غسان من الناس الذين تأسف أنّ دروب الحياة لم تجمعك بهم، ولا دروب السجن. وحين تأمل أن تصحح الأحوال هذا الخطأ يومًا ما، يرحل غسان ويضيع عليك هذا الأمل.
تعرفتُ إلى غسان من خلال كتابتي في القسم الثقافي من موقع جيرون، وكان هو مدير تحرير هذا القسم. كانت كل مادة أرسلها له مناسَبة لحديث يطول أو يقصر. كان كلامه قليلًا ولكنه كثيف ويدفعك إلى التأمل. ذات مرة أرسلت له نصًا أدبيًا بعنوان “إلى أختي الصغيرة”، أختي التي توفَّت وهي طفلة بمرض لا يزال يقهر البشر ويتحدى قدراتهم العلمية والعاطفية كلّها. كانت الوفاة الأولى في عائلتنا الصغيرة، وكانت نكبتنا بها كبيرة. علّقنا صورتها على الحائط كعادة العائلات الريفية التي تقاوم النسيان بصور وجوه الراحلين. حفرت صورة أختي هذه أثرًا عميقًا في ذاكرتي، كانت تنظر إلينا من على الحائط بطريقة لا أفهمها، هل تعبّر لنا عن شوقها، أم عن عتبها على أننا لا نزال أحياء، أم أنها تأسف على حياة خُطفت منها قبل أن تبدأ. في ذلك النص، عبّرتُ عن إحساسي بتلك النظرة فوصفتُها بأنها “نظرة جارحة”، هكذا جاءني التعبير، وهكذا أرسلتُه على غسان. ثم بعد حين استدركت واتصلت به كي أغيّر هذا الوصف، وحين استفسر عن السبب قلت إن تعبير “نظرة جارحة” لها في الوعي العام مدلول مبتذل. رفض غسان أن يغير العبارة وقال لي ما لن أنساه أبدًا، وما يدل على عمق إحساسه: “سوف يتلقاها القارئ كما تقصدها أنت”. كم يفتح هذا الرأي من آفاق في اللغة، فلا تكون اللغة قيدًا ولا تكون الكلمات حجارة صماء، بل بالأحرى غيوم صغيرة تُشكَّل وتُشحن بالمعنى كما يشاء لها الكاتب.
بعد فترة من تعارفنا هذا، أرسل لي غسان روايته “قهوة الجنرال” التي حازت على جائزة المزرعة في 2014. وحين تحدثنا عنها قلتُ له إنك قاسٍ على القارئ، فأنت تقطع الأكسجين بصورة تامة عن قارئك. فضحك وقال كيف لي أن أمد القارئ بما لا أملك.
بالفعل كانت قراءة هذه الرواية تجربة في الاختناق. من الصفحة الأولى، بل من السطور الأولى، تجثم صخرة ثقيلة على صدرك، ولا تحيد عن صدرك حتى النهاية، بل إنها تزداد ثقلًا.
“مقعدان من حجر فوق جرفٍ يطلّ على البحر، على المقعد الأول كهل جاف يابس الوجه يتنصت على كلام الموج بأذنين مستديرتين، ويكاد الزبد يغسل قدمه الخشبية الممدودة إلى البحر أكثر من اللازم، على المقعد الثاني فراغ تملؤه امرأة ممتلئة، ترفع وجهها الترابي نحو الجبل الشاهق ولا تراه. عيناها مطفأتان وحلمها الوحيد بعيد خلف الضباب، جبل وبحر وذاكرة رمل، ومقعدان من حجر وحشي عتيق غطته الطحالب، عفن مزمن باهت ونقوش غزاة عتقتها العداوة اللولبية والثأر القديم”.
هكذا منذ البداية، بكلمات ثقيلة كالرصاص، وبعبارات تستهدف وارد القلب من الأكسجين، يستهلك غسان طاقتك وكأنه يتحداك أن تكمل قراءة وصف معاناة، فكيف عيشها!
ضحك غسان أيضًا حين عبّرت له عن احتجاجي على عنوان روايته الأخيرة “قمل العانة”، قلتُ له كأنك بهذا العنوان تريد أن تصدّ القارئ، أو أن تختار لروايتك قرّاءً من نمط خاص لا يصدّه العنوان عن قراءة المحتوى. فكان منه أن ضحك بطفولة بالغٍ حزين.
في أمان الله يا غسان.