المثقف المنحاز إلى الإنسان

كلما سمعت بكلمة مثقف تحسّست مسدسي، هذا ما قاله غوبلز رجل الدكتاتور الأول.
هذه هي الحال ما بين الثقافة والاستبداد والذي خصها غسان في كتابه مطولًا.
ولكن، ولأن الثقافة دائمًا منحازة إلى الإنسان وإلى آماله وآلامه وأحلامه وطموحاته ومسقبله، ولأنها الضمير لهذا الفضاء الإنساني الشاسع… ولأن المثقف الحقيقي لا يمكن أن يساوم على مبادئه وأهدافه ورؤيته ولا على المستقبل الذي يراه حتميًا مهما طال الزمن… لهذا فالثقافة حتمًا هي التي ستنتصر وتسود وأما الاستبداد آجلًا أم عاجلًا فهو إلى زوال …
غسان الجباعي واحدٌ من أولئك الأحرار الذين أصروا على المواجهة من داخل السجن ومن خارجه، فتحلى بالشجاعة وبدأ مسيرته الحافلة بالكبرياء والفخر… فكلل نفسه رجلًا حرًا كريمًا أصيلًا.
هذا الرجل البسيط الحازم القوي العاشق المليء بالحب، حاصره العفن المسموم من كلِّ حدبٍ وصوب، فحطم هذا الحصار وحلّق بأجنحته كطائر يعشق الحرية ويعشق السماء …
قال ماركيز عندما منعوه من دخول أميركا للمشاركة بندوةٍ حوارية حول روايته مائة عام من العزلة قال:
هؤلاء الأغبياء لا يعرفون بأن تأثير الكاتب ليس بجسده بل بأفكاره… وأفكاري الآن دخلت بلادهم دون تأشيرة دخول..
نعم هو كذلك، هؤلاء الأغبياء الذين يعتقلون كاتبًا أو مبدعًا أو سياسيًا ويسجنونه، يظنون أنهم منعوه من التواصل مع الناس أو الوصول إليهم … ولا يعرفون بأن أفكاره قد اخترقت جدرانهم السميكة الصلبة الباردة ووصل إليهم دون رقيبٍ أو حسيب.
أراد أن يُلقنهم درسًا في الشجاعة والإصرار على مواجهتهم، فواجههم بما يعشق ويُتقن.. وهو المسرح الذي كانوا يخشونه ويتوجسّون منه هناك على مسارح المدن والساحات، فما بالك أن يكون هنا في عقر دارهم.. فأقدم بجنون مبدعٍ خلاق، هو ومجموعة من أصدقائه، وبدؤوا العمل في المهجع واختاروا مسرحية “عنبر رقم 6” لتشيخوف، ولأنهم يفتقرون إلى كل المفردات الضرورية للعمل المسرحي من ديكور وإكسسوار وإضاءة، عداك طبعًا عن مفردات الحياة اليومية الأساسية، فأوجدوا حلولًا جميلةً ومبدعة وكانوا يعملون بمتعةٍ وصمت …
وعندما أصبح الحلم قاب قوسين أو أدنى، تنبهوا لهم وأمروا بالفصل فيما بينهم وشردوهم مرةً أخرى وقاموا بتوزيعهم على المهاجع الأخرى وهكذا تبدد الحلم … وتبددت هذه المحاولة الجميلة الحضارية … وعندما خرج غسان من السجن، كان أول ما أراد أن يفعله، هو أن يُكمل ما بدأه في السجن فعاد إلى “العنبر رقم 6” وبدأ بالعمل وبالبروفات لساعاتٍ طويلة ولفترةٍ طويلة، وكاد أن ينتهي من البروفات ليبدأ العرض ولكن الخيانة تضرب من جديد، ولكن هذه المرة ليست من السجان بل من الفنان أو من مدعيّ الفن والمسرح، من ممثلَين ومخرج يُفترض أنه صديق ويدعون أنهم عرابو المسرح، ومع هذا، ومع ألم الصدمة والتجربة، أكمل مشواره بكل ثقةٍ وحب …
قال ذات مرة وهو خلف قضبانهم المقيتة:
أفنتِ القضبان عُمرَها وهي واقفة أمامي.. قضبانٌ من حديدٍ مدهونةٌ بالرماد..
وأنا خلفها مدهونٌ بالدم واللحم..
والقلبُ غُرابٌ ينعق …
عندما نقول لا للظلم فإنما نقول نعم للحرية والمساواة..
وعندما نقول لا للقتل فإنما نقول نعم للحياة والحب …
وعندما نقول لا للاعتقال فإنما نقول نعم للحرية والكرامة الإنسانية …
إنها دعوةٌ لتقديس الجمال والقيم السامية فينا وصرخةٌ بوجه البشاعة والخسة البشرية..
في إحدى اللقاءات معه قال:
الحياة جميلة جدًا ولا تتكرر والإنسان يعيشها مرةً واحدة …
أريد أن أقول وجهة نظري في هذه الحياة وأمشي..
أنا أشعر أن هناك معركةً بين الإنسان وإنسانيته..
هناك عوامل كثيرة تدفع الإنسان إلى الحيوانية …
أتمنى أن يحصل الإنسان على الجمال الموجود بداخله …
هذا هو المنطلق الذي انطلق منه غسان في المسرح والرواية والقصة والشعر والعمل السياسي ليصبح هذا الإنسان مصدرًا لكل ما قاله، فتحدث عن الجمال والحب والحرية والوطن والمواطنة والعدالة والمساواة وعن الاستبداد والظلم وعن الحرية والكرامة الإنسانية، وكل ما من شأنه أن يعزز وجود الإنسان الجميل الذي أراده أن يكون، ولهذا أيها الجميل يا غسان أنت لن تموت …
وفي النهاية سألوه عن حلمه؟ فأخذ نفسًا عميقًا من سيجارته وصمتّ قليلًا، ثم قال:
أحلم … أحلم أن تكون هذه الحياة بدون سجون.. بدون أي نوعٍ من السجون..
أنا لا أقصد الجدران والقضبان وإنما كلّ أنواع الجدران وكلّ أنواع القضبان..
بما فيها قُضبان القفص الصدري ….
رحم الله أخي غسان… ولكم أنتم حُسنُ البقاء وطول العمر..
وأشكر لكم هذا الوفاء وهذا التقدير من قبلكم لأخي غسان…. ودمتم بخير …

مشاركة: