تُسمّونَهُ قبرًا وأُسمّيْهِ مَزهريةْ
ما زلتُ كما تعرفونْ
أَعقِدُ يديَّ على صدري
مثلَ جسرٍ حجريْ
أستلقي على ظهري الأبديّْ
أَمُدُّ رجليَّ على راحتيْ
الترابُ يملأُ فميْ وعَينيّْ
والبسمةُ لا تفارقُنيْ.
لا أتكلمْ.. لا أرى وجوهَكمُ الغاليةْ..
لكنّي أَسمعُ كيف تتنفّسونَ فوقَ الترابْ
وأشعرُ بجذورِ الأُقْحُوانْ
وهي تمتصُّ الرطوبةَ منْ حَوليْ
ما زلتُ كما أنا
أنتظرُ أن يُشَيِّعَنيْ أهليْ كواحدٍ
من شهداءِ الحرية..
أنا الآنَ بعيدٌ عنكمْ، لا ترانيْ اْلعيونْ
قريبٌ منكمْ، لا تلمِسُنيْ الأصابعْ..
أبعدُ من كوكبِ الصَّمتِ أنا
وأقربُ من مِحرابِ الترابْ
تسمونَهُ قبرًا
وأُسميْهِ أصيصَ وردْ
لن يوقظَني الفجرُ بعدَ اليومْ
ولن يعاتبَني المساءْ
تركتُ بين أيديْكم
كلَّ ما كان بيننا من مودةٍ ونُبلْ..
تركتُ أحلامي الصغيرةَ أمانةً لديكم
تركتُ حِصَّتي من زُرقةِ السماءِ والضوءْ.
وكلَّ ما أملِكُهُ من سنواتِ عمْريْ الباقيةْ
قدمتُهُ لكم..
تركتُ أصابعي الدافئةَ بين أصابِعُكم
كي أعيشَ بكم
فمن أجلِ ذلك كنتُ أعيشْ..
تركتُ كلَّ ما ورثته عن البشريةِ عبرَ القُرونْ:
المحبةَ والمعرفةَ والجمالَ والفنَّ والحريةْ..
تركتُ المطرَ يتلألأُ كالدمعِ فوق العُشبِ الأخضرْ
تركتُ أشعةَ الشمسِ مشرقةً هناك خلفَ الجبلْ
وشجرَ النُّوارِ وهو يزهرُ ويزدهرُ في الحَواكيرْ
نسيتُ القَباحةَ والخِسَّةَ البشريةْ
نسيتُ الخيانةَ والظلمَ والنذالةَ والكذبْ..
وحملتُ أجملَ الذكرياتِ عنكمْ
وغفرتُ لكم..
أنا الآنَ أحيا حياةً أخرى
بفراخِ الطيرِ أحيا
ببِذارِ القمحِ والحَبَقِ أحيا
بالياسمينِ يدورُ على بيوتِ الطينْ
يقرعُ نوافذَ الخشبِ العتيقةَ، ويصرُخْ:
أنا بسمةُ الحزنِ يا ناسْ
هديةُ الفقراءِ والمحرومينَ والمشردينْ
أرسلني الربُّ خِصيصًا، كي أبتسمَ لكم
كي أحرُسَ أحلامَكم في الشُّرُفاتْ
وأنامُ في أَصيصِ الوردْ…
تسمونَهُ قبرًا
وأُسمّيْهِ مَزهريةْ.
…………….
لم أعتدْ يومًا أن أتكلمَ عن غسان كزوجٍ فقط، بل كصديقٍ جميلْ.
كثيرًا ما أبهرتْني شخصيتُهُ منذُ اللحظةِ الأولى للقائِنا. اليومَ سأحدثُكم عن غسان الإنسان، الأب، الطفل، الصديق، الابن، الحالم المتفائل، الأديب، الفنان، النحَّات، المفكر، صاحبِ المبادئ، المتمرد، المعتقَل.
غسان الذي قارعَ الاستبدادَ بكلِّ عُنفوانْ، غسان الذي أطعمَ سنوات عمُرِهِ لقُضبانِ المعتقلْ، لكنه لم يرضخْ للسجّان.
غسان الذي جعلَ من سنوات الاعتقالِ حافزًا للإبداعِ والكتابة.
غسان نصير المظلومين، والمقهورين.
غسان الثائر.
غسان الذي لم يساوم، غسان الممنوع من السفر، لكنه كان يطوفُ الكونَ بروحِه ليزرعَ في شرُفاتِ الأصدقاءِ ورودَ محبة، غسان الذي شاركَ جميع الأمهات السوريات الدموعَ والحزنَ والأملَ والانتظارَ والفرح.
غسان الذي حجزوا على أملاكِهِ هو وزوجته وأولاده، لأنه قال كلمةَ حقٍ في وجهِ سلطانٍ جائر، ورفضَ أن يساوم.
غسان الهشّ كجَناحِ فراشَة، الصَّلدُ كبازِلتِ جبلِ الريّان.
غسان الضوء في بلدِ العَتَمَة والموتِ والقهرْ.
غسان صديق الكبير والصغير.
غسان الذي آمنَ بشعب بلده وقضيته وساندَها حتى اللحظة الأخيرة.
عزائي أن غسان رحلَ عن هذه الدنيا جسدًا، لكنه باقٍ وحيٌّ بإرثه الثقافيِّ والأدبيِّ والفكريِّ الذي تركَه، باقٍ بين أوراق كتبه ومؤلفاته، يشربُ القهوةَ معَ شخصيات رواياتِه، حيٌّ بمنحوتاته التي أخرجَها معه من المعتقل.
إنه حيٌّ بجلسات الأصدقاء وأحاديثهِم. حيٌّ بضمير الشرفاء والأنقياء.
باقٍ بقلبي وروحي، أنا رغده الصديقةُ والحبيبة، الأمُّ والابنة، الزوجة والعشيقة، سأفتقدُ صباحاتك الجميلة يا حبيبي، ورائحةَ عطرِك التي كانت تسبقُك، سأشتاق إلى صفناتك، وجلستك أمام الكمبيوتر، سأشتاقُ إلى مناداتِك لي كي أقرأَ ما كتبت، لنقاشاتِنا، لتوصياتِك، لنقدِك لملاحظاتِك، لمُزاحِك.
غسان صاحب الظلِّ الخفيف، الطاهي المبدع، الساخر إلى حدِّ البكاء.
النقيّ الحنون، صاحب اليدِ السخيّة. سأشتاقُ إلى اختيارك لفساتيني وإكسسواراتي، لأَخرُجَ كلَّ صباحٍ كلوحةٍ فنيةٍ تمشي.
سأشتاقُ إلى جملة “إنتِ جبلْ، وأنا راكي ظهري لجبل”. هل كان يقصِدُ المعنى الحرفيَّ للعبارة؟
نعم كان يقصِدُها، فقد ترك لي حِمْلًا ثقيلًا، وإرثًا يحتاجُ إلى جبال كي تحملَه.
لكنّي سأعملُ جاهدةً لأجمعَ ما تركهُ من قُصاصاتٍ ونِتاجٍ فكريٍّ وثقافيّ، وسأخرجُهُ إلى النور.
تركَ لي ثمرةَ حبٍّ اسمُها البراء، سأرعاه كما كان غسان يرعى نبتةَ الأوليفيرا خاصتي.
أما غسان العنيد.
فقد كان عنيدًا بما يكفي ليقولَ حتى للمرضِ خسئت، لن تُذِلَّني ولن تُقعِدَني.
ناورَ المرضَ أيامًا قليلة، وانتصرَ عليه. اطمئنوا، فقد غادر غسان وهو بكاملِ بهائِه.
بضِحكتِهِ الساخرة.
غادرَ وهو يحلُمُ بوطنٍ يليقُ بأبنائِنا.
غادرَ وهو يقولُ لكم: أنا غسان الجباعي
سلامٌ لكم من قبلُ، وفي رحيلي
نسيتُ أن أترك لكم كلماتي الأخيرة:
لم تطأْ قدمي زلَّةً
ولم أتوخَّ الحذر
فكنتُ كما شئتُ لا كما شاؤوا لي
صفعتُ وجهَ المِحَنِ وبصَقتُ في وجه الجلاّد
أنا من صادقتُ نوى الزيتون
وفنيتُ زمني بملحِ صبري
وكان رحيلي في أرضي وتركتُ خلفي من يُظلّلُ لي قبري
المجدُ للثورة وسلامٌ للثائرين.
نَمْ قريرَ العينِ يا حبيبي.