الثورة السورية بين الامتداد الواسع والهزيمة و”البارادايم” الصوفي

ملخص
تكاد التحولات التي عاشتها الثورة السورية بأرقامها ومعطياتها أن تتجاوز معايير بحثية عدة تحدد نجاح أو فشل الثورات. يمكن في المعايير العامة تقصي مجريات الواقع السوري بمتغيراته المتعددة من حيث الامتداد السلمي الواسع، والتحول إلى حالة عنفية متداخلة مع السلمية، والوصول إلى مرحلة من الصراع العسكري العنيف ذي محاور محلية وإقليمية تتخارج مع الثورة وأحلام وأهداف السوريين، لتنتقل بعدها إلى عقدة دولية جيوبوليتيكية تشارك فيها أطراف دولية متعددة تتقدمها روسيا.
تعدّ الدراسة الحالية محاولة لمقاربة معايير تقدم الثورة بدايةً، ثم انكسارها وهزيمتها، وفق مقارنات متعددة مع نماذج وقراءات سابقة؛ ومقارنة نقدية لواقع الحالة السورية ومستويات عطالتها الذاتية، وطرح الأطر الممكنة لتجاوزها. فالقوى والفعاليات السورية تباينت محدداتها بين أيديولوجية ونظرية ونفعية وتابعة للأجندات الدولية. ولم تدخل -حتى الآن- في مقاربة مفهومية وواقعية لإنتاج مقومات التحول من الثورة والفوضى والهزيمة، للتعاقد العام في مثلث المصلحة المادية العامة والفكر التنويري والقيم الحضارية المنتجة للاستقرار، وشروط التعاقد الوطني واستحقاق الدولة.
في خلاصة أولى، تبدو “صوفية” الروح السورية، التي تعاند وقائع الهدر المادي في الحقوق والبنى السورية العامة، أنها تشكل أنموذجًا (بارادايم) يختلف معياريًا عن القراءات النظرية السابقة لوقائع الثورات. ويبدو أن نموذجها الصوفي سيبقى قائمًا ما لم نتجاوز معيقاتنا الذاتية بالانفتاح والإنتاج وملامسة حقائق الكارثة السورية، وإلا فسنكرر “صوفية” الروح مقابل هدر مقوماتنا المدنية والوطنية.

أولًا: مدخل وتوطئة
يقترن تحليل مسارات الثورات بمتحولات عدة قابلة للقياس، منها ما يعدّ رافعة تغيّر وتحوّل في تحقيق أهدافها، مقابل معايير التعثر والركود والانكسار؛ وفي كلتا الحالتين لا تعدّ معايير نهائية وجازمة. هذا وتبدو الدراسات المقارنة أكثر وضوحًا في معاييرها بعد استقرار الواقع العام لما بعد مرحلة الثورة، أكثر منها في خضم معتركها العام من فوضى وعدم استقرار وكثرة المتغيرات والمتحولات.
بعد اثني عشر عامًا من انطلاقة الثورة السورية وتبدل مساراتها المتلاحق، وفي سياق مراجعة نقدية تحاول تلمّس معايير التقدم من جهة، والتراجع من جهة أخرى؛ من الممكن إجراء دراسات مقارنة متعددة المستويات يمكنها الدلالة على تلك المعايير. تتجلى هذه المعايير عمومًا بامتداد الثورة الشعبي والواسع، انكسارها وهزيمتها، وعدم قدرتها على تحقيق أهدافها في التغير العام من سلطة الاستبداد والقمع الجائر إلى دولة الحقوق والحريات، ودور نخبتها السياسية والمعارضة في الحالتين، إضافةً إلى تحول سورية إلى جملة من المشاريع الخارجية السياسية والعسكرية المتناقضة في ما بينها، والمتناقضة جذريًا مع تطلعات الشعب السوري وثورته، واستحقاق استقراره في دولة.
وإذ تشير دلالات النموذج السوري إلى أنه وعلى الرغم من طول زمن مسارات الهدم والموت والتهجير الجماعي، وتغيّر مكونات سورية وشعبها ماديًا ومعنويًا تغيّرًا ندر تكراره في التاريخ السابق والمقروء، لم تزل الحالة السورية محط تشابك دولي متداخل ومعقد لم تحسم نتيجته نهائيًا؛ ولم تزل الروح والهوية السورية تعاند هدمها ووأدها العام؛ وما فتئت تقارير الأمم توثّق أن عشرات آلاف الأطفال السوريين قضوا بين معتقل وقتيل،(1) وتوكّد الأرقام أن مليون طفل سوري يتيم، ومثلهم معاق، ومليونين وربع مليون بلا تعليم.
حقيقة الواقع السوري اليوم لم تعد تكفيها اللغة وصفًا، ولا الأرقام عدًا. فأحلام السوريين كانت ولم تزل تحاول السيل نهرًا من السلام والاستقرار والازدهار. كانوا أطفالًا وشبّانًا وجيلًا بأكمله، لكنه اختفى وتشرد وبات مهجرًا في بقاع الأرض كلها. بينما سيل الفرضيات النظرية وأداليجها (أداليج جمع أدلوجة على وزن أفعولة كما الأنشوطة للواقع والفكر) تعالج الثورة من رؤاها الذاتية، من دون الوقوف على حال الواقع ومعطياته! وآلة السحق البشري لم تتوقف عن جزافية الموت الجماعي والتهجير القسري باصًا يتلوه باص! وزلزال العنف يهدم أحلام الشبّان وتوقهم الحق إلى الحرية والكرامة وتحقيق العدالة وسيادة القانون. وحتى يومنا هذا تستمر تقارير الموت تسجّل وقائع حال السوريين في المعتقلات والمختفين قسرًا(2)، وأعداد المهجرين التي تزيد عن ثلاثة عشر مليونًا، وأخبار حفرة حيّ التضامن وشاهد كوبلنز(3)! وتفيد المنظمات الأممية أن جميعها موثقة إلى حين التوصّل إلى حل سياسي مفترض! ويردد الطفل في صدورنا: إلى حين التوصّل إلى صفقة سياسية وتقاسم الكعكة السورية إذًا!
الثورة السورية، ومنها تبدت المسألة السورية عقدة دولية متشابكة كثيرة المتغيرات، باتت لا تكفيها نظرية بعينها أو أبحاث ودراسات لواقع مختلف حتى تفي بمعاييرها البحثية، سواء بامتدادها الأفقي السلمي الواسع، والتوسع التدريجي لدوائر العنف التي أحاطتها ونتجت عنها. ومن ثم تحوّلها إلى ساحة حرب متعددة الجبهات والمحاور، أو بانحسارها وانكسارها العامودي وتمحورها حول منصات سياسية وعسكرية نفعية، محلية ودولية، متباينة الأغراض. ونتيجتها الراهنة هدر الحقوق المادية وتهشيم البنى المجتمعية، حتى استحالت الروح السورية إلى نموذج صوفي(4) يعاند قدرية سكوننا الدهري، سباتنا التاريخي، وسياسات النفي والنهي والأمر، الهرم الأيديولوجي، عسف العنف؛ وويلات الجيوبوليتيك الروسي والإيراني ولعبة العولمة الأميركية والتركية والأوروبية تطحن مصالحها كالملح على ظهورنا. بينما لم يزل بيدرسون، المبعوث الأممي الخاص بسورية، يقدم مطالعته لمجلس الأمن للعام السابع، ويتحدث عن الانقسام وغياب الثقة كحائل أمام حل الصراع السوري(5). عُقدت لهذا الشأن عشرات الجنيفات والأستانات، ونُظِّمَت عشرات المنصات السياسية ومئات المنظمات والأحزاب، ومثلها ويزيد، من قرارات مجلس الأمن(6)، ولا حل يجد سبيله إلى التحقق! فهل كنا نحلم؟ وهل توهمنا أننا سنحقق دولتنا العصرية علمًا وقانونًا، دولة سياجها الدستور وأرضها حرية الفكر والقول والإيمان، وأبناؤها يحكمون بالعقل والحكمة والعدل قبل السطوة والملك؟
الثورة التي تنشد تحقق الدولة العصرية، دولة الحق والقانون، دولة الحريات الفكرية والسياسية والمدنية والإيمانية والحقوق المدنية والمادية المتساوية، لم تزل راهن الروح السورية على الرغم من هزيمتنا المعلنة. من هنا يمكن أن يبدأ سؤال آخر ومقارنات ومقاربات معيارية أخرى تحاول الدراسة حوارها نقديًا.

هدف الدراسة ومنهجيتها
تحاول الدراسة الحالية إجراء مقارنة لمتغيرات الثورة السورية من حيث: الامتداد الشعبي السلمي الواسع، سمات الأيديولوجيا السياسية والنفعية الهادمة في بنى الثورة، اتساع دوائر العنف والهزيمة العامة، وتحول سورية إلى عقدة صراع دولي سياسي جيوبوليتيكي قد تقود لمقدمات حرب عالمية. ومن ثم مقارنة هذه المتغيرات مع ما قدمته معايير الدراسات السابقة في تحليل الثورات وتوصيف مآلاتها.
يتجلى غرض الدراسة الرئيس في وضع Paradigm (أنموذج) لمجريات الحدث السوري كحالة خاصة، وربما مفصلية في الشأن السوري وتداعياته الدولية. وفرضية السؤال تكمن في أن نجاح الثورات، وعلى الرغم من اختلافاتها البنيوية، ومن ثمّ تكمن في تحقق اقتران متغيرات ثلاث: الحقوق المادية على مستوى المصلحة العمومية فوق مصالح الذوات والأنوات الفردية والحزبية السياسية والدينية، النماذج الفكرية التنويرية التي تقود إلى التحرر والانعتاق المجتمعي الفكري، والقيم الأخلاقية المولدة للاستقرار والسيادة والعدل، وأن أي خلل في إحداها سيؤدي إلى تعثر الثورة وفشلها. فإلى أي مدى اقتربنا من هذا الاقتران الثلاثي؟ وهل نكتفي بوصف أنموذج (بارادايم) صوفي استثنائي يغالب الواقع وحسب، ما لم نساهم في تحقيق هذا الاقتران؟

ثانيًا: الفرضيات غير المكتملة: معايير التقدم والإخفاق
في محطات الثورة السورية ومسارها الشاق وتحولاتها المتعاقبة، ثمة التباس يكتنف تداخلاتها ومحاورها ومعطياتها. فحدة التعارض بين السلطة القائمة ورفضها المتعنت الاستجابة لأي مطلب شعبي وممارستها العنف المطلق، وبين قوى الشعب السوري بعمومه وردة فعله تجاهها، فتحت فجوة واسعة من انعدام الثقة في إمكان القوى الشعبية والثورية والسياسية التوصل مع سلطة النظام إلى أي توافق على أي حل بحده الأدنى بلا الضغط الدولي الملزم، غير المتحقق حتى اليوم.
ثمة عوامل عدة ذات أثر بالغ في مجريات الحدث السوري، أبرزها: التدخل الروسي الفج كقوة دولية كبرى، وتخلي المنظومة العالمية عن استحقاقات الشعب السوري في التغيير الممكن، وتبني سلطة النظام فرضية الحرب على الإرهاب القاتلة لجميع السوريين. لكن في الجهة المقابلة برزت في جسم الثورة عوامل هدم مضافة تمثلت في تعدد فرضيات الثورة وقواها وطرائق حلها ومقوماتها، بتعدد الأيديولوجيات والأحلام والأماني وتداخلها مع المصالح الدولية. اجتماع هذه العوامل حوّل الثورة إلى محطات عسيرة ومنعطفات عنفية، وساحة حرب باتت تشي بمقدمة حرب عالمية أخرى.
في متن هذا الفصل سنتناول متغيرات وعوامل الفشل الرئيسة التي انتابت الثورة، خاصة ما يمكن وضعه عوامل ذات دلالة مهمة، هذا مع الإدراك العميق لكونها لا تستنفد غيرها من عوامل، خاصة أجندة سلطة النظام وحلفائه الدوليين، أصحاب الأثر والمسؤولية الأولى في حال سورية اليوم، وهو موضوع دراسات سياسية أخرى لا تتسع لها الدراسة الحالية.

متغيرات ومتحولات الثورة السورية
يجتاح الفكر السياسي وأداليجه السائدة جملًا متعارضة من المصطلحات والمشاريع تحاول تقنين الفعل الثوري فيه لمعادلة بمجهول وحل وحيد، كما تفعل عمليات الحساب المباشر. وكل أدلوجة تضع مجهول معادلتها وفق منظموتها وعقائدها وحسب. ونادرًا ما تجد تلك الرؤى أن الواقع متعدد المجاهيل لا تلائمه أدلوجة بعينها. ففي سياق المسألة السورية وثورتها الكليمة حتى اليوم، تمددت الحركة الشعبية الداخلية واتسعت رقعتها عبر تظاهرات واسعة وحاشدة سلمية، استمرت أسبوعيًا لزمن طويل بدءًا من آذار/ مارس 2011، وبعضها مستمر حتى اليوم على الرغم من تقطعها. لتتحول بالتدريج نحو العسكرة والعنف المضاد لعنف السلطة وأجهزتها القمعية، ولتنتقل بعدها إلى صراع وحرب عنيفة تتمحور محليًا وإقليميًا بين مشاريع وغايات سياسية عدة، لتصل إلى عقدة دولية تقود دفتها العسكرية روسيا في حلم عودتها الجيوبوليتيكية إلى قطب عالمي منفرد. هذه المفاصل ومراحلها الزمنية الموثقة يمكن (7)تتبعها مرحليًا في الهامش أدناه.
معياريًا، يمكن تتبع المتغيرات العامة في المشهد السوري ومقارنتها بنتائج الواقع الحالي وخلاصاتها العامة في نقاط محددة أهمها:

  1. الامتداد الواسع للتظاهرات الشعبية السلمية التي اجتاحت معظم المناطق والمحافظات السورية الموثقة بالهامش أدناه. على الرغم من نسب المشاركة الشعبية الواسعة والتي تجاوزت النسب العالمية الكفيلة بالتغيير السلمي (حسبما سندقق لاحقًا) وامتدادها الأفقي في معظم الجغرافية السورية ولزمن طويل، لكنها لم تستطع حسم التغيير السياسي في سورية، كما حدث سريعًا في مصر وتونس قبلها.
  2. البنى السياسية المعارضة بين هرم الأيديولوجيا والنفعية: وتباينها بين صنوف متعددة الفرضيات:
  • وهم الشرعية الثورية والحسم السياسي السريع وتلك مثّلتها صيغة المجلس الوطني السوري، والتي اتخذت من وهم الشرعية الثورية والحشود الشعبية مرجعية تستند إليها في استعجال أو انتظار حوادث سقوط النظام والوصول إلى السلطة بدل سلطته القائمة. ذات الصيغة انضوت في فرضية الحسم العسكري بصرف النظر عن مشاريع الرايات العسكرية المتشكلة، سواء أكانت تعبر عن أهداف الثورة أو تتخارج معها، تبعًا لمقولة ماوتسي تونغ “تنبع السلطة من فوهة بندقية”. ويتردد السؤال: كيف لهذه القيادات السياسية والعسكرية تبرير مسؤوليتها عن تنامي التطرف الديني وإمكان فصله عن قوى الثورة المدنية والسلمية أو العسكرية من أبناء الشعب المنشقة عن جيشه؟ وهل تمكنت من قيادة مرحلة انتقالية مفترضة؟ وهل حققت أدلوجتها في نزعة الوصول إلى السلطة بشرعية ثورية موهومة؟ وهل ينتج حكم القوة سلطة وحكمًا سياسيًا؟
  • التغيير السلمي السياسي بالاستجابة: تلك التي مثلتها الأحزاب القومية واليسارية التقليدية والتي مثلت نفسها بهيئة التنسيق الوطنية. وحديثًا تطورت إلى الجبهة الوطنية الديمقراطية (جود). ويؤخذ على هذه الصيغة بحثها الدائم عن تمثيل نفسها في موقع متقدم من الحركة السياسية السورية خاصة في مرحلتها الانتقالية المفترضة. تلك التي دعت منسقها العام لرفض تمثيل الائتلاف الوطني السوري في الجامعة العربية في اجتماع قطر بدايات 2013، بدعوى أنه لا يمثل السوريين كلهم. ما حذا بالجامعة حجب مقعد سورية عن المعارضة السورية، بعد حجبه عن سلطة النظام، لعدم توافق معارضتها! وحتى اليوم يتكرر السؤال: ماذا كسبت هيئة التنسيق من هذا الموقف؟ فما زال النظام شرعيًا ويحاول العودة لملئ مقعد الجامعة الشاغر، ويمتلك شرعيته الدولية في الوقت ذاته! هل كان كسب موقع الجامعة العربية لمصلحة الائتلاف سيؤدي بالضرورة إلى فقدان شرعية النظام موقعه العالمي الشرعي في الأمم المتحدة؟ وهل كانت هيئة التنسيق ستصبح خارج العمل السياسي السوري في ظل مرحلة انتقالية مفترضة؟ وهل حققت أدلوجتها الديمقراطية؟
  • الصيغ البراغماتية: تلك الصيغ التي تطورت من المجلس الوطني للتوسع مع ضم الفصائل العسكرية والمجالس المحلية لصيغة الائتلاف الوطني السوري. وعلى الرغم من نيله شرعية الأغلبية الدولية لمدة زمنية طويلة لكنه بدأ بفقدانها التدريجي مع خسارات فصائل المعارضة العسكرية معارك المدن وتهجير سكانها حتى عام 2018. لتتحول بعده لصيغة محدودة في مناطق شمال حلب وإدلب، تتبع للسياسة التركية المواربة بين روسيا وأميركا ومن خلفها المجتمع الدولي، من دون أن تحسم خياراتها سوى بالمصالح الجزئية النفعية المحددة والمرحلية، وهي حال الائتلاف اليوم. فهل يمكن لقيادتها ومؤسساتها أن تجيب عن مصالح السوريين، أقله، من تفترض أنها تمثلهم من قوى الثورة والمعارضة؟ وهل يمكنها ترسيم المسارات السياسية وفصلها عن الهزائم العسكرية بحكم التدخل الروسي؟
    كما ويمكن تصنيف قوات سورية الديموقراطية (قسد) الكردية وتوسعها السياسي بوصفها (مسد) في مناطق شرق الفرات للصيغة البراغماتية ذاتها، في شبهة حكم ذاتي مستفيدة من الحماية الأميركية وقوات التحالف الدولي. ولم يجد حتى اليوم صيغتا الائتلاف وقسد أولى نقاط التفاهم والمصلحة المشتركة بينهما وتقاطع مصالح السوريين في المنطقتين. والسؤال المطروح: هل يمكن أن يتآلفا إذا تآلفت أميركا وتركيا كلية ضد روسيا؟ وهل هذا ممكن في المعادلة العالمية؟ وميزان القوى العالمي ومسار الحدث السوري اليوم يشير إلى أنه لن تتورط أي من روسيا أو تركيا أو أميركا في فتح مواجهة مباشرة بين أي طرفين منهم بسبب السوريين. بينما البحث عن التوافقات البينية ذات الحلول الجزئية، ونتيجتها المزيد من تفكيك الهوية السورية هي راهن كليهما، الائتلاف وقسد. وهما حتى اليوم لا يمثلان سوى صيغ النفعية السياسية القابلة للتغير وفق المعادلات الدولية المتحركة، وموقع كليهما من تغير السياسة التركية أو الأميركية.
  • بين هذه وتلك، وجدت عشرات الصيغ والمشاريع السياسية السورية ديمقراطية ويسارية وتجمعات مدنية وليبرالية، تكاد لا تجد خلافًا بين أوراقها السياسية سوى بشخوص قيادتها. والمأخذ الأساس على هذه الصيغ أنها لا تمتلك حوامل أو روافع مجتمعية سورية لأوراقها السياسية النظرية، سوى بضع مجموعات ومشاريع عمل على عدد أفراد لا يتجاوز العشرات منهم. كما أنها لم تستطع أن تشكل بديلًا عن الائتلاف له مرجعية دولية واضحة المعالم.
    على الرغم من تدويل المسألة السورية مبكرًا عبر جنيف1، لم يتم تفعيل أي قرار دولي ملزم للحل، حتى وفق القرار 2254/ 2015 لمجلس الأمن. بينما تمكنت روسيا من فرض معادلتها العسكرية في الواقع السوري منذ العام 2015 لليوم، وهزيمة الثورة العسكرية. واللافت للانتباه هنا أن صيغة القرار 2254/ 2015، أتت بعد التدخل العسكري الروسي المباشر في سورية، وبعد تمدد الميليشيات الطائفية المدعومة إيرانيًا في مقابل الإسلامية المدعومة خليجيًا. والمهم فيه ورود الفقرات المتعلقة بالانتقال السياسي وتشكيل حكومة وحدة وطنية غير طائفية تجمع المعارضة والسلطة وتفصيلات المرحلة الانتقالية والدستورية. إلا أن ذات القرار تضمن في فقرته الثامنة محاربة الإرهاب المتمثل في الدولة الإسلامية في العراق والشام و(داعش) وجبهة النصرة وبقية الجماعات المتطرفة من دون تحديدها. الموقف الذي استفادت منه روسيا، وحذاها لعدم ممانعته بالفيتو، لكونه يحقق لها حجة الحرب على جميع السوريين: ثوريين وسلميين ومدنيين وعسكريين ومساواتهم بالإرهابيين! وذلك بمستند من مجلس الأمن لأول مرة في تاريخ حروبها الدولية.(8) في موازاة هذا اختار السوريون هيئة عليا للمفاوضات تضم مقاعد ومنصات المعارضات السورية، سعت بخلاصتها خلف صيغة اللجنة الدستورية، من دون التحقق السياسي لشرط بدء المرحلة الانتقالية أولًا، وفصل محاربة الإرهاب عن القرار 2254 وبقائه للانتقال السياسي فقط ثانيًا. وكأن الاستعجال في الجني البراغماتي أغفل التدقيق في تفاصيله وقبوله أو رفضه. ومع هذا لم يزل هو الصيغة الوحيدة للتغير السياسي المتفق عليه دوليًا، والمعترف بالمعارضة السورية والتغيير السياسي بحده الأدنى على الرغم من عيوبه، ومحاولات روسيا تدويل أستانة ومن خلفها سوتشي بديلًا عنه.
    في خلاصة وصفية لموقف قوى الثورة والمعارضات السورية نجد:
    أ. تباين المعارضات السورية بين الأيديولوجيا الهرمة والنفعية المحضة.
    ب. اختلاط العمل السياسي بالعمل العسكري، وعدم فصله المنهجي عن قوى التطرف والإرهاب.
    ج. قراءة الوثائق الدولية برغبوية نفعية من دون تدقيق، وعدم اتخاذ موقف سياسي واضح منها.
    د. تغليب النزعة الشعورية والشرعية الثورية والتنافس السياسي الحاد على مواقع السلطة والقرار والقيادة الهادمة لصيغ التوافق الوطنية بحدودها الدنيا، وتغييب متعمد للخبرات السورية البحثية والوطنية.
    ه. ارتباط المعارضات السورية، كما سلطة النظام، بمصالح الدول وتبعيتها لصراعها البيني، وعدم قدرتها على الاستقلالية بالقرار الذاتي الوطني.
    و. ارتباط العمل المدني السوري، على تنوعه، بالتمويلات الدولية، بينما غيبت التمويلات السورية الذاتية عنها. ما جعلها أسيرة الأطر المفترضة دوليًا من دون تدقيق معطيات الواقع السوري ومعاييره الخاصة. وهذه تحتاج لدراسات مدققة كمية ونوعية محددة.
    لم تتمكن قوى الثورة والمعارضات السورية وحواملها المدنية والشعبية من إيجاد التكامل الفعال بين المصلحة العمومية والفكر التغيري التنويري والقيم الأخلاقية الحضارية، وبالضرورة اختزال مفهوم العمل السياسي كعمل بالشأن العام إلى عمل في شؤونها الخاصة أيديولوجيًا أو نفعيًا و/ أو تبعيةً. ما أدى لعدم القدرة على تمثيل السوريين بمفهومهم الجمعي السوري. هذا مع افتراض عدمي النتيجة، أن كل صيغة عمل أيديولوجية سياسية أو نفعية مرحلية تفترض نفسها وحيدة الحل والبقية يهدمونها، من دون إثارة حوار نقدي بنّاء بينها.
    فعلى الرغم من تعدد وتنوع صفات الثورات البشرية التاريخية، لكنها ذات ملمح عام في تنازع البشرية على سلطات وأنظمة حكم أكثر عدالة، وأكثرها إثمارًا هي التي تمس المصلحة العامة بعيدًا عن المصالح النفعية لمجموعات أو أحزاب بعينها أو أداليج متقادمة تكتنفها الرومانسية والرغبة، وذلك تبعًا للقاعدة التي أرسى معالمها المعرفية الأولى أرسطو: “إن المصلحة التي هي مفيدة لشخص أو لمجموعة من الناس، هي الحامل الأعلى في الأمور السياسية”، وينبغي أن تكون كذلك.
    فمع أن المصلحة ذاتها هي قاعدة التنازع السياسي والأيديولوجي التاريخية، وهي أهم أسباب قيام الثورات، لكن النقطة التي نرقبها بحثيًا هي التوافق الشرطي والتلاقي السياسي بين المصلحة العامة والمعرفة الإنسانية فكريًا وقيميًا حين تعزف معًا في تناغم عام؛ فالثورة ليست تغييرًا في شخوص الحكام سلطةً وحسب، ولا التعبير الانفعالي وإثارة الفوضى المشحونة شعوريًا وحسب، بحسب ما يُطلق عليه شعبيًا بالموروث العام “ثورة وثايرة”، بل بحسب تعريف بسيط أولي “الإتيان بشيء جديد تفتضيه طبيعة الشؤون الإنسانية وتنتج عن تأزم الحياة الاقتصادية في المجتمع”(9).

المقاربات المنهجية والدراسات التحليلية المقارنة
بين فرضيات السلمية المدنية والسياسية وبالضرورة نبذ العنف والعسكرة، وفرضيات الثورة العسكرية كحل بديل لمواجهة طغيان السلطة ونبذ السلمية والمدنية، وفرضيات التدخل العسكري الخارجي لمصلحة الثورة في مقابل التسوية السياسية في ظل الهزيمة العسكرية التي لحقت بالثورة سلميًا وعسكريًا؛ تتباين فرضيات العمل السياسي المعارض بين الانزياح لهذه وتلك، وممارسة صنوف “التقيّة” والمواربة وعدم الوضوح، إضافةً إلى رفض الحوار النقدي البناء وتجنب خوض غماره العلني. لتتكاثر الفرضيات، ومع تكاثرها تنمو العشوائية والتخبط ويخوض الجميع في تصعيد لغة الخطاب المضاد والعنيف وتتبدد معها المصلحة السورية العامة وهدف الثورة ونغرق في التفاصيل. هذا ما يقودنا لتحديد المقاربات المعيارية التالية:
أ. معايير النجاح السلمي للثورات: يذهب دعاة فرضية العمل السلمي والمدني إلى أن الثورة السورية قد أكلتها العسكرة والأسلمة، وهم صادقون وجدانيًا على الأغلب، لكن هل هذا كل شيء؟ معظم حملة هذه الفرضية إما قضوا في مراحل الثورة الأولى في المعتقلات، أو باتوا مهجرين خارج سورية وهؤلاء يعيشون الحرية في بلاد المهجر من دون معادلة التغيير السوري، وبعضهم من ممارسي الأيديولوجيات بصنوفها، ومنهم من فرضت عليهم العسكرة! ولكن قلما قاربت هذه الرؤية المقاييس الواقعية المقاربة للمسألة السورية.
تقول القاعدة الذهبية التي حدّثها باحثون في مجال تحليل الثورات: أنه يكفي أن تشارك ما نسبته 3.5 في المئة من الشعب في التظاهرات السلمية حتى يحدث التغيير. فوفقًا لقواعد التحديث التي أجراها ديفيد روبسون بالاعتماد على نتائج تحليلية سابقة أن “مشاركة 3.5 في المئة من السكان مشاركة فعالة في الاحتجاجات تضمن حصول تغيير سياسي حقيقي”(10)، بينما تظهر أرقام وإحصاءات التظاهر السلمي السوري أرقامًا ونسبًا مضاعفة وبتواترات زمنية متتالية(11)، ومع هذا لم تنجح الثورة السلمية!
معايير العسكرة وثوراتها: يذهب أصحاب رؤية العمل العسكري والثورة العسكرية، بأن دعاة السلمية رومانسيون وربما “انتهازيون”! ولا يمكن إسقاط النظام إلا بالعمل العسكري والتدخل الخارجي أيضًا، وهم واقعيون نسبيًا مقارنة بمجريات الحدث العام في سورية حتى اليوم. ومع هذا لم يسقط النظام بالعمل العسكري كما السلمي قبله، ولم يحدث التدخل العسكري الخارجي ضد السلطة، بل تدخلت روسيا بعد تدخل الميليشيات الإيرانية مع السلطة، في حين ذهبت قوات التحالف الدولي ضد داعش شرق الفرات وحماية قسد. بينما بقيت تركيا وصية على شمال غرب سورية، تلوح كل يوم بعملية ضد قسد بحسب قدرتها على التفاهم مع أميركا وروسيا. لتتحول سورية إلى مستنقع لشتى صنوف الحرب المعلن منها والباطنة. والمحور الرئيس فيها أن العنف المسلح لم يحسم الحرب لصالح قوى المعارضة العسكرية، على الرغم من المساحات الواسعة التي كانت تسيطر عليها من عموم سورية. ففي تقريرها المسجل في آب/ أغسطس 2018، بعد تفريغ الداخل السوري في آخر جيوبه في درعا الجنوبية، أعلنت وزارة الدفاع الروسية: “أن الجيش السوري استعاد حتى الآن 96.5 في المئة من أراضي بلاده، بعد أن كان يسيطر على 8 في المئة فقط منها عند انطلاق العملية العسكرية الروسية في سورية سنة 2015. وانضمت إلى عملية المصالحة 324 جماعة مسلحة، وأكثر من 2500 مدينة وبلدة وقرية يبلغ إجمالي سكانها نحو 11.4 مليون نسمة”(12).
ب. معايير الدراسات الرقمية: في دراسة مقارنة حديثة أعدتها ماريا ج. ستيفان واريكا تشينويث، درستا من خلالها التمايز والاختلاف بين الثورات السلمية والعنيفة والتي أظهرت نتائجها أن “نشاط المقاومة اللاعنفية الرئيسة قد حققت نجاحًا بنسبة 53 في المئة، مقابل 26 في المئة لفعاليات المقاومة العنيفة”(13)، وترد الباحثتان ذلك لسببين:
الأول: أن الثورات السلمية ذات شرعية محلية ودولية وتشجع على مشاركة أوسع نطاقًا شعبيًا. وهذا ما وجد في مراحل الثورة السورية الأولى. فقد أثبتت المؤشرات والتقارير الدولية والعربية أحقية الشعب السوري في مطالبه المشروعة في التغيير والثورة؛ وأصدرت أمانة الجامعة العربية مبكرًا بيانها الأول في 27 آب/ أغسطس 2011، رقم 148، أكدت فيه: “على حق الشعب السوري بحقه بالحياة الكريمة وتطلعاته المشروعة بالإصلاح السياسي والاقتصادي وتحقيق تطلعاته بالعزة والكرامة”(14). كما أتى بيان جنيف1 لعام 2012، الصادر عن الأمم المتحدة، بضرورة تحقيق التغيير السياسي السوري، مع سيل من التصريحات الدولية بضرورة التغيير في سورية والتنحي عن منصب الرئاسة لصالح هيئة حكم كاملة الصلاحيات.
لم تثبت هذه الفرضية فاعليتها من حيث السلمية وتحقيق التغيير السياسي المفترض في أعوام الثورة الأولى، ولا في مفاوضات جنيف الأولى في المسألة السورية، والتي قادتها المعارضة السياسية السورية في جولات لم ينتج عنها أي شيء حتى اليوم، وذلك قبل التطور الكبير في حالة العسكرة!
الثاني: عدم تمكن السلطات من تبرير الهجمات العنيفة المضادة ضد السلمية مقارنة بالمسلحة، “العنف الذي تمارسه تلك الأنظمة ضد حركات المقاومة السلمية غالبًا ما يؤدي إلى نتائج عكسية ضد هذه الحكومات، بينما تنظر الجماهير إلى الجماعات المسلحة العنيفة على أن لها أهدافًا متطرفة تتجاوز إمكان تطبيقها على أرض الواقع”(15)، وهذا ما يمكن تلمسه وضوحًا في نماذج سيطرة الفصائل المسلحة الإسلامية من جهة، والمتطرفة من جهة أخرى على مناطق واسعة من سورية، وخروج التظاهرات ضدها من أهالي ذات المنطقة. فحيث ساد لون واحد من السيطرة العسكرية وبصبغة أيديولوجية وحيدة، جعلت السكان قليلة التعاطف معها، سواء في مناطق سيطرتها (كالغوطة وإدلب وغيرها) أو في مماثلتها لسكان المناطق الخاضعة لسيطرة النظام (كالسويداء).
ثمة إحالة مهمة في سياق التباين بين الثورة والنزاع على السلطة، فالعمل العسكري يؤدي الى تغيرات متعددة في سياقات الثورة وحركة التغيير المنشودة، فإن كان أحدها إخراج شريحة واسعة من الجمهور من معادلة الصراع هذه لأسباب متعددة: الخوف من الحرب، رمادية الرؤية، مناهضة العنف …إلخ، لكن النقطة الأبرز فيها هي فقدان العمل السياسي لفاعليته في مجرى الحوادث وتحوله إلى تابع لنتيجة الحرب، وهو ما دققته حنّة آرنت بوضوح: فـ”النظرية الحربية أو النظرية الثورية لا تبحث إلا في تسويغ العنف، لأن هذا التسويغ يؤلف حدها السياسي، وإذا وصلت، عوضًا عن ذلك، إلى تمجيد العنف أو تسويغه، بوصفه عنفًا، فإنها لا تعود نظرية سياسية، بل نظرية مضادة لما هو سياسي.”(16) لتبدو هذه النقطة محطة مهمة في مسار الصراع السوري لم تأخذ حقها في الدراسات والبحث المنهجي بقدر حديّة التأييد أو الرفض المطلقَين للسلمية مقابل العسكرة، وعدم إمكان التحكم في المسار العسكري ونتائجه الخطرة، واضطرار الشارع السلمي لحمل السلاح ضد العنف السلطوي.
بحسب تصريحات المسؤولين الروس(17)، لقد أنتجت لقاءات الأستانة التي مُثلت بالفصائل العسكرية المتنازعة على الأرض، نقاط تحول في معادلات المراحل السورية. فقد باتت حالة صراع عسكري حربي جيوسياسي في تقاسم مواقع النفوذ والسيطرة، وإن كانت آنية لم تنته شروطها بعد، في محاور إدلب وشمال غرب وشرق سورية. وهذا يبتعد عن مفهومي الثورة وفرضية نجاح النزاع السلمي عن العنفي بنسب إحصائية، بل تظهر المسألة السورية حجم الاختلاط بين الثورة، سلمية أو حتى عنفية، وبين الصراع العسكري بين محاور ودول باتت متخارجة مع أهداف التغيير السياسي والثورة بالأساس.
ج. دور السلطة والمؤسسة العسكرية: من المهم التوقف عند دور المؤسسة العسكرية من الثورة السلمية أو العنفية. تلك التي تناولتها دراسة أخرى مقارنة في الثورة المصرية الحديثة، صدرت عن مركز دراسات الجزيرة في دور المؤسسة العسكرية في الثورات فـ”موقف المؤسسة العسكرية من النظام مؤيدة، محايدة، معارضة، بوصفها تشكل حجر الزاوية في نجاح أو فشل أي ثورة، فكما أنه تشكل حجر الزاوية في الانقضاض على الديمقراطية من خلال الانقلابات العسكرية، نجدها أداة مهمة في الثورة لإطاحة النظم المستبدة.”(18) وهو ما أكده وائل غنيم، أي أهمية المؤسسة العسكرية المصرية في إنجاح ثورة 25 كانون الثاني/ يناير 2011: “وجدتُ القناة الأولى الرسمية توكد أن الجيش المصري موافق على مطالب الشبان”(19)، لكن كان للمؤسسة ذاتها شأن مهم بوصفها المنقضّ على السلطة في مصر بعد انتفاضة 30 حزيران/ يونيو 2013. هذا في حين تحولت سورية إلى ساحة حرب مفتوحة على الدمار من جوانبه كلها، حين جُيرت المؤسسة العسكرية لمصلحة السلطة الحاكمة، واتخاذها موقفًا عدائيًا عنيفًا ضد أي حراك سوري معارض، أدت إلى انشقاقات متتالية فيها واسعة فردية. واستدعت تدخلات عسكرية خارجية متعددة، تحولت معها سورية إلى ساحة صراع إقليمي ودولي متعدد الأهداف والأغراض، وهذا خارج عن الثورة سواء بصيغتها السلمية أو العنفية المفترضة، أو بوصفها مسألة تختص بالشأن المحلي السوري، لتصبح حالة حرب معلنة. فهل تنتهي المسألة والفرضية هنا؟

ثالثًا: التجارب العالمية والنموذج السوري
حمل التاريخ، خاصة الحديث منه، نماذج ثورية متعددة لأنماط العمل الثوري أدت إلى استقرار أوروبا وترسيخ الدولة الحديثة بجميع أسسها القانونية والتعاقدية، أهمها: الثورة الإنكليزية والأميركية، الثورة الفرنسية، الثورة السوفياتية، مشكلة نماذج عالمية مفصلية في التاريخ الحديث، وقِبلةً للحركات الثورية في مختلف أرجاء العالم.
تحدد الدراسات التي تؤرخ وتدرس ثورات الشعوب المعاصرة معايير محددة لطرائق إنجاحها ونتائجها اللاحقة، وأثرها في مستقبل شعوبها والعالم أيضًا. فتبعًا للفوارق الزمنية والمكانية المنهجية بحثيًا لا يمكن إيجاد أنموذج وحيد لنجاح ثورة، بقدر دراسة عوامل نجاحها والاستفادة من تجاربها كمقومات يبنى عليها، من حيث نموذج الحكم السائد وقدرته على إنتاج أفكار وأدوات عمل أكثر إنسانية وعدالة. وسنكتفي بالإشارة إلى ملامح مميزة في بعضها أدناه.
مقاربات ثلاث:
في مقاربة أولى: تُظهر المقارنة بين التجربتين الفرنسية والإنكليزية بوضوح أهمية العقد الاجتماعي الرضائي بعد الثورة، والعمل على سواد الاستقرار والأمان وتحييد نزعة التفرد بالسلطة والشرعية الثورية، فحسب هوبز “الناس كلما أدركوا، عن وعي، النتائج السيئة المترتبة على حالة الفوضى والاضطراب، تمسكوا بالقانون، وتمسكوا بالنظام.”(20) تمثَّل الاختلاف بين الثورتين بوضوح في قبول الشعب الإنكليزي الملكية مقابل الإصلاحات الدستورية والحقوقية والقانونية، مع تخلي الملك عن سلطاته المطلقة لصالح الشعب، فالملك يملك ولا يحكم، بينما بقيت الثورة الفرنسية عقودًا حتى وصلت إلى عقدها الاجتماعي وقد أضافت الحرية ونظام الحكم الجمهوري في قوانينها خلافًا للإنكليزية. لتتفق الثورتان في نقطتين واضحتين:
ليس الفكر والوعي أساس الثورة، فالفرض الجدلي القائل إن المعرفة تصنع بمفردها الثورة، تنقضه ثورة الشعب الفرنسي الذي يفترض أنه أنتج عقده الاجتماعي في دولة الحريات العصرية، منذ أفكار روسو قبل 40 عام من الثورة، من دون الحاجة إلى ثورة المستضعفين والمظلومين والمسحوقين فـ”روبيسبير لم يكن ينام وتحت مخدته العقد الاجتماعي، ولا لويس الرابع عشر وتحت وسادته الليفياتون.”(21) وهذا ليس موقفًا ضد المعرفة، بل إعطاءها حيزها الفعلي في إعادة صوغ المجرى والمحتوى العام بكلية تناقضاته، والمساهمة في بناء مؤسسات المجتمع القانونية والقضائية والدستورية، وتحقق قران المعرفة والفكر التنويري مع المصلحة العامة من دون المفاضلة بينهما. بينما سيؤدي انفكاكهما إلى صراع على المصالح أو الأفكار كحق سلطوي وقيادي من نوع مختلف، فـ”المفكر ذاته هو في الوقت نفسه موضوع السلطة وأداتها، والفكرة التي يحملها المفكرون الشموليون على أنهم موجهو الضمائر ومنتجو خطاب الحقيقة وعازفو نشيد الخلود تنتمي هي ذاتها إلى نظام السلطة.”(22)
المعرفة والفكر النظري يمكنه أن يؤدي دوره التنويري في الاستقرار والتعاقد العام. فأفكار فولتير وديدرو وجان جاك روسو قد سبقت قيام الثورة الفرنسية بعقود، حيث أن مفاهيم الحرية والإخاء والمساواة التي دشنت بها استقرار فرنسا في جمهوريتها الثالثة هي ذاتها كلمات ومفاهيم جان جاك روسو، والتي لم يكن يعلم وقتها أنها ستكون خلاصة الثورة بعد استنزافها لعقود ستة تقريبًا، “فهو، أي روسو، لم يكن يدري أنه يدعو إلى ثورة، فلا نجد في مؤلفاته أي كلمة صريحة عن ذلك، ولكن ثورة حياته ومؤلفاته كانت تُناقض النظام السابق للثورة في المجتمع والدولة، بحيث أصبحت هذه الحياة وهذه المؤلفات مبادئ عامة للحياة الجديدة.”(23)
في حين تبرز النقطة الثانية بوضوح أكثر، أن سواد العدالة وحكم القانون وتغليب الحريات والاستقرار لم يتحقق إلا عندما التقت أفكار التنوير هذه مع مصلحة الشعب عامة، وحاملها الأبرز هم رجال الأمة القادرين على تغليب المصلحة العامة على مصالحهم السلطوية السياسية. فكان الانفتاح الاقتصادي وحريته والعدالة وحقوق العمال، الشريحة الأوسع مجتمعيًا وأداة الإنتاج، أساس بناء الدولة الحديثة، وشريك تحقّق الحريات الفكرية والإيمانية والسياسية. وهذا ما يعدّ أساسًا متكاملًا بين المصلحة المادية والأفكار التنويرية والقيم الحضارية. حيث تعدّ الثورة الصناعية الإنكليزية وحواملها البرجوازية ماديًا وفكريًا في عصرها من أهم الثورات في التاريخ، لانعكاس نتاجها على البشرية كلها لا على شعب واحد فقط.(24)
في مقاربة ثانية: تضيء التجربة الأميركية تبعًا لأفكار جون لوك المدنية وإضافة إلى صوغ دستور يعتمد الحريات الفردية وحق الدفاع عنها، على ما يعرف بدور رجال الدولة وآبائها المؤسسين، وضرورة ربط الحرية بمفهوم الاقتصاد المنفتح على العالم. وتلك كانت مسؤولية تاريخية في إعادة ترميم ما هدمته الحرب الأهلية الأميركية مشكلة الأنموذج الفكري البنّاء لرجل الدولة، رجل بلا هوس الاستحواذ على السلطة وحسب، تلك التي أجازها أبراهام لينكولن “بفضل نبذ الحقد تجاه أي أحد، وبالإحسان للمجتمع، وبالحزم في الحق، كما أرانا الله، هلموا جميعًا ننجز العمل الذي نقوم به لتضميد جراح الأمة، والعناية بمن تحمّل عبء الحرب، وأرملته وابنه اليتيم، لنعمل كل ما يحقق السلام العادل والدائم، ورعايته بيننا وبين الأمم قاطبة.” فكانت دستورًا وعقدًا جماعيًا لدولة باتت كبرى اليوم.(25)
بينما تبرز المقاربة الثالثة: دور القيادة المركزية في الهدم السلبي لبناء الدولة واستقرارها في التجربة السوفياتية. فعلى الرغم من نجاح ثورتها بداية، وطرحها العدالة الاجتماعية كنقطة منيرة في حاضر الشعوب، وقعت أسيرة تغليب قوة السلطة على قوة الدولة المرعية من تعاقد الشعب على المصلحة العامة. وهذا ما نجده سائدًا حتى اليوم في فكر الشرق العربي الأكثر تأثرًا بفكرة القيادة والصراع على السلطة وحسب. ما يهددها بالفشل المتتالي كما حدث مع الثورة السوفياتية. وحسب عزمي بشارة “الثورة بهذا المعنى هي حركة تغيير لشرعية سياسية قائمة لا تعترف بها وتستبدلها بشرعية جديدة؛”(26) إذًا لا يزال مفهوم الثورة مثيرًا للمشاعر السلبية منها والإيجابية، ومحفزًا لصور الغضب والهيجان الشعوري، كما صور العنف والعمل المسلح الدموي، وما بينهما من تواترات وانقطاعات. وهذا ما يمثل أساسًا وهم الشرعية الثورية الشعورية متمثلة في “الكلمات المشحونة بالمحتوى الانفعالي، وأسلوب تحريك التداعيات المعقدة لمصطلحي الثورة والثوري للمجموعات المختلفة في أزمنة وأمكنة مختلفة،”(27) ما يجعل موضوعة الثورة ليست وصفة جاهزة التقديم، بقدر ما هي موضوعات تحليل ونقد مستمرَّين.
أيًا يكن، وسواء أنجحت الثورات وأتت بأنظمة حكم جديدة أو أحدثت تغيرات كبرى في التاريخ، إلا أن من المهم الإقرار بشروط ومحددات بحثية عامة، أهمها:

  • دراسة الأسباب والنتائج موضوعيًا، وأثر الثورة في التغيرات المحلية على مستوى شعب بذاته، كما وتجلياتها المستقبلية على المستوى المحلي والتاريخ البشري.
  • طرائق وأدوات العمل الثوري التي تأتي بالنتيجة بأقل التكاليف المادية والبشرية الممكنة، ليبرز سؤال السلطة ونظام الحكم كسؤال جوهري ومفصلي تاريخي.
  • التأسيس الفعلي على تكامل المصالح المادية والحقوق المدنية والحريات الفردية والقيم الحضارية الناتجة، كعمل شاق ومحوري له الأهمية القصوى لما بعد الثورات.
  • التحول في الفعل الثوري، من سؤال السلطة لسؤال الدولة هو الخطوة الأولى في نجاح الثورات وتحقيق غايتها، لتبقى معه سؤال الثورة السورية، في هذا الجزء محط محاولة نظرية علّها تأتي بنتائج مختلفة عما نعيشه لليوم!
  • من المهم جدًا التحديد أنه وقبل القرن العشرين، قلّما وجدت التدخلات العالمية المادية في شؤون ثورة بعينها. بينما يشهد العصر الحالي اتساع التدخلات المادية الضخمة ومحاور الهيمنة الدولية ومصالحها المادية وأثرها المباشر في تغيير أدوات الثورات، على الرغم من وجود الأفكار التحررية النظرية. ما يحيل لمحددات جديدة في سياق تحليل الثورة السورية خاصة، والثورات العربية عامة.
    الثورة السورية معياريًا:
    بحسب هيغل “الثورة لا تسقط العالم القديم كلية”، هي عملية دفن له بيسر أو بعنف، ولكنها تنشئ حالة من اللا دولة والفوضى العامة، بحيث يمكن لأي فرد أو جماعة أن يقول “أنا الدولة، والدولة أنا”، كما قالها الملك الفرنسي لويس الرابع عشر، وهذه هي حالنا اليوم. فغياب الدولة الوطنية وهيمنة السلطة المتغولة على مفاصلها عامة، أو عدم تحقق مشروع الدولة الوطنية بفعل الثورة يعني: غياب القانون والرادع الأخلاقي والحريات العامة السياسية والمدنية، وسواد العسف والظلم والمزيد من تغول سلطات الأمر الواقع، وانفلات الغرائز الطبيعية من عقالها، بحيث تغدو وكأنها شبهة حرية “مطلقة” معادلة للقهر والاستبداد المطلق. ويصبح الموت قتلًا أو في معتقل أو كمدًا وفقعًا سيد الموقف، والدمار حالة عمومية تسود البلاد ماديًا وقيميًا. ويا لشدة أهوال ما يعيشه بقية السوريين في الداخل بعد انكسار الثورة وهزيمتها عسكريًا!
    ربما تأخر فكرنا السياسي من مقاربة أسباب الهزيمة التي تعيشها الثورة ونتائجها. والنتائج تكمن في الأسباب التي ولّدتها السطوة العسكرية والسياسية المنفردة التي أنتجت هذه الكارثة. إن وحدانية العمل السياسي والعسكري وفروض شرعيته هي أصل الكارثة، سواء أكانت بعثية سلطوية الطابع، أو مقابلها من أداليج إسلاموية أو علمانوبة أو شيوعية أو قومية أو مدنية، لم ترتقِ مستوى الكلية الوطنية، بقدر العمل على مقتضى برامجها الذاتية. فجميعها لا تقبل بعضها البعض، بل تخوض كل جهة معترك فرض إرادتها على البقية بالقوة، ولا تقبل الاتفاق والتوافق، وتستمر بالخلط بين السلطة والدولة. وها هي النتيجة لا تخطئها عين أو قلب أمّ تنتظر أولادها المعتقلين، أو أنامل طفل ترتجف من البرد في مخيمات اللجوء، أو قرينه الذي يستعطف المارة على قارعة شوارع دمشق العريقة! ولك أن تعد ولا تنتهي من حجم كوارثنا!
    في حاضرنا السياسي والفكري بعد مضيّ اثني عشر عامًا، يمكن تحديد المعايير التالية للأنموذج السوري:
    نجحت الثورة سلميًا ولكنها لم تُحدث التغيير السياسي، وأسباب هنا يتجلى أهمها لا كلها، في عسكرة الدولة التي تقوم عليها سلطة النظام، وتدويل القضية السورية ووهم التدخل العسكري الخارجي الذي افترضته بعض رموز المعارضة، هذا مع عدم حسم المجتمع الدولي موقفه من حق الشعب السوري في بناء دولته العصرية.
    هُزمت الثورة عسكريًا بعد امتدادها الواسع في معظم المناطق السورية، ومن ثم تحولت إلى حرب مفتوحة بفعل التدخل الميليشاوي الطائفي أولًا، والروسي الجيوبوليتيكي ثانيًا، وتحول الثورة العسكرية إلى احتراب عام، مضمونه دون وطني ذو صبغة طائفية محلية، ومن ثمة إلى عقدة دولية متعددة الأغراض والأهداف.
    فرض الشرعيات الثورية السياسية والمدنية والعسكرية واحتدام صراع افتراض أحقية كل منها منفردة، هو العامل الحاسم لتشظي حقوق السوريين وتبدل معالم ثورتهم إلى صراع عسكري سياسي متعدد المناحي. ارتهنت كل جهة فيه لمصلحة داعميها الإقليمين أو الدوليين، وباتت أسيرة مصالحها كما سلطة النظام تمامًا. فبات السوريون يتنازعون ويتصارعون ضد بعضهم، ما أفرز تنامي الهويات دون الوطنية، وسعيها كل منها لأن تصبح دولة بحد ذاتها كما قسد شرق الفرات، والجبهة الإسلامية شمال غرب سورية، في مقابل هيمنة السلطة على مفاصل الداخل السوري وتغولها فيه. وربما نشهد قيام دولة درزية أو جنوبية أو ساحلية قريبًا!
    النفعية والبراغماتية ونزاعها الحاد مع الأيدولوجيات. فقد غرقت الأيدولوجيات في هرمها السياسي من دون التعاطي مع معطيات الواقع المتغير، وذهبت الحركات السياسية البراغماتية والمجموعات المدنية للإقرار في الواقع الراهن وممارسة أدوارها المحدودة فيه.
    بين الأيديولوجيا الهرمة والرومانسية السياسية مقابل الواقعية المفرطة الالتصاق بالواقع تبددت العقلانية السياسية الجامعة بين المصلحة والفكر النظري، وأغفل معها أغلب مقومات الفكر السياسي للوضع السوري بمعاملاته الذاتية والمحلية والدولية حتى اليوم. وسؤال التغيير السياسي والفكري والقيمي وربطه بالحرية والمصلحة العامة المادية هو الغائب الفعلي عن آليات التحقق والإمكان والوجوب.

محددات التجاوز وتغيير مسار الهزيمة
يبدأ الفعل السياسي الموصوف بالعقلانية بإحداث الفرق في المجتمع، حين يبدأ معه العمل في الصالح أو الشأن العام. هو ليس فعلًا أخلاقيًا أو هبة وصدقة تُفدم وحسب، بل الحد الأدنى للقيم التي ترتقي درجة عليا مع المسؤولية. وهو ليس عملًا للمصلحة الشخصية أو الحزب وأيديولوجيته وتحقيقها وكفى، بل هو ممارسة العمل السياسي مع الأحزاب والهيئات الأخرى وفق التنافس الحر الذي يستهدف الصالح العام المجتمعي. والمجتمع، يختار من يمثله فعليًا منها ولزمن محدود تداولي. السياسة كفعل في الشأن العام هي الغائبة حتى اليوم، وإلا لأنتجت أحد النماذج القائمة السلطوية أو المعارِضة فعلًا مختلفًا في حياة السوريين.
الشأن العام والمشتقة من الكلمة اليونانية “Res- publica”، أي الجمهورية.(28) هي مفهوم في ثلاثة أركان: الحقوق المادية كمصلحة عامة، والحقوق المدنية، والأخلاق والقيم في آن. الشأن العام عمل يتعلق بالجميع، وتنعكس صورته بشكل جلي أمام الكل المجتمعي. هو الفعل السياسي القادر على تجاوز عقدتي الأيديولوجيا المعتقدة في ذاتها أنها الأصلح، والنفعية التي تقف على الضد المباشر من الأيدولوجيا، وتعدّ ذاتها صاحبة الواقعية والبراغماتية في الإنتاج. الشأن العام عمل في الفكر والأخلاق والقيم والمصالح في آن معًا. وأي انفكاك بين أطرافها الثلاثة، هو عمل في الشأن الخاص سواء أكان حزبيًا أو أيديولوجيًا أو نفعيًا حتى وان حقق مصلحة فريقه، إلا أنه لم يقم وزنًا للكل المجتمعي والمصلحة المجتمعية الكلية، ومنها احترام الاختلاف والتنوع المجتمعي سياسيًا وفكريًا وثقافيًا واقتصاديًا. تلك التي تشكل جميعها أرضية العقد الاجتماعي لبناء الدولة. وهذا مختلف عن فرض شروط وبرنامج حزب ما أو قوة عسكرية ما، أيدولوجيا معينة، أو هيئة سياسية طريقتها على المجتمع. الأولى عمل في السياسة بوصفها شأن عام وحرفة بحسب ماكس فيبر لم تتقنه المعارضة ولا السلطة حتى اليوم. والثانية عمل في السياسة بوصفها احتراب وقوة تمارسه أغلبية سلطات الأمر الواقع سياسيًا وعسكريًا. الأولى قادرة على البناء والديمومة والاستمرار وتحقيق الاستقرار والأمان، وتلك معايير المجتمع المدني التي يعمل فيها فرقاء العمل المدني من دون تعميمها، بل حصرها في أطرهم الضيقة. بينما الثانية، حتى وان استمرت لزمن، ستعمل على هدم المجتمع والدولة، وسورية بسياسة وسلطات الأمر في واقعها وحاضرها اليوم، مثال لا تخطئه عين!
يمكن للثورة أن تتعسر، أن تنكسر وتنهزم، ويمكن للمجتمع أن يعود إلى حكم العسكر بشكل أشد، كما حدث في الثورة الفرنسية، ويمكن أن ينقلب على نتائجها حكم العسكر بثورة مضادة كما حدث في فرنسا سابقًا ومصر حاليًا، أو أن تسقط تحت حكم السلطة المركزية مطلقة الصلاحيات كما في روسيا …إلخ، ولكن هذه دورة زمن لم تستمر تاريخيًا. وطولها الزمني يتعلق بجملة من المعايير المرجحة لكفة الاستقرار واستعادة أرضية بناء الدولة. ما يقود إلى جملة من المحددات المهمة في تجاوز معيقات حالنا السوري يمكن فردها في خلاصة مقارنة للمقاربات البحثية أعلاه:
تتحقق الدولة عندما يساهم مجموعها العام توافقيًا في إنتاج قوانينها ونظام حكمها وتشريعاتها التي تضمن الهوية الوطنية المجردة Naked Nationality من أي شبهة سلطوية أو نزعة استحواذية للاستفراد فيها، سلطوية قائمة أو معارضة بديلة.
القناعة بلا جدوى الحلول المستفردة بالسلطة وبالضرورة الانتقال من الترتيب الهرمي الذي تحكمه سلطة ما، من أعلى قمته بنظام مركزي تسلطي أسماه خلدون حسن النقيب بالدولة التسلطية، إلى مجتمع الحقوق الأفقية المتساوية Horizontal Rights، والذي يختلف اختلافًا جذريًا عن الهيمنة والسلطوية. وهذه بحسب تعريف تشارلز تايلور بأنها الانتقال من عالم عمودي العلاقات إلى مجتمعات الحقوق المتساوية، وهي “مثال أعلى للمسؤولية الذاتية مع تعريف جديد للحرية والعقل والشعور المترابط بالكرامة.”(29)
العمل بالطرائق المتوازية Parallel Methods والمتكاملة فكريًا وسياسيًا واجتماعيًا ومدنيًا، من دون خوض غمار صراع فرضياتها واستحقاق إحداها المفرد، مع ضرورات توضيح وتفنيد الكوارث التي أنتجتها السياسة العسكرية الانحيازية لجهة السطوة وحسب سلطوية أو معارضة، بكل كوارثها المعلنة داخليًا ومحليًا ودوليًا.
الاعتدال السياسي وحق الكل السوري، والكل السوري بلا تصنيف ثوري أو سلطوي، ولنقل الوطنية السورية كهوية وطنية مجردة Naked Nationality، يقوم بها رجال دولة State Men من جميع الشرائح السورية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية والمدنية. وإعادة إحياء الوجدان السوري في الداخل السوري المسحوق سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا، المتضمن نزعته إلى الحرية والكرامة الشخصية والانفتاح العالمي والتعايش السلمي مع المحيط والجيران. والبحث في آليات توطين الحقوق المتساوية الأفقية لجميع السوريين من دون نزعات الفوقية أو الدونية السياسية والحزبية والأيديولوجية والدينية الإيمانية والفكرية والشخصية.
العمل على سيادة دولة القانون وكف يد الأجهزة الأمنية عنها، وتحقيق بواعث العدالة والحقوق والإنصاف لكل مكونات الشعب السوري، والذي بات كل مكون منه يحمل مظلوميته الخاصة من دون الشعور بالمظلومية العامة السورية وهويتها الوطنية.
وبالضرورة، يمكن للثورة أن تخطو مرة أخرى بالاتجاه الصحيح معياريًا لإنتاج الدولة وإنهاء مرحلة الفوضى الحالية، إذا ما تشكلت تلك الفعاليات السورية الوطنية، وتعاقدت على تحقيق مثلث المصلحة الوطنية العامة والفكر التحرري العصري والقيمة الحضارية لسورية، وهذه بعيدة عن صيغتَي السلطة والمعارضة السياسية، وقد تشاركا في هذه المعادلة إذما امتلكا إرادة التغيير هذه. واكتمال القناعة الحسية بالملامسة الواقعية لا النظرية وحسب، بمسؤولية سلطة النظام السوري عن الانهيار السوري العام ماديًا واقتصاديًا، في موازاة مسؤولية المعارضة السورية على عدم قدرتها على إنتاج أرضية هذه الحقوق وأدوات تفعيلها الممكنة.
الوطنية السورية اليوم أمام مسؤوليتها المباشرة والتاريخية، وأي خطوة سياسية لا ترتقي المعايير البحثية التي تقلص من الفوضى ومرحلة اللا دولة قد تذهب بما تبقى من الثورة وسورية. فالعمل على أسس مقومات الدولة ومحددات صناعة حدثها العام، واحتواء تناقضاته، وقراءة مشهدها العام وعقدها الدولية وكوارثها المحلية هو عمل على:

  • امتلاك القدرة الذاتية على صناعة القرار الوطني.
  • الإقرار بالحقوق المدنية والسياسية والإيمانية المتساوية لجميع السوريين.
  • التجرد عن كسب معركة السلطة والحكم وفقًا للوطنية السورية المجردة.
  • ملء الفراغ السياسي المُستقطب بين حدي السلطة والمعارضة.
  • شق المسار المولِّد لمفهوم الكل السوري، وحقه العام في الحرية والعيش الكريم والتوافق على آلية حكمه، فحسب لوك “ولِد الإنسان وله الحق في الحرية الكاملة ولكل فرد الحق في الحرية لشخصه؛ ليس لأحد أي سلطة على هذا.”(30) كما أجازها الصحابي الفاروق عمر بن الخطاب قبله “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا.”

رابعًا وختامًا: البارادايم الصوفي، ماذا بعد؟
ليست مصادفة أبدًا، أنه على الرغم من موتنا العلني وهدر حقوقنا المادية والحياتية، أن يتمرد الطفل فينا على قوانين وشرائع العالم المادية ومصالح الأمم الرقمية، ويعلن أن الضحك والمرح لازمة حياة. ففي سورية بلغ الألم حد العجز، وبلغ الموت حدًا يفوق الفجيعة. وما زالت الأمهات ترتقب صوت فرح ينبئها عن وليدها المعتقل، والطفولة تحلم باللوح والسبورة، واللعب بأمان.
المقارنات والمعايير المشتقة أعلاه هي محاولة في وصف بضع المشهد ووجه من أوجه الحقيقة. هي محاولة لا تدّعي اكتمالها في تحديد معايير وأرقام ذات دلالة على المشهد السوري الكارثي اليوم بتجلياته السياسية والثقافية والمادية والإنسانية. وقد تكون غير ملمّة بوصف المشهد السوري بتمامه، بقدر محاولة فتح البوابة أمام دراسات كمية ونوعية واسعة، يمكنها تعبيد الطريق أمام رؤى ومناهج بحثية تفيد في تخفيف آلام الحمل وعسر الولادة ومشقاتها بحسب تعبير ماركس.
لقد نجحت الثورة سلميًا ولكنها هُزمت سياسيًا بمعارضتها. ونجحت عسكريًا ولكنها هُزمت جيوبوليتيكيًا، وتنتقل كرة الجيوبوليتيك الروسي إلى قلب أوروبا والنظام العالمي منذرة بشر حرب عالمية ثالثة. فهل ستمثّل الثورة السورية في بارادايم صوفي استثنائي في سياق التحولات التي تشهدها المنطقة العربية برمتها وتداعيات الحالة الدولية عامة؟
تقف التحولات الدولية من عصر العولمة إلى الجيوبوليتيك العولمي في مقابل الجيوبوليتيك الروسي الصاعد مباشرة وبوضوح في وجه تحقق الدولة السورية الحديثة. فالأولى، وفي مقدمتها أميركا، لو أرادت لحسمت قضية الشعب السوري منذ مسألة الكيماوي عام 2013، قبل نمو التطرف والإرهاب واحتدام مشاريع الحرب الخارجة عن الثورة ومبتغاها. والثانية الروسية، ها هي تنتقل اليوم إلى قلب أوروبا تهدد السلم العالمي برمته. وقضية الشعب السوري هي الضحية بين الطرفين ونقطة التحول العالمي هذا. بينما تجيز لنا المؤشرات الدولية اليوم القول إن حل المسألة السورية قد يكون من أهم خطوات تجنب العالم أن يقع فريسة حرب عالمية ثالثة، دُق جرسها في سورية وجاوبتها أوكرانيا في قلب أوروبا.
الاستثناء السوري وأنموذجه الصوفي هو بارادايم التجلي فوق المادة والعسف السلطوي وزلات الواقع المميت، هو تلك الروح التي ترفض الموت على الرغم من كوارثها المادية. هو روح الشعب، يقينية الحقوق، ثورة الروح الخلاقة تنشد مع الحلاج: عَجِبتُ لِكِلَيَ كَيفَ يَحمِلُهُ بَعضي وَمِن ثِقلِ بَعضي لَيسَ تَحمِلُني أَرضي. فلا دول العالم تستوعب كوارثنا، وليست بوارد حل مشكلاتنا إلا وفق مصالحها، ونحن السوريون لم ندرك جيدًا حتى اليوم مقدار أهمية وأثر المسألة السورية في متغيرات المشهد الدولي. كما ولم نساهم بعد في امتلاك القدرة على تمييز هويتنا الوطنية المجردة وحقوقنا المتساوية، وطرائق العمل الفكرية والسياسية والاجتماعية المتوازية، بقدر تمييز هوياتنا دون الوطنية ومشاريعنا السياسية الأيديولوجية والعسكرية والنفعية.
وعلى الرغم من هذا، لسان حال السوري يردد على الرغم من موتنا العلني: أنه من قرر أن يهدم أصنامه السياسية والفكرية عن سبق إصرارٍ وعمدٍ، وصناعة المعنى الوجودي والإنساني والتحرري، والبحث عن معالم وجودنا وحضورنا الزمني والعصري لا عن معجزات سياسية وسحرية. ولم يزل بالإمكان أن تتواضع الأنوات السورية أفرادًا وأحزابًا وانتماءات أمام الهوية العمومية ماديًا وحقوقيًا وفكريًا، والتي هي نتاج الحداثة والتنوير والعصر الحديث باعثة على الاستقرار في دولة حقوق وحريات!
هي محاولة وجود، لا تيأس ولا تهرم أناملها عن الفعل والحتّ في زوايا السياسة الدولية المعتمة وبقايا عفن وهرم سياساتنا الأيديولوجية والنفعية وتأخُّرنا التاريخي، ومحاولة متكررة لتحقيق ما لم تستطع الثورة تحقيقه بتداعياتها الأولى. وهذه منوطة بجيل من الشباب السوري ونخبه الفكرية والثقافية والاقتصادية على إيجاد الصلة الوثيقة بين الحقوق المادية العامة للكلية السورية، وأفكار التحرر والحداثة والقيمة الإنسانية. ويبدو حتى وقتنا هذا، أنها مهمة شاقة لكنها ممكنة إذا ما قاربنا المسألة السورية من بوابة الاستثناء لا التعميم، وأن حلها بشكل عادل قد يكون مقدمة للسلام العالمي وتحقق الاستقرار وحقوق الإنسان. فهل هذا ممكن وقريب؟


المراجع

1– آرنت، حنّة. في الثورة، عطا عبد الوهاب (مترجم)، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2008).
2– الإمام، صلاح. أشهر الثورات في التاريخ، (القاهرة: مكتبة جزيرة الورد، 2011).
3– إمام، عبد الفتاح. توماس هوبز فيلسوف العقلانية، (القاهرة: دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1985).
4– برينتن، غرين. تشريح الثورة، سمير الحلبي (مترجم)، (دبي: كلمة للنشر، 2009).
5– بشارة، عزمي. في الثورة والقابلية الثورية، (بيروت: المركز العربي للدراسات، 2012).
6– بورديو، بير. الرمز والسلطة، عبد السلام بنعبد العالي (مترجم)، (الرباط: توقبال للنشر، 1986).
7– تايلور، تشارلز. منابع الذات: تكون الهوية الحديثة، حيدر حاج إسماعيل (ترجمة)، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2014).
8– الحسيني معدى، الحسيني. موسوعة أشهر الثوار في العالم، (القاهرة: دار النهار، 2012).
9– الخويلدي، زهير. الثورة العربية وإرادة الحياة: مقاربة فلسفية، (د. م: مكتبة المنهل الإلكترونية، 2011).
10– شافعي، بدر حسن. محددات نجاح الثورات، (مركز الجزيرة للدراسات، 2015).
11– العيادي، عبد العزيز. ميشال فوكو، المعرفة والسلطة، (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1994).
12– غنيم، وائل. الثورة 2.0، (القاهرة: دار الشروق، 2012).
13– لوك، جون. رسالتان في الحكم، (د. م: د. ن، 1689).
14– موسى، سلامة. كتاب الثورات، (القاهرة: هنداوي، 2014).

 


 

هوامش الدراسة:

1- الشبكة السورية لحقوق الإنسان، 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022. https://snhr.org/arabic/2020/11/20/12845/

2
 HRW، 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022.  https://2u.pw/DHqRRR

3
 المرجع نفسه، 6 كانون الأول/ ديسمبر 2022.  https://www.hrw.org/ar/news/2022/01/06/380903

4
صوفية، وأصل الكلمة يوناني مشتق من “سوفيا” وتعني الحكمة بحسب البيروني. وعلى الرغم من أن إحالتها الأولى إلى طريقة إسلامية دعت إلى الإيمان الروحي كمرحلة عليا من مراحل الإيمان، نمت وتعددت طرائقها بدءًا من القرن الثالث الهجري مع اشتداد الصراع على السلطة والخلافة في وقتها. من الجدير ذكره أن الصوفية قدمت للفكر والثقافة العربية والإسلامية فتوحات لغوية وأدبية وفلسفية متقدمة عن عصرها، ونقطة الوضوح فيها القدرة على الإنارة العقلية والروحية مقابل اشتداد ظلمة الواقع المادي.
نقصد بالصوفية في الحالة السورية بمعناها العام: تجليات الروح المتسامية فوق المظالم وأحكام القوانين والمصالح المادية المطبقة على حياة الإنسان ومصيره المهدور، والتي لا تزال تبحث عن تجسدها في الواقع المادي حقوقًا وحريات.

5
– Un.News، 29 آب/ أغسطس 2022.  https://news.un.org/ar/story/2022/08/1110002

6
 سجلّ تاريخ المسألة السورية خلال 12 عام: 19 فيتو روسي، عشرات القرارات في مجلس الأمن (للانتقال الساسي، للإرهاب، لوقف الأعمال القتالية، لإدخال المساعدات …إلخ) ولم يكن أي منها ملزمًا بالتنفيذ، 19 لقاء أستاني ثلاثي النفوذ، 12 لقاءً أمميًا جنيفيًا، 9 لقاءات تفاوضية في لجنتها الدستورية، مجلس وطني وهيئة تنسيق، ائتلاف وهيئة عليا للتفاوض، كتل ديمقراطية ومثلها يسارية وقومية بالعشرات، وإسلام سياسي معتدل ومتطرف، أحزاب تتشكل ومحاور تعقد لقاءاتها، وما يزيد على ألفي منظمة مدنية، ومئات الفصائل العسكرية من شتى الأصناف!

7
 مسارات المسألة السورية من الثورة إلى الحرب، من التظاهرات السلمية التي اجتاحت المدن السورية، إلى التدخلات الإقليمية والدولية العسكرية والسياسية. يمكن تحديد مفاصلها إجرائيًا وفق المراحل التالية:

أولًا: التظاهر السلمي والممتد أفقيًا وشعاره العام “الشعب السوري الواحد”، بعد اعتصامَي الحميدية في 15 آذار/ مارس 2011 ويواكير ضحايا السوريين في 18 آذار/ مارس 2011 في درعا. ظهرت في هذه المرحلة بواكير العمل المدني السوري من لجان التنسيق المحلية، وهيئة توثيق الانتهاكات، أسسها الشبان والناشطون في مجال حقوق الإنسان والعمل المدني والسياسي (وثائق مركز كارنيغي للشرق الأوسط:  https://carnegie-mec.org/syriaincrisis/?fa=50432.

يُختلف حول طول مدة هذه المرحلة وقصرها، بين ستة أشهر إلى سنة ونصف السنة، تلك التي وثقتها أسماء وتظاهرات الجمع السورية. بدءًا من جمعة “الكرامة” في 25 آذار/ مارس 2011، وصولًا إلى جمعة “رغيف الدم” أواخر 2012، وبشكل متتال أسبوعيًا، وصلت إلى اليومية في بعض المناطق كأحياء حمص قبل الحصار والتهجير (وثائق العربية. نت: السوريون بدؤوا بجمعة “الكرامة” وختموا بـ “رغيف الدم”، 31 كانون الأول/ ديسمبر 2012. https://www.alarabiya.net/ar/arab-and-world.

ثانيًا: التحول التدريجي للعمل العسكري وامتدت من أواخر 2011 مع تداخل مع السلمية، وتتضح من منتصف 2012 ويمتد إلى منتصف 2013 تقريبًا، وتشكيل فصائل الجيش الحر من العسكريين والضباط المنشقين عن الجيش (وثائق زمان الوصل: https://www.zamanalwsl.net/news/article/19899) الذي استُخدم في قمع المتظاهرين واعتقالهم المترافق مع استمرار التظاهرات السلمية، وعمل سياسي كثيف في أروقة المعارضة السورية تجلى بتشكيل صيغة المجلس الوطني والتي تطورت إلى ائتلاف قوى الثورة والمعارضة وهيئة التنسيق الوطنية.

ثالثًا: التدخلات الإقليمية وتنامي التطرف والإرهاب، من منتصف 2013 حتى التدخل العسكري الروسي أيلول 2015، حيث ترافقت تدخلات حزب الله الطائفية والميليشيات الإيرانية (مع العدالة، الميليشيات الطائفية: مفرخة إيران في سورية، 10 آذار/ مارس 2019)، مع تنامي الفصائل العسكرية ذات الصبغة الإسلامية واضمحلال وتآكل فصائل الجيش الحر واغتيالات قادتها الأوائل (العربي الجديد، داعش بمدرسة المشاة: الذاكرة تستدعي أبو فرات وحجي مارع، 10 تشرين الأول/ أكتوبر 2015)، المرحلة التي تفاقمت فيها نزعتا الكراهية والعنف وتأجيج الصراع الطائفي والمذهبي وتعدد الجبهات والمتحاربين (وثائق يورونيوز: مَن يقاتل مَن في سورية؟ أبرز وأكبر الفصائل المسلحة حاليًا، 16 تشرين الأول/ أكتوبر 2019). وتراجع شبه كلي في التظاهرات السلمية، المترافق مع ظهور الفصائل الإرهابية المتطرفة دينيًا متمثلة بداعش والنصرة (مركز الجزيرة للدراسات: تنظيم الدولة الإسلامية، النشأة، التأثير، المستقبل، 19 نيسان/ أبريل 2015).

رابعًا: المحاور الدولية الجيوبوليتيكية، والتي دشنتها روسيا في أيلول/ سبتمبر 2015، بإعلانها التدخل العسكري الجوي بداية في سورية ولمدة أربعة أشهر بحسب تصريحات رئيسها فلاديمير بوتين، والمستمرة حتى اليوم، والتي أتت على تهجير الداخلي السوري والسيطرة عليه عسكريًا، فحسب تقارير وزارة الدفاع الروسية “أن أكثر من 63 ألفًا من العسكريين الروس، بينهم 26 ألف ضابط و434 جنرالًا، نالوا خبرات قتالية عملية في سورية، فضلًا عن الخبرات التي اكتسبتها 91 في المئة من طواقم الطيران الحربي و60 في المئة من طواقم الطيران الاستراتيجي الروسي”، بالتزامن مع التدخل الأميركي ومن خلفه التحالف الدولي في الحرب على داعش شرق الفرات. 

المحاور الجيوبوليتكية التي أُسِّسَت على أرضية هذه التدخلات ونظرياتها السياسية ومحاورها العسكرية تمايزت بين أستانة جيوعسكريًا وجنيف دوليًا درست تفصيلًا في بحث سابق (جيوبوليتيكا الدوائر المتقاطعة، سورية في عالم متغول، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 4/2018).

خامسًا: المساومات السياسية الدولية، منذ العام 2018 حتى اليوم، بعد إحكام روسيا وسلطة النظام سيطرتها على الداخل السوري، وبقاء إدلب وريف حلب الشمالي تحت سيطرة فصائل المعارضة وتحت الوصاية التركية وشرق الفرات تحت سيطرة قسد والحماية الأميركية، وفتح ملفات اللجنة الدستورية عام 2019 وحتى اليوم بلا نتائج تذكر.

هذه المراحل مشبعة بالكثير من التفاصيل والوثائق المتعلقة بحوادثها الكبرى والصغرى، منوهًا الى الكثير من الدراسات والوثائق التي يمكن الرجوع اليها تفصيلًا في هذا الشأن، لا يتسع مجالها هنا.

8 روسيا و2254، Syria.Tv، 27 كانون الأول/ ديسمبر 2022، https://2u.pw/eYqmEd

9 زهير الخويلدي، الثورة العربية وإرادة الحياة: مقاربة فلسفية، (د. م: مكتبة المنهل الإلكترونية، 2011)، ص167.

10 ديفيد روبسون، “القاعدة الذهبية لنجاح الثورات الشعبية”، BBC-Arabic، 17 أيار/ مايو 2019.

11 “تواصل التظاهرات السلمية في سورية”، تقرير أخباري مصور، شبكة الجزيرة الإخبارية، 17 أيلول/ سبتمبر 2012.

12 “الدفاع الروسية تستعرض نتائج العملية العسكرية في سورية”، RT.Arabic، https://2u.pw/eH1Nmk.

13 عادل رفيق، لماذا تنجح المقاومة المدنية، (د. م: المعهد المصري للدراسات، 2017).

14 أمانة شؤون الجامعة العربية، ملف وثائقي استرشادي حول سورية، 26 أيلول/ سبتمبر 2017، ص6- 30.

15 رفيق، لماذا تنجح المقاومة المدنية.

16 حنّة آرنت، في الثورة، عطا عبد الوهاب (مترجم)، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2008)، ص24.

17 “موسكو: المعارضة الموجودة على الأرض ستشارك في اجتماع أستانا”، روسيا اليوم العربية، 23 كانون الأول/ ديسمبر 2016.

18– بدر حسن شافعي، محددات نجاح الثورات، (مركز الجزيرة للدراسات، 2015)، ص3.

19 وائل غنيم، الثورة 2.0، (القاهرة: دار الشروق، 2012)، ص435.

20 عبد الفتاح إمام، توماس هوبز فيلسوف العقلانية، (القاهرة: دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1985)، ص329.

21 عبد العزيز العيادي، ميشال فوكو، المعرفة والسلطة، (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1994)، ص24.

22 بير بورديو، الرمز والسلطة، عبد السلام بنعبد العالي (مترجم)، (الرباط: توقبال للنشر، 1986)، ص45- 46.

23 سلامة موسى، كتاب الثورات، (القاهرة: هنداوي، 2014)، ص57.

24 صلاح الإمام، أشهر الثورات في التاريخ، (القاهرة: مكتبة جزيرة الورد، 2011)، ص14.

25– الحسيني الحسيني معدى ، موسوعة أشهر الثوار في العالم، (القاهرة: دار النهار، 2012)، ص7.

26 عزمي بشارة، في الثورة والقابلية الثورية، (بيروت: المركز العربي للدراسات، 2012)، ص29.

27 غرين برينتن، تشريح الثورة، سمير الحلبي (مترجم)، (دبي: كلمة للنشر، 2009)، ص24.

28 “السياسة والشأن العام حفر الأيديولوجيا وهضبات البراغماتية”، ميسلون للثقافة والترجمة والنشر، https://2u.pw/kqxqao

29 تشارلز تايلور، منابع الذات: تكون الهوية الحديثة، حيدر حاج إسماعيل (ترجمة)، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2014)، ص275.

30 جون لوك، رسالتان في الحكم، (د. م: د. ن، 1689)، ص190.

مشاركة: