المرأة السورية حين تكتب في أدب السجون

يؤكد المؤرخ كمال ديب في كتابه “تاريخ سورية المعاصر، من الانتداب الفرنسي إلى صيف 2011” على أن سوريا، و طوال 40 سنة، لم تعرف مصدرًا للأخبار سوى وكالة إخبارية وحيدة هي وكالة “سانا” الرسمية التي تأسست العام 1965، وثلاث صحف يومية يتحكم فيها النظام الحاكم بشكل مطلق، ثم ظهرت عام 2003 صحيفة “الدومري” الساخرة، إلا أن الأمن السوري أغلقها بعد سبعة أشهر من تاريخ صدورها، لتظهر مكانها صحيفة “الوطن” التي يمتلكها رامي مخلوف والذي كان حتى وقت قصير المتحكِّم بكل اقتصاد وسياسة البلد، كما ظهرت قناة “الدنيا” التلفزيونية، الملو كة لمحمد حمشو.
من هذا التعتيم الإعلامي المطلق، تأتي أهميّة الروايات التي تسمى بأدب السجون خاصة، فقد نقلت بشكل توثيقي ما يحصل داخل السجون إلى أي شخص يمتلك رأيًا، سواء كان صاحب الرأي سياسيًا أم فنانًا أم كاتبًا أم إنسانًا عاديًا، فقد كان على الجميع أن يدخلوا بوابة الجحيم، وقد كثرت روايات السجون السورية لدرجة جعلت الشاعر والمعتقل السوري فرج بيرقدار يصرِّح بأن “المستقبل سيرشِّح الكتّاب السوريين كأكبر تراث عالمي في أدب السجون”.
وكما يقول الروائي القطري عبد العزيز أل محمود “إن الرواية السياسية تنضج في الدول الدكتاتورية وفي ظلّ الأنظمة الشمولية، لكون مفردات السياسة بهذه البلدان تمثِّل متنفّس البشر وغذاءهم اليومي”، فقد نضجت هذه الروايات في سوريا، لدرجة أن أكثر من مئة رواية ومسرحية وكتاب تحدثت عن السجون السورية، وقد كان من الملفت للنظر تعدُّد الروايات المكتوبة بيد كاتبات سوريات أثبتن حضورهن في الوسط الأدبي والاجتماعي.
وكما يقول الناقد جاك رانسيبر: “إن الروايات السياسية قوية يتلقّفها القارئ بكل نهم” فقد تلقَّف السوريون رواية السجون السورية بشكل عام، والروايات المكتوبة بيد المرأة الروائية بشكل خاص، الأمر الذي يشير دون ريب إلى تقدّم إيجابي واضح في نظرة المجتمع السوري إلى المرأة، وإلى تطور رؤيتها لذاتها، ودورها في المجتمع. كما يشير وبقوة إلى ازدياد كسر المرأة لجدار الخوف من السلطة السياسية القمعية وأيضًا من السلطة الاجتماعية في البلاد، حيث أبدت الكاتبات اهتمامًا أكبر بالهمّ العام، وحاولنّ أن يقدمنّ رؤيتهنّ للواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للمجتمع السوري المعاصر، في أريافه وباديته ومدنه، وأيضا في سجونه السياسية.
وهنا يمكن تقسيم حضور أدب السجون المكتوب بأيدي روائيات سوريات إلى قسمين:
ما قبل عام 2011
هنا نذكر على سبيل المثال لا الحصر، رواية “خمس دقائق وحسب. تسع سنوات في السجون السورية” للروائية هبة الدباغ التي كانت قد اعتُقلت لأن أخاها متهم بالانتماء إلى حركة الإخوان، وخرجت من السجن لتجد أن كل عائلتها قد قُتلت في مذبحة حماه، ورواية “الشرنقة” للكاتبة السورية حسيبة عبد الرحمن عن تجربتها في سجن “دوما”، وسجلت الفلسطينية مي الحافظ “عينك على السفينة” عن تجربة شخصية أيضًا، كما كتبت روزا ياسين الحسن روايتها التوثيقية “نيغاتيف. من ذاكرة المعتقلات السياسيات السوريات”، وروايتها الثانية “حراس الهواء” التي عالجت وضع زوجات المعتقلين، والتي سأتناولها بالتفصيل في هذه الموجزة. حيث دخلت الرواية في القائمة الطويلة لـ “جائزة بوكر العربية” لعام 2010، وتُرجمت إلى عدة لغات منها الألمانية.
تتناول الرواية موضوع السجن السياسي من خلال شخصية “عنات”، الراوية وبطلة الرواية، والتي يُعتقل حبيبها بسبب انتسابه إلى حزب ماركسي، فتبقى البطلة وحيدة لسنوات طويلة تقرر فيها أن تُبقي على الحب في داخلها، وأن تسمح أيضا لجسدها بأن يعيش غرائزه، تركّز الرواية على انهيار علاقة السجناء السياسيين مع أحبتهم خارج السجن بسبب حجم التعذيب وبسبب تكسير كرامة الانسان فيه.
الراوية هي شخصية عنات، بطلة الراوية التي تعمل في سفارة أجنبية مع طالبي اللجوء السياسي الذين يحملون معهم آثار تعذيب الأنظمة القمعية العربية على أجسادهم وأرواحهم.
تتميز الرواية بجرأة الكشف عن خصوصية الأنثى التي تسكن جسد الراوية، وعن صراع هذه الأنثى مع السلطات السياسية التي اعتقلت حبيبيها، ومع السلطات الاجتماعية. مقدمة الجدل الذي تعيشه زوجات المعتقلين السياسيين، بين أن يبقين طوال 15 سنة ينتظرن أزواجهن، فتختفي أنوثتهن وتموت في القهر والوحدة في انتظار ذلك الرجل المأزوم الذي يبحث عن خلاصه الفردي بعدما فقد الأمل بكلِّ شيء! مثل شخصية صديقة الرواية المتدينة المحجبة التي أصرت على الوفاء المطلق لزوجها وبقيت تقول لن أخون، لكنها بعد عودة زوجها وجدته خاويًا من أي دفء، كما ناقشت أيضًا القهر الاقتصادي الذي تعانيه هؤلاء النسوة، والذي تمثل في شخصية الراوية المترجمة عنات التي تضطر إلى العمل مع كل معاناتها بسبب حملها، وبسبب قهرها، وفقدها للحب على الرغم من أنها أقامت علاقة جنسية مع زميلها في السفارة، ونجد أيضًا في الرواية نفسها تناولًا عميقًا لانغلاق جزء من المجتمع السوري الذي تمثل في حادثة احتراق الطالبات في حريق مدرسة سعودية للبنات نتيجة للتزمُّت الشديد، وبتناولها العميق أيضا لقضية تنوع الطوائف في سوريا فحبيبها المعتقل الشيوعي هو درزي من السويداء، وهي ابنة الساحل السوري، وصديقاتها بنات دمشق المحجبات، لكن ما يجمعهن أكثر مما يفرقهن على الرغم من الخطاب الطائفي الذي حاول الأسد نشره. تقول روزا في حوار معها “الأقليات بتنوعاتها المتباينة هي الفراغات التي تخلخل السائد، وخربشات الهامش التي تشوّش صلابة المتن وخطوطه المرسومة المطلقة. الحديث عن الأقليات هو حديث عن دوامة إنسانية ضاربة في القدم، وما يعنيني هو الهواجس الداخلية لتلك الشخصيات المهمّشة وما عاشته بغض النظر عن أحقية انتماءاتها وظرفيته” وروزا ياسين هي ابنة المفكر بو علي ياسين الذي كتب “الثالوث المحرم، الدين والجنس والسياسة”، وحسب الناقد الألماني فولكر كامينسكي تُظهِر الرواية على وجه الخصوص اعتدادًا لطيفًا بالنفس لدى أبطالها، وهذا لا يدعو للاستغراب إذا علِمنا أنَّ الكاتبة ناشطة في الحركة النسائية إلى جانب عملها كصحفية أدبية لصالح عدة صحف سورية وعربية، وقد شاركت في تأسيس جمعية “نساء من أجل الديمقراطية” في دمشق.
بعد عام 2011
لقد شكَّلت الثورة السورية، التي اندلعت في مارس/آذار 2011، ما أسماه الروائي نبيل سليمان بالزلازل السوري الذي كان عنيفًا لدرجة أنه شكَّل صدعًا عميقًا في أرض المجتمع السوري.
ولأن تاريخ الرواية يثبت أنها من أقدر الأجناس الأدبيّة على التعامل مع الواقع بكل تناقضاته وتشابكاته، فقد تلقّفت الرواية هذه التغيرات المجتمعية العنيفة، حيث يمكن أن نعدّ حدث الثورة منعطفًا تاريخيًا في مسار الأدب السوري، كما في تاريخ البلد برمته، وقد واكبت الرواية المكتوبة بيد كاتبات سوريات هذا التحوُّل وازدهر عدد الكاتبات اللواتي تناولن توثيق ما حصل في بدايات الثورة، وتوثيق دخول الإسلاميين المتشددين في البلاد، وحاولن إعادة إحياء مرحلة ما قبل الثورة لأنها تشكّل بكل تفاصيلها وأهمها القمع والاعتقال السياسي، تشكّل أهم أسباب الثورة.
وكما تقول كيت ميشيل، فقد حاولت الرواية السورية أن تكون حارسًا لذاكرة مرحلة الثورة السلمية، وأمينة على نقل انفجار الحدث الثوري وما تبعه من تغيرات مجتمعية عميقة.
هنا يمكن لنا أن نذكر رواية تقاطع نيران لسمر يزبك التي اعتمدت على أسلوب الشهادات الشخصية التي عاشتها الكاتبة والتي سجلتها خلال الأشهر الأولى للثورة، وأيضًا رواية الخائفون لديما ونوس حيث تبدأ الأحداث، في دمشق، في غرفة انتظار في عيادة الطبيب النفسي، المكتظة بنساء ورجال، كبار وصغار، وحتى بشبيحة النظام، الذين يعانون من اضطرابات نفسية.
سُليمى بطلة العمل، والراوية تتردَّد إلى هذه العيادة، بسبب ما تعيشه منذ شبابها، ما أسمته بمتلازمة “الخوف من الخوف” التي لازمتها بعد كل ما عاشته من أحداث سياسية تمثّلت بالرعب الدائم من المخابرات، وبتداعيات أحداث مجزرة حماه، وبموت والدها المثقف الرافض لتصرفات طائفته العلوية، وفي هذه العيادة تتعرّف الراوية البطلة على نسيم، الطبيب الكاتب والشاب الوسيم، الذي يعاني أيضًا من متلازمة الخوف، لدرجة أنه قام بوشم اسمه وعنوانه على ظهره بأحرف كبيرة، ليُتَعرَّف عليه في حالة موته في غارة بالقنابل.
تنشأ علاقة حبّ بين سُليمى ونسيم، لكن اعتقال المخابرات لسليم لمدة شهر بحجة أنه التقى بأحد الناشطين السلميين جعله يقرِّر ترك سُليمى ومغادرة سوريا لاجئًا إلى ألمانيا، تاركًا لها بيته ومخطوطة رواية لم تكتمل، يصف فيها مصير امرأة شابة يشبه مصيرها، حينئذ تدخل الرواية مستوى ثان يسمى “أوراق نسيم”، أي رواية داخل رواية، وتكتشف سُليمى أن الرواية تدور حول حياة سلمى المشابهة تماما لحياتها، امرأة فقدت هي أيضًا والدها في مرحلة مبكِّرة ولم تتغلَّب على ألم فقدها. ودخل شقيقها في نزاع مع النظام خلال مظاهرة واعتُقِل، و”اختفى” منذ ذلك الحين، الأمر الذي يجعلها تقرِّر أخيرًا لقاء سلمى في بيروت.
يمكن أيضًا أن نذكر روايات شهلى العجيلي، لينا هويان الحسن، مها حسن، ابتسام شاكوش، وأخريات كثيرات ساهمن وما زلن يساهمن في تعميق وعي الأنثى بحالة الثورة وحالة الحرب والتشرد، وتعميق قدرتها المميزة على الإمساك بالتفاصيل، وفي الوقت نفسه على تقديم نظرة شاملة عميقة من خلال الرواية التي هي لسان الشعوب الأصدق.

مشاركة: