ثورات الشعوب السورية: خرافات سياسية و”سلفيات” رومانسية راسخة

قبل الدخول في صلب الحديث، ومحاولات الإجابة عن الأسئلة المطروحة في ملف “الثورة السورية: قراءة في أسباب الهزيمة وما بعدها“، سيقدّم كاتب هذه المقالة ملاحظتين تحملان دلالة وظيفية، وربما تصلحان لأن تكونا مدخلًا لمساهمته في هذا الملف.
تتعلق الملاحظة الأولى باستحالة الإحاطة بكافة الأسباب والعوامل التي قادت إلى هذه الهزيمة، وإلى هذه النتيجة المأسوية لثورة عام 2011 وما تلاها؛ وعليه، ونظرًا لما كُتب سابقًا حول هذا الموضوع في عدة منابر، سواء أكانت كتابات جادة أو كتابات من قبيل “رفع العتب”، واستعراض ما بات يُعرف اليوم بـ “المراجعة”، فإن الكاتب يركز في هذه المقالة على الأسباب التي يرى أنها ساهمت بقوة في تعبيد الطريق نحو الهزيمة، وكان التطرق إليها وتناولها قليلًا جدًا في الكتابات السورية، من دون أن يدّعي الأسبقية في كل من التطرق والتناول.
الملاحظة الثانية تتناول سؤال الـ “ما بعد” و”إلى أين يجب علينا أن نتوجه” و”الاستراتيجيات الجديدة”، وهي أسئلة من المبكر تناولها والحديث عنها، أقله إلى أن يكون هناك اعتراف من جهة معظم “النُخَب” السياسية والثقافية والفكرية بالهزيمة. أضف أن وضع “وصفات” و”روشيتات” تحمل أفكارًا محددة أو توصيات، يبدو عملًا يؤمن بالطوبى أكثر من إيمانه بتحليل وفهم الواقع العياني بالغ التعقيد والتركيب اليوم، والذي يتطلب تعقيده واهتراؤه، كما القاع الذي وصلت إليه البلاد، التقاط الأنفاس والتفكير الهادئ والمطوّل بما جرى ويجري، قبل الدعوة إلى حلول وخطط، وقبل إعادة إطلاق عجَلة العمل الفكري والثقافي (والسياسي) من أجل الـ “ما بعد”، حتى لا يكون هذا العمل ميكانيكيًا أو آليًا مكررًا، لا أكثر ولا أقل، وأرجو أن يتسع صدر الأصدقاء في “رواق ميسلون” لهذا التناول النقدي لسؤالهم الأخير في الورقة المرجعية المتصلة بالملف.

خصوصية سوريّة ومشرقيّة
كانت الثورة في سورية اختبارًا حقيقيًا للشكل الذي قام عليه الكيان السوري نفسه منذ تأسيسه، مرورًا باستقلاله ووصولًا إلى عام 2011، وقد ساءَلَت إمكان استمرار سورية نفسها على الشكل ذاته. يفترض الكاتب أن بعض عوامل وأسباب هزيمة الثورة كان موجودًا في رحمها هي ذاتها، ومنذ البداية، وفي صلب حاملها الاجتماعي، من دون أن ينال هذا من مشروعيتها ولا من ضرورة قيامها وتأييدها ودعمها، وربما لو تأخر انفجارها إلى زمن لاحق، لكانت الضريبة أكبر بكثير من الضريبة الباهظة التي دُفعت فيها. هذه العوامل والأسباب يمكن تلخيصها بقول إن الثورة قامت في بلد لم يتكوّن فيه الشعب كوحدة سياسية، ولم تُكوَّن فيه هوية وطنية، ومنذ ما قبل وصول النظام الحالي إلى السلطة.
هذا الكلام ليس لقول إن السوريين (والعراقيين واللبنانيين) مجبولون على البقاء الأبدي كحالات ما قبل وطنية وضمن تشكيلات ما دون الشعب، من حيث غلَبة الأهلي والديني على الوطني والسياسي، أو من حيث غلَبة “نظام القرابة” بالمعنى الذي صاغه الراحل ياسين الحافظ في كتابه “الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة”، وتحدث فيه عن “الفَوات التاريخي لشعوب ومجتمعات حمَلت معها الهزيمة إلى المعركة، ولم تأتِها الهزيمة من مؤامرات خارجية”. بل هو كلام يقع في عمق السياسة وتحولات البلد وما لحق به. فالخمسينيات التي كانت وما تزال مدعاة احتفاء وتذكُّر ونوستالجيا من طرف كثيرين، بوصفها خمسينيات الديمقراطية والبرلمان والصحافة والنقابات، كانت فترة قصيرة جدًا ولم تكن كافية لتبلور ولا حتى لتشكُّل ما يمكن تسميته بـ “الشعب السوري”، بل حيزًا زمانيًا لـ”مشروع شعب”، وهو المشروع الذي لم يكتمل.
كانت “الجماعة” البشرية التي وجدت في ما صار يسمى “سورية”، إحدى الجماعات في منطقة خرجت من سلطة الامبراطورية العثمانية إلى سلطات الانتداب التي شكّلت الدول، وحملت تلك الجماعة معها الإرث العثماني على الصعيد الثقافي والاجتماعي (والسياسي، كما تبدى لاحقًا). بمعنى آخر، كان مشرق ما بعد العثمانية مشرقًا مرتبِكًا وقلِقًا، دخل للمرة الأولى عصر الدولة والحدود السياسية، وكانت سورية، المستقلة حديثًا، بلدًا لم يحسِم هويته وبقي مشدودًا، بشكل كبير، في فترة الديمقراطية البرلمانية القصيرة وفي فترات الانقلابات العسكرية، إلى هوية عابرة لحدوده الهشة أساسًا وحديثة التكوّن.
كان للانقلابات العسكرية، ومنذ انقلاب حسني الزعيم (1949)، الشأن الأبرز في قطع السيرورة وقتل احتمالات تشكل “وطنية سورية” تستند إلى وجود “شعب سوري” بالمعنى الحديث لكلمة شعب. ولا يمكن إلا لعقلٍ طفليّ التفكير أو مراهقٍ سياسيًا، أن يصدّق وأن يسوّق بالقول إن سنوات قليلة من الصحافة والبرلمان والأحزاب، كانت كافية لإنجاز تلك المهمة التاريخية وضبط الحالة الهوياتية والعصبيات وتغوّل “نظام القرابة” وغيرها من ترِكات السلطنة العثمانية.

الأسديّة و”الجديد” الذي حمَلته
من حيث المبدأ، لم يكن انقلاب عام 1963 الذي نفذه حزب البعث، ولا انقلاب عام 1970 الذي نفذه حافظ الأسد ودشّن به مرحلةً تستمر حتى اليوم، بالأمر الجديد والطارئ في مسيرة بلد عرف الانقلابات وحُكم العسكر قبل ذلك. لكنه كان “تتويجًا” لمسار الانقلابات السابقة بقدر ما كان إعلانًا للطلاق النهائي مع تجربة “الدولة الوطنية” التي ولدت بعد الاستقلال، وللقطيعة مع احتمالات تطور سورية إلى وطن، والجماعات الموجودة فيها إلى شعب. وكان مختلفًا أيضًا عن أقرانه السابقين من العسكر من ناحية آلية اشتغاله وتطويعه القوى الحية داخل المجتمع السوري (وليس الشعب السوري)، ومن حيث سماته، وهي سمات تضمنت، من بين ما تضمنته، السّمة الطائفية، في بلد تبجّل شرائح منه العصبيات العائلية والطائفية والدينية، كما تضمنت، أيضًا، الشمولية والقبضة الفولاذية الآتية والمستوردة من مجتمعات غير سورية وغير عربية.
يبدو نظام القرابة هنا عاملًا أساسيًا لفهم طبيعة النظام السوري بعد 1970 وصولًا إلى اليوم، بالتزامن مع تناول أدواته وآليات سيطرته وتدميره الفعاليات والقوى السياسية الضعيفة والمكشوفة الظهر. ففي مقاربة ممتازة له، يدعو الكاتب اللبناني حازم صاغية إلى ضرورة التنبه للفوارق بين الأنظمة العائلية في المنطقة وبين التوتاليتاريات التي عرفتها أوروبا في القرن الماضي، وخصوصًا النازية والفاشية والشيوعية، من دون إغفال اشتراك التوتاليتاريات هناك والأنظمة القرابية هنا بملامح وآليات متشابهة في السيطرة.
فبمجرد الحديث عن صدّام حسين وسلطته في العراق، “تتدفّق تلقائيًا أسماء الأبناء والإخوة وأبناء العمّ، لدرجة أن الموديل البعثيّ يبقى، من دون هذه الأسماء، أشبه بلغزٍ يستعصي على الحلّ. لكن هل هناك، مثلًا، في المقابل، من يعرف ما إذا كان لدى هتلر أخ؟ وما إذا كان لدى ستالين ابن عمّ، وفي هذه الحال ما اسمه؟ بالطبع يستدعي الجواب عن هذه الأسئلة درجة من الجهد والمتابعة لا يحتاج إليهما دارس السياسة العراقيّة. وإذا ما استطاع مَن يدرس النازيّة، بعد مشقّة، العثور على أسماء أقارب هتلر، فإن معرفته هذه لن تُوسّع فهمه النظامَ النازيّ قيد أنملة. ولأنّ مسألة كهذه لم تكن أساسيّة في ألمانيا، ولا في روسيّا، لم ينتبه كثيرون ممن تأثّروا بدراسة التوتاليتاريّات الأوروبيّة قبل أن يتعاطوا مع التركيبة العراقيّة إلى موقع النظام القرابيّ والدور السياسيّ الموكل إلى الدم بوصفه أبرز ما يفرّق التوتاليتاريّات غير الأوروبيّة عن تلك الأوروبيّة”(1).
ينطبق الأمر عينه، على ما هو واضح، على النظام في سورية لناحية التشابهات بينه وبين شقيقه التوأم في العراق، ولناحية اختلافاته، هو الآخر، عن توتاليتاريات أوروبا، حيث معرفة دارسي التوتاليتاريات في العالم بأسماء العائلات النافذة والحاكمة في سورية، كـ الأسد ومخلوف والأخرس وشاليش، أكبر بكثير من معرفتهم باسم والد هتلر وأشقاء موسوليني وعمّات وخالات ليونيد بريجينيف.
بهذا المعنى، كانت “سياسة” حافظ الأسد، وفي السبعينيات والثمانينيات خصوصًا، خير معبّر عن هذه الثنائية. فقد “اجترحَ”، بالتدريج وليس دفعة واحدة، آليات جديدة للسيطرة في سورية، مستوحاة من أنظمة شمولية عديدة عرفها العالم، من خلال منظمات الطلائع والشبيبة والجمعيات والاتحادات التي صارت تنطق كلها باسم الحزب وقائده، بعد أن دمّر هذا الأخير النقابات وأنهى كل احتمال لتحدّيها له. كان نظام الأسد بوجهه هذا، نظامًا شموليًا، من دون أن تكون الشمولية سمة وحيدة من سماته، في الوقت الذي لم يكفّ أيضًا عن استدعاء الورقتين الطائفية والدينية، من خلال استقطابه لشرائح ليست قليلة من العلويين، وتقديم امتيازات مادية ومعنوية لهم في الوظائف في المدن، وفي الجيش والمخابرات، وهي ورقة من بين أوراق كثيرة لعب عليها لتثبيت حكمه، وتقع على الضد تمامًا من شعاراته القومية والعروبية العابرة لحدود سورية عمومًا، ولمكوناتها الأهلية خصوصًا. كذلك هي الحال في صدامه مع الإسلاميين في حماه عام 1982، وهو صدام لم ينطلق من “علمانيته” المفترضة بقدر ما كان “حربًا” على جماعة تحدّت سلطته وأقلقتها وهزّت، موقّتًا، ما كان يعمل عليه من “استقرار”.

نظام القرابة المكبوت
وسط تلك الأجواء كلها والتي سبق ذكرها، وغيرها أيضًا، كانت السلطة هي المتحكمة بالجماعات السورية، أو بتعبير أدق: بالشعوب السورية، من خلال صهرها تلك الشعوب في قِدر واحد، ثم تبريد المنتَج المنصهر ذاك ووضعه في قالب بلا معنى وبلا أي مدلول سياسي هو “الاستقرار”، أو جَبْلِه في تمثال مشوه الملامح تحت مسمى “الشعب السوري”، تبعًا لتوظيف السلطة لمسمّى “الشعب”، داخليًا وخارجيًا.
كُبتَت التناقضات الموجودة بين الجماعات كلها، وداخل الجماعة الأهلية الواحدة، ومُنعت من التعبير عن نفسها. لا بل وقام النظام بتغذية تلك التناقضات واللعب عليها في أحايين كثيرة، بشكل مباشر أو غير مباشر. ومن خلال الكبت والقفر عن الواقع وتغييبه، التقى النظام مع كثير من “القوى” السياسية المعارضة له، والتي حملت بدورها شعارات عابرة لحدود سورية مثل “القومية العربية” و”الوحدة” و”الإسلام” و”الاشتراكية العالمية”، من دون أن يكون الداخل السوري حاضرًا في خطاب تلك المعارضات إلا على سبيل التعبئة وانتظار “التغيير” و”إسقاط النظام” والعزف على وتر “الشعب” و”الجماهير”، في ليٍّ منها لعنق الواقع واستمرار الإغلاق عليه داخل القمقم.
لكن النظام التقى أيضًا مع المجتمع نفسه، أو مع “نظام القرابة الأولي” المنتشر والنافذ عميقًا ضمن شرائح واسعة من ذلك المجتمع، وهو نظام قرابي رث وقروسطوي، تتمكن منه “مفاهيم” ومصطلحات الشرف والرجولة وغسل العار والصمود والمواجهة، كما تمجيد الأب والعائلة والطائفة والدين وكل السلطات البطريركية والذكورية التي يمكن أن توجد في مجتمع من المجتمعات القديمة. ننحاز هنا إلى مقاربة غير سياسوية، تعي دور النظام في عهد الأسدين وإغلاقه البلد على احتمالات التطور البطيء وعلى إمكانات التعبير عما هو إيجابي وسلبي في المجتمع، من دون أن تمجد “الشعب العظيم” و”الوطن الرائع” و”فسيفسائه” وغير ذلك من كلام وزَجَل درجت عليه جلّ المعارضات منذ 2011 وحتى اليوم، وبما يليق بأغاني الرحابنة أكثر منه بفهمٍ هادئ ودقيق للسياسة والمجتمع. كما ننحاز إلى مقاربة غير ثقافوية لا تعفي الثقافة القديمة الراسخة، دينًا وطوائف وإثنيات وعشائر وعائلات وأنظمة بطريركية، من دورها في رفد نظام القرابة الذي عززه النظام سلطويًا، والالتقاء والتشابه معه في مفاصل كثيرة، وهو ما تبدى واضحًا بعد ثورة عام 2011.

ثورات الشعوب السورية
بعد عقود من ممارسات سلطة راكمت جميع أسباب الانفجار والانتفاضة ضدها، وضمن أجواء ثورات وانتفاضات عربية نجحت في إسقاط أنظمة دكتاتورية في المنطقة، انفجر “المارد” المكبوت لعقود وخرج من القمقم، وصارت مسألة إعادته إليه، مجددًا، ضربًا من ضروب المستحيل. حملت المرحلة السلمية للثورة، والتي لم تستمر سوى شهور قليلة، أحلامًا كبيرة وشعارات وآمالًا بمستقبل أفضل، كما حملت أوهامًا ليست بالقليلة، وربما كان في رأس تلك الأوهام أن “الشعب السوري واحد”، وأنه “يريد إسقاط النظام”، أضف إليها مقولة “لا سنية ولا علوية.. سورية وحدة وطنية”.
لم يكن شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” شعارًا صحيحًا سياسيًا، طالما أن كتلًا بشرية ضخمة لم تدخل في الثورة وفضلت البقاء في صف النظام، إلا إذا كان المتظاهرون فقط هم الشعب. أما على صعيد “الشعب الواحد” و”لا سنية ولا علوية”، فالواقع أنها كانت تحمل من المخاوف ومحاولات إقناع الذات بالنقيض لما هو كامن، أكثر من كونها هتافات وشعارات حقيقية تعبر عن واقع الحال في سورية، على الرغم من أن أي طامح إلى مستقبل أفضل للبلد لا يمكنه إلا أن يتمنى تلك الشعارات ويتبناها، أخلاقيًا على الأقل.
كانت الأشهر القليلة التي شهدت تظاهرات سلمية في نقاط ومناطق كثيرة في البلاد، وقبل الانتقال إلى الطور المسلح(2) ودخول دول الإقليم والمد الديني المنظم والممول على خط الصراع، بضعة أشهر أقرب إلى الخمسينيات السورية الشهيرة والذائعة الصيت، والتي ورد ذكرها آنفًا في هذه المقالة. بمعنى أنها حملت، أو أعادت إحياء احتمالات خلق الشعب بالمعنى السياسي المتعارف عليه، على عكس المقولات التي تجزم بشعب ناجز عام 2011، “عارف طريقه” و”لا يأتيه الباطل”. انتهت تلك الاحتمالات مجددًا، وفي زمن مختلف وبأدوات مختلفة.
يصعب القبول بوجود توافق أسطوري في صفوف الفئات والشرائح الثائرة أو المنتفضة، أو المعترضة على النظام، من حيث الدوافع للثورة وفعل الاحتجاج، ومن حيث الهدف المنشود من وراء هذا الأخير. كانت الثورة ثورات، بقدر ما كان “الشعب” المتخيَّل جماعات، وهي جماعات قضى حكم العسكر، بعد الاستقلال، على صيرورتها وكسَرَ أرجلها التي كانت تسير بتثاقل على طريق التحول الطويل إلى “شعب”، كما قضت عوامل كثيرة عام 2011 على هذه الاحتمالية، وهي عوامل يتصدرها تعامل النظام مع الثورة وعدم قبوله بأي تنازل تبعًا لبنيته وتركيبته أساسًا(3)، ولا تنتهي بتفاهة وانحطاط المؤسسات الرسمية للمعارضة التي تصدرت العمل “السياسي” في الداخل والخارج وفي العلاقة مع المجتمع الدولي، وبين هذين تقع عوامل كثيرة أخرى يضيق المجال بتناولها.

على سبيل الخاتمة
كانت ثورة/ ثورات عام 2011 في سورية كاشفة لأكثر من زيف، وللكثير من الخرافات المقيمة في عمق الثقافة السياسية السورية، ومن بينها مسائل “الشعب” و”الوحدة” مما اهتمت هذه المقالة به بشكل رئيس. وقد أعادت، وإن بخجل ورغمًا عنها، طرح قضايا الدين والأكثرية والأقليات مما تترفع النخب السياسية والثقافية عن تناوله، وتهرب منه نحو “الوطنية” و”الديمقراطية” كنتيجة ميكانيكية للتغيير المنشود. أعادت تلك الثورات، أيضًا، طرح العلاقة العضوية بين الإسلام وأسباب قابليته/ عدم قابليته للتحول إلى دين عنفي، “وليس المقصود هنا نقد تنظيمات وفصائل الإسلام السياسي، ففي هذا سال حبرٌ كثير، بل المقصود هو أن الإسلام ذاته لم يواجَه برفض جذري للبوسه لباس أيديولوجيا سياسية تملك الحقيقة المطلقة والنهائية، وتقدم نفسها على أنها الحل لجميع المشكلات”(4)، وغير ذلك مما قذفته تلك الثورات في وجه السوريين وتركتهم يتخبطون باحثين عن هوية، كما هي حال كيانهم الذي ولد قبل قرن من الزمن.
هل هي دعوة لليأس؟ قطعًا لا. هي ورقة تحاول السجال مع تيار ثقافي وسياسي سوري مكتفٍ بذاته، كسول فكريًا وبائس معرفيًا، يقيم في اليقين والإجابات الجاهزة والخرافات التي قد يتداعى عالمه القديم إن هو اكتشف زيفها، أو قدم تنازلًا عنها. عالم الوطنيات الناجزة والأوطان النهائية والشعوب العظيمة هو عالم القرون الوسطى والسلطات البطريركية بامتياز. مع ذلك، ثمة تيار ثقافي سوري يولد اليوم بصعوبة ويشق طريقه إلى الحياة ببطء وحذر، وهو لن يكف عن إقلاق راحة اليقينيين وخرافاتهم، ولا عن مواجهة العالم السوري القروسطوي الكنسي والقول: “لكنها تدور”.

المراجع:

1– الحاج صالح، ياسين. الثورة المستحيلة: الثورة، الحرب الأهلية، الحرب العامة في سورية، (د. م: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2017).
2– صاغية، حازم. قضايا قاتلة، (بيروت: دار الجديد، 2012).



هوامش:

1– حازم صاغية، قضايا قاتلة، (بيروت: دار الجديد، 2012)، ص 7.
2– في ما يتعلق بهذا الموضوع، تمكن مراجعة المقالة المهمة لياسين الحاج صالح بعنوان “الثورة السورية وخطر الوضع الطبيعي”. وهي مُضمَّنة في كتابه “الثورة المستحيلة: الثورة، الحرب الأهلية، الحرب العامة في سورية”، (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2017)، ص 53–61.
3– جورج طرابيشي، سورية: النظام من الإصلاح إلى الإلغاء، على الرابط:  https://2u.pw/tJunnV/
4– حسام عيتاني. “كيف فاتتنا الأسئلة الكبرى. موقع “درج”. https://daraj.media/2415/

مشاركة: