الأسباب المتقدمة لهذه الاختلافات، أو ربما بشكل أكثر دقة، أوجه القصور، تختلف اختلافًا شديدًا -مثل العيوب في الشخصية، ونقص التعليم أو التدريب، والعيوب الجينية وقد طُرِحَت جميعًا في وقت أو آخر- فكرة أن السجناء معطوبين ومختلّين منتشرة في كل مكان. وهي مضمنة في قانون العقوبات بمصطلحات مثل “إعادة التأهيل” و”المؤسسات الإصلاحية” و”الإصلاح”. (من المسلّم به أن السجناء السياسيين لا يتم تصنيفهم دائمًا بهذه الطريقة، على الرغم من أن الفرق بين السجين السياسي والمجرم الجنائي غالبًا ما يكون حكمًا ذاتيًا. وعلاوةً على ذلك، فإن الأنظمة التي تسجن السجناء السياسيين غالبًا ما تعاملهم على أنهم مختلون؛ فاحتجاز الاتحاد السوفياتي للمنشقين في مستشفيات الأمراض العقلية مثال مثير للاهتمام على هذا الاتجاه.) كانت مثل هذه المفاهيم غريبة إلى حد كبير بالنسبة إلى إنكلترا الحديثة المبكرة (على الرغم من صوغ مصطلح “بيت الإصلاح” في القرن السادس عشر)، حيث كان الافتراض أن أي شخص يمكن أن يكون سجينًا.
سيُذكَر أحد الأسباب المحددة لهذا الافتراض مرات عديدة في هذه المجموعة: من المفارقات، في حين أن أعضاء النخبة الاجتماعية، في المجتمعات الديمقراطية الحديثة، مسجونون بنسبة أقل بكثير من الأفراد ذوي المكانة الاجتماعية الأدنى، في إنكلترا الحديثة المبكرة الملكية. تعرّض رجال الحاشية والأرستقراطيون والأساقفة وحتى أفراد العائلة المالكة للسجن، بشكل مستمر. وكما لاحظ توماس ديكر Thomas Dekker، من واقع تجربته: “يُجبَر الرجال من جميع الفئات على دخول السجن، كما تصبّ جميع أنواع الأنهار في البحر”(). والأمر الأكثر أهمية، هو التحول الهائل في المواقف تجاه السجناء الذي حدث في الفترة الحديثة المبكرة. خلال العصور الوسطى وما بعدها، كان يُنظر إلى الجريمة إلى حد كبير على أنها مظهر من مظاهر الخطيئة، ومن ثمّ على أنها جريمة بحق الله في المقام الأول. يتجسد هذا النموذج في العديد من روايات الجريمة الحديثة المبكرة حيث يُكشَف عن المجرم خلال الوسائل المعجزة مثل آثار دماء واضحة أو جثث تنزف فجأة في وجود القاتل. في هذه الروايات، الله هو المنتقم من التجاوزات ضد نظامه الأخلاقي. يوكّد مالكولم جاسكيل Malcolm Gaskill أن هذه الحكايات طمأنت الناس في فترة كانت فيها منهجية حل الجرائم بدائيةً، وكانت آلية مقاضاتها غير موكّدة. يزعم جاسكيل أيضًا أن نشر روايات العناية الإلهية هذه، تراجع في أواخر القرن السابع عشر مع تحسن أساليب التحقيق، ما قلل من توقع أن الشفاعة الإلهية كانت مطلوبة لحل الجريمة والمعاقبة عليها(). أود أن أقترح أيضًا أن الانخفاض في مثل هذه الروايات يعكس تراجع الرأي القائل إن الجريمة كانت جريمةً بحق الله: وبشكل متزايد، كان يُنظر إليها على أنها جريمة بحق المجتمع().
كان لصعود هذه المفاهيم وانحسارها تداعيات هائلة على الطرائق التي يُنظر بها إلى أولئك الذين يخالفون القانون ويُعاملون بها. عندما كان يُنظر إلى الجريمة على أنها تعدٍ على النظام الإلهي، كان يُنظر إلى المجرم عادةً على أنه خاطئ، لا يختلف بطبيعته عن أعضاء المجتمع الآخرين، لأن جميع البشر (خطائين). في هذا النموذج، كانت الغاية الأساس للعقاب دعوة الخاطئ إلى طريق التوبة، وبذلك، تقديم مثال مبني على أعمال الخطيئة والندم والفضيلة(). أدى استخدام المجرم كتحذير للآخرين إلى تقليل المسافة الأخلاقية بين المجرم والمجتمع، حيث كان يمثل الإغراءات التي يمكن لأي شخص أن يخضع لها، ونقاط الضعف الأخلاقية التي يمكن أن يستسلم لها. علاوة على ذلك، قدم هذا المفهوم نموذجًا يرى السجناء من خلاله أنهم يُحبَسون بمحاكمة دينية أمر بها الله لتطهير أرواحهم.
ومع ذلك، عندما أصبح يُنظر إلى الجريمة على أنها إهانة موجّهة إلى النظام الاجتماعي، كان يُنظر إلى المجرم على أنه خارج المجتمع ومختلف بطبيعته عن أعضائه الآخرين. في هذا النموذج، الهدف الأساس للعقاب هو القضاء أو على الأقل إضعاف أسباب هذه الاختلافات، سواء من خلال الردع، أو إعادة التأهيل، أو التعليم الأخلاقي، أو التعليم والتدريب، أو مجرد الاحتجاز الوقائي. والنتيجة الطبيعية غير المقصودة، ولكن الواقعية جدًا، لهذا النموذج هي أنه يُنظر إلى السجين على أنه مختلف عن أعضاء المجتمع “الطبيعيين” وأدنى منزلة منهم، ومن ثمّ فإن تجربة الحبس تحمل وصمة عار قوية.
بطبيعة الحال، فإن تصورًا معينًا للجريمة والسجناء لم يفسح المجال فجأةً لتصور آخر. لقد استمر تصور المجرم على أنه خاطئ ومخالف لتعاليم الله، ويجب توجيهه، إن أمكن، إلى الفضيلة، لعدة قرون(). في الواقع، لا يزال من الممكن العثور على هذا التصور اليوم، على سبيل المثال، في كتاب الأخت هيلين بريجيان Helen Prejean بعنوان الميت الذي يمشي Dead Man Walking والفيلم الشهير المبني عليه. وتوضيحات مهمة للرؤية “الحديثة” للجريمة، كجريمة اجتماعية ظهرت في منتصف القرن السادس عشر، مع إنشاء “بيوت الإصلاح”. تغيرت المواقف تجاه الفقراء في أعقاب الإصلاح الإنكليزي، حيث ارتبط الفقر بالفشل الأخلاقي وعدَّ الفقراء تهديدًا للنظام الاجتماعي(). وقد وفر هذا بدوره الأساس للتصور الذي نشأ في القرن السادس عشر، وهيمَن بحلول منتصف القرن الثامن عشر، وما زال معنا حتى اليوم، أن الفقراء هم من تسببوا في الجريمة بشكل كبير() إذا كان الفقر ناتجًا عن عيوب في الشخصية، وإذا كان الفقراء يشكلون تهديدًا للمجتمع، فقد اقتضت الضرورة الاجتماعية توفير أماكن حيث يمكن أن يستخلص الفقراء (خاصة المتشردين، وكذلك أيضًا أولئك الذين كانوا ثائرين أو متمردين) فيها دروسًا من طرائقهم الشريرة، وتدريبهم ليكونوا أعضاء مجتمع منتجين.
يبدو أن هذا على الأقل كان الفكر وراء إنشاء بيوت الإصلاح. أُنشِئ أول بيت للإصلاح، في موقع قصر بريدويل Bridewell المهجور في لندن (والذي أصبح في ما بعد اسمًا بديلًا لجميع دور الإصلاح)، في عام 1553. دور الإصلاح التي أُطلق عليها اسم Bridewells، والتي استبقت في بعض النواحي السجون الحديثة، كانت متميزةً عن غيرها من السجون الحديثة المبكرة من حيث أنها كانت -من الناحية النظرية- أماكن للتدريب المهني والانضباط الصارم، كما أنها كانت مخصصة للسجناء من أدنى مستويات المجتمع. بيد أنه، على عكس السجون الحديثة، لم يكن السجناء في الدور الإصلاحية مذنبين بالضرورة بارتكاب جريمة معينة، ولم يكونوا، على الأقل في الأصل، محكوم عليهم لفترات محددة() أثبتت الفكرة شعبيتها، وتمتعت دور الإصلاح بنمو سريع خلال حكم أسرة تيودور Tudor وفترة مبكرة من حكم أسرة ستيوارت Stuart(). لكن، مع مرور الوقت، فقدت الدور الإصلاحية طابعها المميز واستُخدمت لإيواء مجموعة منوعة من الجناة، بما في ذلك الفارين من الجندية وأسرى الحرب والكهنة الكاثوليك. وأصبح من المتعذر تمييزها عن السجون العادية، وفي الواقع، غالبًا ما كانت تُستَخدَم كسجون بديلة().
تظل الدور الإصلاحية فصلًا انتقاليًا في التاريخ الاجتماعي، حيث يُنظر إلى الجريمة من منظور علماني إلى حد كبير، ويتصرف المجتمع نفسه لتصويب المجرمين. ومع ذلك، فإن الأفراد المعاصرين الأوائل، في الغالب، قبلوا نموذج المجرم بوصفه آثمًا ضد النظام الإلهي. هذا يجعل كل من السجن الإنكليزي الحديث المبكر والسجين غريبين عنا، حيث يُنظر إلى الأول على أنه مكان للتكفير عن الخطايا، بينما يُنظر إلى الأخير على أنه مخالف لقوانين الله، وفي هذا الشأن، لا يختلف بالأساس عن بقية الجنس البشري.


سيكون من الخطأ، مع ذلك، افتراض أن تجربة السجن الحديث المبكر كانت خالية من العار أو الخزي. وكما يلاحظ جيروم دي جروت Jerome de Groot، فإن الأدبيات الحديثة المبكرة صوّرت السجون على أنها مواقع للفساد والشر، وصورت السجناء بشكل عام على أنهم مجانين وسيئون وخطِرون والأجدر عدم معرفتهم. أدى السجن إلى سمعة سيئة كانت، في أحسن الأحوال، علامةً على الفشل. من المسلّم به أن السجناء يمكنهم المطالبة -وقد طالبوا فعلًا- بسلطة روحية بحكم اعتقالهم. صفحة العنوان لسجين ضد الأسقف The Prisoner Against the Prelate لـ توماس غرانثام Thomas Grantham، مع تصويرها لغرانثام في السجن، مواجهًا ومعارضًا الأسقف الذي سجنه في كاتدرائيته، تقدم بشكل صارخ ادّعاء رجل مسجون بالتفوق الأخلاقي بحكم سجنه (انظر الشكل 1). ومع ذلك، فإن الإذلال الذي رافق السجن كان جزءًا لا يتجزأ من هذه السلطة الروحية التي تقوم على قلب القيم العلمانية. الأخير كان الأول والضعفاء يربكون الأقوياء؛ كان ذلك بسبب أن السجناء كانوا بائسين وأشقياء، ولأنهم عانوا من الإذلال من أجل الصلاح، فيمكنهم أن يطالبوا بالسلطة الروحية.

ومع ذلك، لم يرغب الكثير من السجناء في المطالبة بمكانة الشهيد في سبيل الله. بالنسبة إلى النخب الإنكليزية على وجه الخصوص، كانت خدمة التاج عملهم الرئيس وسبب وجودهم. إذا جاء الشرف والمكانة من خدمة الملك، فإنّ الخزي والعار يسيران جنبًا إلى جنب مع الازدراء الملكي الذي كان السجن مؤشرًا جليًا له. لم يشارك حكم عائلتي تيودور وستيوارت في إنكلترا في إضفاء الطابع الرومانسي الحديث على المتمردين وأولئك الذين يتحدون السلطة، حيث كان يُعدّ أن النظام الاجتماعي معترف به إلهيًا. حتى الشهداء الدينيين والسياسيين الذين استحوذ عليهم إيمان راسخ بأنهم يعانون من أجل قضية أسمى، كانوا لا يزالون في كثير من الأحيان قلقين من شبح عدم ولائهم للتاج.
لذا، كان احتمال أن يؤدي السجن إلى تقويض سمعة الشخص مصدر قلق كبير للسجين، لأنه، إلى درجة غير معروفة اليوم، كانت إنكلترا الحديثة المبكرة مجتمعًا يدور حول مفهوم الشرف الفردي،() وكان هذا مصدر قلق خاص لأولئك الذين في قمة الهرم الاجتماعي، كما يلاحظ مالكولم سموتسMalcolm Smuts: في حين أن الشرف مهم على جميع مستويات المجتمع، إلا أنه كان مهمًا بشكل خاص للطبقة العليا والنبلاء(). ويمكن ملاحظة ذلك في الحساسية غير العادية للطبقات الحاكمة الحديثة الأولى حيال السخرية وحماستهم في التصدي للقذف والتشهير المتصورين(). كما توضح العديد من المقالات في هذه المجموعة، قد يكون سجن النخب الحديثة المبكرة، وفقًا لمعاييرنا، مريحًا بشكل مدهش من بعض النواحي. لكن التدمير المحتمل للسمعة والمتأصل في أي سجن لا بد أن يكون قد خلق ضيقًا نفسيًا بما يكفي لإرضاء الجميع باستثناء أسوأ أعدائهم. بعد كل شيء، لا يتوافق نموذج الخاطئ التائب بشكل خاص مع كبرياء الطبقة العليا، والنظر إلى السجين نظرةَ أنّ كل إنسان يخضع أحيانًا للخطيئة والإغراء، يتعارض بشكل مباشر مع الشعور الأرستقراطي بهوية النخبة.
علاوة على ذلك، في حين كان الشرف مصدر قلق خاص للطبقات العليا، إلا أنه لم يكن مصدر قلق لهم وحدهم. فكانت النساء والأفراد من “النوع المتوسط” أو الطبقة الوسطى عرضةً للخطر أيضًا. بالنسبة إلى المرأة العصرية المبكرة من أي مكانة، كان الحفاظ على سمعة التواضع والطاعة أمرًا رئيسًا، لأن هذه السمعة عززت بشكل كبير فرصها في الزواج أو الزواج مرةً أخرى، ومن ثمّ تعزيز فرصها في التقدم الاقتصادي والاجتماعي(). وغني عن القول، أن قضاء فترة في السجن يمكن أن يقضي على سمعة المرأة سواء من حيث العفة أو الطاعة. تشمل المجموعة الضعيفة الأخرى أولئك الذين يعتمد بقاؤهم الاقتصادي على القدرة على الحصول على الائتمان، مثل الحرفيين والتجار وحتى أصحاب المنازل. بالنسبة إلى هؤلاء الأفراد، كانت الجدارة الائتمانية دالة على صفاتهم الأخلاقية وكذلك قيمتها الاقتصادية. يجب أن يتمتع المقترض بسمعة طيبة في الصدق والرصانة والجدارة بالثقة، وكل هذا يمكن أن يتحطم إلى غير رجعة عن طريق السجن، بما في ذلك بالطبع السجن بسبب الديون().
بصرف النظر عن فضيحة الحبس، فإن السجن نفسه ينطوي على المزيد من الإذلال والإهانة، لسبب واحد، أنه كان يعني الخضوع لأهواء وأمزجة السجانين. حتى لو قام السجينون برشوة السجانين (كما كانت الحال دائمًا تقريبًا ما لم يكن السجين معدمًا تمامًا)، فإن قوتهم لا تزال واقعًا يوميًا معتادًا، وبالنسبة إلى الأفراد ذوي التعليم العالي والمكانة الاجتماعية، لا بد أن هذا كان مثيرًا للحنق. ناهيك عن المصاعب الأشد قسوة التي يتعرض لها السجين مثل القيود والتعذيب. ولكن الأهم من ذلك كله، كانت حالة تلاشي احترام الذات شائعةً لدى السجناء في كل مكان وزمان، الذين أصبحوا فجأة عاجزين عن مساعدة وحماية العائلة والأصدقاء.


من الواضح أنه كان ضروريًا أن يتم تهريب الأعمال المكتوبة نظرًا لوجود كتابات السجن. لحسن الحظ، في إنكلترا الحديثة المبكرة كان هذا الأمر جيدًا وضمن حيّز الإمكان. في الواقع، تصور كل مقالة تقريبًا في هذه المجموعة نقل كتابات السجن إلى الخارج على أنها مسألة سهلة نسبية، وتصف جدران سجن تيودور وستيوارت بأنها مسامية وقابلة للاختراق، وكان السبب الرئيس هو أن جميع العاملين في السجن تقريبًا، من الحكّام إلى السجّانين، اشتروا مناصبهم، وكانوا يتوقعون استرداد استثماراتهم، ليس من الرواتب ولكن من السجناء المحتجزين لديهم. كانت هناك مساوئ واضحة في هذا النظام، ولكن من وجهة نظر الحكومة كانت له ميزة أساس: فقد سمح للسلطات الحفاظ على شبكة واسعة من السجون بأقل تكلفة. ومع ذلك، قوض هذا النظام أمن السجون بطريقتين حاسمتين.
الأولى، أن الدفعات التي يدفعها السجناء للسجانين كانت مدمجة في النظام، ما أدى إلى إمكان إدخال أي شيء تقريبًا إلى السجن من أولئك الذين لديهم أموال كافية. عندما توفي ستيفن فالينجرStephen Vallenger، المسجون في سجن فليت Fleet لاضطلاعه بدور في طباعة الأدب الكاثوليكي، كان من ضمن قائمة جرد ممتلكاته، من بين أشياء أخرى، سرير من الريش، ملاعق فضية وقصديرية، ونقود، مجوهرات، ومكتبة تضم 101 كتابًا().
قام فرانسيس تريغيان Francis Tregian، سجين كاثوليكي آخر، بتجميع مكتبة من مئات الكتب خلال فترة سجنه الطويلة في سجن فليت Fleet(). إذا دخلت الكتب والمجوهرات والأطباق الفضية وغيرها من الرفاهيات إلى السجن، فيمكن لكتابات السجناء أن تخرج منه.
كما تعرض الأمن للمساومة بسبب وجود الخدم في السجن. كان لدى أي شخص من ذوي المكانة المتوسطة على الأقل في إنكلترا الحديثة المبكرة خدم، وعندما سُجن السادة والسيدات، كانوا عادةً يأخذون معهم بعض خدمهم. اشتكى ستيفن جاردينر Stephen Gardiner، أسقف وينشستر Winchester في أثناء سجنه في سجن فليت Fleet عام 1547، من أنه لم يُسمح له إلا بطباخ وخادمَين للسهر على راحته، وأنه حُرم من قسيس أو حلاق أو خياط أو طبيب. في وقت لاحق، خلال حبس الأسقف في السجن الصارم في سجن البرج Tower، لم يُسمح له حتى بالسير في الحدائق؛ ومع ذلك، فقد سُمح له بخادمين لم يُسمح لهما، على نحو غير عادي، بمغادرة تخوم السجن(). في عام 1555، صُدم حتى أعضاء مجلس القضاء الخاص عندما علموا أن سجينًا في Fleet، استخدم حاشية من المنشدين هناك للترفيه عنه(). تسامح السجانون مع هؤلاء الخدم والموظفين لأنهم خلقوا المزيد من فرص الربح لهم -دفع أرباب عملهم أجور غرفهم ووجباتهم- لكن قدرتهم على العمل كوسطاء بين السجناء والعالم الخارجي، زاد من صعوبة تقييد انتشار الأعمال المكتوبة في السجن().
ومن النتائج الأخرى لشراء مكاتب السجون أنه كان من الصعب جدًا فصل السجانين أو المديرين. كان يدير السجون أشخاص قد يكونون متعاطفين بشكل خطِر مع فئات معينة من السجناء، ولم يكن في إمكان الحكومة فعل الكثير حيال ذلك. في عهد ماري، كان السجنان الرئيسان اللذان يُحتجز فيهما الزنادقة (المهرطقين) المشتَبه فيهم، وهما بنش الملك King’s Bench والمارشالسي Marshalsea، يحكمهما البروتستانت المخلصون الذين سمحوا لإخوانهم في الدين المسجونين بحرية كبيرة. واجهت حكومة إليزابيث المشكلة نفسها بشكل عكسي، حيث كان عدد من حراس السجون ومديريها متعاطفين بشكل علني مع سجنائهم الكاثوليك().
تقدّم سيرة توماس فيليبس Thomas Phillips المهنية مؤشرًا صارخًا على المشكلات التي يمكن أن يثيرها السجان الفاسد أخلاقيًا. كان فيليبس Phillips مصمّم مطبوعات اعتقله توماس مور Thomas More للاشتباه في أنه مهرطق في عام 1529. أُرسِلَ إلى سجن البرج، وبقي هناك لسنوات في حالة من المتاهة القانونية، حيث لم يُتَّهَم ولم يُفرَج عنه. في النهاية، أصبح نوعًا ما حارسًا مرؤوسًا مشابهًا إلى حد ما للوصي، ومسؤولًا عن السجناء الآخرين. وبهذه الصفة، ترك المهرطق سيئ السمعة جون فريثJohn Frith يخرج من سجن البرج يوم الإفراج عنه، وسمح للسجناء البروتستانتيين بزيارة توماس بيلني Thomas Bilney سيئ السمعة. بعد عقد من الزمان، حثّه السير نيكولاس كارو Nicholas Carew الذي حصل على منصب سيد الحصان، على التحول إلى الإيمان البروتستانتي، وأقنعه بأن يشجب، من منصة الإعدام التي قُطع عليها رأسه، بـ “الإيمان الخرافي” الذي كان لا يزال يعيش فيه().
نتيجة نقاط الضعف المتأصلة هذه، كان السجناء في إنكلترا الحديثة المبكرة في كثير من الأحيان قادرين على الكتابة ونشر أعمالهم، ما قد يبدو للعيون الحديثة أنه حرية مذهلة. خلال فترة حكم ماري، على سبيل المثال، نسخ السجناء البروتستانت كتابات السجناء البروتستانت الآخرين. ثم هُرّبت هذه الأعمال من السجن لتوزيعها على إخوانهم في الدين في جميع أنحاء المملكة. تضمّنت شبكة النسخ هذه عدة سجون. في كانون الثاني/ يناير 1555، أرسل نيكولاس ريدلي Nicholas Ridley، المسجون في أوكسفورد Oxford، رسالة كتبها إلى جون هوبر John Hooper، المسجون في سجن فليت، إلى جون برادفورد John Bradford، المسجون في سجن بنش الملك King’s Bench، يطلب من برادفورد Bradford نسخها قبل نقلها إلى هوبر() Hooper. كانت السلطات مهتمة بالتأكيد بمنع بعض السجناء من الكتابة، لكن سجناء نظام السجون الخاص بهم، لم يتمكنوا في كثير من الأحيان من الخضوع لإرادة السلطات. على سبيل المثال، أمر المجلس القضائي الخاص في عهد إدوارد السادس Edward VI بأن يُحتجز ستيفن غاردينر Stephen Gardiner في سجن البرج من دون كتب أو مخطوطات أو ورق أو قلم أو حبر؛ ومع ذلك، كتب خلال هذه الفترة عملين رئيسَين في علم اللاهوت، أحدهما باللغة الإنكليزية والآخر باللاتينية. كان العمل الثاني أكثر من ثمانمئة صفحة. طُبع كلا العملين بينما كان غاردينر Gardiner حبيسًا في سجن البرج، ما أثار غضب السلطات العاجزة().
إن كمية ونطاق الأعمال التي كتبها سجناء تيودور وستيوارت Tudor and Stuart كثيفة جدًا إلى درجة أن تعلن مولي موراي Molly Murray بشكل استفزازي، في مقالتها في هذه المجموعة: أن “السجن الحديث المبكر كان موقعًا للثقافة، يجب النظر فيه مع المحكمة والجامعة، على أنه مكان مهم للإنتاج النصي والأدبي”. ومن المثير للاهتمام، أن جون فوكس John Foxe، المختص في علم الشهداء، أشار إلى نقطة غير متشابهة، حيث ادعى أنه بعد اعتقال البروتستانت في عهد ماري، “أصبحت جميع السجون تقريبًا مدارس وكنائس مسيحية صحيحة، لذا لم تكن هناك راحة أكبر للقلوب المسيحية من القدوم إلى السجون، لمشاهدة أحاديثهم الفاضلة، والاستماع إلى صلواتهم، وخطبهم، وأعظم المواعظ والاستشارات الإلهية”(). حتى يحصلوا على إرشادات دينية().
ومع ذلك، فإن صورة السجون الحديثة المبكرة كمواقع ثقافية أو تعليمية يمكن أن تكون مثالية جدًا من غير ريب. من المسلّم به أنه كانت هناك جوانب من السجن ربما حثّت على الكتابة: وقت شاغر وفير، والدافع عن استحقاق الفرد أو تفانيه في خدمة قضيته أو معتقداته، وفي بعض الحالات، دائرة من زملائه المؤمنين أو رفاقه السياسيين لتقديم التشجيع. ومع ذلك، كانت هناك أيضًا عقبات هائلة بل وخطِرة. كان أبسطها التهديد القوي للصحة الذي يشكله الحبس في السجون الحديثة المبكرة. كانت النظافة بدائية، في أحسن الأحوال، حتى في القصور الحديثة المبكرة؛ كان الوضع في السجون مروعًا حقًا. وصف أحد المعاصرين سجن وود ستريت كاونتر Wood Street Counter، وهو سجن في لندن، بأنه “أصبح مقرفًا جدًا إلى درجة أن لا أحد (بحسن نيته) سيحشر أنفه في أي من القضبان. وبالأحرى لن يقترب منها أكثر من مسافة ميل تقريبًا(). “كانت الرائحة في السجون ضارةً جدًا إلى حدّ أنه أصبح من المعتاد تهوية السجون قبل عقد جلسات المحكمة، ورشّ الخل في قاعات المحاكم، حتى لو كان ذلك فقط لمنع إصابة القضاة والمحلفين بالمرض في أثناء المحاكمات().
زعم التماس كَتَبه سجناء في سجن بنش الملك King’s Bench عام 1579 أن ما يقرب من مئة سجين ماتوا هناك بسبب الحمّى في السنوات الست السابقة. ولم تتحسن الأحوال بعد قرن ونصف القرن؛ ذكر تقرير برلماني عن سجن مارشالسي Marshalsea أنه خلال شتاء 1728-1729، مات من ثمانية إلى عشرة سجناء كل يوم بسبب الجوع أو المرض(). تعرض الأثرياء والنخب لخطر مماثل تقريبًا، بسبب المرض إن لم يكن سوء التغذية، مثل السجناء الآخرين. تمتّع إدوارد أندرهيل Edward Underhill، وهو رجل متقاعد أُرسِلَ إلى سجن نيوجيت Newgate عام 1554، بميزتين كبيرتين مقارنة بالسجناء الآخرين: لقد حصل على منحة أسبوعية قدرها عشرين شلنًا من اللورد فرانسيس راسل Francis Russell طوال فترة سجنه وتمتع بمحاباة مدير السجن. ومع ذلك، في غضون أسبوعين، وقع فريسة “ملاريا شديدة جدًا”. وعلى الرغم من زيارات الطبيب والرعاية المستمرة من زوجته، تضاعف مرضه إلى درجة أنه أُفرج عنه بضمانات. بحلول هذا الوقت، لم يكن أندرهيل Underhill قادرًا على المشي وكان لا بد من حمله على درج سجن نيوجيت ونقله إلى المنزل على نقالة. وكان هذا بعد شهر واحد فقط داخل أسوار السجن().
بصرف النظر عن الاحتمال الحقيقي جدًا بأن السجناء الذين يرغبون في الكتابة لن يعيشوا ببساطة، كانت هناك أيضًا صعوبة في الحصول على مواد الكتابة اللازمة. شكّل الحصول على هذه المواد تحديًا في بعض السجون أو لبعض السجناء. كان يمكن ارتجال بدائل للأقلام والحبر، لكن العثور على تجهيزات ورقية كان يمثل مشكلةً أكبر. كتب نيكولاس ريدلي Nicholas Ridley ردودًا في الهوامش والمساحات الفارغة للرسائل المرسَلة إليه؛ استخدم جون جيرارد John Gerard غلاف الورق من الهدايا المرسَلة إليه. وفي مناسبات أخرى، أدى نقص الورق ببساطة إلى منع المساجين من الكتابة().
في أوقات أخرى، كان يمكن الحصول على المواد بلا صعوبة كبيرة. وهذا يوكّد نقطة يجب التركيز عليها في أي مناقشة تتعلق بالسجون الحديثة المبكرة: تتفاوت متباينة بشكل كبير. (من المثير للاهتمام مقارنة أنظمة السجون المتساهلة نسبيًا التي وصفتها مولي موراي Molly Murray هنا، ومراقبة السجناء الصارمة الموضحة في مقالة روبين آدامز Robyn Adams). في بعض الحالات، كانت السلطات قلقة بما يكفي بشأن كتابات السجين لبذل جهد حقيقي لقمعها. فُتِّشَت الزنازين، والسجناء في بعض الأحيان بحثًا عن كتابات أو أوراق مهرّبة وقلم وحبر(). كانت السلطات في بعض الأحيان يقظة بما يكفي للقبض على أولئك الذين يحاولون تهريب كتابات من السجن(). والأكثر غرابةً، أن الرسائل المكتوبة في السجن كانت عرضة دائمًا بشكل خاص للتنصت، كما اكتشف المشاركون في مؤامرة بابينجتون Babington في النهاية(). شرح جون جيرارد John Gerard لأحد مراسليه أنه كتب بعصير البرتقال -الذي يمكن قراءته عند تعريضه للحرارة فقط- بغية أن يعرف المراسل ما إذا اعتُرِضَت الرسالة وقُرِئَت. كان القمع في أَوجِهِ في كثير من الأحيان، لكن لا يمكن أن يستمر على المدى الطويل لأن هذه التدابير تتعارض مباشرة مع نظام الرسوم والرشاوى الضروري لإدارة السجون.
كانت السجون مواقع إنتاج ثقافي، لكن من الإنصاف التساؤل عما إذا كان هذا بسبب، أو على الرغم من، طبيعة السجون الحديثة المبكرة. هل قدمت السجون فرصًا معينة شجعت على الكتابة أو سهلتها؟ أم أن وفرة الكتابات مجرد نتيجة جماعية لتصميم وإبداع فرادى السجناء؟ وهل كانت السجون الحديثة المبكرة مواقع ثقافية لمجرد أن النسبة الأكبر -مقارنة بالسجون الحديثة- من النخب المتعلمة المسجونة فيها؟ أو هل أدت عوامل أخرى دورًا، مثل تقاليد الكتابة في السجون (الذي استكشفته ريفكا زيم Rivkah Zim من خلال مساهمتها في هذه المجموعة)؟ هل كان انحراف وفساد السجّانين الحديثين الأوائل عوامل أساس لتحويل السجون إلى مواقع ثقافية؟
إن تحليل السجون الحديثة المبكّرة كمواقع ثقافية مطلوبة وبدأت في هذا المجلد، أمر مرغوب جدًا من عدد من وجهات النظر التأديبية. على المستوى الأكثر وضوحًا، مقدار الكتابة في السجون في تيودور وستيوارت Tudor and Stuart في إنكلترا، والإشارات إلى السجون والسجناء التي انتشرت في أدبيات تلك الفترة، تجعل الإلمام الأساس على الأقل بممارسات السجون وإنتاجها ضروريًا لفهم الثقافة الحديثة المبكرة. توجد كتابات السجون الإنكليزية الحديثة المبكرة بعدد وجودة كافيين، لا لتكون جديرة بالاهتمام كنوع أدبي ولكن لتكون أيضًا دليلًا قيّمًا للتحقيق في تخصصات أخرى. على الرغم من أن كتّاب السجون لا يمثلون الأغلبية العظمى ممن عانوا في السجون الحديثة المبكرة (من حيث أنهم كانوا عمومًا -ولكن ليس دائمًا- محتجزين في أوضاع أفضل)، إلا أن كتاباتهم سلطت ضوءًا كبيرًا على نظريات وممارسات الجريمة والعقاب في سجون تيودور وستيوارت الإنكليزية().
وعلى الرغم من أن هذا وحده من شأنه أن يجعل كتابات السجون لا تقدَّر بثمن بالنسبة إلى المؤرخين، إلا أن لها مدلولات أوسع، لأن تجربة السجن أثرت بشكل عميق في الحياة الدينية الإنكليزية الحديثة المبكرة. عانى الكاثوليك والبروتستانت والإنجليكان والكويكر والمعمدانيون -جميع الجماعات الدينية الإنكليزية تقريبًا- في الفترة الممتدة بين القرنين السادس عشر والسابع عشر، سجن قادتهم والعديد من أتباعهم. احتفظت كل مجموعة دينية بكتابات السجن وروايات عن سَجن أعضائها في أدب الشهداء. بالنسبة إلى الكاثوليك والمنشقين، ألّف السجن والتهديد المستمرّ به مجتمعاتهم. لا يمكننا فهم الإصلاح الإنكليزي تمامًا، من دون توسيع معرفتنا بطبيعة السجون وتجربة السجن في إنكلترا الحديثة المبكرة.
أود أن أشكر كاثلين لينش Kathleen Lynch على المحادثات التي ساعدت في توضيح بعض الأفكار الواردة في هذه المقدمة وإلى بيل شيرمان Bill Sherman وروث آهنيرت Ruth Ahnert على تعليقاتهما القيمة على المسودات السابقة.


قائمة المراجع

⦁ Christopher Harding, Bill Hines, Richard Ireland, and Philip Rawlings, Imprisonment in England and Wales: A Concise History (Beckenham, U.K., 1985), 95.
⦁ Craig Muldrew, The Economy of Obligation: The Culture of Credit and Social Relations in Early Modern England (Basingstoke, U.K., 1998).
⦁ J. A. Muller, Stephen Gardiner and the Tudor Reaction (New York, 1926).
⦁ J. A. Sharpe, Crime in Early Modern England, 1550–1750, 2nd ed. (London, 1999), 251–52.
⦁ John Foxe, Acts and Monuments of Matters Most Speciall in the Church (London, 1583), 1521
⦁ John R. Knott, Discourses of Martyrdom in Early Modern England (Cambridge, 1993).
⦁ Laura Gowing, Domestic Dangers: Women, Words, and Sex in Early Modern London (Oxford, 1996).
⦁ Malcolm Gaskill, Crime and Mentalities in Early Modern England (Cambridge, 2000).
⦁ Margo Todd, Christian Humanism and the Social Order (Cambridge, 1987), 118–47.
⦁ Peter Lake and Michael Questier, “Prisons, Priests, and People,” in England’s Long Reformation, 1500–1800 (London, 1998).
⦁ Robert Speed, The Counter Scuffle (London, 1635).
⦁ The Oeconomy of the Fleete, ed. Augustus Jessop, Camden Society, n.s., 25 (London, 1879).
⦁ Thomas Dekker, Villanies Discovered by Lanthorne and Candle-Light (London, 1616).
⦁ Thomas S. Freeman, “Publish and Perish: The Scribal Culture of the Marian Martyrs,” in The Uses of Script and Print, 1300–1700 (Cambridge, 2004)

  • فاتن-أبو-فارس

    مترجمة سورية، إجازة في اللغة الإنجليزية وآدابها - جامعة دمشق 1988، تقيم في تركيا، عملت في عدة مواقع إلكترونية ومنظمات عربية في مجال الترجمة بين اللغتين الإنكليزية والعربية.

مشاركة: