وداعًا غسان الجباعي

أربعون صباحًا، أربعون مساءً غادرونا مذ غدرتَ بنا، أربعون يومًا مضى من أعمارنا، ومن رحليك صوب الغياب.
ماذا نقول؟ أنردد كلماتِ محمود درويش بأربعين ممدوح عدوان؟ أو نجترح مفرداتِ رثاء جديدة، نودّع عبرها بعضًا من بعضك وبعضنا معًا، علّنا لا نجد يومًا من يرثينا، أو يلقي السلام على نعوشنا. ونحن من أبى الظلم إلا أن يغرق جيلنا بأكمله، بقصدية موت داكن، بعد أن تسلخت جلودنا بالكرابيج المفتولة بكلابات استبداد وقمع قَبَض بكلتا يديه على وطن، جففَ تربته، ووأد ضرعه، ويبّسَ زرعه، وعرى روح شعبه، وأقالنا من الحياة كمدًا في غفلة زمن وقحٍّ أثقل سنواته علينا؛ نحن أبناء (جيل السبعينيات) بحضور درامي مفتوح على سجون صحرواية وجبلية وسهلية، جيل دفع ثمنًا باهظًا من أعماره، ابتلعتها جدران الزنازين وأقبية التعذيب، ليخرج مكسور الحلم والعمر معًا، حاصدًا الهواء الصامت والرمال المتحركة. وعلى الرغم من ذلك بقي من يصارع في السياسة والأدب والفن.
وغسان من أبرز من قاوم هذا الانكسار بالإنتاج الفني والأدبي المتنوع، وهنا أستحضر ما قاله محمود درويش عن ممدوح عدوان: “كم حيّرني انشقاق طاقتك الإبداعية، كعازف يحتار في أي آلة موسيقية يتلألأ” من المسرح الذي عشقتَ (جنراليوس، الشقيقة، بودي الحارس) وقبل كتابتها، عرضت مسرحيتك الأولى في سجن صيدنايا (عنبر رقم 6)، إلى الدراما بشقيها الاجتماعي (قرن الماعز، تل الرماد، بقايا صور) والتاريخي (عمر الخيام)، إلى القصة القصيرة (أصابع الموز، الوحل) ومرورًا عابرًا إلى الشعر (رغوة الكلام) ومنه إلى الرواية (المطخ، قمل العانة) وصولًا إلى أيقونتك الشهيرة (قهوة الجنرال) وقسوة السرد والعرض الروائي الممسرح والمصمّم على هيئة سجن وطن، من البحر الشمال غربي إلى الجبل الجنوبي وما بينهما من سهول، وعليه يتربع “الأسى” بحسب وصف والدة السجين للدكتاتور.
ولأننا في حضرة غسان الجباعي، علينا أن نخطّ الآن على بازلت السويداء، سويداء القلب أنشودة معجونة بعصير الكروم ووجع السنين على صخور مدببة تميل نحو السواد، وحينًا إلى زرقة سراب تتراءى لنا، تشتعل تحتها مواقد الحطب بعودة بدائية إلى الفقر في زمن (السفر برلك)، ولكنها اليوم في موقعة الدم والنار والظلم والشتات لمعمودية سورية منذ أحد عشر عامًا ونيّف. وفوق ذلك الجبل البازلتي: ناديتُك، وأكرر مناداتك:
يا غسان لم ترد عليّ، هل أنت منزعج مني لأنني لم أحدثك إلا قليلًا؟ مع أن معرفتي بك تعود إلى عام (1981) حيث التقينا في بيت الصديق الفنان (عبد الحكيم قطيفان) وكنت عائدًا توًا من الاتحاد السوفياتي. ومن ثم تهنا في السجون والمعتقلات معًا، وأخذتنا في ما بعد سبل الحياة، لذا لم تكن قلة الكلام إلا تقصيرًا مني لا أكثر. ردّ عليّ! أعلم أن العند مرض أصاب كلينا، لذا بقينا نفترش العتمة وننتظر الضوء من ثنائيتك الشهيرة المسرحية والعرفانية بتضاد المعاني الوجودي، ليبقى وجودنا هنا ممسوكًا بتراب أرض، مرّغ وما زال يمرّغ وجوهنا، ويعفر أجسادنا، ولكنه تراب بلدنا المبعثر الذي سطا عليه، وسرقه لئام الأرض، وحولوه إلى لعبة كرهها اللاعبون، فمزقوا أعضاءها ورموها. غسان يا رفيق درب وجع وطّأته، قصرت أعمارنا، وجعلتنا ننظر إلى عجزنا في صعود أسوار عالية، علّنا نصل إلى عقد نجوم يضيء رؤانا، بعد أن تكسرت أضلاعنا، والآن رقابنا، وخانتنا أقدامنا ووضعنا أيضًا، ومع ذلك لا زلنا نقارع، بما تبقّى من حطامنا مرّ الدفلى وعلقم القهر، قهر وطن تناهشت جغرافيته ذئاب الداخل والخارج، وتوازعه الشرق والغرب وسدنتهم الفاسدين، وعلى الرغم من ذلك أكملتَ مشوار تحديك، وبقيتَ هنا بلا كهرباء ولا ماء ولا تدفئة ولا خبز ولا حرية في بلد ممدّد على سرير موت زؤام، يأتيه ويأتينا بالمفرّق والجملة. ولم يبق لنا إلا الله الذي أغلق ابواب سماواته السبع أمام الشفاعة.
أعلم أني تهتُ في الكلام، لكني سأختار خاتمته بالقسم “والتين” فقط، لاشتراكنا معًا في حبه سواء أكان لبه سماقيًا أم يميل إلى نبيذ اللون والتربة ملفوف على زيتون مقطع الأغصان.
ولأني دخلتُ دائرة القسم أقول لك: وأنتَ من استلّ قلمه، وكتب بوجه القمع والدكتاتورية وقهر المجتمع وإفقاره وتجويعه وترميل نسائه، على الرغم من محاولات النظام إسكاتك وإخراسنا بالمعتقلات وباقي صنوف الترهيب ومن بينها سجن تدمر المميت، والمسلخ الحالي صيدنايا، حيث نزلتَ وآخرون ضيوفًا غير أعزاء. و”بالتين” ثانيةً إننا لن نصمت، وسنرفع صوتنا في وجه الذلّ والجوع والقتل، وحكم المافيات القابضة على أرضنا وشعبنا، والذي شتّتنا في أصقاع الأرض، وتركنا نتسول العالم.

مشاركة: