انتفاضات الربيع العربي بين العطب الموضوعي والذاتي

أولًا: مدخل البحث
هل هُزمت ثورات «الربيع العربي»؟ وإذا لم تُهزم، لماذا فشلت في الوصول إلى مبتغاها؟ أين نحن الآن من شعارات «شغل، حرية، كرامة، عدالة اجتماعية» التي رفعها المحتجون في بداية الانتفاضات وهزّوا بها أركان أنظمة الاستبداد العربية؟ أفترض أنّ أيّ عاقل ما عاد يماري في الإجابة عن مثل هذه الأسئلة، وسيبادر إلى القول، مهما كان آسفًا: «أجل لقد هُزمت، وشبعت هزيمة». وقد يضيف: إذا لم يكن الأمر كذلك، فماذا سنسمي هذا الدرك من البؤس والانحطاط الذي وصلنا إليه في أغلب بلدان الربيع العربي؟ ما خلا تونس، فإنّ ما جرى في بقية البلدان كان صادمًا إلى حدٍّ بعيد؛ بالنظر في ما شهدناه من مآلات كارثية، كانت أشبه بفتح أبواب الجحيم، تمامًا كما توعّد البعض في حينه!
الحديث عن الإخفاق والهزيمة لا يغير من حقيقة أن الانتفاضات العربية كانت في الواقع نوعًا من ردّة الفعل الطبيعية على مكابرة الأنظمة العربية وإصرارها على إنكار جوهر الأزمة ورفض القيام بالإصلاحات السياسية المطلوبة، في وقت تسارعت فيه وتيرة التحولات الداخلية العميقة التي أصابت البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في العالم العربي، وتسارعت كذلك وتيرة الحصول على المعلومات في ظل ثورة الاتصالات والتطورات التقنية العالية التي شهدها العالم، وأثرت على نحو خاص في الأجيال الشابة التي باتت تمثل نسبة كبيرة من المجتمعات العربية تتراوح بين 40 و60 في المئة منها، في الوقت الذي تقف فيه هذه الأجيال عاجزة عن تحقيق الحد الأدنى من متطلبات الحياة الحرة الكريمة، في ظلّ البطالة المتفشية وقلة فرص العمل والحرمان والإفقار والتهميش.
وقبل الربيع العربي بسنوات، كانت تقارير التنمية البشرية الأممية والعربية قد حضّت على إجراء إصلاحات سياسية ضرورية وملحّة، إلا أنّ الأنظمة العربية تجاهلت النصائح المقدّمة لها، وأصرّت على المكابرة وركوب الرأس. وقد حاول بعضها الالتفاف على ذلك من خلال الترويج لإصلاحات اقتصادية وإدارية سيقوم بها، غير أن مثل هذه الإصلاحات لا تُغني ولا تسمن من جوع، كما يقال، لأن جوهر الإصلاح ومحركه الأساس في الأغلب هو الإصلاح السياسي.
وما أن اندلعت الهبّات الشعبية هنا وهناك، حتى سارعت الأنظمة المعنية إلى شــيطنتها وتنســيبها إلى تدخلات ومؤامــرات خارجيــة (كونية)، على نحو أوحى وكأن هذه الأنظمة كانت في أحسن حال، وشعوبها كانت تنعم بالرفاهية والديمقراطية؛ وتُصان فيها الحريات وتُحترم حقوق الإنسان!، في الوقت الذي راقبنا جميعًا وتابعنا كيف عملت تلك الأنظمة بكلّ طاقتها لقلب الربيع العربي إلى خريف عاصف، وتَحويل عدد من البلدان (ليبيــا، اليمــن، ســورية)، إلى «فزاعات» راعبة منصوبــة في وجــه كل مــن يفكــر في الاحتجــاج ويتطلــع إلى التغيير، بعد أن أطلقت شتّى تفاعلات العنف والحروب والتفكُّك السياسي والمجتمعي، وحوّلت البلاد إلى ساحات وملاعب يجول ويصول بها الآخرون، من دون أدنى اكتراث لسيادتها ووحدتها الترابية والوطنية.
وعلى الرغم من ذلك كله، لم تكد تمضي سنوات قليلة حتى تجدّدت الحراكات في غير بلد عربي، (السودان، الجزائر، العراق ولبنان)، لتعـيد الاعتبــار إلى انتفاضــات الربيع العربي (2011)، والأســباب الجوهريــة التــي أدّت إلى اندلاعهــا، في دلالة واضحة إلى الحاجة الماسّة للتغيير، وانتهــاء صلاحيــة هذه الأنظمــة المهترئة والمتعفّــنة، وليتبين كذلك أن عامل الخوف من التداعيات لن يحول دون مبادرة الناس إلى الاحتجاج، والسعي من أجل بناء دولة عصرية تحترم مواطنيها ولا تستخف بعقولهم، ولا تدع أيّ طغمة تحتكر صنع القرار، وتترك أغلبية الشعب نهبًا للحرمان والتهميش.
وكان من اللافت أن تكون الجزائر إحدى تلك الدول التي تجدّدت فيها الاحتجاجات، على الرغم من «الفزاعات» العربية المنصوبة، وعلى الرغم من كلّ ما قيل كذلك عن «عشريتها السوداء» في التسعينيات، وما جرى خلالها من انتهاكات وأعمال مروّعة. أيّ أن الرهان على الخوف من تكرار ذلك ثبت خطؤه، ولم يحل دون انضمام الجزائريين إلى الاحتجاجات من جديد.
وقد شاع التفاؤل في أعقاب الموجة الجديدة التي انطلقت في الشهر الأخير من عام 2018، وتمكنت خلال أشهر قليلة، (نيسان/ أبريل 2019)، من إزاحة الرئيسَين؛ الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، والسوداني عمر حسن البشير. وكان مبعث التفاؤل هو المؤشرات التي دلّت على أنّ الحراكات الجديدة قد استخلصت الدروس المستفادة من الموجة الأولى، وخصوصًا لجهة التأكيد على سلميتها وابتعادها عن العنف، والتعاطي بصيغ أكثر واقعية مع الأوضاع الاجتماعية والسياسية القائمة، إضافة إلى عدم الرهان على الخارج، حيث رفض المحتجون الجزائريون والسودانيون أي علاقة مع الخارج يمكن أن تقلل من أهمية حراكهم وأسبابه الداخلية المحضة، بينما لم تكفّ السلطات الرسمية عن فعل ذلك بهدف الالتفاف على مطالب الحراك والعمل على إجهاضه.
لكن، ومع حفظ الفارق بين الحراكات الشعبية والشبابية العربية الأخيرة وسابقاتها، إلا أنها تعثرت هي الأخرى في الوصول إلى غاياتها وأهدافها المرجوة. وعليه، فإنّ السؤال الرئيس المطروح يبقى؛ لماذا حصل ويحصل ذلك؟ كيف وصلنا إلى هذه النتيجة؟ من المسؤول؟ أين تكمن المشكلة والمسؤولية، أو أين يكمن العطب؟ هل هو عطب موضوعي، أم «عطب الذات»، كما عنون برهان غليون كتابه؟
كلها أسئلة مثارة ومطروحة بقوة، وحريٌّ بنا جميعًا أن نحاول الإجابة عنها دون لفّ أو دوران، فثمة أهمية قصوى لإجراء مراجعة و«جردة حساب» نقدية صارمة لما حدث ويحدث. هذا فضلًا عن أنّ أي دعوة للاضطلاع بمهمات التغيير مستقبلًا، يُفترض بها المرور عبر هذه المحطات المفصلية، والوقوف عندها مليًا لاستخلاص الدروس والعبر. وهذا أمرٌ مهمّ للجميع، عدا عن كونه ضرورة تاريخية ينبغي لنا القيام بها عاجلًا أم آجلًا.
ستحاول السطور التالية مقاربة هذه القضية ووضع كلٍّ نصاب من المسؤولية؛ الموضوعية والذاتية، في مكانه وحجمه، مع ميلها للاعتقاد أن المسؤولية الأولى تقع على عاتق الأحوال الموضوعية؛ العامة والخاصة، التي ولدت هذه الثورات في ظلها وأحاطت بها كالسوار في المعصم؟ ولكن من الموكّد أيضًا أنّ ثمة مسؤوليات تقع على عاتق الذات، أفرادًا وقوى سياسية وجماعات وحركات؛ مدنية أو مسلحة، تنطّحوا لاحتلال المواقع الأولى في قيادة الانتفاضات هنا أو هناك.

ثانيًا: الديمقراطية مهمّة ملحّة
ولكن قبل المضيّ في ذلك، دعونا نتفق أولًا على أن الاحتجاجات التي حصلت تندرج في حدّها الأقصى، تحت خانة ثورة سياسية ديمقراطية ترمي إلى إسقاط الحكم التسلطي والانتقال إلى نظام حكم ديمقراطي، يأخذ بمبدأ التداول على السلطة، ويُفسح المجال أمام المجتمع المدني وتعبيراته السياسية والنقابية للمشاركة في إدارة الشأن العام وفق الأدوات والآليات الديمقراطية المتَّبعة.
وفي الواقع، وعلى الرغم من مطالبة المتظاهرين في كثير من ميادين الاحتجاج بتحسين أوضاعهم المعيشة (فرص عمل، عدالة اجتماعية …إلخ)، فإنّ جلّ ما كانت تطمح إليه احتجاجاتهم، في جانبها السياسي، هو تغيير علاقات السلطة والقوة داخل المنظومة الاجتماعية- الاقتصادية ذاتها، ولم تتطلع قط إلى تحقيق ثورة اجتماعية شاملة تُغير مجرى التاريخ وتُحدث قطيعة تامة مع الماضي، وذلك عبر الإطاحة بالبنى الاجتماعية- الاقتصادية ونظام العلاقات الإنتاجية القائمة لصالح بنى وعلاقات إنتاج وسيطرة طبقية جديدة. على غرار ما حصل، مثلًا، في الثورة البورجوازية الفرنسية 1789، أو ثورة البلاشفة 1917.
والثورة الاجتماعية المشار إليها آنفًا لها شروطها وأدواتها وبرنامجها وحاملها الاجتماعي، (من قبيل التنظيم (أو التحالف) الثوري، برنامج ورؤية واضحة للتغيير، وتوفر قيادة موحدة يمكن أن تمثّل «عقل الثورة»، أو «مثقفها الجماعي»)، وهي تتقاطع في ذلك مع الثورة الديمقراطية، (التي هي ثورة بورجوازية في جوهرها)، ولكن يبدو أنه علينا هنا أن نكون أقل صرامة في توافر هذه الشروط، وذلك بالنظر إلى ضعف البورجوازية المنتجة (الوطنية) في عالمنا العربي، وعدم ميل معظم الشرائح البورجوازية إلى الكفاح من أجل فرض ثورتها وسيطرتها السياسية وهيمنتها الثقافية، بل واستعدادها للتعايش مع الأوضاع القائمة والتكيف معها، والتقاعس عن دفع ضريبة المشاركة في الثورة، فضلًا عن قيادتها، (كما حصل في سورية)، مفضّلة الانتظار لجني ثمارها (عالبارد المستريح)، كما يقول الشوام، هذا إذا قيّض لها الانتصار.
وفي حال انتصارها، تمرّ هذه الثورة عادة بمرحلة أولى يطلق عليها «الانتقال الديمقراطي»، يجري خلالها إعادة توزيع السلطة والقوة بين مؤسسات الدولة وأجهزتها الرسمية من جهة، وبين مؤسسات وهيئات المجتمع المدني (التي كانت معارضة) من جهة ثانية، لتحقيق نوع من التوازن بينها. وقد تؤدي هذه المرحلة إلى تحلل النظام السلطوي وترسيخ النظام الديمقراطي في شكل ثابت ومستقر، كما قد يتم النكوص عنها والعودة إلى شكل من أشكال الحكم الدكتاتوري أو العسكري.
وقد شهد العالم في النصف الثاني من القرن العشرين نجاح عشرات تجارب الانتقال الديمقراطي، التي تحققت بطرائق وأساليب مختلفة (أغلبها بعيد عن العنف)، وذلك عبر خطوات تدرجية، حتى لو جاء ذلك نتيجة صراعات طويلة الأمد مع الأنظمة الاستبدادية الحاكمة. ولنا أن نستنتج من التنوع الكبير في حالات الانتقال إلى الديمقراطية، أنه ليس هناك نموذج واحد أو طريقة واحدة لعملية الانتقال هذه.
وفي كتابه «الموجة الثالثة: التحول الديمقراطي في أواخر القرن العشرين»، يتحدث صموئيل هانتنغتون عن ثلاث موجات ديمقراطية شهدها العالم منذ العام 1828، وعن موجتين مضادتين أعقبتا كلًا من الموجة الأولى والثانية. والموجة الثالثة منها بدأت في العام 1974 بـ«ثورة القرنفل» في البرتغال، (وكان العسكر هم الذين قادوها، وأفضت إلى إقامة الديمقراطية خلافًا لما يحدث عادة في الانقلابات). ثم امتدّت إلى كلٍّ من اليونان وإسبانيا، وقد لحقت بها في أواخر السبعينيات والثمانينيات العديد من دول أميركا اللاتينية، مثل الإكوادور، البيرو، بوليفيا، ثم الأرجنتين والبرازيل، (وهذه الدول كانت تتناوب على مدى عقود ما بين الأنظمة الديمقراطية والدكتاتورية)، وصولًا إلى دول أوروبا الشرقية عقب تحطيم جدار برلين (1989) وانهيار المعسكر الاشتراكي، إضافة إلى المزيد من دول أميركا الوسطى والجنوبية.(1)
وخلال هذه الموجة قامت بعض الأنظمة العربية (الجزائر، الأردن، المغرب)، بعدد من الإصلاحات السياسية، يمكن أن تدرج، بحسب تصنيف هانتنغتون، ضمن إطار «التحول الليبرالي»، من دون أن ترتقي إلى مستوى التحول الديمقراطي، (جرى النكوص عنها سريعًا في الجزائر). وكان يؤمل لانتفاضات الربيع العربي أن تشكل موجة ديمقراطية جديدة في العالم قبل تعثرها وسقوطها في أوحال ومستنقعات أنظمة الاستبداد العربية والحركات الإسلامية المتشدّدة.
نظريًا يمكن القول مع هانتنغتون إن مفتاح التحول الديمقراطي الناجح هو إجماع نخب سياسية؛ في السلطة والمعارضة، على ضرورة التوجه نحو نظام ديمقراطي، والتفاوض بينها من أجل الاتفاق على أسس وقواعد النظام البديل. ولكن ماذا لو كان النظام الدكتاتوري من النوع العنيف الذي لا يُقدّم أي تنازلات، ولا يقبل البتّة بحلول تفاوضية بينه وبين خصومه السياسيين في الداخل؟ لا ريب أنه في مثل هذه الحال، فإنّ التغيير لا يحصل إلا بطرائق عنيفة غالبًا، كالانقلابات والثورات والعصيان المسلح، وحتى التدخل الخارجي، على الرغم من أنّ اتباع هذه الطرائق يخلق صعوبات جمّة في وجه عملية البناء الديمقراطي ذاتها، لأنها تفضي غالبًا إلى مواجهات دموية واجتثاث الأحزاب الحاكمة سابقًا، وهذا الأمر هو ممارسة معادية للديمقراطية ولثقافتها، إذ لا يمكننا أن نبدأ حكمًا ديمقراطيًا بعملية «تصفية جماعية» لخصومنا السياسيين، وهو ما وقع فعلًا في غير بلد عربي (العراق مثلًا).
وقد كشفت تجارب الاحتجاج والسعي نحو التغيير في العالم العربي عن حقيقة أنّ معظم أنظمته غير قابلة للإصلاح من الداخل، (ولذلك اندلعت الثورات فيها وأخذت طابعًا انفجاريًا). ولكن هذه التجارب كشفت كذلك عن عجز الحركات الاحتجاجية في تحويل المطالب والشعارات التي رُفعت في بداياتها إلى مشاريع وطنية وبرامج سياسية. كما فشلت القوى المشاركة فيها في إدارة اختلافاتها، بل ولم تتفق حتى على الديمقراطية كهدف مشترك ومصلحة عامة للجميع. وهو ما حصل بالنسبة إلى النخب السياسية التي ثَبُت كذلك أن حجم الخلافات والعداء المتبادل بينها أقوى بكثير من إمكان اتفاقها على الديمقراطية كمصلحة مشتركة لها جميعًا.(2)

ثالثًا: صعوبة التغيير في عالمنا العربي
تُرى، ما الأسباب والعوامل التي تجعل التغيير في منتهى العسر والصعوبة في عالمنا العربي؟ ما الأسباب والعوامل التي تعمل على توفير فرص الهزيمة للحراكات الشعبية أكثر بما لا يقاس من فرص الانتصار؟ وهذا السؤال يشمل مختلف الاحتجاجات التي حصلت في العالم العربي منذ العام 2011 وحتى الآن. كما يشمل أيضًا البلدان التي استطاع فيها الحراك إسقاط النظام الحاكم، (وغالبًا رأسه فقط)، أو التي اصطدم فيها بحائط مسدود وتمكّن النظام بوسائل شتّى، من احتوائه ولجمه عند حدود جعلته عاجزًا عن الفعل والتأثير (العراق، لبنان). هل يمكننا أن نتحدث هنا عن حالة أشبه بـ«القابلية للهزيمة»، على غرار مقولة مالك بن نبي عن «القابلية للاستعمار»؟
إن التغيير يصبح صعبًا وعسيرًا في أنمــاط الحكــم التسلطية القائمــة على إخضــاع الســكان، والتعامل مع مؤسســات الدولــة ومواردها على أنها «غنيمة»، واســتغلالها كمصــادر للنهــب ومراكمــة الثروة والجــاه، وكأدوات في لعبــة تحقيــق الغلبــة والســيطرة التي تصبّ لصالح «عصبيــات» أو فئات ذات صبغة قبلية أو عشائرية أو طائفية أو مذهبيــة …إلخ. ويزيد الطين بلّة، حين يكون القوام الرئيس للمؤسستين العسكرية والأمنية من أحد المُكوّنات السابقة، أو حين يكون ممسكًا بمفاصل تلك المؤسستين الرئيسة.
وقد تتراكب هذه الحالة مع هيئات وجماعات ميليشياوية ذات طابع عسكري وأمني، كما هي حال «الحشد الشعبي» في العراق، و«حزب الله» في لبنان، و«الحوثيين» في اليمن، وكما كانت الحال في سورية خلال الشطر الأكبر من سنوات الحرب، وما انفك الأمر كذلك في عدد من المناطق السورية. وعلى ذلك، فقد اختلط الدور القمعي الوحشي الذي مثّلته الأجهزة الأمنية والعسكرية في إفشال الانتفاضة السوريَّة، مثلًا، مع الدور الذي مثّلته تلك الميليشيات، (لجان الدفاع الوطني وغيرها)، إضافة إلى الميليشيات الآتية من الخارج، (حزب الله وجماعات الحرس الثوري الإيراني بمسمياتها وجنسياتها المختلفة).
في مثل هذه الحال، يُمكننا أن نُطلق على القاعدة الاجتماعية للسلطة «مجتمع الطغمة الحاكمة»، الذي تحكمه وتجمعه مصالح وامتيازات وتطلعات مشتركة، لا تقتصر على ما يجري على سطح الحوادث، (وفي اللحظة الراهنة فحسب)، بل تطــال ترسّبات تاريخيــة وثقافيــة مرتبطة بمظلوميات اجتماعيــة؛ قديمة أو جديدة، تُفضي في حصيلتها إلى رفض الإصلاح والتغيير، واصطفافه خلف السلطة، بل وتصميمه على الدفاع عنها وعن استمرارها في الحكم، مهما كلّف ذلك!
«مجتمع الطغمة» هذا يمكنه أن يزعم أنه هو «المجتمع»، وإنّ الآخرين (المحتجين مهما كانت نسبتهم عالية) هم عملاء وخونة ومأجورون أو إرهابيون …إلخ. والأهم من ذلك، هو أن يصبح هذا «المجتمع» حاضنة لكثيرين يُبدون استعدادًا للقتال وممارسة مختلف أعمال الترويع والانتهاكات بهدف بقاء الطغمة في الحكم. وهكذا، فعندما يكون المجتمع منقسمًا على نفسه، ويجري «الاستثمار» في هذا الانقسام وتوظيفه بهدف الحفاظ على استمرار النظام القائم وديمومته، فإن الوضع يصبح مهيّأً لنشوب أبشع أنواع الصراعات الاجتماعية وأقذرها، وذلك من خلال تحوّل المواجهة مع السلطة إلى صدام واحتراب مع «العصبة» الاجتماعية التي تستند إليها هذه السلطة.
فقيادات هذه العصبة وأصحاب المصالح والامتيازات الرئيسة فيها، يشعرون بأنهم مهدّدون ليس بخسارة مواقعهم ومكاسبهم فحسب، بل حياتهم ووجودهم ككل، فيسارعون إلى تعميم «هلعهم» هذا ليشمل معظم المنتمين إلى هذه العصبة، كيّما يهبّوا للدفاع عنها بوصفه دفاعًا عن كيانهم ووجودهم. وغالبًا ما ينجحون بتمرير لعبتهم الشريرة هذه! ليستنفروا، في المقابل، طائفة أو قبيلة موازية، (وخصوصًا الفئات المهمّشة والمظلومة منها، التي تستند إليها عادة التمثيلات السياسية المعارضة)، فيصبح الطريق ممهدًا لاحتراب دموي مدمّر، بأبعادٍ عقديَّة واجتماعية وثأرية، متراكبة مع تدخلات إقليمية ودولية متباينة المرامي والأهداف، كما جرى في سورية وفي غير بلد عربي.(3)
وما إن انزلقت الانتفاضات إلى تلك الصراعات المذهبية والإثنية المدمّرة حتى فتحت الباب على مصراعيه أمام تدخلات إقليمية ودولية تحوّلَ فيها الفاعلون السياسيون، سواءً لدى السلطات أو المعارضات، إلى أدوات طيّعة بيد القوى المتدخلة وأجنداتها الخاصة؟ في وقت أصبحت فيه بعض العواصم الإقليميــة والدوليــة قادرة على مدّ القوى المحلية -في السلطة وخارجها- بأسباب البقاء والاستمرار مهما كانت هذه القوى كريهة ومنبوذة!
لا ريب أنّ ثمة خصوصية أكيدة لكل بلد من بلدان الربيع العربي، ولكنْ هناك عددٌ من المشتركات بينها أيضًا، يأتي في مقدّمها:

  1. الإخفاق في بناء الدولة الوطنية الحديثة، وما خلّفه ذلك من هشاشة في النسيج المجتمعي والوطني.
  2. الدور الذي تضطلع به المؤسستان العسكرية والأمنية وتباينه بين دولة وأخرى.
  3. بنية وطبيعة النظام ومستوى لجوئه إلى العنف في حل النزاعات السياسية والأهلية، والتفاوت في ذلك بين نظام عربي وآخر.

رابعًا: الدولة الوطنية وتجليات الفشل في بنائها
الأبرز بين تلك المشتركات التي تشكل عائقًا موضوعيًا (بنيويًا) أمام إمكانات التغيير ونجاح الثورات في العالم العربي هو غياب الدولة الوطنية الحديثة، وابتلاعها من طرف سلطات غاشمة باتت أشبه بطغم مافيوية، فاسدة ومُفسِدة، ليس لديها أي إنجازات تذكر على أيّ صعيد تنموي أو نهضوي، ولا يشغلها سوى البقاء في سدة الحكم، وهي على استعداد لفعل أي شيء في سبيل ذلك. وقد كشفت عن ذلك بجلاء الطريقة الوحشية التي تعاملت بها هذه السلطات مع انتفاضات الربيع العربي، وما ترتّب عليها من ويلات ودمار وخراب وإزهاق أرواح مئات الآلاف من البشر، ما جعل العالم العربي يبدو استثناءً في ذلك على مستوى العالم ككل!
يقف وراء إخفاق العرب في بناء دولهم الوطنية الحديثة العديد من الأسباب، أهمها دور القوى الاستعمارية في نشوء وتكوّن كياناتهم السياسية، (وخصوصًا في مشرقنا العربي)، لكن ربما الأهم من ذلك، أنّ هذه الكيانات لم تتشكل كحصيلة لصراعات داخلية عنيفة نجم عنها في نهاية المطاف التوافق على صوغ عقد اجتماعي، يضمن الالتزام بمبادئ وقوانين السلم الأهلي والعيش المشترك بين أبنائها ومكوناتها كافة، بالاستناد إلى مفهوم المجتمع المدني (الأمّة)، وليس بالاعتماد على البنى والعلاقات ما قبل الوطنية، كما حصل في المجتمعات الغربية بعد حرب الثلاثين عامًا التي شهدتها أوروبا في النصف الأول من القرن السابع عشر، من 1618 إلى 1648. هذه الحرب التي اعتقدنا أننا سننجو منها، وسنتعلم من دروس التاريخ وكوارثه، بيد أنّ ما نشهده اليوم من اقتتال وحروب في بلادنا العربية على خلفية مذهبية وإثنية، يبدو وكأنه (معادل تاريخي) لتلك الحرب الدموية، بتأخر زمني (وحضاري) يقارب نحو أربعمئة عام!
وإذا كانت بريطانيا وفرنسا ساهمتا في القضاء على السلطنة العثمانية، ورسمتا حدودًا وأوجدتا بلدانًا وعينتا حكامًا، وحاولتا أن تبنيّا أنظمة على غرار أنظمتها السياسية الغربية، إلا أنّ كثيرًا من القوى المحلية وقفت ضد ذلك وعدّته غير شرعي، هذا فضلًا عن المشكلات التي خلفتها هذه الترتيبات، وما زالت معلّقة حتى الآن؛ مثل المصير السياسي للفلسطينيين والكرد وعدد من الإثنيات الأخرى.(4)
يضاف إلى ذلك، ما خلّفه هذا الفشل من انعكاسات وتداعيات، فبدلًا من السلم الأهلي والهوية الوطنية الجامعة شاهدنا انفجار الهويات الدينية والطائفية والعرقية والقبلية والمناطقية …إلخ. وعوضًا عن إقامة دولة الحقّ وسيادة القانون التي تحترم المؤسسات والتعدّدية والمعايير الحديثة كالحرية والديمقراطية وتداول السلطة والمساواة ومبدأ المواطنة المتساوية وتكافؤ الفرص، ابتلي العالم العربي بسلطات كرّست نفسها كأنظمة شمولية استبدادية؛ أعطت لنفسها الحق بتعطيل الدستور ووقف العمل حتى بالقوانين التي أقرّتها بنفسها، وذلك عبر فرض قوانين الطوارئ والأحكام العرفية، ما مكنّها من إحكام قبضتها على الفضاء العام والمجتمع والسيطرة على جميع تمثيلاته وتنظيماته من أحزاب، نقابات، منظمات مجتمع مدني، صحف ووسائل إعلام …إلخ.

خامسًا: تمايز التجربة التونسية
يمكن للمراقب أن يلاحظ أنّ تعامل الأنظمة العربية مع احتجاجات الربيع العربي كان يتناسب طردًا مع مدى اقترابها أو ابتعادها من الأخذ بمعايير الدولة الحديثة، وانعكاس ذلك على بنية الدولة وطبيعة نظامها السياسي ومستوى لجوئها إلى العنف في حل النزاعات السياسية والأهلية القائمة أو التي تنشب بين آونة وأخرى. ففي دولة مثل تونس كان بطل استقلالها ورئيسها الحبيب بورقيبة قد أرسى بعض دعائم ومرتكزات الدولة الحديثة، من قبيل التأكيد على علمانية الدولة ومدنيتها، وعدم الإطباق التام على الفضاء العام والحياة السياسية، إضافة إلى موقفه من المرأة، «مدونة (قانون) الأحوال الشخصية»، التي ساهمت بقوانينها العصرية في منح المرأة التونسية حقوقًا متقدمة، مقارنة مع سواها من النساء العربيات.
كما يُسَجّل للنظام التونسي السابق بنسختيه؛ البورقيبية والبنعلية، مساهمته في وصول المجتمع إلى مستوى تعليمي وثقافي متقدم. إذ أنّ الدولة التونسية وضعت منذ الاستقلال ثلث موازنتها للاستثمار في التعليم، بهدف صناعة رأسمال بشري قادر على إدارة عجلة الاقتصاد وبناء مؤسسات كفؤة، وسط شحّ الموارد الأخرى. كما عملت على توفير الشروط الملائمة لتشكيل طبقة وسطى واسعة.
يضاف إلى ذلك؛ حياد المؤسسة العسكرية التي لم يعرف عنها أيّ تدخل في الشؤون السياسية، وتماسك النسيج المجتمعي لتونس وابتعاده عن الانقسامات كما في بلدان أخرى، ووجود مجتمع مدني قوي وتمثيلات حزبية ونخب سياسية ديمقراطية، وحركة عمّالية ونقابية مستقلّة نسبيًا عن السلطة السياسية. أي أن نظام الحكم البائد لم يكن شموليًا واستبداديًا بالمطلق، (توتاليتاريًا)، مثل غيره من الأنظمة التسلطية الشمولية التي عرفها العالم العربي. وكان هذا أحد أهم الأسباب التي ساعدت في نجاح الثورة سريعًا وفي سلميتها من جهة، واستمرارها وديمومتها طوال السنوات السابقة، من جهة ثانية.(5)
وقد بقيت التجربة التونسية، (إلى ما قبل انقلاب الرئيس الشعبوي قيس سعيّد)، نافذة الأمل الوحيدة التي عوّل عليها أغلب المحللين والمهتمين، بأن تكون أنموذجًا يحتذى للانتقال الديمقراطي في العالم العربي. لكنها غدت برمّتها الآن على كف عفريت، وسيكون مصيرها رهنًا بموازين القوى التي ستستقر عليها البلاد، وقدرة الرئيس سعيّد على حسم «المكاسرة» الراهنة لصالحه، وبسط سيطرته الكاملة على المشهد السياسي التونسي.
وفي الواقع، فإن انقلاب الرئيس على النظام البرلماني الرئاسي المختلط، وتعديل الدستور بما يضمن إقامة نظام رئاسي تكون اليد العليا فيه للرئيس وليس للبرلمان، وقبل ذلك، نجاحه في انتخابات الرئاسة لم يأتِ من فراغ، فقد توافرت الكثير من العوامل والأسباب التي مهّدت الطريق أمامه. فبعد الخطوات الأولى للانتقال الديمقراطي، مثل: انتخاب جمعية تأسيسية، وضع دستور جديد، تنظيم انتخابات برلمانية ورئاسية وفق قانون انتخابي جديد، وتشكيل حكومة جديدة؛ سرعان ما انشغلت المنظومة السياسية الجديدة؛ في الحكم والمعارضة، بمماحكاتها السياسية وانقساماتها الأيديولوجية والسياسية (علماني/ إسلامي، ليبرالي/ يساري …إلخ)، فضلًا عن انغماسها في الصراع على الحكم ومغانمه، في وقت كانت فيه المصاعب والتحديات التي تواجهها التجربة الجديدة كثيرة وجلية.
وقد ساهمت المنظمات المدنية والنقابات التونسية، مستندةً إلى رصيدها التاريخي وثقلها الاجتماعي، في ضبط توازنات المشهد السياسي والتخفيف من وطأة الأزمات المتلاحقة التي شهدتها البلاد في السنوات الأولى للثورة، على غرار الدور الوفاقي المميز الذي قامت به «اللجنة الرباعية للحوار الوطني» بقيادة الاتحاد العام التونسي للشغل (المنظمة النقابية الأكبر)، حين قادت حوارًا ناجحًا (2013) بين أحزاب «الترويكا» الحاكمة آنذاك بزعامة حركة النهضة (الإسلامية)، وأحزاب المعارضة، وتمكنت عبره من احتواء الاستقطاب الحاد الذي حصل بعد حادثتَي اغتيال القياديَين اليساريَين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، ووُجِّهت الاتهامات فيهما إلى مجموعات تدعمها حركة النهضة، أو تتواطأ معها وتصرف النظر عن نشاطها؛ علمًا أن حوادث الاغتيال السياسي نادرة ومستنكرة في تاريخ تونس.
وسجّل البعض وقتها للحركة الإسلامية التونسية تميّز أدائها السياسي وتمتعها بمرونة وبراغماتية عالية. بيد أنّ شهوتها للسلطة وامتيازاتها دفعتها للائتلاف والتساكن مع قسم مُحدّث من النظام القديم: حزب «نداء تونس» الذي حاز على المركز الأول في انتخابات عام 2014، وذلك بعد ما يُعرف بـ«اتفاق الشيخين»، السبسي والغنوشي، الذي أُتمّ في باريس.
ولم يُفضِ هذا الاتفاق إلى تحقيق الاستقرار والنهوض المرجوَّين، وخاصة في ظلّ الانقسامات والانشقاقات المتلاحقة التي عانى منها «النداء». ووصل الأمر في لحظة ما إلى مستوى القطيعة والصراع العلني بين رئيس الجمهورية (الباجي قايد السبسي) من جهة، والحكومة والبرلمان من جهة أخرى، في وقت تفاقمت فيه مشكلات الفقر والبطالة بين الشبان والخريجين الجامعيين، في ظلّ سياسات هذا الائتلاف الاقتصادية وإهماله المطالب الاجتماعية والمعيشية للتونسيين.
وعلى ذلك، ما لبثت أن تجدّدت الاحتجاجات في منطقة القصرين وسواها من المناطق والضواحي المهمّشة، رافعة ذات الشعارات المتصلة بتأمين الشغل والتنمية التي رُفعت في بداية الثورة. بل وفي تكرار لتجربة البوعزيزي، فقد أحرق عبدالرزاق الزرقي (مصور تلفزيوني) جسده (2018) في محافظة القصرين.
وعدّ المحتجون التونسيون أنّ منظومة الحكم والحكومات المتعاقبة منذ ثورة 2011، هي المسؤولة عن الإخفاق في إنجاز الاستحقاقات الاقتصادية والاجتماعية. وهو ما مهّد الطريق، تاليًا، أمام الرئيس الشعبوي للنجاح في الانتخابات الرئاسية تحت يافطة إيجاد مخرج من الانسداد السياسي والمأزق الاقتصادي اللذين أرهقا الشعب، والتخلص من المنظومة الحاكمة والفاسدين وحل البرلمان، حتى لو كان ذلك مقدّمة للعودة مرة أخرى نحو الاستبداد والدكتاتورية!

سادسًا: دور المؤسستين العسكرية والأمنية (الجزائر والسودان نموذجًا)
وكان من أهم المعوقات الموضوعية أمام فرص التغيير والثورة في العالم العربي، اعتماد الأنظمة الحاكمة بشكل رئيس على المؤسستين العسكرية والأمنية، وخاصة أجهزة المخابرات التي تمّ زيادة عددها وعديد أفرادها على نحو سرطاني، فضلًا عن توسيع صلاحياتها بشكل مفرط. فبوساطة هذه الأجهزة، سيطرت السلطات العربية على مرافق الدولة وابتلعت مؤسساتها وأركانها، وسخّرتها لخدمة نظامها السياسي بشكل خاص. وبهدف تحقيق ذلك، لم توفر شيئًا أو عملًا؛ بدءًا من منع النشاط السياسي، أو تقييده كحد أدنى، إلى شيوع ظاهرة الاختفاء القسري والتوقيف التعسفي للمعارضين، والاحتمالات الكبيرة لموتهم أو التخلص منهم (قتلهم) تحت التعذيب، وأقلّه الحكم عليهم بأحكام جائرة عبر إحالتهم إلى محاكم عسكرية واستثنائية، هذا فضلًا عن تفتيش المنازل والتنصت على الاتصالات، ومصادرة الأملاك والعقارات والشركات والتدخل في أنواع النشاط الاقتصادي والمالي …إلخ.
وقد وصل النظام الأسدي، في عهدَي الأب والابن، إلى مستوى النموذج الذي يُدرّس على هذا الصعيد، بعد أن قولب وطوّع الجيش، على مدى عقود، ومهره بطابعه وصبغته الطائفية، وحوله إلى أداة طيعة ومطواعة في يده تقوم فقط بحماية نظامه والدفاع عنه، جنبًا إلى جنب مع الأجهزة الأمنية التي باتت هي المتحكمة في كل شيء، بما في ذلك الجيش وفرقه المعروفة، ما خلا بعض الوحدات الخاصة (مثل سرايا الدفاع سابقًا، والفرقة الرابعة والحرس الجمهوري حاليًا).
في كتابه «فلاحو سورية»، وعلى الرغم من تحفظه وحذره الشديدين من إطلاق الأحكام، يكشف المؤرخ حنا بطاطو بالأسماء والأرقام وأدق التفاصيل أنه “لا جدال في أن قاعدة سلطة الأسد هي في جوهرها علوية بقوة”. ويوضح أن من “بين 31 ضابطًا اختارهم حافظ الأسد بين عامي 1970 و1997، لشغل مراكز حساسة في القوات المسلحة وقوات النخبة العسكرية وشبكة أجهزة الأمن والاستخبارات، كان ما لا يقل عن 19 منهم من الطائفة العلوية، بمن فيهم 8 من عشيرته، و4 من عشيرة زوجته، ومن بين هؤلاء هناك 7 تربطه بهم صلات قربى”.
ويضيف في مكان آخر أنّ “أيًّا من الضباط السنة لم يكن يملك في أي لحظة سلطة اتخاذ قرارات حاسمة، أو القيام بمبادرات مستقلة”. ويقول: “كان المعاونون الموثوقون من أقرباء الأسد، أو أبناء طائفته، يراقبون عن كثب السنّة في المناصب العسكرية والأمنية العليا”. وينقل بطاطو ما كتبه أحد أصدقاء رفعت الأسد، (صالح عضيمة)، عن مصطفى طلاس: “هو لا يحل ولا يربط، وليس له من دور في الجيش إلا دور الذيل من الدابة”!(6)
وفي المقابل، لم يُعرف عن الجيش التونسي أيّ تدخل في ميدان السياسة، وهو أقرب إلى مفهوم الجيش المهني، وبقي خارج «لعبة» الانقلابات العسكرية التي عرفتها كثير من البلدان العربية (مصر، سورية، العراق، السودان… إلخ)، ولذلك يحظى بتقدير وثقة أغلبية التونسيين. صحيحٌ أنه يمنح الرئيس سعيّد حاليًا تأييده، ويعمل الأخير على استمالته إلى صفّه عبر تعيين عدد من ضباطه في مناصب ومواقع مدنية، إلا أنه من المبكر جدًا الحديث عن طموحه لشغل دور سياسي مستقبلي.
وبالمقارنة بين تونس ومصر، مثلًا، نجد أنّ المؤسسة العسكرية المصرية كان لها حضورٌ وتأثير طاغيان في الحوادث والتطورات التي شهدتها مصر منذ الإطاحة بالملكية قبل سبعة عقود، وصولًا إلى دورها في نجاح «ثورة 25 كانون الثاني/ يناير» في البداية، ومن ثم في الانقلاب الذي أطاح بحكم الرئيس (الإسلامي المنتَخب ديمقراطيًا) محمد مرسي، وأوصل عبد الفتاح السيسي إلى سدة الرئاسة.
وعلى غرار الجيش المصري، كان للجيشين الجزائري والسوداني دور مركزي في إطاحة الرئيسين بوتفليقة والبشير. ومن المعروف أنّ المؤسسة العسكرية في الجزائر تعدّ «صانعة الرؤساء»، وترى نفسها ضامنًا أساسيًا لاستمرار وحماية الدولة المدنية. فهي التي انقلبت على مسار الانتخابات التي حقق فيها الإسلاميون “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” فوزًا ساحقًا عام 1991، ما أدخل الجزائر في ما يعرف بـ«العشرية السوداء». وهي التي أبعدت بوتفليقة عن الرئاسة عام 1979، قبل أن تستقدمه في العام 1999، ليكون مرشّحها في انتخابات الرئاسة حينها، بوصفه من رفاق بومدين في «مجموعة وجدة»، (7) وهي التي بادرت كذلك، بقيادة رئيس الأركان أحمد قايد صالح، إلى الضغط عليه وإجباره على الاستقالة وسحب ترشّحه لولاية خامسة. وقدّمت عملها هذا بوصفه تماهيًا مع مطالب المحتجين الذين أعلنوا وقوفهم ضد الفساد المستشري، ووصفوا التمديد لحكم بوتفليقة في ظلّ حالته المرضية المزمنة، أشبه بمهزلة سوريالية فظيعة!
وكانت المجموعة المحيطة ببوتفليقة، بزعامة شقيقه سعيد، استغلت وضعه الصحي للسطو على صلاحياته كرئيس للجمهورية. ومن الواضح أن هذه “العصابة”، كما وصِفت، كان لديها قدرٌ كبيرٌ من المصالح المتشعبة حملتها على الاستمرار في لعبتها البائسة والسعي لتجديد لبوتفليقة بهدف حماية نفسها ومصالحها، مُستخفّة بالشعب الجزائري، وبالمؤسسة العسكرية كذلك. وفي الواقع كان للحراك الشعبي دور رئيس في وضع حدّ لهذه «المهزلة» ودفعَ المؤسسة العسكرية إلى أخذ المبادرة وإنهائها.(8)
وقد انحاز قائد الجيش الجزائري في البداية لصالح المحتجين ومطالبهم، وتعهّد بـ«تسليم السلطة للشعب»، (على الرغم من أنه كان أحد المقربين الأوفياء للرئيس بوتفليقة، ومن أهم الذين وفروا الحماية لنظامه منذ العام 2004)، لكنه ما لبث أن قلب ظهر المجن للمحتجين وطعن بهم وبحراكهم ووصفهم بـ«الشرذمة والخونة والعملاء»! وأصبح بعد إزاحة بوتفليقة الحاكم الفعلي للبلاد إلى غاية تنظيم انتخابات الرئاسة، التي دافع عنها بقوة بذريعة الحفاظ على «الشرعية الدستورية»، بينما كان في الواقع يسعى لتفادي المرور بمرحلة انتقالية تشرف عليها شخصيات مدنية مستقلة، كما طالب الحراك الشعبي. وقد جلبت الانتخابات رئيسًا (عبد المجيد تبون) من قلب الطبقة السياسية المرفوضة من المحتجين.
وفي السودان، ظل الجيش هو القوة المهيمنة على الحكم بشكل شبه متواصل تقريبًا منذ الاستقلال 1956. وفي ضوء ذلك، لم يكن مفاجئًا أن يبادر جنرالات البشير إلى الانقلاب عليه بعد أن أيقنوا أنه لم يعد ممكنًا التمسك به والدفاع عنه أمام الاحتجاجات النوعية في الشارع، بل عدّوا أنّ إطاحته تحقيقٌ لطموح المحتجين أيضًا!
غير أنه لم يطل الوقت ليتبيّن أن القادة العسكريين يريدون التخلص من رأس السلطة، (أو التضحية به)، كتمهيد لإعادة إنتاج النظام القديم بحلّة جديدة. وهكذا يتشابه السيناريوهان الجزائري والسوداني مع شقيقهما المصري، لجهة الدور «الإنقاذي» الذي مثّله الجيش في التخلص من رأس النظام، ولكن بهدف حماية النظام ذاته وإعادة انتاجه من جديد. وخصوصًا أنّ للجيشين الجزائري والسوداني دورًا مشابهًا لنظيرهما المصري في «صناعة الرؤساء».
وتنقسم المؤسسة العسكرية في السودان حاليًا إلى قسمين: وزارة الدفاع التي يقودها رئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان. وقوات الدعم السريع التي يقودها محمد حمدان دقلو الملقب بـ «حمديتى». وهذه القوات هي نفسها ميليشيا “الجنجويد” سابقًا، المشهورة بمجازرها وفظائعها وانتهاكاتها لحقوق الإنسان في إقليم دارفور. ويتلقى القسمان دعمًا من بعض الدول العربية الفاعلة مثل مصر والمملكة السعودية والإمارات العربية المتحدة. ويُحكمان قبضتهما على جزء مهم من النشاط الاقتصادي السوداني، مثل النفط ومناجم الذهب وتجارته، فضلًا عن شركات واستثمارات في الإنشاءات والمواشي والأدوية والاستيراد والتصدير.(9)
ويبدو أن الجيش السوداني يستنسخ تجربة نظيره المصري في الاستحواذ على بعض القطاعات الاقتصادية والاستثمارات المهمة لزيادة وتعميق نفوذه في الدولة والمجتمع أكثر فأكثر. وكانت مجلة “إيكونوميست” قد خصصت إحدى افتتاحيتها لموضوع «الإمبراطورية الاقتصادية» التي يملكها الجيش المصري وتأثيرها في الاقتصاد المصري. وطبعًا لا يمكن لأي استثمارات خاصة أن تتنافس مع «هيئات عسكرية لا تدفع ضرائب أو رسومًا جمركية، ويمكن أن تلقي بمنافسيها في السجن»!(10)
وربما كان البرهان وحميدتي يطمحان كذلك إلى استنساخ «السيناريو المصريّ» في السودان، فقد بادرا إلى الانقلاب -في 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021- على اتفاقهما مع ائتلاف «قوى الحرية والتغيير» بشأن المجلس السيادي حين اقترب موعد تسليم رئاسة المجلس للمكون المدني. ولكن إذا كان الانقلاب المصري موجّهًا بشكل رئيس ضد الرئيس مرسي وجماعة «الإخوان المسلمين»، وتواطأت معه كثير من القوى السياسية والنخب المدنية والأهلية المصرية، فإن الانقلاب السوداني كان مختلفًا تمامًا عن ذلك. إذ كانت الاحتجاجات في السودان -والتي شهدت مشــاركة كثيفــة للمــرأة فيها- موجّهة في الأصل ضد نظام بصبغة إسلامية، وتسعى لتقديم بديل آخــر للشــعوب العربية خــارج ثنائيــة الاســتبداد الســياسي أو الدينــي. وقد أعرب محللون عن خشيتهم من أن يصبّ موقف عسكر السودان (الانقلابي) في صالح الحركة الإسلامية وفلول نظام البشير، ويمنحهما فرصة كبيرة للعودة إلى الحياة السياسية، مشدّدين على عمق الخلاف بين الحالتين السودانية والمصرية.(11)
وفي الحصيلة، من الواضح أن السودان تنتظره الكثير من الصعاب والتحديات، وسيعتمد مستقبل التحول الديمقراطي فيه على تضافر عدد من العوامل الداخلية والإقليمية والدولية. وسيزيد من تلك الصعاب والتحديات تفاقم الصراع بين البرهان ونائبه حميدتي حول صلاحيات ونفوذ كل منهما. ويبدو أن البرهان يطمح لانفراده بقيادة الجيش، بعد أن يدمج «قوات الدعم السريع» فيه، تمهيدًا لانفراده بقيادة السودان، إذا أراد إعادة سيرة النميري والبشير في الحكم وتمكن من تحقيق ذلك!

سابعًا: دور القوى الخارجية
طبعًا ليس جديدًا في التاريخ أن تكون للخارج أدوار رئيسة فاعلة هنا أو هناك؛ ومن ضمن ذلك لجم إمكانات التغيير ومنعها في هذا البلد أو ذاك، بصرف النظر عن حجم ومستوى التطلعات الشعبية. وقد كان من الواضح والجليّ دور القوى الخارجية الحاسم في إجهاض الانتفاضة الشعبية السورية، وبقاء واستمرار نظام الأسد، من حزب الله وصولًا إلى روسيا بوتين، ومرورًا بإيران وحرسها الثوري.
وقد حصل ذلك في وقت لم تعد فيه منطقة الشرق الأوسط ضمن الأولويات الاستراتيجية لإدارة الرئيس الأسبق (الديمقراطي) باراك أوباما. وبحسب رؤية الأخير،(12) فإنّ الشرق الأوسط لم يعد مهمًا للمصالح الأميركية، وينبغي عدم إدراجه ضمن أولوياتها. ورأى في المقابل، أنّ مركز الاهتمام الأميركي ينبغي أن ينتقل إلى آسيا والشرق الأقصى، لمواجهة النفوذ الاقتصادي والاستراتيجي المتنامي للصين، بوصفها التحدّي الأبرز للمصالح الأميركية، وبأنّ على واشنطن أن تعمل على كبح جماحها والحدّ من سعيها المتزايد للسيطرة.
وزاد على ذلك، بأنّ دولًا أوروبية وخليجية حليفة لأميركا سعت إلى «جرّ الولايات المتحدة إلى التدخل واستخدام قوتها العسكرية لتسوية حسابات وصراعات (في منطقتنا) ذات طابع طائفي، لا تخدم المصالح الأميركية». وقد شكل هذا الفهم خلفية موقف أوباما (المتردد والمتأرجح) في الشأن السوري، وخصوصًا إثر توعده بـ«الخط الأحمر» في حال استخدام نظام الأسد للأسلحة الكيماوية، ومن ثم تراجعه، وإعلانه الصريح أنّه «غير نادم على هذا التراجع»!
وبحسب جيفري غولدبرغ، فقد بدا واضحًا أنّ إدارة أوباما لن تورط نفسها في أيّ تدخّل عسكري جديد في المنطقة، في وقت تسعى فيه لإنهاء حربَين في العراق وأفغانستان والانسحاب منهما، هذا فضلًا عن رهانها الكبير على إيران وعقد الاتفاق النووي معها!
وعلى العموم، فقد أظهرت التجارب المعيشة مدى أهمية الجوار الإقليمي والوضع الدولي؛ إما في إنجاح الثورة، أو في إجهاضها. وكذا الأمر بالنسبة إلى مسار الانتقال إلى الديمقراطية، حيث للتدخلات الإقليمية والدولية دور رئيس؛ إما في إنجاحه أو في عرقلته. ففي أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية، مثلًا، كان من مصلحة الجوار الإقليمي دعم عمليات التحول إلى الديمقراطية التي حصلت في تلك البلدان، في حين وجدنا أن البيئة الإقليمية العربية لم تكن مساعدة أبدًا على نجاح تلك المسارات. بل على العكس، فإنّ قوى الثورة المضادة داخل دول الربيع العربي وفي جوارها الإقليمي، أدّت دورًا بارزًا ومُخزيًا في الوصول إلى النتائج الكارثية التي وصلنا إليها، مستغلة عمق الانقسام السياسي والثقافي في المجتمعات المعنية، وهشاشة المجتمع المدني، وضعف القوى السياسية الديمقراطية، وغياب ثقافة الديمقراطية عمومًا، إن لم نقل طغيان ثقافة الإقصاء والإبادة السياسية والثقافية!(13)
وكمثال على ذلك، فقد حام ظلّ دول (مثل الإمارات، السعودية ومصر)، حول انقلاب البرهان وحميدتي -في تشرين الأول/ أكتوبر 2021- في السودان، مثلما حام ظلها من قبل حول انقلاب تونس. ومن المعروف أن بعض دول الخليج دعمت سابقًا انقلاب عبد الفتاح السيسي في مصر. وفي سبيل التناغم مع سياسات هذه الدول، ومع الخطط والمشاريع الأميركية– الإسرائيلية التي كانت مطروحة، قفز البرهان إلى مركب الدول العربية المُطبّعة مع إسرائيل، بدعوى التسريع في رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب، والمساعدة في تجاوز مصاعبه الاقتصادية، بينما كان في الواقع يطمع في أن تزيد هذه الخطوة من حظوة عسكر السودان لدى الأطراف المعنية، لعلها تضرب صفحًا عن خطاياهم وارتكابات “جنجويدهم”.
ولفت انتباه المراقبين، في هذا الصدد، أنه لو كانت واشنطن والعواصم الغربية حريصة فعلًا على إنجاح الانتقال السياسي وتمكين الديمقراطية الناشئة في السودان، لبادرت فورًا إلى تقديم مختلف أشكال الدعم الاقتصادي والسياسي للسلطات الجديدة، وخصوصًا الشق المدني منها، من دون رهن ذلك بأي شروط سياسية وصلت حدّ الابتزاز والإذلال، كما حصل في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب تجاه قضية التطبيع! كما لفت انتباههم أيضًا أن إسرائيل (الديمقراطية) لم تجد هي الأخرى أيّ حرج في التعامل مع انقلاب 2021 وعسكر السودان، وذلك حرصًا منها فقط على التطبيع الرسمي مع مزيد من الدول العربية.
بيد أنه، وعلى الرغم من دعم تلك الدول لانقلابيي السودان، فإن الأخيرين قد أخطأوا حساباتهم هذه المرة. فلا الشعب السوداني يبدو في وارد التخلي عن ثورته وتطلعاته للتغيير، (حيث واجه العسكر شارعًا غاضبًا ومُصمّمًا على استعادة الحكم المدني)، ولا المجتمع الدولي يبدو في وارد التسامح معهم كذلك، إضافة إلى موقف الاتحاد الأفريقي الرافض أصلًا للانقلابات في القارة الأفريقية.
صحيح أن الموقف الدولي لم يرقَ إلى تسمية الانقلاب باسمه الصريح، لكن نبرته بدت أعلى من تلك التي سُمعت إزاء الإجراءات التي أقدم عليها قيس سعيّد في تونس، أو انقلاب السيسي في مصر 2013. وقامت إدارة بايدن بتعليق مساعدات أميركية للسودان، وكذلك فعل الاتحاد الأوروبي، في وقت تبدو فيه العواصم الغربية وكأنها باتت تخشى أن تخسر نفوذها في بعض الساحات لصالح الصين وروسيا، في حال اتخذت مواقف أكثر صراحة وجذرية من انقلاب ما، أو انتخابات مزيفة هنا أو هناك. كما أشارت صحيفة «واشنطن بوست» في 27 تشرين الأول/ أكتوبر 2021.(14)

ثامنًا: سيطرة الإسلام السياسي
ومن الأسباب التي تعيق تحقيق التغيير الديمقراطي في عالمنا العربي، هو الغلبة الراهنة لقوى الإسلام السياسي بمختلف تلاوينها وأطيافها وبشقيها السنّي والشيعي. ومن المفترض أن يندرج هذا الأمر ضمن العوامل الذاتية المعيقة للديمقراطية في البلدان العربية، إلا أنّ ديمومته على مدى أجيال وعقود طويلة أضحت ترتقي به إلى مستوى العامل الموضوعي وليس الذاتي فقط. فبعد نحو قرن من نشوء الكيانات العربية، ما زال ثمة خلافات عميقة مستعرة داخلها تطال هويتها وهوية مجتمعاتها السياسية والاجتماعية والثقافية، بما في ذلك شرعية هذه الكيانات ذاتها، (من قبيل الحنين إلى نظام الخلافة الإسلامية مثلًا)، وكذلك شرعية الأنظمة القائمة عليها التي تنظر إليها كثير من القوى والحركات الإسلامية، وقبلها القومية، بوصفها تعبيرًا عن عقيدة غربية (غزوًا ثقافيًا غربيًا)، وترى أن تطبيق الشريعة في مختلف جوانب الحياة (ومنها الحوكمة والسياسة) أمرًا مفروغًا منه.
ويلاحظ ديفيد فرومكين في كتابه «سلام ما بعده سلام» أنّ المسؤولين الغربيين الذين شاركوا في اقتسام المنطقة، «ظنوا أن المعارضة الإسلامية للعصرنة كانت في طريقها إلى التلاشي، ولم يروا أهمية المذهب الوهابي في السعودية، ودور الدين في أفغانستان، واستمرار حيوية الإخوان المسلمين في مصر وسورية، والثورة الخمينية في إيران …إلخ».(15)
وفي ظلّ واقع الاستبداد والنهج التمييزي المُخرّب الذي تتبعه معظم الأنظمة العربية، وتحكّم البنى الاجتماعية والسياسية والثقافية المتخلفة، من جرّاء إخفاق مشروع النهضة والحداثة الذي بدأ في أواخر القرن التاسع عشر، وتراجع الحركة التنويرية والعقلانية التي رافقته، وما أفضى إليه ذلك من تراجع وقصور في الوعي المدني والمؤسساتي، وغلبة الانتماءات والعصبيات ما دون الوطنية، فإنّ البيئة العربية العامة كانت وما برحت مهيأة لانتشار القوى والجماعات الإسلامية الأصولية بأطيافها وتلاوينها شتى.
وخلافًا لما كانت عليه الحال في العهود الاستعمارية، حيث كان للدين دور إدماجي موحِّد للقوى التي ناضلت ضد الاستعمار، فقد تحول الدين حاليًا إلى عامل رئيس من عوامل الفرقة وتفتيت النسيج المجتمعي، وخصوصًا في نسخته السياسية الأكثر تطرفًا، والمتمثلة في الحركات «الجهادية»، ذات التوجه الطائفي المعلن، والتي ساهمت في تحويل صراع الشعوب مع أنظمتها من محاربة الاستبداد إلى محاربة التطرف، أقلّه في نظر معظم العواصم الغربية الفاعلة. يضاف إليها كثيرٌ من المشايخ الدعاة الذين تُسخّر لهم المنابر الدينية والقنوات الفضائية، (الشيخ العرعور مثلًا). ما يعني العجز عن تجاوز «فقه الجماعة أو الملّة»، (وفي أحسن الأحوال فقه الأمة الإسلامية)، إلى «فقه الدولة الوطنية» بأبعاده الدستورية والقانونية المتفق عليها، وتحول الدين (أي الإسلام السياسي) إلى عائق كبير في وجه بناء الدولة العصرية الحديثة، على نحو شبيه بما جرى في زمن النهضة، حين وقفت القوى التقليدية والأصولية ضد دعوات النهضويين العرب وطموحاتهم.
وعلى سبيل المثال، يورد برهان غليون في كتابه «عطب الذات» كيف جاء رياض الشقفة، المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين، يسأله إن كان بالإمكان حضور ممثل عن وزارة الخارجية التركية اجتماع الأمانة العامة للمجلس الوطني؟ ويعدّ غليون أن ممثل الإخوان «لا يرى في هذا الحضور مساسًا بالطابع السيادي لاجتماع السوريين». ويعزو ذلك إلى «ضعف روح السيادة الوطنية عند النخب السورية، وضعف تمسكها باستقلال قرارها». ثم يضيف قوله إن «الانزلاق نحو التبعية لا ينجم دائمًا عن إرادة الهيمنة الخارجية، إنما عن القابلية للتبعية وغياب روح السيادة والاستقلال».(16)
وفي الواقع فإن الإخوان لا يرون في حضور ممثل الخارجية التركية اجتماع المعارضة السورية أمرًا نافرًا أو نشازًا، ليس للأسباب التي ذكرها غليون فحسب، بل لأنّهم يعدّون أنّ المرجعية الدينية العابرة للحدود، هي واحدة بينهم وبين الأتراك في ظل حكم حزب «العدالة والتنمية» ذي الخلفية الإسلامية، وتتقدّم على مرجعيتهم الوطنية. تمامًا مثلما كانت الحال بالنسبة إلى الأغلبية الساحقة من الأحزاب الشيوعية التي كانت تعدّ أن الأولوية لمرجعيتها الأممية وليس الوطنية. ومثلما هي الحال بالنسبة إلى حزب الله في لبنان الذي يفاخر قادته بأنّ مرجعيتهم ليست في بيروت، إنما «ولاية الفقيه» في طهران.
إلى ذلك، وعلى خلفية رفضهم للمبادئ المتصلة بجوهر الديمقراطية وضمانات الحقوق والحريّات الفردية والعامة، فإن تعامل أحزاب وجماعات الإسلام السياسي مع الديمقراطية، شابته، وما زالت تشوبه، الكثير من المآخذ والظنون. فهم يبدون ميلًا واستعدادًا دائمًا لإعادة إنتاج الاستبداد بحلل وصيغ جديدة، سواءً من خلال ممارستهم الحزبية الداخلية القائمة على مبدأ «السمع والطاعة»، أم على مستوى قبولهم بالمشاركة في الانتخابات و«اللعبة الديمقراطية»، على أن تكون كـ«السلم» الذي يوصلهم إلى الحكم، ليتفرغوا بعدها لأسلمة الدولة والمجتمع، في حين أنّ نشوء وتكوّن الدولة الحديثة ترافق مع انفصال ما هو سياسي عمّا هو ديني، وتحقيق نوع من الاستقلال النسبي للسلطات التنفيذية والتشريعية والقانونية عن الدين، وعن بعضها البعض في الوقت عينه.
وفي الغرب، ترافق ذلك مع تجريد الكنيسة من مصادر قوتها وهيمنتها الاقتصادية والاجتماعية، والحدّ من نفوذها السياسي ونفوذ طبقة الكهنوت الديني، ومن ثم البدء في الفصل التدريجي بين الكنيسة والسياسة، وشيوع التنظيم المدني العلماني للدولة والأنظمة السياسية المعمول بها، إضافة إلى تطور نُظم التعليم وانتشار الجامعات الحديثة، بعيدًا عن القيود الدينية والسلطوية التي كانت مفروضة على حرية التفكير والإبداع والبحث العلمي.
وفي المقابل، وعلى الرغم من الجهد الذي بذله التنويريون العرب منذ عصر النهضة وحتى الآن، في سبيل تعزيز أسس الفلسفة السياسية العقلانية الحديثة، فلسفة حقوق الإنسان ومبدأ المواطنة المتساوية، إلا أنّ الغلبة ما زالت للفكر اللاهوتي التكفيري الظلامي، وما زالت أفكار وفتاوى رموز هذا التيار؛ من ابن تيمية إلى حسن البنا، أقوى بما لا يقاس مما طرحه النهضويون والعقلانيون العرب وغير العرب.
وفي هذا الصدد، يجدر الانتباه إلى أن أحد الأسباب المهمة التي سهّلت الانتقال إلى الديمقراطية في دول أوروبا الشرقية هو ثقافتها السياسية المتقاربة مع نظيرتها في غرب أوروبا، لجهة مرورها بالإصلاح الديني وعصر النهضة والتنوير، بينما الأمر ليس كذلك في العالم العربي، فالميل العام لدى جميع تيارات الإسلام السياسي، بجناحيها السنّي والشيعي، يميل لصالح إقامة دولة دينية تعد الشرع دستورًا لها، من منطلق أن «الإسلام هو الحل»، وهو دين ودنيا في الوقت عينه.
وعلى ذلك، من الخطأ الفادح الركون لحديث البعض عن أن الثورة السورية وغيرها من ثورات الربيع العربي قد انتصرت ولم تُهزم قط، وبأن ما تمر به الآن من نكوص وتعرجات شبيه بما جرى للثورة الفرنسية في القرن التاسع عشر، والتي لم يستقم لها الأمر إلا بعد 80 عامًا من قيامها. ومكمن الخطأ هنا أن الثورة الفرنسية كانت قد أحدثت القطيعة مع النظام الإقطاعي السابق المتحالف مع الكهنوت الكنسي، وذلك بفضل نجاح فلاسفة التنوير قبلها في تفكيك اللاهوت المسيحي التكفيري وتمهيد الطريق لها، وهذا ما لم يحصل عندنا بَعدُ للأسف الشديد.
وفي هذا الصدد، يشير هاشم صالح إلى أنّ “التنوير هو الذي فكك مشروعية الكنيسة الكاثوليكية وكل الأفكار الطائفية المتعصّبة التي كانت تبثها في المجتمع، وبأنه لولا هذا التفكيك لما استطاعت الثورة الفرنسية أن تطيح النظام الملكي الاستبدادي المطلق الذي كان يستمدّ مشروعيته من هذه الكنيسة بالذات، فهي التي كانت تخلع عليه المشروعية الإلهية، وتُقنع جماهير الفرنسيين بتقديم الطاعة له والخضوع لمشيئته على الرغم من كل تعسّفه واستبداده”.(17)
وهذا كله لا يعني الموافقة، في أي حال، على اللجوء إلى قمع تيارات الإسلام السياسي غير المسلحة، وملاحقتها أمنيًا. بل قد يكون من مصلحة العرب والمسلمين أن تظهر قوى الإسلام السياسي على السطح، وأن تحكم أيضًا، لأنّ الفشل سيكون على الأرجح من نصيبها، كما كان من نصيب غيرها. وتجارب الحركات الإسلامية التي وصلت إلى الحكم تشي جميعها بأرجحية هذا الاحتمال؛ (من إيران إلى السودان إلى العراق إلى غزة ومصر وليبيا …إلخ). وعندما يحصل ذلك ستتمكن الشعوب العربية من قطع خطوات كبيرة في مسارها التاريخي المعاصر، وذلك عبر التخلص من كلّ ما يعيق مُضيّها على درب التطور والنهضة، والاتفاق على البديل الديمقراطي لأنظمتها من دون أيّ لبس أو زوغان.

تاسعًا: سورية (الوجه الطائفي والتوريث)
يتفق الجميع على أن الحراك الشعبي الذي حصل في سورية، بدأ مثل غيره من حراكات الربيع العربي كاحتجاجات تنشد الحريّة والكرامة ووضع حد لنظام الاستبداد والاستعباد الذي استمرّ أكثر من نصف قرن. وقد شارك فيه عدد كبير من الشبان الطامحين إلى التغيير الديمقراطي السلمي، قبل أن يلج مسارات العنف ويصير فيه السلاح وحامله هما سيد الموقف، وليتحوّل من ثمّ إلى حرب مُدمّرة وُصفت كأكبر كارثة إنسانية عرفها العالم منذ الحرب العالمية الثانية. حربٌ تنازعتها عصبيّات اثنية ومذهبية عابرة للحدود، وفاقمتها تدخلات خارجية جعلت من سورية ساحة لصراعات محلية وإقليمية ودولية متداخلة ومتشابكة على نحو لا فكاك منه.
بالطبع، كانت صورة الهزيمة أوضح وأوجع ما تكون في سورية؛ سواء بسبب عدم تمكّن المنتفضين من إطاحة رأس النظام وطغمته الحاكمة، واجتماع الشروط والأحوال الموضوعية والذاتية كلها، ومساهمتها جميعًا في إجهاض الثورة. أم بسبب مئات الألوف من الضحايا الذين قضوا، والدمار والخراب الذي لحق بعمران البلاد والعباد. أم بسبب انسداد الآفاق التي يمكن أن تتيح حتى إمكان الوصول إلى حل سياسي مقبول من الجميع. هذا فضلًا عن الصعوبة الكبيرة التي تحيط بإمكان معالجة وترميم ما خلفته الحرب من ويلات وتشظٍ مجتمعي ووطني مستقبلًا.
موكدٌ أنه ما كان للحراك الشعبي أن يؤول إلى هذا المصير لولا طبيعة السلطة الحاكمة أولًا، والتي اختارت الحلّ الأمني ولجأت إلى وسائل القمع والقتل التي تعرفها وتتقنها جيدًا، والتي كانت تتصاعد عنفًا ودموية مع تزايد الاحتجاجات واتساعها، إلى جانب النفخ في إوار التخويف الطائفي. ولكن هل يكفي هذا لتقديم جواب شافٍ بشأن عجز الخطاب الجمعي الموّحد الذي رفعه المحتجون في بداية حراكهم، «الشعب السوري واحد»، عن الصمود أمام تطورات الواقع، إذ سرعان ما أخلى مكانه لتصدعات وصراعات ذات طابع طائفي وإثني؟ تعرّض فيها النسيج المجتمعي السوري إلى شتى التشققات والتمزقات. تُرى لماذا استسلم كثير من السوريين إلى عملية تأجيج المخاوف هذه؟
ثمّ ألم يكن للوجه الطائفي للسلطة وعملية توريث الحكم، (وهي الوحيدة الي نجحت في الأنظمة «الجمهورية» العربية)، دورهما الأكيد في زيادة حدة الصراع ودمويته على نحو فاق أيّ دولة أخرى؟
الحقيقة السابقة تدركها وتعرفها الأغلبية الساحقة من الشعب السوري، ومع ذلك، فهناك من ينفي وجود قاعدة استناد طائفية للسلطة السورية، ويعدّ أن الصراع في سورية ظلّ طوال السنوات السابقة في إطاره السياسي فقط، وبعيدًا عن أيّ شبهة طائفية أو إثنية. ويُحاجج هؤلاء بأن «القاعدة الاجتماعية للنظام تبدو عابرة للطوائف، وتستند إلى مبدأ الولاء للسلطة السياسية قبل أي اعتبار أو انتماء آخر». وبأنّ «أغلب التجار والصناعيين (السنّة) شكلوا قاعدة صلبة للسلطة؛ إضافة إلى مؤسسة الإسلام الرسمي بفروعها المتعدّدة». وثمة من يرى أن النظام يستند في حكمه إلى جانب المؤسستين الأمنية والعسكرية، على «الشراكة القائمة بين الشريحة البيروقراطية الحاكمة (بفرعيها العسكري والمدني) وبين وجهاء المجتمع ورجالات الدين والمال والأعمال، وخصوصًا في مدينتي دمشق وحلب». وفي المقابل، ثمة من يردّ بأنّ «المحسوبية الطائفية» كانت على الدوام من «المصادر الرئيسة للاستياء لدى الأغلب»، ولكن لم يكن أحد يجرؤ على الشكوى العلنية منها.(18)
ذكرتُ قبل قليل ما قاله بطاطو بشأن أنه “لا جدال في أن قاعدة سلطة الأسد هي في جوهرها علوية بقوة”، ومع ذلك فهو يخلص إلى أنه: “من الشطط القول إن الأسد طائفي أو عشائري من حيث أفقه أو نهجه”، وبأنه “لا توجد أدلة كافية على أن الأسد في سياساته الاقتصادية أعطى تفضيلًا ملحوظًا للطائفة العلوية، أو أن أغلبية العلويين تتمتع بأسباب الراحة في الحياة أكثر من أغلبية الشعب السوري.”(19)
نعم في الجانب الاقتصادي، كان الأسد الأب يمنح فرصًا وتسهيلات للتجار والصناعيين للعب دور أكبر في اقتصاد البلد، (وهو ما يأتي بطاطو على ذكره أيضًا)، وقد يكون أغلبية العلويين لا يتمتعون بأفضلية اقتصادية مقابل سواهم من فئات الشعب السوري، بيد أنّ هذا الأمر لا علاقة له بالعصب الأساس للسلطة، وبمركز صنع القرار فيها. ثم إنه من المعروف أن كبار الضباط والمسؤولين المقربين من الأسد كانوا بمنزلة «شركاء مخفيين» يقاسمون التجار والصناعيين أرباحهم، ويحصلون على نسبة معلومة منها.
كما ينقل بطاطو عن الأسد قوله في جلسة خاصة أمام مسؤول سوري سابق، إن الناس العاديين هم كائنات اقتصادية أساسًا، ولم يخلقوا للسياسة، أما “من يعملون جديًا في السياسة، فهؤلاء سيكونون ضده مهما فعل، وسجن المزة مبني أصلًا من أجلهم”.(20)

عاشرًا: مظاهر العطب الذاتي
إزاء هول ما جرى، وتضافر جميع العوامل والتعقيدات الموضوعية والذاتية الخاصة والاستثنائية التي واجهتها ثورة السوريين، وتكالب كثير من الأطراف المحلية والإقليمية والدولية ضدها وسعيهم المشين لإجهاضها، قد يميل المرء إلى ترداد المثل القائل إنه «لم يكن بالإمكان أبدع مما كان»، وبأنه ما كان بإمكان أيّ قيادات مهما بلغت مثاليتها وخبرتها وتجربتها أن تجترح المعجزات في مواجهة ذلك.
لكن، وعلى الرغم من ذلك كله، فإنه من المفيد والضروري تسجيل بعض أوجــه القصــور والعطب الذاتي التــي وسمت ســلوك الفاعلين السياســيين في ســورية، والتي كان من أهــمها النزوع نحــو «الخفّــة» التي تقارب حدود الطيــش والتهور في ممارســاتهم السياســية، وعدم القدرة على أن تكــون هذه الممارسات فعلًا ذاتيــًا مســتقلًا، يبتعد عن ردّات فعل الآنية على الحوادث المتلاحقة، ويعبر عــن ســوية ملموســة مــن الوعــي والنضــج السياســيين.
وسأكتفي هنا بإيراد بعض الوقائع والأمثلة التي توكّد للأسف على هذه الحقيقة. وقسم منها يستند إلى ما جاء في كتاب غليون المشار إليه آنفًا، والذي حفل بالكثير منها.

  1. عدم قدرة قوى المعارضة على مواكبة الانتفاضة الشبابية، وتأخرها في الاتفاق على تشكيل إطار قيادي جامع لها، ما مكّن بعض الممولين الخليجيين؛ الرسميين والأهليين، ومعظمهم من الإسلاميين المتشددين أو المحافظين، من ملء الفراغ والسيطرة على قطاعات كبيرة من القوى الجديدة المنخرطة في العمل المسلح وربطها بها، ومن ثم التحكم في مسار الانتفاضة والتدخل في تحديد غايتها وأهدافها.(21)
  2. الذات الفردية السورية المتضخمة التي تحمل جميع عيوبها وعقدها النفسية والشخصية والاجتماعية إلى أي موقع قيادي تشغله، ما ينعكس على مدى ثقتها بالآخر ونزوعها إلى التشكيك به، وعدم قدرتها، تاليًا، على الانخراط الصحيح والسليم في العمل السياسي والوطني كفريق جماعي، حتى يبدو الأمر وكأنّ هذه المزايا «صفات جينية» يتوارثها السوريون جيلًا بعد جيل، أقله منذ ما نسب للرئيس شكري القوتلي في حديثه مع عبد الناصر حول الشعب السوري الذي «يعتقد جميع من فيه أنه سياسي، ويعتقد 50 في المئة من ناسه أنهم زعماء، و25 في المئة منهم أنهم أنبياء، و10 في المئة على الأقل أنهم آلهة!».
    وقد تجلى ذلك في غير محطة ومكان، مثل: إصرار إحدى القوى الأساسية المشكلة للمجلس الوطني على أن تكون رئاسته تداولية، وألا تزيد مدة ولاية الرئيس عن شهر واحد فقط. والأنكى من ذلك، ما ذكره ممثل هذه القوة في دفاعه عن رأيه، حيث قال -بحسب ما ينقل غليون-: «إن الثورة يمكن ألا تستمر لأكثر من ستة إلى سبعة أشهر قبل أن تنتصر، وفي هذه الحالة لن يكون من الممكن له ولبقية أعضاء المكتب التنفيذي أن يحظوا بدورهم في موقع الرئاسة»! وقد تكرر الأمر نفسه تقريبًا من طرف بعض المثقفين الذين عدّوا أنهم الأحق بالرئاسة، وأن غليون انتزع رئاسة المجلس منهم عن غير وجه حق.(22)
    إنه واحدٌ من أسطع الأمثلة ليس على الخفة السياسية فقط، وليس على الذات المتضخمة فحسب، بل على أن المنضوين في المجلس لم يأتوا للعمل والنضال من أجل الشعب السوري، «بقدر ما جاؤوا للتنازع المسبق على جلد الدب قبل صيده»، كما يقول غليون مُحقًا.
  3. الرهان على السلاح وعلى حسم الصراع عسكريًا، في وقت كانت قيادة الجيش الحر تتخبط فيه، وينعدم التفاهم بينها، بل وتنشب حتى الخلافات الشخصية بين بعضهم البعض، وخصوصًا في ظلّ خوف العقيد المنشق رياض الأسعد من مزاحمة الضباط المنشقين الأعلى رتبة منه على قيادة الجيش الحر، ومن ثم قيادة الثورة، لأنهم كانوا في منافسة أيضًا مع «المجلس الوطني» على القيادة السياسية للثورة. ما حرم الفصائل العسكرية المنضوية في الجيش الحر من قيادة عسكرية مركزية منسجمة، ومن مرجعية وطنية واضحة، وتركها فريسة سهلة للقوى السلفية المدعومة من أكثر من قوة إقليمية ودولية، وكرّس في النهاية هيمنة القوى الأجنبية عليها.(23)
  4. القصور في فهم العمل الجبهوي وضروراته، أو كيفية التعامل مع التحالفات الائتلافية وآلياتها. والعجز، من ثم، عن بناء الحلف الديمقراطي الجامع المؤهل لأن يكون بديلًا عن نظام الاستبداد، والقادر على إقناع الجميع، داخل سورية وخارجها، بذلك.
    فالانتقال الديمقراطي الناجح يحتاج أولًا إلى الاتفاق على الهدف الديمقراطي المشترك. كما يحتاج إلى بناء حلف قوي، أو «كتلة ديمقراطية تاريخية»، بحسب تعبير غرامشي. الأمر الذي يستلزم بدوره الارتقاء إلى مستوى وحجم هذه المسؤولية التاريخية، كما يتطلب كثيرًا من الرفعة والترفع عن الخلافات والصراعات العدمية، الشخصية والسياسية وغيرها.
  5. تبقى مسألة أخيرة تجدر الإشارة إليها، وهي معضلة «غياب البديل». فبقدر ما نحن في حاجة ماسة إلى وجود هذا البديل، فإن عملية الوصول إليه (صناعته) تبدو غير يسيرة وعويصة. فأنظمة الاستبداد والفساد لا تتيح، عادة، أمام مواطنيها فرصة تمثل واستيعاب أحدث ما توصلت إليه النظريات والعلوم الإنسانية، أو ما يطلق عليه «ثقافة العصر»، بما يمهد الطريق أمام إمكان إنتاج وصناعة الكفاءات والنخب والشخصيات الوطنية المؤهلة، والمُهيّأة تاليًا، ليكون لها دور في تشكيل التمثيلات الاجتماعية والسياسية والنقابية التي يمكن أن تساهم، بدورها، في صناعة البديل القادر على رسم البرامج والسياسات في مختلف الحقول والنشاط الإنساني.
    الدول الاستبدادية، في أحسن أحوالها، يمكن أن تنجب «الخبير»، وليس المثقف العضوي والسياسي المبدع. وهي تحارب عادة كافة تمثيلات وتنظيمات المجتمع المدني الحرة والمستقلة، وتعمل بكل ما أوتيت من قوة لإلحاقها بالنظام الحاكم ومؤسساته وأجهزته الأمنية، فما يهمها فقط هو العمل من أجل تكريس الاستبداد وحكم و«حكمة» القائد الفرد الخالد والاستثنائي.
    وللخروج من هذا المأزق، ومحاولة التأثير في المشهد السياسي الراهن وتغييره، ليس أمام السوريين المهتمين سوى أوسع عملية حوار وتفاعل وتبادل ثقافي بين الداخل والخارج. ويقع على عاتق من هم في الخارج العبء الأكبر في هذه العملية، لأنهم متحررون من الكثير من القيود والشروط «اللوجستية» والحياتية الصعبة جدًا التي تقيّد وتكبّل من هم في الداخل.
    فالناس في الداخل يندر أن يتاح لهم الاهتمام بالقضايا الثقافية والسياسية، وحتى الذهنية عامة، فوقتها من وجع وضيم وقهر، وهي تلهث بحثًا عمّا يقيم أودها ويكفيها ذلّ الطلب والحاجة، وإذا زاد لديها بعض السويعات فتكرّسها غالبًا للملمة خرابها الذي ما انفك يتسع ويزداد أكثر فأكثر!

المراجع

1- بطاطو، حنا. فلاحو سورية: أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأنًا وسياساتهم، عبد الله فاضل ورائد النقشبندي (مترجمان)، (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014).

2- صالح، هاشم. الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ، (د. م: دار الساقي، 2013).

3- غليون، برهان. عطب الذات: وقائع ثورة لم تكتمل؛ سورية 2011ـ- 2012، ط2 (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2020).

4- فرومكين، دافيد. سلام ما بعده سلام: ولادة الشرق الأوسط 1914- 1922، أسعد كامل الياس (مترجم)، (د.م: رياض الريس للكتب والنشر، د. ت).

5- هانتنغتون، صامويل. الموجة الثالثة: التحول الديمقراطي في أواخر القرن العشرين، عبد الوهاب علوب (مترجم)، (الكويت: دار سعاد الصباح، 1993).



هوامش الدراسة:

1– صامويل هانتنغتون، الموجة الثالثة: التحول الديمقراطي في أواخر القرن العشرين، عبد الوهاب علوب (مترجم)، (الكويت: دار سعاد الصباح، 1993).
2– عبدالفتاح ماضي، “ملاحظات حول مسارات الانتقال إلى الديمقراطية في الدول العربية”، المسار الإلكتروني، 29 حزيران/ يونيو 2020.
3– مهران الشامي، “بين طموحات الرئيس الشعبوي وفساد «النخبة» السياسية: هل تنتهي تجربة «الانتقال الديمقراطي» في تونس؟”، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 29 آب/ أغسطس 2021.
4– مهران الشامي، “معضلة بناء الدولة الوطنية الحديثة في سورية والمشرق العربي”، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 6 حزيران/ يونيو 2021.
5– الشامي، “بين طموحات الرئيس الشعبوي وفساد «النخبة» السياسية”.
6– حنا بطاطو، فلاحو سورية: أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأنًا وسياساتهم، عبد الله فاضل ورائد النقشبندي (مترجمان)، (الدوحة/ بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014)، ص 422، 598.
7– وجدة: المدينة المغربية التي لجأ إليها عدد من قادة الثورة الجزائرية إبان حرب الاستقلال.
8– خير الله خير الله، “حاجة الجزائر إلى الجمهورية الثانية”، صحيفة العرب، 22 نيسان/ أبريل 2019.
9– أريج الحاج، “التغلب على التاريخ: تحول السودان غير الموكّد إلى الديمقراطية في مواجهة الضغط العسكري”، معهد واشنطن، 29 تموز/ يوليو 2020.
10 إبراهيم درويش، “إيكونوميست: على مصر إخراج الجيش من الاقتصاد أو توقع مساعدات أقل”، القدس العربي، 27 كانون الثاني/ يناير 2023.
11 محمد أبو الفضل، “السودان ومصر: تشابه في المقدمات وتباين في الآليات والمآلات”، صحيفة العرب، 27 تشرين الأول/ أكتوبر 2021.
12–  كما عرضها جيفري غولدبرغ في مقالته المطوّلة في ذي أتلانتيك (10 آذار/ مارس 2016)، بعنوان “عقيدة أوباما”، وقد ترجمتها ونقلتها آنئذٍ صحف ومواقع عربية عدة.
13– محمد شومان، “لماذا تعثرت ثورات الربيع العربي؟”، الحياة، 17 حزيران/ يونيو 2015.
14– إبراهيم درويش، “انقلاب السودان مقامرة أعادت المواجهة مرة أخرى بين الجيش والشارع”، القدس العربي، 31 تشرين الأول/ أكتوبر 2021.
15 دافيد فرومكين، سلام ما بعده سلام: ولادة الشرق الأوسط 1914- 1922، أسعد كامل الياس (مترجم)، (د.م: رياض الريس للكتب والنشر، د. ت)، ص633.
16– برهان غليون، عطب الذات: وقائع ثورة لم تكتمل؛ سورية 2011ــ 2012، ط2 (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2020)، ص108، 109.
17– هاشم صالح، الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ، (د. م: دار الساقي، 2013)، ص185- 186.
18– فيصل علوش، “بعد سنوات الحرب: ماذا تبقى من النسيج المجتمعي السوري؟”، أسبار، 31 تشرين الأول/ أكتوبر 2019.
19 بطاطو، ص420، 421، 422.
20 بطاطو، ص598.
21 غليون، ص71، 227.
22 غليون، ص102، 142.
23 غليون، ص122، 130، 153.

مشاركة: