غسّان الصديق المبدع الراحل

سلام لكل الأحبة، وسلام طيب للعزيز الصديق الراحل المبدع الحرّ غسان.
يعزّ عليّ أني لم ألتق به، ويعزّ عليّ أني لم أعانقه حين خرج من المعتقل، وذات يوم خطر ببالي أبعتلك مجسّم عن مدينتي بيروت.
لحّنتُ لغسان مقدمة غنائية لبرنامج تلفزيوني.
قوة الفكرة وقوة الصوغ.. أحسستُ بأن غسان جالس يلحّن معي، ويفكرّ بأي مقام وبأي لحن.
بعد انتشار وسائل التواصل الحديثة، لم نكن نفتح الفيديو؛ علمًا أني رأيت في عينيه في صوره على الأقل طفلًا جميلًا لديه الحرية من البديهيات، ولمّا خسرناه قلتُ في نفسي “يموت الأحرار ولا تموت الحرية، بل تزداد ألقًا وتوهجًا مع موت كل حرّ.”
هناك موتان بالنسبة إلي، أحدهما موت طبيعي كموت الأقارب والأعزاء، والآخر هو الموت الجارح: يعطي إشارة الخطر للمعاني، وهذا الرجل حنون العينين، لم يشارك في موت المعنى بل في إغنائه وتعزيزه.
لم أرَ معتقلًا يتكلّم عن حبّ الحياة كما فعل غسان، بالقصائد التي كان يرسلها إليّ، وكنتُ أحاول أن ألحّنها. وأقول بصدق شديد أن الألحان لم ترتق إلى بسمة عينيه وصدق المعنى فيها، ولهذا كنتُ أعمل عليها أكثر.
ليست الصداقة في أن نرتشف معًا فنجان قهوة، أو في أن نتجادل في السياسة أو الحياة، فحسب؛ بل الصداقة كنز يعرف غسان كيف يخرج منه أثمن القصائد، والقصص والحكايا والابتسامات، وأثمن ما في الحياة من الآمال والحرية والحقّ.
أن يجلس غسان مدة طويلة في بيته، وألا يخرج مدة طويلة لأنه لا يريد أن يرى الأسى في عيون مَن أحبهم، ولئلّا يرى بلاده إلا كما كان يحلم بها على الأقل. رسم ابتسامة لهذا المشرق الحزين والذي بموته بكى عليه، فهو شخص مبدع حرّ أعطى معنى لكل الأحرار ثم رحل.
أعجز عن التعبير، ولهذا ألجأ إلى الموسيقا، وأشارك العزيزة رغده في أنه ليس قبرًا بل مزهرية.
أقول لغسان: كنتُ أشتاق إليك لأني لم أكن أراك، وسأشتاق إليك أكثر لأني ما رح شوفك. وهذا ليس اشتياق بين صديقين فحسب؛ سنشتاق معًا إلى وجوه الأطفال التي رسمتَها وغنّيتُها، سنشتاق معًا إلى بلاد نحن فيها وهي بعيدة، نطأ أرضها وأنت تسمع خطونا وأنت تحت المزهرية، سأضيف إلى قول محمود درويش: “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”، لأقول: وتحت هذه الأرض ما يستحق الحياة أيضًا، ما دام جسد غسان تحتها. لكنّ روحك تطوف حولنا، وسيبقى الطفلان في عينيك معينَين لنا.
خسر أصدقاء كثر في هذه البروفة التي جرت في لبنان قبل سورية، ولا يمكننا ألا أن نحزن، ولن نحبس الدمعة مع توقنا إلى الحرية، ولن نحبس الدمعة. دمعة على غسان، وقبلة لروحه، ووعد بأن الحرية لن تموت طالما يضع رجال أعزاء كبار الأبطال في صدورهم، وبالمناسبة: الأبطال هم من يصنعون الانتصارات، ولكن الكبار هم من يضعون الأبطال في صدورهم. كان كبيرًا وسيبقى كبيرًا.
العزاء لكل الأحبة والعزيزة رغدة وعمر.

مشاركة: