هي المرّة الأولى التي يعتذر فيها غسّان عن مناداته. كلّ كلام الآن سحابة خرساء لا تليق بهذا الجبل الذي نام. علينا بدل الحزن أن نحبّ هذا القدر. لا يموت الجبل دفعة واحدة، كاذب من يقول إنّ غسان لم يتعرّض للموت أو القتل من قبل: لقد عوَّدنا على نجاته فخلنا أنّه لن يرحل، كنّا نعتقد أنّ الجبل لا يئنّ، ولكنّ غسّان كان لا يشكو، لقد توغّل في كبريائه، وهذا كلّ ما في الأمر.
كيف عاش غسّان؟ كم مرّة كان فيها تحت التعذيب الجسدي داخل السجون؟ كم من رواية أو عمل مسرحي أنجز؟ أن نجيب عن هذه الأسئلة يعني أننا لم نكن نعرفه، ومن ثمّ نخونه. ولكن كم مرّة نجا فيها من الموت قبل أن ينام الآن بمحض إرادته؟ كم مرّة قُطّعت شرايينه وظلّ متماسكًا فلم يمت؟
لكأنّه يحدّق بنا الآن ويذكّرنا بميتاته السابقة.
ما يوجد في قهوة الجنرال من سمّ، يوجد أيضًا في قهوة الروائيين والمسرحيين، لأنّ البعض منهم أصبح قاتلًا هو الآخر.
مرّة، منذ أربع سنوات، سألني عن ندوة المسرح في السجون التي قُدّمت في فعاليات أيّام قرطاج المسرحية وتناولت العديد من التجارب التونسية والعربية والأوروبية، وحين أجبتُه كنتُ أعرف أن شريانًا من شرايينه قد توقّف عن العمل. لقد فضّل الصمت ولم يعلّق ولو بكلمة واحدة. يبدو أنّ نبأ (العنبر رقم06 ) لم يصل إلى تلك الندوة ولم يكن ثمّة من يعرف عنه شيئًا فقد قاموا بتجاهل الأمر. التجاهل ضرب من القتل، ضرب من الاغتيال الصامت. المميت في هذه الحكاية هو أنّ المؤسسة التشريعية لم تحتفل بمسرح السجون، عندما يكون السجين هو المسرحي وحامل الرأي العام، بل احتفلت بالمسرح في السجون عندما تواطأت مع المسرحيين والجهاز الأمني كضرب من ضروب الإيهام بدمقرطة السجون وإصلاح المساجين وإعادة إدماجهم في الحياة العامة. الفارق جليّ هنا: بين من يؤسس للمسرح كتقنية مواجَهة ومقاومة، وبين مَن يجعل من المساجين وسيلة للإعماء عن مسالخه البشرية، بين مَن يزرع الحياة في صلب الكارثة ومَن يجعل من الكارثة بضاعة تدخل أسواق الفنّ والرقيق الثقافي. كان غسان على يقين مالح بأنّ المسرح هو الحياة، وليس مجرّد وسيلة لتجميل الفظيع، ولكن أن يتجاهل المسرحيون نبأ العنبر رقم06 يعني أنّه ثمّة ضرب من التواطؤ الجمالي القاتل. لم يعلّق غسان ولكنّ الأسى وصله.
حين سقط أدب السجون في النمطية والتكرار والشعاراتية، ولدت رواية قمل العانة لتوقّع ضربًا من الاستشكال النقدي العنيف، رواية تأتي من داخل الرواية عندما يحدث التداخل بين الخطاب النقدي الإبداعي وقرينه النقدي، فيؤلفا معًا متنًا كتابيًا واحدًا. رواية طغى عليها الخطاب الواصف فانتصرت على ما هو كلاسيكي، ودشّنت أدب السجون ضمن الكتابات ما بعد الحداثية. ولكن حين ولدت هذه الرواية رفضت لجنة الشراءات في وزارة الثقافة التونسية اقتناءها من الناشر. “عنوانها غير أخلاقي وشائن”: هكذا بُرِّرَ المنع، لم يقرأها أعضاء اللجنة إذًا، وأُعدمت بسبب ذائقة جمالية أخلاقية من خلال عنوانها فحسب، لا أحد منهم كان يعرف حينها أن غسان يدشّن الفظيع في رحاب السرد المرح. ولم تصل الرواية إلى غسان إلا بعد وقت طويل من صدورها. كيف لنبأ سردي كهذا أن يُحاكم بالإعدام؟ يبدو أنّه ثمّة شريان آخر في قلب غسان قد توقّف، ومع ذلك كان يبتسم بصبر النبيّ وكبرياء الإله.
حين قُدّمت مسرحية “يا كبير” التي أخرجها رأفت الزاقوت، وعرضها في أيام قرطاج المسرحية سنة 2018، وأقدم الممثل السوري حسين مرعي على تعرية نفسه بالكامل، تحوّل الرأي العام المسرحي برمته إلى ما يشبه المحاكمة الأخلاقية للمهرجان الذي لم يتورّع في نشر بلاغ توضيحي قال فيه “تعبّر الهيئة المديرة لمهرجان أيّام قرطاج المسرحية في دورتها العشرين عن إدانتها ورفضها للممارسة الفردية التي قام بها الممثل المسرحي في العرض السوري الألماني”، هكذا رُمِيَ الممثل إلى محرقة الرأي العام في وضع عمومي تسيطر عليه التجاذبات السياسية الطاحنة. حينها لم يصمت غسان، لقد كان يسعى لتحرير الحقيقة من نسيج العنكبوت، سأل في المرة الأولى عن موقف الكبار في المسرح التونسي: توفيق الجبالي والفاضل الجعايبي، وفي المرة الثانية أعطى للآراء الهامشية حقها في التعبير وذلك من خلال مقالتين عن هذا الحدث نُشِرتا تباعًا في شبكة جيرون الإعلامية. كان على يقين محزن بأنّ السوريين في كلّ أرض هم محلّ سؤال، كان على يقين قاتل بأنّه لا وصاية يجب أن تكون على الفنّ، ولأنّه يواكب عن كثب مشهدًا كهذا فقد راح شريان آخر يتمزّق في جسده.
حين وصل الفريق السوري لمسرحية “كحل عربي” لمخرجته سوزان علي إلى تونس للمشاركة في الدورة الثانية من مهرجان قرطاج الدولي للمونودراما، لم يحدّثني غسان إطلاقًا عن الاختلافات السياسية معهم، على الرغم من صلابته ومواقفه السياسية الصارمة، بل قال لي: “دير بالك ع السوريين”، لقد كان قلبه مؤهلًا للغفران على الرغم من الشرايين الممزقة داخله.
لم يكن وطنيًا فحسب، بل كان جرحه أبعد من الخرائط أيضًا.
“على الممثلين أن يتقمصوا أرواح شخصياتهم قبل بدء العرض بوقت طويل”، هكذا وقّع غسان في روايته “قهوة الجنرال” أسوة بالمخرج الروسي مايرخولد الذي شطبه يوسف ستالين من الوجود، ومثله أيضًا شُطِب الممثل السوري الذي كان يتأهب لتقديم شخصية الجنرال “رودلفو غرازياني” الذي ارتدى بزّة العماد المثقلة بالنياشين وسار في الشارع مرفوع الرأس فألقوا القبض عليه قبل أن يصل إلى نادي الضباط القديم”، لقد ظنوا أنّه مجرم أو مخرّب للنظام ولم يعتقدوا أبدًا أنه مجرّد ممثل يتأهب لتقمّص روح ذلك الجنرال. فكيف؟ كيف نحترم أنظمة فاشية لا تفرّق بعد بين الممثل والشخصية؟ هذا وحده يدفعنا إلى الغضب أو الانتحار، وهذا وحده يوكّد أن ما في قهوة الجنرال سوى السمّ والعماء.
لنسجّل إذًا، في معرض المزايدة، أنّه لا يمكن المزايدة عن غسان أبدًا، فهو لم يصمد في السجون فحسب، بل واجه السجون الخارجية أيضًا، تلك التي شيّدها المتكلمون باسم الفنّ من روائيين ومسرحيين ورسامين وسينمائيين، لقد عاش في السؤال ومات في السؤال أيضًا.
وأن يموت غسّان داخل سردية من الأسئلة يعني أنّ غروبه علامة رمزية على ولادة سؤال جديد من شأنه إرباك أيّ نوع من الإجابات التي تحدث من حوله.
أن يموت غسان داخل مستحيلات الثورة السورية وأسئلتها المرّة يعني أنه قليل بصمت الآخرين الذين تخاذلوا أو ناموا تحت أجفان اليأس، يعني أنّه كثير بموته.
ليس الموت عطالة للحياة. الموت فاجعة مريعة من شأنها تذكير الأحياء بالمهمّة النبيلة التي كان يحملها الميّت.
أن يموت غسّان داخل أفق هذه الثورة من دون يأس من غروبها لا يعني أنّ حراسة هذا الحلم أصبح من مهمّات الأحياء وحدهم.
لا يمكن أن يكون غسّان ميتًا صامتًا، من يموت بريئًا من التورّط في مهنة الخائف من حرّاس القيامة والأنظمة الوحشية التي أبدعت في إنتاج المسالخ البشرية أو تخصيب الغيبيات لا يمكن أن يكون ميتًا صامتًا.
ولذلك، فإنّ رحيله يعدّ صدمةً لصمت هؤلاء الأحياء، لتخاذلهم، ومن ثمّ تذكيرهم بذلك الحلم: كيف يمكن لشعب بأسره أن ينام ذليلًا أو مخذولًا أو منكسرًا؟
أن يموت غسان داخل هذا السؤال الأخير يعني أنّه حان الوقت كي نقول: يجب أن يتوقّف هذا القهر.
وغسان مات في هذا المقام غاضبًا، ولذلك فهو ليس ميتًا صامتًا بمجرّد أن قُذف جسده في بطن الأرض ونام، أصبح أكبر من الموت. لقد صدمنا جميعًا، شيء مّا تعطّل في حياتنا نحن، وهذا الفراغ ليس من شأن غسان الآن.
لقد أمضى توقيعه في الحياة بشرف، أهدانا براءته وقفز مبتسمًا بالقرب من الله.
لم يحدث أبدًا أن حاكم الله الثوريين، ولم يحدث أن شيّد لهم السجون، ولن يسمح مطلقًا للشياطين بالتهام لحمهم الملائكي. وحده الحاكم الهوَوي بالتحالف مع نقابات الله فعل ذلك، ووحده الآن مبتهج بهذا الفراغ.
أن يموت غسّان داخل بركان الأسئلة يعني أنّه لم يمت، ولكنّ هذا لا يعني أنّ جسده لم تمزّقه الحمم الساخنة، لقد تجرّأ على سرقة النّار. الكبد التي كانت تنزّ دمًا تحت ضربات مناقير الطير الجارح باسم الحاكم الهووي جعلت منه أكبر من الموت، ولذلك فإنّ الفراغ ليس من شأنه الآن، إنّه شأننا نحن.
هل ثمّة واقعة تراجيدية أعنف من موت غسان كي ننتبه إلى خطر السقوط في مهنة الخادم المطواع لذلك الحاكم الهووي؟
أن يرحل غسان في مثل هذا الوقت يعني أنّه نجا من الموت مرارًا، يعني أنّ كبده كانت تتجدّد كلما تضاعفت ضربات مناقير الطير، يعني أنّ دمه تحوّل إلى حمم ساخنة، يعني أنه كوى جرحه بقبس النار في يده كلّما توغّل الحاكم الهووي في فتحه، يعني أنّ عناده ازداد كلما تكلّمت أحزاب الله معلنةً كرهها للحياة وسلخ البشر في مصانع الغيبيات، يعني أنّه كان من أكثر المدافعين عن جمال الوجود كلّما خيّم الرماد على حياة المسرحيين والروائيين والسينمائيين.
أن يموت غسّان يعني أنّه صار يجب علينا أن نحميه، لقد كان يحمينا جميعًا، نحن الذين أحبَّنا. هل تعبتَ أيّها الجبل؟ مللتَ عواء الرياح القادمة بنبأ جديد حول الشهداء؟ أتعبتك جذورنا الضاربة في قلبك لم تينع أغصان شجيراتها الوحيدات، كي تظلّل قممك الشامخات؟ قتلتك خيانة البعض من الرفاق دلّت المخبرين على الكهوف التي خبّأت فيها الغزلان؟ أضنَتْك الخدوش التي أحدثتها الذئاب على حجارتك فزوّرت قصائدك؟ هل تنبأت مثل ترسياس العرّاف العظيم بعذاب آخر فالتجأتَ إلى الموت علامة تنبهنا؟
الجبل أنت يا غسّان!!!