الثورة العسيرة: تحولات الثورة السورية في ضوء ممارسة المعارضات المنقسمة، والاستراتيجيات الدولية المتصادمة

مقدمة
بدأت الثورة السورية عام 2011 وتمثلت بسلسلة من التظاهرات السياسية، شارك فيها السوريون من جميع الطوائف والقوميات، ومن ضمنهم العلويون والدروز والأكراد وغيرهم من أبناء الأقليات، بنسب مشاركة متفاوتة، ضد نظام عائلة الأسد، ولكن سرعان ما تحولت إلى نزاع طائفي، عندما أطلق نظام بشار الأسد النار على المتظاهرين بشكل جماعي، وأفرج عن السجناء الإسلاميين، ما عجّل نشوب الحرب السورية التي نشهدها اليوم، إضافةً إلى أن الجهات الفاعلة الطائفية الإقليمية والجماعات المتطرفة متعددة الجنسيات هي من أججت الانقسامات الطائفية الموجودة سابقًا، وتسببت في تفاقم الصراع، وإن كانت تلك الجهات والجماعات ليست السبب في الطائفية. سيبدو الأمر سطحيًا لو أشرنا إلى الطائفية بوصفها المصدر الرئيس للانتفاضة ضد بشار الأسد أو الدافع الوحيد لاستمرار العنف.
مرت الثورة السورية في ثلاث مراحل، خلال كل مرحلة من هذه المراحل، تغيرت طبيعة الصراع وفاعليه، إذ تحولت من ثورة شعب مكبل بالاستبداد متعطش للحرية إلى حرب أهلية وإقليمية بالوكالة، وبعدها إلى أزمة دولية مزمنة، تكبد الشعب السوري نتيجتها خسائر فادحة، وأصبحت هذه الحرب، الأبشع في فظائعها من أي حرب عرفتها البشرية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

المرحلة الأولى: مرحلة التظاهر السِلميّ
بدأت الانتفاضة المناهضة للأسد، على شكل تمرد متعدد الطوائف، وخلال الأشهر التسعة الأولى من الثورة، شملت التظاهرات السلمية، معظم المدن والبلدات السورية، وشاركت فيها فئات واسعة من المجتمع بشكل طوعي وعفوي وواسع النطاق، بعيدًا عن الشعارات الطائفية والتحريض الخارجي، وحتى بعيدًا عن مختلف الأجندات الحزبية، وساهم في هذه القطيعة موقف المعارضة السورية المتردد بإعلان تأييده الواضح والصريح لثورة الشعب ضد النظام، قبل التأكد من إمكان استمرار صمودها في وجه القمع. وكان تحديد يوم الجمعة لخروج المتظاهرين من المساجد، يوفر فرصة للنظام لإضفاء طابع طائفي على الحراك الشعبي. وقد مكنه ذلك الأمر من إقناع الأغلبية العلوية بربط مصيرهم به، إلا أن هناك مجموعات من العلويين أعربت عن معارضتها للنظام، لانتهاجه الحل الأمني لمواجهة المتظاهرين السلميين. كما شارك قسم كبير من الأثرياء وأبناء الطبقة الوسطى السنية في دمشق وحلب في تمويل شبيحة الأسد لقمع المتظاهرين، إضافة إلى تلقيه دعم أهم الشخصيات والجماعات الدينية في البلاد. كما سمح النظام للعديد من الصناعيين ورجال الأعمال السنة من الفئات الموالية له، بنقل معاملهم ورؤوس أموالهم إلى مصر ولبنان، مع انتشار التخريب العقابي من العمال المشاركين في التظاهر، ومن لم يغادر منهم، قامت الميليشيات المسلحة الجهادية بتفكيك مصنعه وبيعه في تركيا، إضافة إلى ذلك، عندما اندلعت الثورة، اتخذت دول الخليج العربي وتركيا زمام المبادرة في نصح الأسد بعدم الإفراط باستخدام العنف ضد المتظاهرين، وتقديمه إصلاحات سياسية مع وعد بإرسال الأموال والمساعدات اللازمة للإصلاح. كما سَعَت الجامعة العربية لحل الأزمة السورية، وسلّم مجلس التعاون الخليجي الإشراف على الملف السوري، إلى رئيس وزراء قطر حمد بن جاسم، بينما رفضت أطراف المعارضة الخارجية الحوار مع النظام. واكتفت بمطالبة الجامعة العربية بنقل القضية السورية إلى مجلس الأمن الدولي، وتدويل الصراع الداخلي(1)، من دون إدراك عواقب ذلك الموقف الساذج في المراهنة على التدخل العسكري الخارجي، بدلًا من الرهان على قوة الشعب في مواجهة النظام، ذلك الخطأ الذي سوف يُخرج القضية السورية بكاملها من يد جميع السوريين، ويترك مصير الثورة والشعب والدولة في يد القوى الدولية وتجاذباتها.
وبحسب شهادة برهان غليون: (الحكومات العربية والأجنبية لم تكن مهتمة بنجاح الثورة ذاتها بمقدار ما كانت تسعى إلى الضغط على النظام من أجل دفعه إلى انتهاج سياسية واقعية تجنبه التورط في حرب داخلية، تهدد مصالحها).(2) وأكثر الدول التي وقفت إلى جانب النظام في تلك الفترة، هي قطر وتركيا والسعودية.
ولكن مواقف هذه الدول الداعمة للنظام، ستتغير في ما بعد بسبب تجاهله نصائحها وخداعه لها، لذلك سيحاولون الضغط عليه عن طريق إمداد معارضيه بالمال والسلاح، في وقت هم يخشون فيه دعم ثورة شعب، لا يعرفون سلفًا مآلاتها النهائية.
جميع السيناريوهات التي تخيلتها أجهزة مخابرات الأسد التي تتابع بشكل روتيني وعن كثب ثورات شعوب المنطقة، وترسل الضباط لتطوير سيناريو مضاد، جعلت من الثورة السورية ثورة تكلف الكثير. ولهذا تحدث الرئيس السوري بشار الأسد بكل ثقة، حيث بدأ هدير الثورة يقترب من حدود المنطقة، بأن سورية ليست تونس أو مصر أو ليبيا. لكن فشل النظام في بناء تحالفات اجتماعية واسعة، وداعمة للتغييرات الاقتصادية الجديدة، جراء تحرير سوقه المحلية من الحماية خلال عامي 2006 و2007، جعل الثورة السورية ممكنة إلى حدّ ما. وقد اتضح لاحقًا أن النظام السوري لا يعتمد على تحالفات الداخل في حماية نفسه من ثورة المفقرين، أو على الشراكة مع السوق الأوروبية والمتوسطية، لتخفيف أعباء تحرير السوق المحلية، بل على التعاون الأمني والاقتصادي مع محور إقليمي يشمل دول (إيران والعراق ولبنان وسورية)، لمواجهة مشروع إصلاح الأنظمة العربية الذي تضمنه المشروع الأميركي لإصلاح الشرق الأوسط.(3) وردًا على ذلك الاحتمال، حسم نظام الأسد خياراته بخوض حرب أهلية بارتدادات طائفية إقليمية، من شأنها تقويض مصالح الجميع في المنطقة. حيث وضع شعبه وخصومه أمام خيارين قاسيين: إما أن يقبَلوا بقاء النظام على استبداده، بأحكامه العرفية وتسلط أجهزته الأمنية، أو يتفكك المجتمع عموديًا وفق أسس دينية وطائفية وعرقية وقبلية؛ كان المطلوب منه أميركيًا قبل الثورة إعادة تأهيل نظامه بإصلاحات سياسية من شأنها أن تمنحه المرونة الكافية لامتصاص غضب الجياع، وتمكينه من إدارة أزمة السوق السوري المضطرب. لكنه لم يفعل حينها، نظرًا إلى استعصاء النظام على الإصلاح، فهو يدرك أن فتحه المجال السياسي أمام المجتمع، سيقوده إلى إلغاء احتكاره السلطة وتفكيك الدكتاتورية، وهو الذي أمضى عقودًا في إطلاق يد الأجهزة الأمنية لإغلاقه، ولكن لمّا وجد الأميركيون في الشهرين الأولين من اندلاع تظاهرات مدن حمص وحماة ودير الزور، حجم الثقل الشعبي الديمقراطي الكاسح للثورة السورية أدركوا خطرها في بلد مفتاحي مثل سورية، سوف تقوم الثورة فيه بتجذير سائر ثورات الربيع العربي، لذلك لم يكفوا عن المراهنة قبل الثورة وبعدها، على تسوية لإصلاح النظام وعرقلة مسار الانتقال السياسي فيه، بالطلب من حلفائهم في المنطقة إقناع الأسد خلال الستة أشهر الأولى من الثورة، بتقديم إصلاحات من أجل احتوائها، وسوف يتسبب ذلك الإصرار الأميركي على إصلاح النظام، في احتجاز الثورة الديمقراطية السورية، وفي نهاية المطاف سيؤدي إلى جانب عوامل أخرى لإفشالها، في حين سوف يصم هو أذنيه عن سماع نداء الإصلاح، ويرد بسيناريو مضاد للثورة، يتم بموجبه استدعاء ثورتين ضدها، الأولى من داخلها ترفع شعاراتها نفسها، لكنها ملوثة بالطائفية، فيسهل عليه شقها عموديًا، والثانية بمجموعة تدخلات من خارجها، عبر اعتماده الحلول الأمنية في وجه المتظاهرين السلميين، وتحويل ثورتها المدنية الديمقراطية إلى حرب مسلحة، هو قادر على هزيمتها طال الزمن أم قصر.
من أبرز الدروس المستفادة من هذه المرحلة، والتي كان لها شأن مهم في صمود النظام ومنع سقوطه، هو موقف الجيش الداعم له، بعكس ما حدث في تجربة الثورتين المصرية والتونسية، حيث وقف الجيش المصري على الحياد زمن مبارك وانحاز لجانب الشعب في تونس. والعامل الثاني الذي أضعف استثمار التظاهرات في زيادة الضغوط على النظام وشكل ثغرة في جسدها هو غياب قيادة للحراك الشعبي، إذ كان يمكن لتنسيقيات الثورة السورية الديمقراطية أن تفرز قيادة سياسية وطنية للثورة من داخلها، عوضًا عن الارتماء في أحضان المعارضة المرتهنة لإرادة الدول، لاستقدام الحماية الدولية. الأمر الذي يعيدنا إلى الوراء لإعادة التفكير في مخاطر العفوية في العمل السياسي؟ ولأهمية دور التثقيف الذاتي عوضًا عن الحزب، والممارسة السياسة كمهنة احترافية، حيث تقوم الأحزاب عادةً في البلدان الديمقراطية بالدمج بين العلم الذي هو معرفة وبين السياسة، فيصبح هناك سياسيين يقومون بدور حامل الرسالة والداعية بشكل تطوعي ودون تلقي أجر، وبذلك يتميز هؤلاء عن البيروقراطية التي تقوم بالدور نفسه، ولكن مقابل أجر بحسب مفهوم ماكس فيبر(4)، وفي ظل الدكتاتورية حيث يكون المجال السياسي مغلقًا، ودور الأحزاب معطلًا أو يكون طابع هذه الأحزاب نخبويًا ضيقًا، عقائديًا أو ليبراليًا، تصبح هناك حاجة لمن يلعب دور الحزب من المثقفين بالدمج بين العلم والسياسة، فيؤدي هؤلاء دور الداعية، ولكن من دون أن يتقاضوا مقابل ذلك أجرًا، ويأخذ عملهم صفة الاحترافية بحيث لا يكون طارئًا، بل له صفة الاستمرارية، والاحتكاك الواسع مع جمهور المواطنين.
وأخيرًا علينا ألا ننسى ونحن نتحدث عن معوقات ساهمت في تعثر الثورة الديمقراطية، الدور الذي لعبه تمنع مدينتي حلب ودمشق عن الانخراط في تظاهرات المدن المتوسطة على نطاق واسع، وتسبب تمنعهما في شطر الموقف السني إلى شطرين، فأضعف حجم الضغط الجماهيري على مفاصل الدكتاتورية، وترك النظام في دائرة الأمان.

المرحلة الثانية: مرحلة الحرب المسلحة
أدى إعلان العقيد رياض الأسعد عن تشكيل الجيش السوري الحر في أواخر تموز/ يوليو 2011 إلى نقل الثورة إلى مرحلة الحرب المسلحة التي اتخذت طابعًا طائفيًا، على الرغم من إصرار أغلبية المعارضة، على وصفها بطور (الثورة المسلحة)، الأمر الذي سوف يفتح الباب لظهور الجماعات الجهادية والسلفية، العدو اللدود للثورة المدنية الديمقراطية؛(5) لتكون الخطوة الأولى نحو هزيمتها، بعد أن منع استخدام السلاح المتظاهرين من النزول إلى الشارع، وقضى على ناشطي الحراك السلمي المتورطين في حمل السلاح، ومنح النظام فرصة لتدمير المدن التي خرجت للتظاهر فوق رأس ساكنيها، ما فجر الخلافات في صفوف المعارضات السورية بين (السلميين والتسليحيين، والعلمانيين والإسلاميين، والقوميين والديمقراطيين، والنخب الريفية والمدنية.(6)
وكان للاستراتيجية التي اتبعها الجيش السوري الحر القائمة على حرب المدن تحت ذريعة حماية السكان، أن حوّلت هؤلاء إلى دروع بشرية، مكنت النظام من محاصرة هذه المدن وقصفها، وفرض عليهم خيار الخروج القسري منها (التهجير)، وربما التغيير الديموغرافي في ما بعد. هذا في وقت كان متاح له -نظرًا لعدم التكافؤ القوى- خوض حرب عصابات على طرق إمداد قواته من خارجها وبتكلفة مادية وبشرية أقل، كما فعلت المقاومة العراقية إبان الاحتلال الأميركي للعراق.
ساهم ظهور تنظيمَي داعش وجبهة النصرة (تنظيم القاعدة) في هذه المرحلة، في خلق الذرائع اللازمة لاحتلال سورية من طرف عدة دول وفي مقدمتها أميركا وروسيا، ولاستئخار التسوية في سورية من جهة أميركا، تحت ذريعة أولوية محاربة الإرهاب، وذلك كله في سبيل تبديد مخزونها الديمقراطي بالحرب التدميرية العبثية، وخلق فزاعة في وجه السوريين، وبشكل خاص أبناء الأقليات، تمنعهم من المضي قدمًا في مسار تغيير النظام السوري، واستبداله بإعادة تأهيله من جديد، والقبول بتسوية كانت تُطبخ في الأروقة الدبلوماسية ستظهر معالمها في مباحثات مؤتمري فيينا أواخر عام 2015، الأمر الذي بات مطلوبًا أميركيًا أكثر من أي وقت مضى، لقطع الطريق على انتصار الثورة الديمقراطية في عموم المنطقة، فالظهور والاختفاء المفاجئ لداعش يوكّد لنا السياق الاستخباريّ الأميركي والدولي لذلك، إضافة إلى قيام تنظيم داعش بملء الفراغات التي انسحبت منها قوات النظام، في حين انصبت حربه على فصائل الجيش الحر التي كانت تحارب النظام، وعندما قام بفرض دولته الإسلامية، عمد إلى معاقبة الحواضن الشعبية الديمقراطية التي انتفضت على النظام قبل أن يسحب الأخير قواته منها.
لقد أصبح معيار الثورية في هذه المرحلة رفض مبادرات الحل السياسي من جهة معارضة المجلس الوطني، حيث رفضت المشاركة في مؤتمري جنيف1 وجنيف2، وكذلك رُفِضَت بعثة المراقبين العرب، لأنها لم تتضمن مبادرتها إسقاط بشار الأسد بالقوة، ولم تدعم الحل العسكري لإنهاء النزاع الدائر، وبذلك “وضعت السياسة في تناقض مع الثورة”(7)، على حد تعبير برهان غليون.

المرحلة الثالثة: مرحلة تدويل الصراع وتحوله إلى أزمة دولية
ربما تكون إحدى المفارقات الكبرى في هذه المرحلة، أنه كلما اقتربت المعارضة المسلحة من تحقيق هدفها المتمثل في إسقاط النظام، كان الموقف الدولي ينفك عن دعمها كبديل محتمل عن نظام الأسد. وقد وجد ذلك الموقف الملتبس من التحول الديمقراطي المطلوب إنجازه في سورية، ترجمة عملية له في القرارات الدولية ذات الصلة ومنذ وقت مبكر منذ بدء الصراع، حيث كشفت خارطة الطريق لبيان جنيف1 وفي ما بعد البيان الأممي الصادر عن مجلس الأمن الدولي 2254، وجود إصرار دولي على مشاركة النظام في أي بديل قادم للحكم، ما يدل على وجود تواطؤ دولي تقوده أميركا بالتفاهم مع الروس على احتجاز الثورة الديمقراطية السورية، والاكتفاء بإصلاح النظام، حده الأقصى استبدال رأس النظام بشار الأسد، والأدنى إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، يمثلهما مسارا الأستانا وسوتشي القائمين على فكفكة الميليشيات الطائفية والتكفيرية بوساطة المصالحات، وكتابة دستور جديد للبلاد وحكومة مشتركة بين الموالاة والمعارضة، وقد توضح ذلك الموقف الذي يقوم على ترويض مطالب الشعب بالديمقراطية في محطات متعددة، أولها حين صدور بيان جنيف1، فقد وجدنا ذلك يحدث في غياب المعارضة للنظام، ما يوكّد على تفارق تام في الموقف من التسوية، ثم تبع ذلك الإصرار الإقليمي والدولي على ربط التمويل والتسليح للجيش الحر بالأسلمة والتطييف، ما أحدث انعطافًا في مسار الثورة، وقد تعمق لاحقًا بفتح أبواب سورية لنفايات العالم كلها من الجهاديين التكفيرين القادمين من الشيشان وأفغانستان ودول آسيا الوسطى، وتحويل سورية إلى ساحة معركة عالمية على الإرهاب لتبدد كامل مخزون الثورة الديمقراطي، ما برر ادعاءات النظام كلها، وإعادة تعويمه كنظام ممانع للإرهاب، والانتقال في ما بعد إلى احتلال سورية، والدفع بالروس لغزوها عند محاصرة دمشق في ربيع عام 2015 وتهديد النظام بالسقوط، وأيضًا عند حدوث اتفاق (كيري- لافروف) على أبواب معركة حلب. وتكريس ذلك الموقف بالسماح للنظام تعطيل مسار جنيف التفاوضي دون المبادرة إلى إقرار آلية ملزمة للقرار 2254. وعند إغراق هيئة التفاوض بقوى الثورة المضادة لتفاوض على الانتقال السياسي الديمقراطي من جهة الفصائل العسكرية الإسلامية ذات الأجندات الطائفية المولدة للانقسام الطائفي، والمانعة لتشكل هوية جامعة لوحدة البلاد.
أيضًا وجدنا ذلك في التناقض الكبير بين مواقف وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلنتون ومساعدها السفير روبرت فورد الداعمة للمعارضة من جهة، ورفض البيت الأبيض رفع الحظر عن تزويدها بالسلاح من جهة أخرى، فصب ذلك في مصلحة النظام. لقد حاولت أميركا اختراق المعارضة السورية، بوضع شروط سياسية عليها من دون أن تقدم لها أي شيء فعلي في المقابل، ما أظهر رغبتها في التعامل معها كمعارضة مرتهنة، وليست حليفة لها. ذلك كله يوكّد أن البديل المراد تعويمه أميركيًا ودوليًا للنظام في سورية، هو نظام ديمقراطي من حيث الشكل (لدولة رخوة) غير قادرة على ربط الديمقراطية بالتنمية، أي دولة غير قادرة على توحيد السوق الداخلية أو التدخل فيها وعاجزة عن حمايتها من المنافسة أو الإفلاس أو تقديم رعاية اجتماعية لمواطنيها، ومن ثم غير قادرة على تشكيل هوية جامعة للسوريين، الأمر الذي يستلزم تحويلها إلى دولة أساسها القانون، فتحمي حقوق الأفراد بمختلف انتماءاتهم الجزئية المتعددة.

هل هُزمت الثورة؟
لا تزال معظم نخب المعارضة السورية ترفض الاعتراف بواقع هزيمة الثورة السورية، وتخوّن من يقوم بطرحه، تحت ذرائع شتى منها: إن المعركة لم تُحسم بعد، والصراع ما زال مستمرًا وبأشكال عدة، والقول بهزيمة الثورة، سوف يضعف معنويات أولئك الذين ما زالوا يقاومون؛ أيعقل بعد كل هذه التضحيات الجسيمة في الصراع الأهلي الدامي، قبول بقاء النظام؟ كما أن المفاوضات مع النظام الدكتاتوري -وإن تعثرت- لم تبدأ بعد، خاصة وأن هناك بيانات دولية وقرارات أممية، تنص على حق الشعب السوري بالانتقال السياسي إلى نظام جديد، فلماذا يجب إلغاء هذه الاعتبارات كلها، والهرولة باتجاه مقولة الهزيمة وتحمل عبء خزيها، أما يكفي ما ذقناه من مرارتها في حزيران/ يونيو 1967، حتى نعود إلى تذوق طعمها من جديد؟ هذه عينة من الردود والتساؤلات والهواجس، التي يواجهنا بها المعترضون على مقولة: “هزيمة الثورة السورية”، فتجعل المرء يتردد ولا يتسرع في إطلاق الأحكام على قضية شعب ما زال يطرق باب الحرية بقبضات مضرجة بدماء الشهداء. ولكن منطقيًا لا بد من الاعتراف أن الثورة فشلت في إسقاط النظام، والثورات تُقاس بنتائجها، صحيح أن الدولة تحولت إلى دولة فاشلة، وانحسرت سلطتها عن العديد من المناطق التي تحوي مصادر الريع والبنية الاقتصادية التحتية، وخسر النظام معظم أفراد جيشه، وابتعدت عنه حاضنته الاجتماعية، وبدأ حلفاؤه الإقليميون في التخلي عن دعمه، بعد أن استنزفت الحرب معظم قدراتهم، ولكن على الرغم من ذلك ما زال النظام قائمًا ولم ينهَر من الناحية العسكرية أو لم يُهزَم بشكل نهائي بعد؛ ولكن مجرد إلقاء نظرة فاحصة على الوضع مجددًا، تكشف لنا أنه بدأ بالانهيار اقتصاديًا في المناطق الواقعة تحت سيطرته، ومن ثم فإن واقعه أقرب إلى الهزيمة منه إلى النصر، ربما تكون حاله أفضل من حال خصومه في المعارضة المسلحة الذين قبلوا إجراء المصالحات، وسلموا المناطق التي انتزعوها منه بالقوة في مناطق خفض التصعيد، أو الذين هُجِّروا إلى إدلب، ووضعوا كامل مصيرهم في يد تركيا التي بدأت تسحب دعمها لمواصلة الصراع على السلطة مع الأسد. أما أهل سورية فإن أحوالهم ليست أفضل من وضع النظام والمعارضة، فبعد ما لحق بمدنهم من دمار وحصار، وقتل وتهجير، وتغير ديمغرافي طائفي على يد قوات الأسد، انتُزعت قضيتهم من أياديهم، وباتت في أيادي الدول التي احتلت أرضهم وقسمتها إلى عدة مناطق نفوذ، فأصبح واقعهم لا يحتمل أبدًا إطلاق صفة الانتصار عليه، ويبدو أن المفاوضات ستعكس في النهاية ميزان القوى العسكرية على الأرض، وأن تميل كفته اليوم إلى جانب النظام بشكل كامل، فلماذا بعد ذلك كله لا توصف تلك الأوضاع المأسوية للشعب السوري بالهزيمة؟
يردّ البعض معترضًا: لن يكون ميزان القوى داخل سورية، وحده من يقرر نتيجة المعركة، إذ لدى النظام شركاء في المعركة، وسيؤثر موقفهم في تحديد مستقبله، إذا ما تغيرت أوضاعهم وكفوا عن دعمه، فإن أوضاع المتحاربين سوف تتغير، وينقلب المنتصر إلى مهزوم، والمهزوم إلى منتصر، وقد ينقلب الموقف كله ضده، وينهار فجأة. صحيح أن النظام ما زال صامدًا حتى الآن، لكنه لم ينتصر على الثورة السورية الديمقراطية بعد، وكم من نصر عسكري انقلب إلى هزيمه في دهاليز السياسة، وكم من هزيمة عسكرية انقلبت إلى نصر مؤزر في المفاوضات؛ إذًا لا توجد إجابات قاطعة ردًا على سؤال هزيمة الثورة؟
حيث الصراع ما يزال مفتوحًا على عدة احتمالات، ولم تُسدَل الستارة على مشهده الأخير بعد، ويحيلنا هذا المصير الغامض للثورة إلى سؤال آخر عن العوامل التي أدت إلى صمود النظام هذا الوقت كله؟ وإذا ما كانت الثورة مستحيلة ولم تنضج أحوالها الموضوعة بعد، أو مجرد أزمة عولمة استورِدَت إلى داخل المنطقة؟ مما لا شك فيه هناك عوامل داخلية ساهمت في هزيمة الثورة أو في تأجيل انتصارها، بعضها يتعلق بالنظام، والبعض الآخر بممارسة المعارضة، كما أن هناك عوامل خارجية أعاقت انتصارها.

دور العوامل الداخلية المتعلقة بالثورة
العامل الأول:
فشلت المعارضة السورية في تقديم نفسها أمام السوريين، بصورة البديل الديمقراطي المعتدل لنظام الأسد، بسبب تلوث مواقفها بالطائفية والخشية من الشعب حين جعلت فصائلها العسكرية المتأسلمة والملوثة أيديها بالدم السوري، تفاوض عن الثورة باسم السوريين جميعًا، في جنيف، وأستانا، وسوتشي، وبالدستورية ومؤتمري الرياض1 والرياض2 وفي تشكيل هيئة التفاوض. وإدارة صراعاتها البينية، بعقلية التآمر والتخوين. وربما كان هذا السبب الرئيس وراء إدارة أجيال الشباب ظهورهم للأجندات الحزبية في بداية الثورة، لكنهم وقعوا في الخطأ لمّا عادوا وسلموا أوراق الثورة للنخب السياسية المعارضة في الخارج، وقالوا: “المجلس الوطني يمثلني”، ليُتاجَر بها وتخضع لحسابات العقل الانتهازي، عوضًا من العمل على إنتاج قيادة مدنية من داخل الحراك الشعبي السلمي نفسه، فكانت الخطوة الأولى على طريق هزيمة الثورة. تجلت قوة الثورة والتي جعلت الثورة الديمقراطية ممكنة، في عفويتها وبعدها عن الانتهازية وانقسام النخب السياسية(8)، حيث كان لوسائل الاتصال الاجتماعي دور الحزب السياسي الحديث، المنظم للحراك المدني الديمقراطي. والدليل الذي نستشهد به على صحة هذا الرأي المخالف لما هو سائد من هجاء لعفوية الجماهير(9)، هو المقارنة بين مسار الثورة في زمن العفوية وتنظيم التنسيقيات للتظاهرات السلمية، ومسارها بعد إنشاء المجلس الوطني المعارض، ناطقًا باسمها وممثلًا عنها، وفي أعقاب الإعلان عن قيام الجيش السوري الحر، حين أصبحت هناك قيادة سياسية وعسكرية للثورة، وسوف نلاحظ عندها الفرق بين المرحلتين، ففي حين حافظت في مرحلة العفوية على سلميتها، وتوسعت المشاركة فيها لتشمل جميع المكونات الاجتماعية في المدن والبلدات السورية، وجدناها قد تقلصت شعبيتها، وفقدت سلميتها وتأسلم خطابها، بعد توافر قيادة سياسية وعسكرية لها تنطق باسمها، وتنظم عملها في الداخل والخارج.
العامل الثاني: تماثل استراتيجية المجلس الوطني المعارض مع استراتيجية النظام، حين رأى بالنظام فاقدًا الشرعية لأنه نظام علوي، في حين رأى النظام في الثورة مؤامرة سنية على نظامه الوطني، فرُفِضَت التسوية من كليهما، ما جعل إسقاطه بالقوة بالنسبة إلى المجلس المدخل الوحيد للانتقال السياسي، مستندًا في ذلك إلى دعم المجتمع الدولي الرافض فكرة الإسقاط بالسلاح والتغيير الجذري للنظام، وقد ترجمت تلك الاستراتيجية المتناقضة والملتبسة نفسها، في الحط من قيمة التفاوض السياسي، فكانت المعارضة ترفض التفاوض وهي منتصرة وتقبل التفاوض وهي مهزومة، إذ تعمدت رفض مبادرة الجامعة العربية بنقاطها الست، وطالبت حين عُرضت عليها، دفع الملف إلى المجتمع الدولي. ثم عاودت الرفض وتضييع الفرص مجددًا، عند دعوتها لحضور مؤتمر جنيف1 في 29 حزيران/ يونيو 2012 على الرغم من إقراره توازنات القوى على الأرض السورية، لمصلحة الثورة وليس لمصلحة النظام، على خلفية مراهنتها على موقف أخلاقي دولي منحاز إلى حق الشعوب وخيارها الديمقراطي، ثم عادت وقبلت به لمّا اكتشفت سذاجة موقفها السابق. ثم تكرر الموقف ذاته عندما دُعيت إلى حضور مؤتمر جنيف2 من طرف الأخضر الإبراهيمي، فرفضت الحضور من جديد مشاركةً الرفض مع النظام، في المراهنة على التفسير الأميركي لبيان جنيف1 وثباته، بمواجهة إصرار الموقف الروسي على (مرحلة انتقالية مع الأسد)، في وقت كان الميزان العسكري على الأرض حينها، يميل في مصلحة الفصائل وليس النظام، وإمكان استثمار ذلك في المفاوضات! الأمر الذي دفع بالأخضر الإبراهيمي للاستقالة، وجعل تطبيق البيان متعذرًا. كما علّق وفد هيئة التفاوض برئاسة محمد صبرا مشاركته في إحدى جولات جنيف، بوضع رحيل الأسد شرطًا مسبقًا للتفاوض، قبل حسم المعركة في حلب، ومعركة دمشق الكبرى أواسط عام 2015 لمصلحة النظام، مع علمها أن القرار الأممي 2254 قد جرى التفاهم فيه على بقاء الأسد خلال المرحلة الانتقالية!
ثم عادت وقبلت التفاوض معه بعد خسارة معركة حلب أواخر عام 2016 فباتت شروط التفاوض عليها أصعب، حيث اقترح المبعوث الخاص دي مستورا، وضع آلية لتطبيق الانتقال السياسي، تقوم على تقسيم التفاوض على خارطة التسوية إلى سلال أربع واستبدال حكومة وحدة وطنية، بهيئة الحكم الانتقالي بما يخالف ما تضمنه بيان جنيف1. رفضتها هيئة التفاوض، ثم عادت وقبلت بخطة السلال الأربع، وتعدد المسارات لدي مستورا، والتي أفرغت القرار 2254 من مضمونه.
العامل الثالث: واجه النظام الثورة بثورتين مضادتين في وقت واحد. واحدة من خارجها، بوساطة الحل الأمني العسكري الذي انتهجه النظام لوقف التظاهرات، والذي دعمه فريق داخل السلطة، وعارضه فريق آخر، ممثلًا بفريق خلية الأزمة، وتمت تصفيته في تفجير مبنى الأمن القومي. والثانية ومن داخلها، باستيراد خصم طائفي حمل السلاح، وتصارع معه على السلطة، هو ضده ظاهريًا، ويماثله في عدائه للثورة الديمقراطية من حيث المضمون؛ والاختلاط بين الردة السلطوية ضد الثورة والردة الجهادية، اضطرت الثورة إلى أن تقاتل على جبهتين، ومن نتائج ذلك إضعافها عمومًا وإضعاف وجهها المدني والديمقراطي.
العامل الرابع: أدى الصندوق الأسود للنظام (أجهزته الأمنية) دورًا أساسيًا في صموده ومنع سقوطه حين قام بالمشاركة في معاركه كلها على الأرض، وفي ملاحقة ناشطي الحراك المدني واغتيالهم واختراق شبكة تنسيقهم، هذا على الرغم من تسببها في اندلاع انتفاضة درعا بتاريخ 18 آذار/ مارس 2011 وتوريط النظام في حرب المدن، وتحمل مسؤولية تعرض قدراته العسكرية لخسائر بشرية ضخمة، وتراجع عدد أفراد جيشه من 350 ألف جندي إلى 150 ألف خلال سنوات الحرب الأهلية، إلا أنه على الرغم من ذلك ساهمت في المحافظة على تماسكه وفي إنجاح استراتيجية المضادة للثورة، ولم تتراجع قوتها في الحرب، بل طورت قدراتها في إدارة أزمة مديدة ومتعددة الأطراف، حيث كان لها شأن مهم ومحوري في القمع ومأسسة الفساد في الداخل زمن السلم، وامتلكت القدرة على متابعة واختراق الأهداف المعادية للنظام في الخارج، فكانت العقل المدبر الذي يضع له الخطط، ويربط المعلومات داخل وخارج سورية، ويشارك في إدارة المعارك كلها على الأرض، زمن الحرب. إلا أنه هناك تغير طرأ على بنيتها بشكل جوهري خلال سنوات الحرب الأهلية، بوساطة روسيا وبالتنافس مع إيران، حيث تمكنتا من إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، كما طلب القرار 2254، بصمت وبعيدًا عن عيون المراقبين، بدافع الإمساك بقرار الأسد، فأنشأت روسيا هيئة أركان موازية لهيئة الأركان السورية في بداية تدخلها، كاملة الصلاحيات، قبل أن تحل محلها في ما بعد، حيث بقي منصب رئاسة الأركان فارغًا في أعقاب اغتيال آصف شوكت، من دون أن يؤثر ذلك في سير المعارك العسكرية على الأرض. بل هي أنشأت مكاتب لها داخل مباني ومجمعات أجهزة المخابرات السورية في العاصمة دمشق، متصلة لوجستيًا عبر شبكة فضائية، في غرفة العمليات الموجودة في موسكو، ومفصولة بشكل كامل، عن بنك معلومات المخابرات السورية.(10) وذلك ضمن خطة روسية، لإحكام سيطرتها على الجيش السوري الممسك الحقيقي بالسلطة في سورية، من أجل السيطرة على قرار الأسد.
العامل الخامس: ساهم الانحدار السريع نحو الطائفية في مرحلة التظاهر السلمي بهزيمة الثورة السورية، عندما منعت الأقليات من الالتحاق بالثورة، فشقت بذلك المجتمع السوري بشكل عمودي إلى نصفين، وبشكل خاص بعد ظهور هيمنة جماعة الإخوان المسلمين على أطر المعارضة، وتولي الشيخ عدنان العرعور مهمة تمويل وإعطاء فصائل الجيش السوري الحر التوجيهات والتعليمات عبر قناتي الصفاء والوصال، والتسميات الدينية لجمع التظاهرات، وكان لها جميعًا الدور الأساس في تعثر مسار الثورة. كما يتحمل النظام بدوره مسؤولية تطييف الصراع، بانتهاجه الحل الأمني العسكري في مواجهة المتظاهرين السلميين، إلى جانب خطابه الذي اتهم فيه الحراك الشعبي ضده بالإرهاب والطائفية والمؤامرة الخارجية، ويقف على رأسها الإخوان المسلمون، ذلك كله من أجل تبرير استخدامه السلاح في قمع الحراك، واتخاذه وسيلة لشق معسكر الثورة، لتصبح سمة النظام أنه علوي، والحراك أنه سنيّ. ولكن هل النظام طائفي، ويُسَخِّرُ الطائفية في خدمة الطائفة العلوية أم يستخدم الطائفية في خدمة السلطة الأسدية؟ انقسمت إجابات النخب السورية عن ذلك السؤال بين من يقول: “بالعلوية السياسية” مثل صادق جلال العظم، والذي تكمن خطورة فكرته: في المطابقة التي يجريها بين الطائفة والنظام، فيصبح التغيير الديمقراطي عندها ممتنعًا من دون هزيمة الطائفة، والتأسيس لمظلومية علوية مستجدة. وتنكر معظم النخب العلمانية الطابع الطائفي للنظام ويصفونه أنه علماني، أمثال د. طيب تيزيني الذي يصفه بالنظام الأمني، وسلامة كيلة الذي يركز على مقاربة طبقية لفهم بنية النظام.(11)
وعلى صعيد الخطاب المعارض، فقد تحدث عن رحيل نظام الأسد وإسقاط رموزه ومرتكزاته. أما من حيث الواقع، النظام السوري في بنية تحالفاته ذو صبغة علمانية، استخدم الطائفية في عملية التحشيد والتعبئة لخدمة مصالحه واستمراره في الحكم، وقاعدة تحالفاته تضم جميع الطوائف التي تستفيد من بقائه. لقد استخدم النظام المشاعر الطائفية للدفاع عن سلطته وليس عن الطائفة. أما النظام الطائفي فمن شأنه وضع المصالح الطائفية قبل مصالح النظام والدولة ككل، في حين هو فعل العكس تمامًا، فقادها إلى مذبحة، بجعلها أداة لتعزيز مكتسبات أسرة الأسد؛ وشعار (الأسد أو نحرق البلد)، يعبر عن تلك الحقيقة، حيث قضى النظام على جميع مراكز القوى والرموز داخل الطائفة والعائلة منعًا لتعددية الولاء داخلها، والنظام متمحور حول السلطة لا حول مشاعر التضامن الطائفي وإن تداخلا في بعض الأحيان، لذلك دخل في شراكة مع برجوازيات المدن السنية، وهذه الحقيقة اعترف بها صادق جلال العظم(12)، فالنظام يدافع عن مصالح البرجوازية والأثرياء بمن فيهم السنة، وتقوم سلطته على تحالفات وتوازنات واسعة، تشمل المجتمع السوري برمته،(13) ومع ذلك فإن الخطاب السياسي للنظام الأسدي لم يصل بعد إلى مرحلة الدفاع عن علوية سياسية، أو النظام العلوي، وظل بشار الأسد محط تركيز رئيس كأيقونة شخصية لسورية كلها؛ فتوريث السلطة أضعف مرتكزات الطائفية داخل السلطة، ورسّخ مرتكزات العائلة داخلها، كما زاد من استثمار النظام في الطائفة، لمصلحة زيادة نفوذ العائلة في السلطة والثروة، وعلى الرغم من ذلك تسبب خطابه الطائفي، في عدم التحاق أغلبية العلويين بالحراك الشعبي.

دور العوامل الخارجية في إجهاض الثورة السورية
منذ لحظة انطلاقة الثورة، كان هناك مسار تفاعلي دولي معها سواء أكان عن طريق النصح والإرشاد الذي قُدّم للنظام السوري من طرف الأنظمة الصديقة له، أو للناشطين من طرف سفراء الدول في الداخل، إلى جانب المبادرات الرسمية المقدَّمة من الدول العربية الخليجية، ومن جامعة الدول العربية، ومبادرات المبعوثين الخاصين للأمين العام للأمم المتحدة، والبيانات الصادرة من فريق العمل الدولي من أجل سورية، إلى القرارات الصادرة من مجلس الأمن الدولي بخصوص الأزمة السورية، إلى التدخل العسكري والإعلامي والإغاثي والمالي المباشر في تطورات الحوادث الجارية على الأرض.
العامل الأول: غياب الرعاية الدولية الفاعلة لمسار التفاوض؛ يعدّ بيان جنيف1 الصادر من فريق العمل الدولي من أجل سورية في 30 حزيران/ يونيو 2012 أهم وثيقة دولية تتوخى تسوية سياسة في سورية على شكل (لا غالب ولا مغلوب)، ثُبِّتَ مضمونه في القرار الأممي 2254 (2015)، وكُلّف المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، برعاية التفاوض على آلية التنفيذ من طرف السوريين أنفسهم. وخلال ثماني جولات من المفاوضات في جنيف، كانت المفاوضات بين الجانبين شبه مستحيلة، وكان من المتصور أن يُعدَّل قرار الأمم المتحدة على يد مجلس الأمن الدولي، لتجنب عرقلة القرار من الأطراف المتعددة، لكن لم يحدث ذلك ردًا على عرقلة النظام للمفاوضات، والذي كان يكسب الوقت وقواته تنخرط في مناطق سيطرة المعارضة، وتغير الميزان العسكري على الأرض لصالحه، الأمر الذي أفشل تمامًا مسار جنيف. بل جرى انتهاك قرار مجلس الأمن الدولي، وإعادة تفسيره بتواطؤ كل من الراعي الروسي، والمبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة دي مستورا، من خلال خطة لفصل مسارات التفاوض وتوزيعها على أربع سلال، استبعد منها التفاوض على هيئة الحكم الانتقالي، وأعطي الأولية للسلة الأمنية في أستانا، والتفاوض على دستور البلاد برعاية روسيا وإيران وتركيا في سوتشي، وهذه في الأساس، مهمة هيئة تأسيسية وطنية، تمثل كامل الطيف الوطني، وتجري تحت أشراف هيئة الحكم الانتقالي وفقًا لخارطة طريق جنيف1، ساعد في ذلك الانزياح عن مضمون بيان جنيف1 والقرار 2254، قبول هيئة التفاوض بعد أن رفضت ذلك سابقًا، إلى جانب صمت الراعي الأميركي، تم تلزيم التفاوض على السلة الأمنية لمسار أستانا في نهاية معركة حلب في نهاية عام 2016، حيث تسبب فتح المسار الجديد، في إغلاق مسار التفاوض في جنيف، وأنهى جميع إنجازات فصائل المعارضة العسكرية على الأرض، بموجب اتفاقية (خفض التصعيد)، وبذلك أُغلق ملف الصراع العسكري، بعودة تلك المناطق إلى سيطرة النظام من جديد.
العامل الثاني: هو الاستراتيجية الأميركية في المنطقة العربية في عهدي الرئيس أوباما، والتي هي استمرار لما قبلها، والقائمة على احتواء ثورات الشعوب العربية الديمقراطية لا على دعمها والإصرار على اعتماد خيار إصلاح الأنظمة لا على تغييرها، على الرغم من معرفتها تعذر إصلاحها وعدم قبولها بمبدأ تداول السلطة سلميًا، بسبب فسادها واستبدادها، وحتى عندما نجحت في ذلك في بلدين عربيين هما: العراق ومصر، وجدناها تلجأ إلى اعتماد معايير ديمقراطية شكلية مفوَّتة تاريخيًا، بتشكيل نظام يقوم على المحاصصة الطائفية السياسية في العراق، وهو نموذج مأزوم وقلق، ويؤسس لحرب الهويات الجزئية الدائمة، وكذلك الأمر في مصر حين نزعت الغطاء عن مبارك، ومنعت الجيش المصري من اعتراض طريق صعود الإخوان المسلمين لحكم مصر، ولما تكشف لها عمق الرفض الشعبي لهم، سرّعت بانقلاب الجيش عليهم وبمجيء نظام عسكري قريب من دوائرها الأمنية. ولم تختلف الحال كثيرًا بالنسبة إلى الثورة السورية، لمّا وجدتها ثورة ديمقراطية حقيقية، راوغتها وقامت باستئخار التسوية فيها، بقصد إضعافها وتبديد مخزونها الديمقراطي وإضعاف النظام في وقت واحد توطئة لإنتاج نظام هجين وفق معايير الديمقراطية الشكلية.
العامل الثالث: دور التدخل الروسي في الأزمة؛ غيّر الاحتلال العسكري الروسي ميزان القوى في داخل سورية لصالح النظام، كما أحدث تغيرات في المواقف الدولية، وساهم في تقارب وجهات النظر بين روسيا والولايات المتحدة، بضرورة بقاء نظام الأسد والمحافظة على الدولة السورية من الانهيار، وإعطاء الأولوية للحرب على الإرهاب الإسلامي، ما قلل من فرص الضغط على النظام من أجل إبرام تسوية سياسية معه. تمثلت دوافع التدخل العسكري الروسي، بالرغبة في دعم النظام السوري عسكريًا بما يعيد له القدرة على المبادرة، وتمكينه من إحكام سيطرته على ما تبقى له من الأرض، ويضمن بقاء الدولة في سورية، وتأكيد دور روسيا كقوة مؤثرة في منطقة الشرق الأوسط. بينما تمثلت مكاسب النظام السوري من التدخل الروسي، بتحسين وضع قواته على جميع الجبهات، على حساب المعارضة، فأصبح النظام في وضع المبادر بالهجوم بعد أن ظل خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2015 في وضعية الدفاع.

نظرة إلى واقع المعارضات السورية والتلوث الطائفي
منذ اندلاع تظاهرات الشعب السوري وتأسيس التنظيمات المعارضة الرئيسة كان هناك انقسام بينها حول من سيمثل الشعب السوري، والمفاضلة بينها تكون وفق معيار درجة معارضة المكون لنظام الأسد؟ هل هو مع إطاحته بالقوة أو عن طريق التفاوض والضغط الدبلوماسي الدولي؟ وإليه استند تبادل الاتهامات بالخيانة بين مختلف أطياف المعارضات السورية(14) مع تجاهل القضية الأساسية في الثورة السورية، والمتمثلة في المسألة الديمقراطية؟ لقد تخلت المعارضة السورية عن اعتماد ذلك المعيار الموضوعي لإجراء عملية الفرز بينها، وتحديد الأجدر في تولي السلطة وإجراء التحول الديمقراطي. والأدهى من ذلك كله أن معظمها، قد تطيّف موقفه، وبات من الصعب توافر بديل ديمقراطي عن النظام، فيحقق معادلة (لا غالب ولا مغلوب). وحول هذه النقطة دار الجدل بين المفكر صادق جلال العظم والشاعر أدونيس، وما أسفر عنه من هجاء متبادل للعلوية السياسة والربيع العربي، ومن ما عدّه البعض تغزل من جانب العظم بالسنية السياسية، وانحياز طائفي مضاد لموقف أدونيس، وقد بلور الدكتور صادق تصوره، لطبيعة البديل الذي سوف يحكم سورية في محاضرة له في برلين عام 2013 بعنوان (العلمانية والمسألة الدينية) بقول: “إن رأس المال السوري والبرجوازية السورية عمومًا، سيتقدمان بقوة لقيادة مسيرة الإعمار والاستثمار فيها، ما يعني أن الإسلام الذي سيطفو على السطح سيكون الإسلام البيزنسي، إسلام رجال الأعمال وأصحاب المشاريع والشرائح التجارية والصناعية، وهو غير الإسلام السياسي الذي يتخوف الجميع منه”.(15) وطبعًا لا يخفي العظم موافقته على ذلك البديل المحتمل، كونه الأفضل في قبوله الطوائف الأخرى، ويجمع ما بين سلطة (المال، والدين، والاعتدال)، خصوصًا عندما يحصر البدائل المحتملة للنظام، بإسلام التكفيرين، وإسلام الإخوان المسلمين، وإسلام الطبقة الوسطى البيزنسي، ويستبعد بالمطلق أي بديل ديمقراطي علماني محتمل للنظام السوري؟ ولتعميق هذه الفكرة أكثر، نتوقف عند ما كتبه برهان غليون في مذكراته عن الحقائق والانطباعات من داخل بنية التحالف الذي نال اعتراف 137 دولة، في تمثيله ثورة الشعب السوري، في وصفه لطبيعة الانقسام، ودوافع الصراع داخل المجلس الوطني بين النخب المعارضة، بقوله: “فلم تلبث تناقضات المجلس الداخلية أن تفجرت، ولم يعد من الممكن التغطية عليها أو حصرها وتقليصها. وربما أدى النجاح المبدئي للمجلس دورًا في هذا التفجير بما أعطاه من انطباع بأن الهدف أصبح قاب قوسين أو أدنى من التحقق، وأن الوقت قد حان لتقاسم المغانم. لم تكن هذه الصراعات شخصية فحسب، لكنها كانت تخفي صراعات أعمق بين أجندات متعددة، سياسية وأيديولوجية، إسلامية وعلمانية، قومية ومناطقية، مذهبية ودينية. وفي ما بعد سوف تتقاطع هذه الأجندات المتصارعة مع أجندات إقليمية ودولية متباينة أيضًا لينهار الأساس الذي يقوم عليه المجلس الوطني، مشروعًا وطنيًا مستقلًا موحدًا للقوى الشعبية المنتفضة”.(16)
أسقطت تجربة المجلس الوطني القناع عن الوجه الانتهازي لمعارضة الخارج؛ وسوف تُسقط القناع عن الوجه الانتهازي الطائفي لمعارضة الداخل في ضوء تجربة هيئة التنسيق الوطنية مع الدكتور عبد العزيز الخيّر الذي لعب دورًا رئيسًا في تأسيسها، وكتب أوراقها السياسية التأسيسية، وكان محرّك المعارضة الوطنية الديمقراطية داخل سورية، ولكن سرعان ما تم التآمر ضده داخل الهيئة، ذلك لأن معارضة الهيئة، لا تحتمل أن يتقدم صفوفها مناضل بصفات عبدالعزيز الخير، العابر للطوائف والأجندات الحزبية، وقد بات الحديث داخل كواليس الهيئة يدور عن الطابع السني للثورة وأحقية تمثيلها من السنة، وبات في مقدمة مطالب فروع حزب الاتحاد الاشتراكي في المنطقة الجنوبية، والتي انزاحت باتجاه التسلح والعسكرة والمطالبة بتهميش دور الخيّر الذي كان لموقفه الأثر الكبير في تثبيت شعارات الهيئة، ضد (العنف، والطائفية، والتدخل العسكري الخارجي).
وتشاركت الهيئة خوفها من تعاظم مكانة الخيّر مع النظام الذي كان يخشى من قيادته للمعارضة السلمية في الداخل، ومن زيادة رصيده السياسي والشعبي بين صفوف شبّان الحراك الثوري وداخل حاضنته الاجتماعية وهو ابن الأسرة العلوية المرموقة والعنيدة في معارضتها للنظام، والرجل المؤثر في حراكه الدبلوماسي العربي والدولي. وقبل أيام قليلة من اعتقاله، كان الخيّر يفكر بمغادرة هيئة التنسيق وتكليف رفيق آخر مكانه، والتي بات شغلها الشاغل حياكة المؤامرات ضده. ومع مرور الوقت، تحولت هيئة التنسيق إلى بيئة طاردة لشبّان الحراك، فخرج منها بشكل تدريجي جميع تشكيلات شبّان الأحزاب من أبناء الأقليات، بسبب التضيق عليهم سياسيًا وطائفيًا، وتزايد حدة العداء لهم، مع انزياحات الفكر الناصري داخل الهيئة، باتجاه المطابقة بين العروبة والإسلام. حدث الانزلاق السياسي داخل هيئة التنسيق، لتبرير الانضمام إلى محور إقليمي، يدافع عن السنّة في سورية، بمواجهة محور إقليمي آخر يدافع عن النظام والأقليات، ودارت بداخلها، أحاديث الإطراء عن رجب طيب أردوغان، ليصبح شبيه جمال عبد الناصر. ولكن هل هذا يعني أن الطائفية وكراهية الآخر، باتت قدرًا محتّمًا على السوريين ولا فكاك لهم منه؟

حراك السويداء؛ الشعب السوري ما زال حيًا
تغيرت اليوم حالة الحياد التي مرت بها السويداء خلال الحرب السورية، على الرغم من ضبابية المستقبل وتزايد درجة المخاطر على وحدة الكيان السوري، ولكن بعد الانتفاضة الشعبية في 26 تموز/ يوليو 2022 التي فككت عصابة راجي فلحوط المدعوم أمنيًا وإيرانيًا، استقرت الأوضاع الأمنية وانحسر الانقسام الداخلي، وبات من الصعب على النظام استعادة السيطرة الأمنية على السويداء، لأنه بات عاجزًا عن تأمين حلول اقتصادية، لمنطقة مرّت الحرب بجوارها فأرهقتها وأفقرتها، وهجّرت معظم شبانها. مع انطلاق الثورة السورية في آذار/ مارس 2011 انقسم الدروز إلى ثلاث كتل رئيسة: موالاة، ومعارضة، وحياديون شكلوا الأغلبية الساحقة منهم. ساهم حياد الدروز في امتناع الشبان عن الالتحاق بالخدمة الإجبارية والاحتياطية، وفي هجرة معظم هؤلاء إلى الخارج. وإذا كان التجنيد الإجباري قد عاد مؤخرًا مع التسويات الأخيرة وتوقف الحرب، فإن عودة الحراك الشعبي السلمي إلى محافظة السويداء، الذي بدأ متقطعًا منذ عام 2020 واستمر حتى الآن، وتجاوبت معه اليوم (درعا وعفرين وإدلب)، تحت عناوين وشعارات مختلفة، ضد الحكومة الموقّتة والائتلاف السوري المعارض، ما أعاد الأمل من جديد، بتبلور خط ديمقراطي شعبي سلمي يوحّد إرادة السوريين ويوحّد كلمتهم، بدلًا من خط النخبة المراهنة على الحل السياسي الدولي. يأتي هذا الحراك على وقع انهيار اقتصادي مديد في مناطق سيطرة النظام، وتراجع دور الدولة في تلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين، وهذا يضغط على الفئات الشعبية الفقيرة، ويؤسس لبيئة تمرد شعبي جديد ضده. إن تشكيل بؤر الحراك الشعبي الديمقراطي في المحافظات التي يقطنها المهمشون، ستضعف مفاعيل الطائفية، وتعيد تشكيل وعي ديمقراطي يجمع السوريين من جديد، بعيدًا عن استثمار النخب السياسية المعارضة في ذلك الحراك. لا يبدو أن أفكار الإدارة الذاتية أو الاستقلال أو حتى اللامركزية السياسية مطروحة في السويداء على نطاق واسع. كما لم تسعَ قوى الأمر الواقع لدى الدروز لتأسيس مؤسسات بديلة عن مؤسسات الدولة السورية، على الرغم من تعثّر أدائها وانقطاع خدماتها المتكرر، ولكن باتت هناك قناعة متزايدة بأن تجربة السلطة المركزية، قد باءت بالفشل ومن الصعب تكرارها مجددًا، فالاندماج الوطني بين المناطق التي قسمتها قوى الأمر الواقع إلى مناطق نفوذ للدول المحتلة لسورية، يحتاج إلى مبادرات شعبية ضرورية وحوارات بينية معمقة بين قوى الحراك الثوري، لتوافق على قواعد أكثر عدالة وديمقراطية للاندماج الوطني، ومؤخرًا باتت هناك تقارير إعلامية تتحدث عن نيات دولية لإجراء حلّ جزئي للأزمة السورية على أساس لامركزية واسعة للأقاليم التي همّشها النظام، أو هُمّشت في عهود سابقة،(17) باتجاه ملء فراغ السلطة في الأقاليم، والاعتماد على الذات في تنشيط الاقتصاد المحلي، لمواجهة حالة الحصار والفقر المفروضة على المحافظات على يد حواجز الإتاوات التي زرعها جيش النظام، لفصل بعضها عن بعض، منعًا لتبلور حالة نهوض شعبي جديد ضده؛ الحراك الشعبي داخل مدينة السويداء، انتظم إلى حد كبير، واستطاع أن يدمج في شعاراته بين المطلبي والسياسي الوطني، ولكن ما زالت تشوبه بعض الثغرات التي قد تقضي عليه، إذا لم يتفلت من انقسام النخب السياسية، ويتسع ويمتد خارج حدود المحافظة متخطيًا عقبة الخوف من القمع الأمني.
بات من شبه الموكّد أن بناء خط الحراك الشعبي الجماهيري، هو من سيبعد شبح التقسيم عن سورية، ويعيد ربط مناطقها، بعضها مع بعض، وأن الحل الفيدرالي الاتحادي، يبقى حلًا مطروحا دوليًا،(18) في حال فشل الحراك، وتركت سورية مقسمة إلى مناطق نفوذ لدول وقوى الأمر الواقع، وبمعرفة النظام ومباركته.(19)

خلاصة
مما لا شك فيه أن انتصار الثورة الديمقراطية في بلد مفتاحي مثل سورية بكل ما تمثله من طابع جماهيري كاسح، ومطالب ديمقراطية جذرية، كان سيجذر مسار سائر ثورات الربيع، لأنها ستكون أول ثورة ديمقراطية تأتي لتؤسس شرعية لنفسها من الشعب (كثورة من الأسفل)، بخلاف جميع الثورات العربية الديمقراطية الزائفة ذات الطابع النخبوي، والتي كانت تؤسس شرعيتها على القوة وتأتي إلى السلطة على ظهور الدبابات (بثورة من فوق) فتمارس دكتاتوريتها على المجتمع بشعارات شعبوية كاذبة، وكانت تبرر ذلك بعدم نضوج الشارع للديمقراطية. في حين تأتي الثورة السورية الديمقراطية اليوم بمبادرة عفوية من الشارع الناضج ديمقراطيًا وحضريًا، ما يجعلها شبيهةً بنموذج الثورة الفرنسية عام 1789 التي غيرت وجه أوروبا، وهذا ما كانت تخشاه وتقرأه أميركا وتستأخره بتسوية تعيد تأهيل النظام، بما يعيد إنتاج نظام سياسي معطوب سياسيًا (لدولة سورية رخوة) عاجزة عن ربط الديمقراطية بالتنمية أو إنتاج نظام يحكمه القانون الذي يحمي الأفراد بدون تمييز، فتبقى الدولة بذلك ضعيفة هي أقرب للفشل، والبلاد لا يحكمها مسار تطور واحد، بل عدة مسارات متضاربة ومتناقضة، والمجتمع ساحة لصراع الهويات الجزئية، وداخل في أزمة دائمة تهدده دائمًا وحدة الكيان وعند أول منعطف بالتقسيم.

المراجع:

1– أبو عيشة، نضال. الطائفية السياسية ودورها في إجهاض الربيع العربي، سورية أنموذجًا؛ رسالة ماجستير، (نابلس: جامعة النجاح الوطنية، 2018).
2– السيد أحمد، عزت. الثورة السورية وأزمة القيادة، (عمان: دار العالم العربي، 2015).
3– ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. العدوان الأميركي على سورية: الموقف الأميركي من الثورة السورية، (عمان: دار النهار، 2016).
4– غليون، برهان. عطب الذات: وقائع ثورة لم تكتمل، ط2 (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2020).
5– فيبر، ماكس. العلم والسياسة بوصفهما حرفة، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2011).

 


هوامش الدراسة:

1- برهان غليون، عطب الذات: وقائع ثورة لم تكتمل، ط2 (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2020)، ص92.
2
 المرجع نفسه، ص84.
3
 مشروع الشرق الأوسط الكبير لعام 2004.
4
 ماكس فيبر، العلم والسياسة بوصفهما حرفة، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2011)، ص21.
5– غليون، ص95.
6– المرجع نفسه، ص96.
7– المرجع نفسه، ص156.
8– حول الثورة والمعارضة وإفلاس النخب السياسية راجع: غليون، ص95.
9– المرجع نفسه، ص70- 71.
10– معلومات من شاهد أغفل ذكر اسمه.
11– مروان عبد الرزاق، “هل النظام السوري طائفي؟”، الحوار المتمدن، 2019.
12– محاضرة في برلين، “العلمانية والمسألة الدينية”، موقع القنطرة، 2013.
13– نضال أبو عيشة، الطائفية السياسية ودورها في إجهاض الربيع العربي، سورية أنموذجًا؛ رسالة ماجستير، (نابلس: جامعة النجاح الوطنية، 2018)، ص107- 108.
14هم الفقرات التي تضمنها برنامج الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة السورية هي: البرنامج السياسي؛ وتشمل أهداف الائتلاف الوطني المُعلَنة ما يلي:إسقاط نظام بشار الأسد ورموزه ودعاماته.تفكيك الأجهزة الأمنية السورية.توحيد الجيش السوري الحر ودعمه. – رفض الحوار والتفاوض مع حكومة الأسد، ومساءلة المسؤولين عن قتل السوريين ونزوحهم وتدمير سورية.
15– صادق جلال العظم، “العلمانية والمسألة الدينية”، موقع جدلية، 2013.
16– غليون، ص93.
17– الأطرش، “نحو مشروع الحكم اللامركزي: جنوبي سورية بدعم النظام السوري”، العربي الجديد، 27 كانون الثاني/ يناير 2023.
18– محمد أمين، معارض سوري: هذه أبرز بنود مشروع الدستور الروسي لسورية، العربي الجديد، 27 كانون الثاني/ يناير 2017.
19– عقيل حسين، “الحل السوري يبدأ من الجنوب: منطقة آمنة أم إقليم إداري؟”، المدن، 31 كانون الأول/ ديسمبر 2022.

  • كاتب سوري، يحمل إجازة في الحقوق من جامعة دمشق، صدر له كتاب بعنوان (نقد الفكر السياسي) عن دار الينابيع بدمشق 2002، وشارك في كتاب بعنوان (عبد العزيز الخير) من إصدارة ميسلون للثقافة والترجمة والنشر. كتب عشرات الدراسات في الدوريات العربية.

مشاركة: