غسان حيٌّ مقيم

بينما كنت أتهيأ لرياضة المشي صباحًا، صعقني الواتس بنبأ رحيلك، وأسرع بي النبأ إلى سور الجامعة القريب من البيت.
منذ سنوات بات يرابط أمام الباب الذي يخترق السور ثلاثة على الأقل من رجال الأمن، يراقبون البطاقات الجامعية التي يشهرها الطلبة، ثم تشير نظرة أو حركة إصبع بالدخول. قبل ذلك، أي قبل سنوات، كنتُ أفضل المشي الصباحي في حدائق وشوارع الجامعة. لكنني ابتعدتُ عن المكان لأمر أنتَ أدرى به، حتى أعادني إليه نبأ رحيلك، أتعلم لماذا؟
لأن أول ما اجتاحني وأنا أكذّب الواتس وأصدقه هو أنك كنت بالأمس فقط شابًا طالبًا في هذه الجامعة، وتدرس الأدب العربي. ما كانت الوضحات قد تظللت بالصنوبر والحور والسرو. ما كان الطلبة قد صاروا عشرات الآلاف. ألم تكن تسير هنا، وتغازل هناك، وتضحك؟
لم يعترض المرابطون سبيلي. ربما حسبوا أنني أستاذ مدرّس في الجامعة. ربما أعمى الله أبصارهم حتى ييسر لي أن أتنسم عبقك الذي لا يزال فواحًا. ولكي يصير هذا الصباح صباحك –من قال إنه صباح رحيلك؟- ها أنا أقابل الدكتور م.خ. وجهًا لوجه، هل تذكره؟
كنتُ أعلم أنك وإياه كنتما عضوين في حزب البعث الديمقراطي، السري المحظور، لذلك بادرته بنبأ الواتس الكاذب. بدا الرجل كأن النبأ صعقه هو الآخر، وبدأ يكلمني ويكلم نفسه، وبدت كلماته ذاهلة وتمتمةً وصامتةً.
من أسداف أربعين سنة ها أنت تدخل إلى المهجع في السجن، ربما باللباس العسكري، ليس م.خ متيقنًا الآن مما كان قبل أربعين سنة. ربما كنت تؤدي الخدمة الإلزامية. كنت غضًا ومرتبكًا، وفي المهجع معتقلون من الإخوان المسلمين مع المعتقلين منكم. لكأن م.خ يسألك الآن عن تهمتك، بحسب تقاليد المهاجع في السجون. عندما ذكرتَ له التهمة ضمّك إلى (جماعتكم). كنا سبعة وعشرين –قال– وكان الإخوان المسلمون أضعافنا: هذا محشر وليس مهجعًا.
قال م.خ.: غسان شاعر وفنان. غسان نحّات، ما أجمل وأسرع حفره في حبات الزيتون! غسان يأخذونه إلى التحقيق ويعود منهنهًا. كنا معًا في سجن تدمر. نقلونا إلى سجن صيدنايا. أفردونا -نحن معتقلو البعث الديمقراطي، وكنا قرابة مئة وثلاثين معتقلًا- في جناح خاص مكوّن من عشرة مهاجع. هنا انفصلنا: غسان في مهجع، وأنا في آخر. غسان كاتب. لو رأيتَ فرحته حين سمحوا لنا بالدفاتر وهو بيننا. كتب تلّ الرماد، غسان ممثل ومخرج. قدّم مسرحية في السجن ناقدة لنا. كان لي نصيبي من نقد المسرحية بدعوى أنني حنبلي في الانضباط. سنة 1991 أفرجوا عن 2000 معتقل منا ومن الإخوان والرابطة، وخرج غسان. أبقوا من حزبنا اثنين وخمسين، كنتُ من بينهم، وخرجنا بعد ثلاث سنوات. وتأسف م.خ لأنه فقد أي صلة معك منذ ثلاثين سنة.
افترقنا وأسرعتُ إلى غابة الصنوبر المحاذية للأوتستراد. أخذت الغابة تتخلّق بالسنديان والبلوط والزعرور وخوخ الدب والبربور والبلقوق والغار والقصب والغفص والصبار والزيزفون والتوت الأبيض والتوت الأسود والسماق، أي صارت غابة في الجولان، وفي سرّتها وليدٌ سيكون اسمه غسان الجباعي: هنا القنيطرة.
منذ أن تلقيت الدعوة إلى المشاركة في أربعينيتك وأنا في دُوَار. أعدت قراءة رواياتك الثلاث. فكرتُ في أن أكتب عن مسرحة السرد فيها، بل عن التجريبية فيها وفي قصصك جميعًا.
الآن أتذكر أني قرأتُ قصة (أصابع الموز) في مجلة المعرفة سنة 1993. أتذكر أني قرأتُ قصة (الوحل) في مجلة لبنان الكويتية، ربما سنة 1996. أتذكر قصة (العريف الأبله) ربما سنة 1999: هذا العسكري الذي جعل العلم المرفرف قائده، ومنه طلب إجازة، فعدّوه متمردًا، وعوقب بالسجن. أعادتني قصتك إلى مدرسة المشاة في المسلّمية بسوار حلب، حيث أديتُ أشهرًا من الخدمة الإلزامية. فكرت في أن أكتب عن إنجازك الروائي، حيث اندغم الكاتب بالمسرحي بالممثل بالمخرج بالنحات بالتشكيلي فيك، مثلما اندغمت الفنون برواياتك: التشكيل في (قمل العانة)، التيليفزيون في (المطخ)، المسرح في قهوة الجنرال. لا أدري إن كنت قد صادفت ما كتبتَ مرة بعد مرة متجهدًا بالتفاعل بين الرواية والفنون.
للأسف ما عدنا التقينا منذ..؟ منذ متى يا غسان؟ ربما منذ تلك السهرة العاصفة في بيت أسعد فضة، كانت مها، مها الصالح، ومن كان خامسنا؟ أدونيس؟ وسادسنا: بدر الدين عرودكي؟ وسابعنا: نعمت خالد؟ ومن أيضًا؟
من السهرة الطويلة إلى الطريق الطويل من أوتوستراد المزة إلى عدرا، وأنت تفتّق القول في جواهر الإبداع: إنها التفاصيل. هل أوصلتُك بعد منتصف الليل إلى عدرا أم إلى أين؟
الآن ينقذني غسان من الدُّوَار، فأردد خلف أكرم في رواية (المطخ) حين انتهت مشاهدته للمسلسل، فأعلن أنه بعد تدمير البلد: “لم أعد في حاجة إلا إلى شيء واحد فقط: أن أموت مطمئنًا، وأن أكون منسجمًا مع نفسي”.
هل هذا أكرم أم غسان؟
لكن غسان لم يرحل مطمئنًا. رحل غسان منسجمًا مع نفسه: لم يجبن يومًا، لم يتلوّث بالثأرية أو المعصومية ولا بوسخ السياسة، لم يتنرجس، لم ينصّب نفسه قيّمًا على الثورة، لم تتزغلل عينه النقدية، لذلك هو حيٌّ مقيم.

مشاركة: