كلمة ميسلون

أيها السيدات والسادة،
لم أتوقع أنني سأكون في هذا الموضع محتفيًا في أربعين رحيلك، ومعزيًا بك يا أبا عُمر، وأنت الصديق والجار الوفيّ لمبادئه من دون تردّد أو مجاملة.
استعجلتَ الرحيل يا أبا عُمر، فساحات سورية ما زالت في شوق إلى طلّاتك، ومنصّات المسارح تتعطش لجديد أعمالك، ونحن في أسرة ميسلون، وفي هذا العدد من رواق ميسلون عن أدب المعتقلات، سنكون أكبر الخاسرين لقلمك الثائر ولإنتاجك الأدبي الذي يحمل الأمل والإبداع.
كان غسان نموذجًا للتحدي والمواجهة في حياته وفي سجنه السياسي الظالم كجميع أقبية ومعتقلات هذا السواد وتلك الظلاميات. فسطّر الراحل أدبًا يبقى طويلًا في ذاكرة كل من قرأه، وأبدع أعمالًا مسرحية لا تزال توقظ الوجدان، وتثير روحَ التمرد على الطغيان أينما كان وفي أي موضع حلَّ.
إنه صاحب المبادرات التي تطلق حماسة الأجيال، وتذكي جذوة التحرر، فكان الراحل خير من ربط القول بالفعل؛ أذكر صحبته في بواكير تظاهرات دمشق وريفها، فكان صوته مجلجلًا في القدم والعسالي، أتذكر حينها شهيد المعتقل لاحقًا ”مروان الحاصباني“ الذي كان منسّقًا لمشاركات شبّان وشابات الأشرفية وصحنايا في تلك الفاعليات، فكان متنقلًا كالغزال اليقظ بين مختلف المشاركين، واستشار الجميع بعد كلمات للحرة منتهى الاطرش وللسياسي الحر رياض سيف، في تشييع شهداء تظاهرات القدم، حين قالت كلمتها المشهورة “لا يوجد في سورية إلا عصابة الاسد ومخلوف وشاليش”، إذ اختزلت العبارات والبيانات كلها، وكان يصعب أن ينطق المرءُ بعدَها بكلمة، ولكن غسان انبرى يخطب بعبارات الثورة والتحدي وإعلان المواجهة المفتوحة مع أعتى أنظمة القتل والاعتقال، لا يلتمع في بريق عينيه إلا شمس الحرية والأمل بسورية جديدة، حيث اختاره الجميع ليمثلنا في كلمة تأبين الشهداء الذين قضوا في أثناء التظاهرات قبل يوم، فحملت كلمته كل العبرة، وعشّشت في الأفئدة من دون استئذان.
ولاحقًا في حراك السويداء حيث جمعتنا فكرة -وكنّا نعيش في صحنايا كجيران- أنّ حراك الجبل مهم، وإذا تصاعد سيحمل معاني قوية تدحض مقولة الساقط بحماية الأقليات، فصار تركيزنا هناك، ولم يغب غسان يومًا عن أي ساحة عمرت بحناجر المنتفضين في السويداء أو شهبا أو القريا.
لغسان الحر المتوثب دومًا دَين في أعناقنا.
لقد امتلك قدرة متميزة على رؤية الشعرة الدقيقة الفارقة بين الشجاعة والحماقة، فكان سياسيًا لامعًا في شبابه، ومخرجًا ومعلمًا مبدعًا قبل سجنه وخلاله وبعده، وناشطًا بقلب الشباب في الحراك والانتفاضة.
ترجّل الفارس قبل بلوغ الجلجلة.
لقد فقد المسرح وميدان الادب فارسًا معلمًا في ساحات النضال ومنصّات المسارح، رجل المواقف الوطنية بحقّ، المخضّر دومًا والمتجذر دومًا في عميق الأرض كسنديان الجبل، الريح تلفح الوجوه والفجر ما زال بعيدًا جدًا، وما زلنا ننتظر انبلاج الصباح، فما زال الجنرال يشرب قهوته، ولم نزل في حضرة العتمة يا صديقي!
سيبقى غسان حيًا بيننا.

مشاركة: