أدب السجون العربية (للروائية رضوى عاشور)

Arab Prison Literature (Radwa Ashour)

الروائية رضوى عاشور

ربما تكون رواية “شرق المتوسط” التي أُصدرت عام (1975)، عن التعذيب والتعسف الذي يتعرّض له السجناء السياسيون، أكثر روايات السجون قراءةً على نطاق واسع في الأدب العربي. هي الرواية الثانية لمؤلفها، بعد عامين من نشر روايته الأولى “الأشجار واغتيال مرزوق” (1973)، عن رجل فرّ من مدينته بعد اعتقاله وتعرضه للتعذيب. يعد المؤلف عبد الرحمن منيف من 1933 إلى 2004 أحد أهم الروائيين العرب في النصف الثاني من القرن العشرين، وتعدّ تجربته القومية العربية فريدة من نوعها: فقد ولد في عمان– الأردن لأب سعودي وأم عراقية، التحق بالمدرسة الابتدائية في عمان، ثم درس في المدرسة الثانوية في بغداد، لينتهي به المطاف في القاهرة حيث درس في إحدى جامعاتها، وكان يقضي إجازات الصيف بانتظام مع عائلة والده الكبيرة في السعودية العربية. جُرد من هويته السعودية في 1963، ولاحقًا، مُنعت رواياته من التداول في السعودية ودول الخليج. استقرّ منيف أخيرًا في دمشق– سورية حيث أمضى العقود الثلاثة الأخيرة من حياته. تشير روايته “شرق المتوسط” التي دارت حول التعذيب، إلى تجربة الاعتقال السياسي في أغلب الدول العربية بشكل ملحوظ.
في هذه المحاضرة، سأتناول بشكل رئيس سرديات السجون: روايات، سير ذاتية، ومذكرات قام معتقلون سياسيون سابقون بكتابتها، عن تجاربهم في السجون. لن أدرج الشعر، حيث سأكرّس له محاضرة منفصلة، فالشعر العربي هو أسلوب التعبير الأدبي الأقدم والأغنى والأكثر رسوخًا، لذا يجب علينا تناوله في سياقَين تقليديين متباينين فضلًا عن ترابطهما: الشعر العربي الكلاسيكي المكتوب بالفصحى (موقع الإنجازات المدهشة جدًا على مدار 1500 عام الماضية) والشعر المكتوب في اللهجة العامية، أي اللغة المحكية المستخدَمة في دول عربية مختلفة. لدينا مثالان بارزان في فترة الثلاثينيات: قصيدة إبراهيم طوقان بعنوان “الثلاثاء الحمراء” التي تستذكر إعدام ثلاثة مقاتلين من أجل الحرية على يد حكومة الانتداب البريطاني في 1930 (قصيدة بالفصحى)، وقصيدة “عوض” باللهجة العامية، والتي عُثر عليها محفورة على جُدُر زنزانته بعد إعدامه.
سرديات السجون، فرع غني من فروع الأدب العربي الحديث، كتبها الرجال والنساء على حدٍّ سواء؛ ليبراليون، شيوعيون، وإسلاميون؛ كتّاب محترفون، مؤلفون لكتاب واحد، ومعتقلون سابقون سجلوا تجربتهم في السجون في مقابلات، شهادات ومقاطع شفهية. المواد المتاحة واسعة النطاق لدرجة أن المرء يتعرض لخطر الفهرسة المملة.
للوصول إلى غاية هذه المحاضرة سأختار ثلاث حالات: كتابات من مصر، حيث لدينا مجموعة روايات أكثر أهمية، أعداد كبيرة من الكتب، ومئات التقارير المسجّلة قام بتسجيلها رجال ونساء؛ كتابات من المغرب، تقدم لنا تقارير سنوات طويلة من الاعتقال؛ وكتابات من سجناء سياسيين فلسطينيين ولبنانيين، يمثلون آلاف المعتقلين السياسيين في السجون الإسرائيلية. آمل أن اختيار هذه الحالات الثلاث لن يعطي انطباعًا عن عدم وجود اعتقال سياسي وكتابات السجون في سورية، العراق، السودان، السعودية، وتونس؛ وأورد هنا على سبيل المثال لا الحصر بعض الدول العربية.

أولًا
في 1966، كان صُنع الله إبراهيم، شابًا في العشرينيات من العمر، أُفرج عنه بعد عقوبة خمس سنوات قضاها في السجن، فنشر روايته الأولى “تلك الرائحة”. أقرّ يوسف إدريس الروائي المصري العريق وكاتب القصص القصيرة في تقديمه للكتاب موهبة المؤلف الشاب وحداثة عمله الأدبي التي شبّهها بـ “صفعة على الوجه، صرخة أو أنين ينذر بالخطر ويكاد يثير رعبنا” قال إدريس إن الشخصية الرئيسة للرواية، لم تكن البطل أو الحوادث التي صوّرها إنما “شعور غامر، من الصعب تعريفه.” ولم تكن “شعور الاغتراب، الاشمئزاز، الفقد، أو الحياة” كانت شيئًا آخر كتبه إدريس، لكنه لم ينجح في تسميته.
من الواضح أن رواية “تلك الرائحة” كانت جديدة؛ وسيُدّعى لاحقًا أنها كانت الرواية الحديثة العربية الأولى: قصة بلا حبكة؛ بطل من دون اسم يتجول بلا هدف في شوارع القاهرة، أو يتكئ على سريره، يدخن. لم يحدث شيء معين مهم في الرواية ما عدا زيارة رجل الشرطة المسائية الاعتيادية، الذي كان عليه التحقق من أن البطل لا يزال في مكانه؛ القليل من ذكريات الماضي، القليل من الصور التي تعتمد على التلميح؛ أسلوب يذكرنا بتقليل همنغواي Hemingway والجمل التيليغرافية القصيرة، وشعور بالضيق يردد صدى رواية “الغريب” l’Etranger للكاتب الفرنسي كامو Camus.
دعوني أقتبس الأسطر القليلة الأولى للرواية والفقرة الختامية: “قال الضابط: ما عنوانك؟ قلتُ: ليس لدي عنوان. حدّق بي بدهشة: أين ستذهب؟ أين ستعيش؟ قلتُ: لا أعرف؛ ليس لدي أحد (أذهب إليه). قال الضابط: لا يمكن أن أسمح لك بالذهاب، علينا معرفة مكان إقامتك للتحقق من أنك هناك كل ليلة، سيرافقك الجندي”.
في نهاية الرواية، يبحث البطل عن منزل جدته، وعند العثور عليه، يقوم بزيارتها ويستمع إلى ما اضطرت أن تقوله عن موت والدته. تنتهي الرواية بالأسطر التالية: “نظرتُ إلى ساعتي، وقفتُ، وقلتُ عليّ الذهاب، نزلتُ الدرج، غادرتُ المبنى، مشيتُ في الشوارع إلى أن وصلت إلى ساحة رمسيس، ومن هناك توجهتُ إلى محطة المترو.”
على الرغم من أنه يمكننا أن نستنتج بسهولة عودة البطل إلى “الحياة العادية” بعد أعوام الغياب في السجن، إلا أنه ليس هناك أي إشارة مباشرة إلى تجربة السجن ما عدا بعض ذكريات الماضي القليلة الموجزة.
كان صُنع الله يتعرض للضرب والإهانة في السنوات الخمس التي قضاها في السجن، وقد رأى رفاقه يُضربون ويُجلدون حتى الموت. ومع ذلك، فالطريقة التي تعامل بها مع التجربة كانت مثيرة للاهتمام بالتأكيد. لا تسجل الرواية تفاصيل تلك المحنة بل تأثيرها النفسي اللاحق.
في 2004، أعاد إبراهيم النظر في تجربة السجن في كتابه يوميات الواحات. شَكْل الرواية جديد مرةً أخرى: مقدمة من 45 صفحة عن اعتقال المؤلف وأوضاع الحياة في السجن، و90 صفحة من الملاحظات الختامية (بيانات تاريخية، تعليقات وقائعية وما إلى ذلك) واليوميات ما بينهما، 140 صفحة من ملاحظات السجن التي دوّنها إبراهيم سرًا في عجالة على أوراق السجائر بخط يده على مدى عامي 1962 و1964، وتمكّن من تهريبها.
عند الإفراج عنه وخارج جدر السجن، لم يرد ذكر شيء عن التعذيب أو الإهانات في الملاحظات التي هي في الأساس تأملات لفنان محتَمَل، اقتباسات من قصائد أو كتب، تعليقات على قصص أو روايات، ملاحظات، آراء، خطط أدبية، وغير ذلك. العلاقة غير المباشرة والملتوية بين المقدمة والملاحظات الختامية من جانب، وملاحظات السجن من الجانب الآخر، يؤلفان جزءًا من معنى الرواية.
لم أبدأ بِرِوَايَتِي إبراهيم بسبب شهرة مؤلفهما كأحد الروائيين العرب المرموقين، وإنما أيضًا بسبب الإطار الزمني الذي تقدمه هاتين الروايتين. في الفترة الواقعة بين نشر رواية تلك الرائحة (1966) ورواية يوميات الواحات (2004)، نُشرَت عشرات الكتب عن تجربة الاعتقال السياسي في مصر، كتب معظمها يساريون، يسردون بشكل رئيس سنوات السجن بين 1959 و1964، أولًا في عدد من السجون المختلفة ثم في الواحات. وتقوم روايات أخرى بتسجيل تجربة السجن في السبعينيات والثمانينيات. أنتج الإسلاميون روايات أقل بكثير (مثل كتب زينب الهضيبي وأحمد رائف “التي تسجل تجربتهما في السجن كسجناء سياسيين إسلاميين في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات).
كتابات السجون في مصر كثيفة، ليس فقط لأن سكان مصر يشكلون ثلث سكان جميع الدول العربية، وإنما أيضًا لأن عددًا كبيرًا من المثقفين المعارضين تعرضوا للاعتقال السياسي. شملت حملة 1959 سيئة السمعة مئات المعتقلين. حيث صدرت أوامر عبر (مرسوم عسكري صدر في 31 كانون الأول/ ديسمبر 1958، باعتقال 169 شخصًا، تبعه مرسوم ثانٍ في آذار/ مارس لاعتقال 436 شخصًا). كان معظم المعتقلين من فئة المثقفين: من شعراء، روائيين أو روائيين مستقبليين، كتّاب مسرحيين، مهندسين، صحفيين، أكاديميين، رسامين، رسامي كاريكاتير، وفنانين. كُتِبَت رواياتهم عن تجربة السجن بعد الحدث (بعد خروجهم من السجون) ومع استثناءات قليلة جدًا لم تُنشر قبل منتصف السبعينيات. بعض التفاصيل مكررة وقد يجد القائمون على المقارنة أنه من المثير للاهتمام تتبّع كيفية سرد المؤلفين المختلفين للواقعة نفسها (إحدى الوقائع سيئة السمعة التي رواها عدة مؤلفين هي “واقعة وصلة”: حول نقلهم من سجن العزب بالفيوم إلى سجن الواحات في الصحراء الغربية، اضطر السجناء إلى تغيير القطارات في الوصلة، وهي بلدة صغيرة في صعيد مصر؛ قُيّدَ كل ثلاثين سجينًا سويًا بوساطة حزام حديد طوله 15 مترًا مع العديد من الأصفاد. عندما كان السجناء ينزلون من القطار، بدأ القطار في التحرك، وأولئك الذين نزلوا، مقيدين بالسلاسل مع بقية رفاقهم في القطار، سقطوا على الأرض، وكسروا أذرعهم أو أكتافهم. كان من الممكن أن يكون الأمر أسوأ بكثير لولا وجود حارس أطلق الرصاص من مسدسه لتنبيه سائق القطار).
تقدم معظم المذكرات وصفًا مفصلًا للسجن والحياة اليومية للسجين. تسلط الضوء على التعذيب وكذلك الظفر بالنجاة من المحنة. تسبب مقتل أحد السجناء نتيجة التعذيب، شهدي عطية وهو صحافي وقيادي في الحركة، بفضيحة كان لها أصداء بعيدة المدى خارج مصر، أدت إلى وقف التعذيب، وكان السجناء أحرارًا نسبيًا في التنقل داخل السجن: أحدثوا جامعة مفتوحة حيث تنوعت الفصول الدراسية من فصول محو الأمية (كان الطلبة حراس السجن بشكل أساس) إلى علم التحكم الآلي والرياضيات البحتة؛ كانت لديهم امتحانات ودبلومات ومراسم تخرج؛ أوراق حائط، وكالة أنباء، مزرعة، ورشات رسم ونحت وصناعة الفخار، أفران صناعة الفخار، مسجد ومسرح.
سأتوقف هنا لأقدم بشيء من التفصيل كتاب حبشي “معتقل لجميع الفصول” (2004). كتب حبشي كتابه في سن الثمانين، ما يعني أنه كان يتمتع بميزة التجارب السابقة وألّف نحو 20 كتابًا نُشرت في العقود الثلاثة السابقة، حول تلك التجربة. كان حريصًا على عدم تكرار ما سجّله الآخرون، بل حرص على تقديم نوع من مجموعات التقارير السابقة إضافةً إلى ما كان عليه أن يقوله عن تجربته الشخصية. في الواقع، إنه رجل جميع فصول الاضطهاد. من عام 1948 إلى عام 1987، أمضى حبشي فترات مختلفة من حياته في مراكز اعتقال مختلفة في مصر. لا تقتصر رواياته على الواحات أو على اعتقال امتد من 1959 إلى 1964. في عام 1959، ألقي القبض على زوجته الناشطة السياسية (قبل أسابيع قليلة من اعتقاله) وقضت 4 سنوات في السجن. كان للزوجين طفلة عمرها عام واحد، وصبيان يبلغ عمر أكبرهما ست سنوات. وبصرف النظر عن الضرب والعنف اليومي الذي تعرض له جميع المعتقلين، تعرض حبشي للجلد بعنف إلى درجة أوشك فيها على الموت، وعندما نُقِل الأسرى إلى الواحات رفض مدير السجن استقباله. كان الرجل الذي يحمله رفاقه على بطانية شبه ميت. في النهاية أُدخِلَ ونجا، ليس من التعذيب فحسب، بل من ثلاثة اعتقالات أخرى أيضًا، وأحكام بالسجن في 1975 و1979 و1987. لقد نجا منهم جميعًا ورفع دعوى قضائية ضد وزارة الداخلية لتعذيبه (كانت آثار التعذيب لا تزال واضحةً على ظهره بعد عقدين من الزمان). خلال فترة احتجازه في الواحة، قام حبشي، المهندس المعماري بحسب مهنته، بتصميم مسرح وكان العقل الرئيس وراء البناء. في وقت لاحق في إحدى فترات سجنه القصيرة في السبعينيات، صمم نافورة مياه وتمكّن من بنائها في الفناء الداخلي للسجن.
كتب حبشي مسترجعًا التجربة بعد أربعين عامًا: “لماذا ينبغي لنا أن نبني مسرحًا؟ هل نتوقع أن نقضي بقية حياتنا هنا؟” ويتابع ليقول إن “بناء المسرح سيكون نضالًا أخلاقيًا ضد الصحراء والرمال والمنفى. حتى لو أُنجِزَ لمدة ساعة واحدة، وعُرِضَت مسرحية واحدة عليه، سنكون دائمًا فخورين بأننا تغلّبنا على الاستبداد بالثقافة والفن”.
يروي حبشي كيف صمّم مسرحًا شبه دائري على الطراز الروماني بمقاعد حجرية، ولكن كان السجن في الصحراء، ولم تكن الرمال كافية، ولا توجد مقالع.
في يوميات معتقل سياسي (1994)، يشرح السيد يوسف كيف تمكنوا بعد عدة محاولات فاشلة، من الحصول على خليط مناسب، وصبوه في قوالب، وأنتجوا مئات الآلاف من الطوب. افتُتح المسرح الذي قاموا ببنائه في اليوم العالمي للمسرح في 1962. تنوعت المؤلفات بين نصّ “حلاق بغداد” الذي كتبه سجين أصبح في ما بعد إحدى دعامات الدراما المصرية الحديثة. ونصّ “الأخبار” الذي كتبه صلاح حافظ الصحافي البارز، ومسرحية “عائلة دوغاري” التي كانت تُعرض في الوقت نفسه على المسرح القومي المصري في القاهرة؛ كذلك شملت العروض نص “ماكبث” لـ شكسبير، و”بيت الدمية” لـ إبسن، ومسرحية لـ برنارد شو وواحدة لـ جان بول سارتر. كما أقيمت عروض الدمى والأمسيات الشعرية في ذلك المسرح.
باستذكار الحوادث الماضية، يتأمل حبشي بناء المسرح: “أدى إلى تغيرنا؛ كنا عراة، حفاة، جائعين، منعزلين؛ ومحاصرين بالحراس والقضبان والأشواك، لكننا تمكّنّا من خلق مساحة للثقافة والتعليم والهندسة المعمارية، وتمكّنّا من إعطاء مثال على قوة البشر في زرع زهرة وسط الجحيم.” بعد ثلاثة عشر عامًا، قرر حبشي المعتَقل في سجن أبو زعبل وهو سجن آخر، بناء نافورة مياه. قام بالتصميم وأقنع سلطات السجن بعدم عرقلة المشروع. لقد صرفوا النظر عن قيام زوجته بتهريب المواد اللازمة بما في ذلك الأسمنت والجصّ. في وسط النافورة وُضِعَ مهرج ينفخ في البوق؛ وأربعة تماثيل صغيرة في الزوايا الأربع، تجسّد الجمال والسعادة والثورة والمعرفة. لم يكن تمثيل الثورة ما تسبب في المشكلة بل تمثيل المعرفة، فقد كان كتابًا يدوس عليه حذاء عسكري. اعترضت إدارة السجن واضطر حبشي إلى التخلي عن الحذاء العسكري. ولكن بمجرد الانتهاء من إنشاء النافورة، شعرت الإدارة بالقلق. فمن يمثّل المهرج؟ وعندما حضرت لجنة خاصة من وزارة الداخلية لتفقّد النافورة، لحسن الحظ، كان التقرير إيجابيًا، فقد ذُكر أن المهرج لا يشبه الرئيس!

ثانيًا
على الرغم من الحكم عليه بالسجن 3 سنوات، إلا أن رشدي بن عيسى، الرقيب الشاب في القوات الجوية المغربية، أمضى 11 عامًا في الحجز قبل وفاته. قام بعمل رسم تخطيطي لزنزانته في سجن تازمامارت وكان فخورًا به. في كتاب رسالة من المغرب Lettres De Maroc تخبرنا كريستين دور سيرفاتي Christine Dorr Servati أنه في ساعات الاحتضار الأخيرة، همس بن عيسى: “أريد أن يخرج الرسام الذي بداخلي من هذا السجن، ويسافر في جميع أنحاء العالم”.
مخطط بن عيسى المرسوم باستخدام قلم الرصاص رسم لزنزانة فارغة فيها جُدُر وسقف؛ في المنتصف، باب مغلق مظلم بفتحة صغيرة. إلى اليسار، إبريق ماء صغير على الأرض ومقعد حجري يشبه الطاولة (هذا المقعد الحجري، الذي نعرفه من روايات سجن تازمامارت المختلفة، كان الأثاث الوحيد في الزنزانة؛ ويستخدمه السجناء للنوم والجلوس وتناول الطعام).
توفى بن عيسى في 29 حزيران/ يونيو 1983. بقي رفاقه في سجن تازمامارت مدة 8 سنوات أخرى. عندما أُفرج عنهم، حققوا النصف الأول من رغبة رفيقهم: لقد أحضروا مخططه من السجن. بعد عشر سنوات، أكمل أحد رفاقه، أحمد المرزوقي، النصف الثاني. أصبح المخطط تصميم غلاف كتاب تازمامارت: الزنزانة رقم 10 Tazmamarte: Cell No 10 لـ المرزوقي، ويمكن أن يسافر رسم بن عيسى إلى جميع أنحاء العالم.
تازمامارت سجن في الصحراء، حيث احتُجزت مجموعتان من المعتقلين، تورطوا جميعًا في انقلابَين فاشلين ضد الملك الحسن الثاني؛ الأول في قصر الصخيرات في تموز/ يوليو 1971 والثاني محاولة لإسقاط طائرة الملك في عام 1972. كان معظم السجناء أبرياء، وكانوا طلبةً في كلية عسكرية، استغلهم قادتهم الذين أُعدِموا بعد الانقلاب مباشرةً. اسُجوِبَ المتهمون مدة عامين وعذِّبوا. حُكم على العديد منهم بالسجن لمدة تتراوح بين 3 و5 و10 سنوات. في عام 1973، نُقِل 58 متهمًا إلى تازمامارت حيث سُجنوا في الحبس الانفرادي مدة 18 عامًا من 1973 إلى 1991. من أصل 58 معتقلًا، نجا 28 فقط. بعض الذين ماتوا فقدوا عقلهم أو أصيبوا بالشلل أو كانوا مرضى جدًا بحيث لا يمكنهم مساعدة أنفسهم، وقضوا سنوات في أوضاع مروعة في زنازين انفرادية، من دون رعاية طبية أو عناية على الإطلاق باستثناء ما سمح به الحراس: أن يُطلب من أحد السجناء دخول زنزانة رفيق مريض والمساعدة في تنظيفه لأن الرائحة النتنة لا تُحتمل.
في عام 2000، بعد تسع سنوات من الإفراج عنهم من سجن تازمامارت، نُشرت أولى الروايات: ظهر كتاب أحمد المرزوقي: تازمامارت: الزنزانة رقم 10 Tazmamarte: Cell No 10 ، وكتاب محمد الريس من الصخيرات إلى تازمامرت: تذكرة عودة إلى الجحيم From Skheirat to Tazmamarte: A Return Ticket to Hell، ونُشر في إحدى الصحف، فكان الكتاب سلسلة نُشر بعد عام كاملًا. كُتِبَت الروايتان في الأصل باللغة الفرنسية. وكتب أيضًا باللغة الفرنسية الطاهر بن جلون الكاتب المغربي الفرنكوفوني المعروف الذي يعيش في باريس روايتهCette Aveuglante Absence de Lumiere (2001) تلك العتمة الباهرة (2002)، بناءً على تجربة أحد الناجين من تازمامارت. أثارت رواية بن جلون جدلًا: حيث سُئِل بن جلون عن سبب التزام الصمت مدة 20 عامًا عن تازمامارت ومراكز الاحتجاز المغربية الأخرى. كان يعتقد أنه من غير الأخلاقي “تذكّر” تازمامارت الآن بعد أن تصدرت فظائعها عناوين الصحف.
في الفترة نفسها، نُشِرَت روايتان أُخريان: السجينة Prisonniere لـ مليكة أوفقير الأرواح المسروقة: عشرون عامًا في سجن صحراوي، 2001. Stolen Lives Twenty Years in a Desert Jail, 2001، وكتاب فاطمة أوفقير (والدة مليكة) حدائق الملك: الجنرال أوفقير والحسن الثاني وأنا (2000) Les Jardins du Roi: Oufkir, Hassan II et moi.
ومن المفارقات أن الجنرال أوفقير، اليد اليمنى للملك منذ عقود، ووزير الداخلية السابق، وكذلك وزير الدفاع السابق والقائد السابق للقوات المسلحة المغربية، كان متورطًا في انقلاب على الملك. قُتل أوفقير، وأمضت زوجته وستة أطفال وأحد الأقارب الذي كان يعيش مع العائلة وطباخ العائلة عشر سنوات في السجن وثماني سنوات في الإقامة الجبرية منها أربع سنوات قبل نقلهم إلى سجن صحراوي، وأربع أخرى بعد الإفراج عنهم، أي من 1973 إلى 1991. لم تكن هناك محاكمة ولا اتهام ولا عقوبة. كان على عائلة أوفقير، التي حظيت بامتياز عندما كان أوفقير في السلطة، أن تدفع الكثير مقابل عدم ولاء والدهم للتاج.
توفى الملك الحسن الثاني عام 1999، وهو طاغية قاسِ، حكم المغرب مدة 38 عامًا، والتي أصبحت تُعرف باسم “سنوات الرصاص”. في السنوات القليلة التي تلت ذلك نُشِرَت عشرات الكتب حول الاعتقال السياسي في المغرب، مجموعة أدبية مرئية ومتنوعة خلقت ظاهرة وجب استكشافها. في آب/ أغسطس 2006، نظّم اتحاد الكتاب المغاربة ندوة بعنوان “قراءات في كتابات وروايات السجون”. ذكر المنظمون أن الهدف من الندوة ليس دراسة القيمة الأدبية لهذه الأعمال، وبلاغتها المميزة فحسب، بل محاولة الاستماع إلى أصوات هؤلاء المعتقلين السابقين، واستكشاف نفسية كل من الضحية والجاني، والحفاظ على ذكرى تلك الفترة المظلمة من التاريخ المغربي”. قُرِأت 15 ورقة في الندوة، كل منها حول رواية أو اثنتين أو أكثر من روايات السجون (قد يعطيك هذا فكرة عن عدد الكتب المنشورة في السنوات الست الماضية). (بطبيعة الحال، لم تُضمَّن كتب أوفقير، على الأرجح بسبب صمت المؤلفين عن مسؤولية أوفقير في اغتيال وتعذيب واختطاف عدد كبير من المدنيين عندما كان في السلطة).
يضاف إلى هذه الأدبيات المكتوبة آلاف الشهادات الشفوية التي أدلى بها الضحايا وعائلاتهم في جلسات المصالحة. ألّف الملك الجديد، محمد السادس، هيئة الإنصاف والمصالحة (2004) التي كان جزء من وظيفتها الاستماع إلى الفظائع التي ارتُكبت في العقود الأربعة الماضية. وأشارت الأرقام الرسمية إلى أن الهيئة استمعت إلى 22 ألف شهادة.
في مراجعة كتاب حديث عن تازمامارت، يستشهد الصحافي المغربي محمد بودان بمقولة مغربية شائعة: “إذا سمع الشيطان ذلك سيصم أذنيه”، ما يعني أن القصة التي تُسرَد فظيعة إلى حدّ أن الشيطان لن يحتمل الاستماع إليها.
الآن على الشيطان أن يستمع إلى القصة، على أمل أن يؤدي الاستماع إلى تحقيق المصالحة.

ثالثًا
من عام 1948 إلى عام 2008، أي منذ إنشاء دولة إسرائيل وحتى الوقت الحاضر، تعرض 800 ألف فلسطيني للاعتقال السياسي؛ ويشكل هذا الرقم 25 في المئة من إجمالي سكان فلسطين. منذ عام 2000، اعتُقِلَ 42 ألف فلسطيني، ولا يشمل هذا العدد أولئك الذين اعتقلوا بغية التحقيق معهم، أو المحتَجزين في المستوطنات أو مراكز الشرطة أو المواقع العسكرية أو نقاط التفتيش. يوجد حاليًا 11 ألف سجين سياسي فلسطيني موزعين على حوالي 30 سجنًا إسرائيليًا. بلغ العدد الإجمالي للمعتقلين الذين تجاوزت مدة سجنهم عشر سنوات 421 سجينًا. من بين 11 ألف معتقل وسجين سياسي يقبعون حاليًا في السجون الإسرائيلية، هناك 356 طفلًا (دون سن 18)، و118 امرأة، وأربعة وزراء، و34 عضوًا في المجلس التشريعي الفلسطيني (البرلمان الفلسطيني) بمن فيهم رئيس المجلس. منذ عام 2000، توفي 72 شخصًا في السجن؛ ثلاثة منهم ماتوا تحت التعذيب، و17 من نقص الرعاية الطبية العاجلة اللازمة. لكن كتابات السجون الفلسطينية ليست قوية أو متنوعة كما هي الحال في البلدان العربية الأخرى. لماذا؟ هل لأن أغلبية هؤلاء المعتقلين أشخاص صغار السن جدًا، وأحيانًا شبه أميين؟ هل لأن ضغوط الاحتلال مستمرة حتى بعد الإفراج عن السجناء وتجعل من الكتابة أمرًا صعبًا؟ ليس لدي إجابة محددة. لدينا مقاطع لا حصر لها، غالبًا أشعار وقطع نثرية قصيرة، رواية لكاتبٍ شابّ هاوٍ، هُرِّبَت من السجن ونُشرت على الإنترنت. الكتب المنشورة حول تجربة السجن السياسي قليلة نسبيًا. من أبرزها كتاب أحلام الحرية، صدر عام (2004) لـ عائشة عودة التي اعتقلت في آذار/ مارس 1969، كانت تبلغ من العمر 25 عامًا وأمضت عشر سنوات في السجن. خلال التحقيق، واجهت عائشة جميع أشكال الإساءة الجسدية واللفظية التي يمكن تخيلها؛ تعرضت للضرب والجلد والركل والترويع (سنستمر في ضربك حتى تُصابي بالعمى، ستصابين بالشلل، ستموتين، سنقوم بتفجير منزل والدتك، كل رفاقكِ أبلغوا عنكِ …إلخ.). بعد كل جلسة استجواب، كانت تُسحب إلى زنزانتها، شبه فاقدة للوعي وملتهبة الوجه والذراعين والساقين، وبالكاد تتحمل لمسة وسادة أو بطانية. في جلسة الاستجواب الأخيرة جُردت من ملابسها وَاغْتُصِبَتْ.
استغرق الأمر من عودة 32 عامًا لكتابة تجربتها في السجن. في ملاحظة في نهاية الطبعة الثانية من الكتاب، كتبت عن الألم الكبير جرّاء الكتابة، وعبء إعادة خلق لحظات المعاناة. بعد ثلاث سنوات من نشر الطبعة الأولى من الكتاب، كما أخبرتنا، سُئلت في برنامج تلفزيوني عن التعذيب الذي تعرّضت له، “أدركتُ أنني لست مستعدة للإجابة. في صباح اليوم التالي، استيقظت في السادسة صباحًا، كنت أبكي ولم أستطع التوقف لمدة ساعة كاملة. كنت لا أزال أنزف؛ كان الجرح لا يزال مفتوحًا بعد 35 عامًا”.
الاعتقال والاستجواب محوران رئيسان لرواية عودة، والسنوات العشر التي تلت ذلك، وتفاصيل الحياة في السجن، وعلاقتها برفاقها، لُخِّصَت في فصل قصير أخير.
في كتابها مقاومة (2000) تستخدم سهى بشارة -شابة لبنانية، قضت أيضًا عشر سنوات في سجن الخيام- استراتيجية مختلفة. تعاملها مع تجربتها في السجن هو في الأساس علاج في السياق. إذ تقدّم وصفًا مفصّلًا عن السجن، موقعه، تاريخه، أبنيته المختلفة وزنازينه …إلخ. كما تقدّم سردًا لإجراءات التحقيق، التعذيب، الروتين اليومي، وجبات الطعام، الملابس والعقوبات …إلخ. وأنواع مقاومة لا حصر لها ارتجلها السجناء. تحرص بشارة على توثيق تفاصيل الحياة اليومية في الخيام حيث “لا عدالة، لا محاكمات ولا قضاة ولا محامون. في معتقل الخيام، السجناء غير معترف بهم وغير مرئيين، ببساطة غير موجودين في عالم الأحياء”.
لم تُغتَصَب بشارة التي اعتقلت في عمر الحادية والعشرين، لكنها تعرّضت للضرب والتعذيب بالعصي الكهربائية، وغالبًا ما حُبست في زنزانة انفرادية ضيقة لدرجة أنها لم تتمكن من المشي سوى أربع خطوات من الجدار إلى الجدار. تمثَّل جزء من مقاومتها بأن تكون في حالة بدنية وعقلية جيدة؛ كانت تمشي 4 كيلومترات كل يوم داخل هذا المكان الصغير، وكانت بالطبع حذرةً ألا تضرب رأسها أو جسدها في آلاف الجولات التي كانت تقوم بها كل يوم في زنزانتها الصغيرة.
أُفرج عن بشارة عام 1996، وبعد أربع سنوات، سقط سجن الخيام مع تحرير جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي. أصبح السجن متحفًا مفتوحًا حيث يمكن للزوار مشاهدة الأحوال المروعة التي عاش فيها السجناء (رجال ونساء وأطفال)، والزنازين بحجم 1 × 1.80 متر مربع، والصناديق التي يبلغ حجمها 90 × 90 سم مربع كان يُحبس السجناء فيها لمدة أيام. شبّه تشومسكي السجن في أثناء زيارته في أيار/ مايو 2006 بغوانتانامو. بطبيعة الحال، استهدفت إسرائيل في حربها الأخيرة على لبنان في تموز/ يوليو وآب/ أغسطس 2006، سجن الخيام بمئات القنابل، ودُمِّرَ المكان بالكامل، ولم يبقَ منه سوى الأنقاض والقصص والذكريات.

قبل أن أختم، أود أن أورد ملاحظة قصيرة
حجّة فوكو Foucault الرائعة في المراقبة والمعاقبة Surveiller et Punir بأن الجسد كهدف رئيس للقمع بوساطة العقوبة الجنائية، قد استُبدِلَ باقتصاد عقاب جديد، لا ينطبق حقًا على الجزء الذي نعيش فيه من العالم، (وكذلك على أجزاء أخرى بعد الغزو الأميركي للعراق) حيث أقتبس من روايتي الأخيرة “القوة مثل امرأة عجوز مجدّة وماكرة، ترفض التخلص من أي شيء أو التصرف في أي شيء”. إنها تحتفظ بالأدوات القديمة بجانب الجديدة وتستخدمها بالتناوب. لا تزال تقنية العقاب القديمة المتمثلة في حفر العقوبة على الجسد نظام اليوم.
في كانون الأول/ ديسمبر 1961، رسم بابلو بيكاسو Pablo Picasso صورة لجميلة بوباشا Jamila Boupasha، المناضلة الجزائرية من أجل الحرية التي سجنها جيش الاحتلال الفرنسي، وتعرضت للتعذيب والاغتصاب. كتبت محاميتها، جيزيل حليمي Gisele Halimi، كتابًا عنها، وكتبت سيمون دي بوفوار Simone de Beauvoir مقدمة الكتاب، واستُخدم رسم بيكاسو على غلاف الكتاب.
لم يرسم بيكاسو Picasso أي معتقل سياسي فلسطيني أو لبناني؛ لم تُقدم اللوحة الجدارية غرنيكا Guernica حتى الآن لإحياء ذكرى الفظائع التي ارتُكبت في سجن الخيام أو تازمامارت أو الواحات. ومع ذلك، فإن مجموعة كتابات السجناء السياسيين في العالم العربي هي، إلى حد ما، لوحة كبيرة دُفع ثمن تفاصيلها كلها بالعرق والدم، إنها غرنيكا من النوع التي لم تنتجها عبقرية فردية بل مجموعة ممن مروا في الجحيم وخرجوا منه، لا يحملون مشاعر انتقامية بل شعورًا بالانتصار، والثقة في النفس، وأقتبس من حبشي قوله: يمكن أن يزرع الإنسان زهرةً حتى في وسط الجحيم.

مشاركة: