الراحل غسان الجباعي مبدع وحاضن للإبداع

“قمل العانة” توكّد عمق فكره وثراء تجاربه.
لم يكن غسان الجباعي، رحمه الله، مبدعًا “شموليًا” وحسب، بل كان حاضنًا للمبدعين عامة، وللشبّان داخل سورية وخارجها خاصة، وهناك الكثير من الأعمال الأدبية تابعها عن كثب وشجع أصحابها، ورشّحها للنقاد من الأصدقاء كي يلقوا الضوء عليها، أو يقدموا عنها قراءات نقدية تُعرّفها وتفيد مبدعيها.
لروحه الرحمة والسلام، لقد منح الصداقة نسيجًا دمثًا وإخلاصًا متجددًا، وللتواضع بعدًا معرفيًا عميقًا وأسئلة رحبة، وللصمت معاني مغايرة للرجولة؛ ولم يترك غسان إرثًا أدبيًا وفنيًا وثقافيًا وجماليًا وحسب، بل ترك إرثًا أخلاقيًا ونضاليًا وإنسانيًا أيضًا.
وإن كان إرثه الإبداعي بتنوعه يقربه من الكاتب “الشمولي” فإن روايته “قمل العانة” بعنوانها الغريب الموحي، تكثّف هذه الشمولية في عمل واحد، وتجدد لغسان تألقه وألقه، وتوكّد ثراء تجاربه، وغنى أفكاره وعمق مرجعياته.
والإهداء في هذه الرواية: (إلى أصدقائي الموتى الجالسين في القبور) الذي يشي بإخلاصه الأبدي، وحزنه العميق الشفيف على ما حدث ويحدث، يعود بنا إليه ويجدد عزاءنا للجميع وافتقادنا له.
في “قمل العانة” غسان الشاعر بلغته الجزلة الرشيقة، الموحية بدلالاتها وأبعادها المجازية والحسية والجمالية، وغسان الفنان التشكيلي الذي يكتب بالريشة، ويلوّن بالرماد، وغسان المسرحي الذي يمنح لحوادث شخصياته مشهديةً لافتةً وفانتازيا خاصة، وغسان المثقف المطّلع على تفاصيل الحياة الدقيقة بأبعادها الفلسفية والنفسية “التحليلية” والجسدية والطبية والعلمية والسياسية والأيديولوجية، وغسان الروائي والقاص الذي يكتب الرواية من الرواية وبالرواية، ويمتلك رؤيا الحكايا وتقنيات التخييل والسرد.
رواية “قمل العانة” تأخذك بنسيج لغتها وتداخل شخصياتها بحوادثها إلى رواية جديدة، رواية تكتب روايةً بلغة تُرسم مجازاتها بالريشة، وتمزج ألونها بماء الرماد؛ رواية لا تحدد تاريخ أزمنتها روزنامة يومياتها! قبو في داريّا السورية هو الميقاتية التي يحركها عنكبوت الوقت، فيغدو المساء قبل السجن بقليل ومنتصف النهار بعد الهذيان ببارجة، والليل قبل الكندرة الصفراء بجرذ مفزع، هكذا ارتجاج الأرض بالدمار والموت، اهتزاز لكائناتها بتناقضاتها وخيباتها، بكذبها المدهش وحقيقة وهمها المفعمة بالخوف. إنها رواية (بفانتازيا) شكّلها تداخل السرد والبناء، وتكنيك الروي ووهم الشخصيات وحقيقتها، ووجودها وغيابها؛ لكنها شخصيات ذات مرجعيات فزعة وموتورة وقلقة، وقاتلة ومقتولة، تلك التي تحكي عنها الرواية وتلك التي تكتب الرواية. فمن سيكتب من؟ ومن يضلل القارئ ثم يعود لينير ما بين سطوره متذرعًا به؟
إنها رواية من رماد الحرب، يرسمها فنانون تشكيليون ينحتون شخصياتها ببعدها الثالث وحركتها في لوحات حوادثها، يمزجون طباعها من صنّاع الحرب وضحاياها، ومن ضحايا القتلة وصنّاعهم المهزومين من دواخلهم، والممسوسين بالوساوس القهرية. رواية من عتمة السجون ومخاضها الأبدي، من “خوف” ما بعد القضبان وما قبل الموت، تشكيليون يتشكلون ويلهثون بزمن الخوف ويرسمون جغرافيا خلقه وحتفه.
فانتازيا بإيقاع يخبو ويعلو، يتجلى غموضًا مفعمًا بالأسئلة، وينبسط رتيبًا يربك خيال القارئ ويوقد ذهنه، وتصير كل حكاية منشورة على حبال غسيلها، لكنها في شرفة رواية واحدة مطلة على البحر. لذا، كلما جددنا قراءتنا لرواية “قمل العانة” علينا تفكيكها إلى حكايات، أو البدء من نهايتها لنقول: (غسان وهند) قررا كتابة رواية، ولكن من هو غسان؟ الراوي أم الكاتب أم غسان الجباعي لروحه الرحمة والسلام. أم هند؟ ومن هي هند؟ طهران زهر البان أم ميساء أم زوجة الجنرال أم عشيقة جفان؟

  • كاتب وصحافي فلسطيني، بدأ بنشر المقالات الأدبية والسياسية والقصص والقصائد في الدوريات العربية واللبنانية والسورية والفلسطينية منذ بداية الثمانينيات. نشر العديد من القراءات النقدية حول بعض أعمال روائيين وقاصين عالميين ومحليين. أصدر مجموعتين قصصيتين، الأولى عن دار كنعان عام 1992 بعنوان "امرأة تلامس الرائحة"، والثانية عن دار حوران عام 2001 بعنوان "شقائق البحر". صدر له في عام 2022 كتاب "حوارات الترجمة" عن دار كنعان للدراسة والنشر في دمشق.

مشاركة: