الساموراي غسان الجباعي

هل أبالغ إن قلتُ: عاش غسان حياته وأنهاها على طريقة فرسان الساموراي، وإن يكن بأدوات أخرى اخترعها بنفسه؟
في ظني أن غسان قد تعب وملّ في أواخر أيامه، وربما زهق من كلّ شيء.
لا أقول: انتحرَ أو فقدَ الأمل، بل أقول: ربما تعب على المستوى الشخصي، وقرّر أن يهملَ نفسه حيث أصبح الموت والحياة بالنسبة إليه سيّان، بعد أن فعل ما فعل، وكتب ما كتب، وخاض في دروب وعرة، دفاعًا عن الجمال في وجه القبح، وعن الحرية في مواجهة الاستبداد، وعن الحب في مواجهة الكراهية، وعن الكرامة في مواجهة الذلّ والإذلال.
إن هواجس الموت واضحة ما بين سطوره إذ يقول:
تذّكر …….
أنك جرمٌ صغير
وفيك انطوى العالمُ الأكبر
عندما يصبح جسدكَ نعشًا لقلبك
وتنثرُ النجومُ دموعَها على كتفيك
عندما تمشي مقبرتُك أمامك
ويذبل طوقُ الورد بين يديك
تذكّرْ أن شاهدة قبرك هي صدرك
نصفُكَ الصاحي
ونبراسُ غيابك
سواء كانت من رخامكَ
أو ترابك.
ألا يحق للفارس أن يستريحْ؟
أعتقد أن غسان أراد أن يأخذ غفوةً، بعد عمر قضاه في مقارعة الخوف والفقر والذل والاستبداد.
أُصيبَ غسان برأيي بلوثتَي المسرح والمعتقل اللتان رسمتا مسار حياته .
يقول في سياق حديثه عن دراسته الأكاديمية للإخراج المسرحي: “كنا نأخذ دروسًا كأنها تمارين، يُطلق عليها اسم “مراقبة”، وهي لا تعني الرصد أو الملاحظة فحسب، بل تعني أيضًا الكشف والمعنى والتأمّل في الحياة. كان علينا أن نراقبَ الحياة وسلوك الناس، ونماذجهم وطباعهم وردّات أفعالهم، أو الحوادث الحياتية التي تحمل معنى دراميًا يستحق المناقشة”.
لقد تمثّل غسان تلك المسائل كلها، وتطبّع بها تطبّعًا عميقًا، وأضاف إليها خبرة تجاربه الحياتية الثريّة، بحيث غدت جزءًا من شخصيته، وآلية تفكيره. ليس على خشبة المسرح فحسب، بل في الحياة بشكل عام. هو في الأساس شخصٌ مرهف، شديد الحساسية ولديه قدرة على التقاط ما يدور حوله من حوادث وتناقضات، فكيف إذا امتلك إضافةً إلى ذلك أدوات قراءة الوجوه وطبائع البشر وسبر أغوارهم؟
لقد ساعدته تلك اللوثة بالتأكيد في إغناء إبداعه المتنوّع، لكنها في الآن ذاته أرهقته وأتلفت أعصابه. إذ ليس من السهل على أي إنسان تحمّل ذلك الحفز والتوتر المستمر الذي ينهك الروح ويهدم الجسد.
اللوثة الثانية هي تأثيرات تجربة الاعتقال التي خلّفت في داخل غسان شروخًا عميقة، ولعل كل مَن مرّ بتلك التجربة المرّة، سوف يدرك في ظني على نحو أبعد ما سأذهب إليه.
المعتقل: مكانٌ مغلق، معتم، بارد، قاس؛ صُمّمَ خصيصًا كي يحطمَّ المعتقلين جسديًا وروحيًا. غسان الشاب العائد لتوّه إلى وطنه حاملًا شهادة ماجستير في الإخراج المسرحي، ومعها مشاريع أحلام وطموحات للنهوض بالمسرح، وبدلًا من أن تُفتح أمامه أضواء المسرح، زُجَّ به في عتمة المعتقل عشر سنوات عجاف. كانت كفيلة بأن تقتل أجمل ما فيه، لكن إرادة الحياة لها مسارب أخرى، حيث قاوم غسان شروخ روحه، وشعوره بالفقد والانكسار من خلال بحثه عن أدوات أخرى ومواد بسيطة كي يشغلَ نفسه، ويحافظ على توازنه الجسدي والنفسي، لذلك فرّغ طاقته بالنحت وكتابة نصوص شعرية ومسرحية على ورق السجائر كي يخفّفَ من توتره الداخلي، وينقذ نفسه من الجنون. هكذا استطاع البوح عمّا يحتدم في داخله والتعبير عنه “في مكان هُزم فيه التعبير وانتصر الموت” كما قال.
في المعتقل أصبح غسان كاتبًا وشاعرًا، وليس مخرجًا مسرحيًا فحسب!
لعل سمّو الهدف الذي عمل غسان من أجله، ونبالته وما خلّفه من تراث إبداعي متنوّع الأطباق، والأهم نتاجه المسرحي كتابةً وإخراجًا، وتوظيف ذلك كلّه بكلامه الجهير، دفاعًا عن الحرية والكرامة الإنسانية هو ما يخفّفُ من وطأة آلام فجيعتنا برحيله المبكّر.
أجدّد تعازيّ الحارة لرفيقة دربه الصديقة رغدة الخطيب وإلى أبنائه: عمر، إيفا، أنيس، البراء، وإلى أخوته وأصدقائه وجميع محبّيه.
وردٌ وشموع لروحك الطليقة الحاضرة بيننا يا غسان.
ارقد بسلام يا صديقي.

مشاركة: