السوريات والثورة؛ تفرعات ثورية نسوية

تمارس النساء الثورة كفعل يومي، يتمرَّدن على حبة شباب بزغت على الجبين أو الخد، يغيِّرن ألوان شعرهن معاندات للزمن، يحتلن على قرارات المنع من الخروج بمكالمات طويلة على الهواتف الجوالة، يتظاهرن في الساحات، يرتِّبن مواعيد للحب، يطالبن بالطلاق، يتزوَّجن أحبتهنّ رغمًا عن الأهل والتقاليد، يسخرن من رجال الدين ومن رجال السياسة ومعلّمات المدرسة ومديري العمل، يتأفَّفن من المتحرّشين، ويسخرن من رجال لطالما اعتقدوا أن النساء متقبِّلات ومنتظرات للتحرّش والتطاول بكل سعادة لكن دونما إفصاح.
نَمَتْ علاقة فريدة ما بين السوريات والثورة، علاقة مصلحية ومتنافرة في الوقت نفسه، كُنّ للمرة الأولى على موعد مع وجود علني وإعلان مباشر لثورتهن، ما الفرق بين حضورهن صامتات أو صارخات؟ إنه فرق كبير، كمن يعاني الخرس، وجاء الوقت ليدرِّب صوته على الصراخ! على الرغم من أن الخرس لم يُعِق صاحبته عن التعبير يومًا، حتى لو لم تجني سوى العبث.
يبدو أنه ثمة ضرورة لتدوين حضور السوريات في يوميات ثورتهن، لا استعراض الأسماء يكفي ولا ذكر الوقائع يكفي، ثمة ثورات صغيرة نبتت في البيوت وعلى الأجساد وفي الحناجر والأقلام.
وسؤال الانتصار من عدمه متروك للأبحاث والدراسات، لجداول الإحصاءات ولأرقام متناقضة جمعتها مراكز حقوقية أو قانونية، متروك لتعريف الثورة بحدّ ذاتها، وكأنّها فعل حدث فجأة وتوقف دونما سبب يذكر، ما بين النصر أو القتل في المهد حكايات لنساء تحوَّلن إلى أرقام ، راويات تلونّ قصصهن تلبية لتحقيق النجاح لبرامج تلفزيونية أو إعلانية، ما روته النساء فيها كان في أغلبيته مجدولًا سلفًا، مرتبًا بعناية ومقسَّمًا إلى أفكار تخدم هدف البرامج أو أغراض الإعلانات وبازارات السياسة والاستقطاب وغرف المفاوضات الرسمية، لكن الحكاية غرقت أكثر في الصمت، هربت الوقائع بإرادة مُعدّ الحلقة أو مخرج البرنامج أو صاحب مشروع عرض النساء لشهاداتهن. تسلّخت الحكاية بفعل الإصرار على رواية جانب واحد منها، ما تبقّى، وما قُدِّم من الحكايات كان في أغلبه يشبه قشرة مرمية لجسد تمدَّد فضاق جلده عليه، وبقيت الروح غارقة في غياهب الإهمال، متروكة لفوضى المشاعر وفوضى الرواة وفوضى المنصتين والمنصتات.
أما هنا، تقول الحكايات: إن كل ما حدث هو خطوة إلى الأمام وكل خطوة نحو الوراء قابلتها خطوات نحو الأمام، إذن هو التحكم في الزمن، ضغطه حتى يصير قوة دافعة، مشجِّعة، تقفز إلى الأمام، تختزل الزمن بإنجاز، يتراكم الزمن مثل كبسولات لدواء تجريبي لاستعادة الطاقة أو لتوليدها، المهم أن الاستنهاض حصل، ملوثًا بالدم والرصاص، نعترف بذلك، لكن الثمن مدفوع مسبقًا، وكلّ ما تم تجاوزه هو سداد كمي ونوعي عن السابق واللاحق من الأيام، من الحياة.
تمرَّدت السوريات على خزائن مقتنياتهن الأثيرة من أطباق وفناجين ومزهريات وتحف، خسرتها الكثيرات منهن بفعل التعفيش أو التدمير، لكنهن واجهن فجأة شعورًا غامرًا بالفقدان، تهافت الجمال المكتنز وضاع في طرفة عين، وبتن في بيوت غريبة وطارئة يقترضن الملاعق والصحون المعدنية أو البلاستيكية ظنًا منهن أنهن لا بدّ عائدات بعد عدة أيام إلى كنوزهن الثمينة.
مع الوقت، أو في زحمة اللهاث طلبًا للنجاة، تبدَّد الحزن على تلك المقتنيات، ربما بدَّدته النساء مرغمات ليتابعن الحياة، تتصف النساء بالقدرة على إعادة البناء، ماهرات في الترميم وفي إحياء ما لم يُدفن، يقلن ساخرات والمرارة تلوك كلماتهن: راحت البيوت، لا أسف على الصحون!
تماهت السوريات في انقلاباتهن الجذرية على ثوابتهن الحياتية، من لم تفقد كنوزها وزَّعتها راضية، على العائلات المشرَّدة، على البيوت الفارغة من كلّ شيء إلا من الحزن والفقد والعوز. وزَّعنها بفرح وتقاسمن مع الممنوحات قصص كل قطعة، تاريخها الزمني، ثمنها، من أهداها لمن!! تقول الأمهات هي كنوزنا المخبأة لأفراح الأبناء والبنات، وكلّهم باتوا ظلًا للغياب، بمن سنحتفي ولمن سنُبقي تلك الأكوام التي باتت ثقيلة الحضور وموجعة المعنى.
إذن ثمة حضور قوي هنا لانتصار المعنى، معنى أن تتسلَّل امرأة إلى الشارع وهي بحذائها البيتي لتتفرّج، هكذا كانت تبرِّر لنفسها سرّ اندفاعها الخطر، نزلت لتمتلئ بنبض أخافها في لحظته الأولى، كجسد طفلها الأول يلتحم بجسدها، فتغرق بالأسئلة وبالرغبة وبالخوف، تسير مع السائرين، وإن قبضوا عليها؟ ستريهم خفّها المنزلي وبأنها بلا حقيبة وكل ما بيدها هو مفتاح البيت القريب جدًا، ربما ستدلّهم عليه وستثبت لهم بذلك بأنها لم تشارك أبدًا في التظاهرة، وإنما كانت ترمي كيس القمامة! إذن في القلب ثورة وللثورة قلب تطرب بعشرته النساء، والخوف ركن أساسي من حياة النساء، لطالما أدمنته النساء لغياب الحماية والدعم! تتسلَّل الثورة إلى البيوت بقلوب النساء التي تميز الغضب والظلم والقهر وتعي عمق وفداحة التمييز جيدًا ومنذ ولادتها.
من يعيد الأبناء الموتى لأحضان الأمهات؟ وجهًا لوجه تُركت السوريات مع الموت المنفلت، من يحمي الشباب؟ من يسأل عنهم؟ من يسحبهم من قبضة العسس وزوّار الليل وحاملي العصي الكهربائية والهراوات الحديدية؟
على باب القصر العدلي وَقَفَتْ، بيدها صورة وحيدها! (حدا شاف ها الولد)؟ لم يكن مجرد سؤال، هو إمعان بأن الأولاد قد غيّبوا، ونريد معرفة المصير.
تلك الأم لا تعرف دمشق ولا طرقاتها ولا مكان قصر العدل ولا اسم الحافلة التي تقلّها من قريتها البعيدة إلى هناك، انتصرت العاطفة في مواجهة الغياب، وجدت نفسها هنا، لم يعد مهمًّا متى تعود وكيف ستعود، المهم أن يرى صورة ابنها كلّ العابرين والعابرات، قضاة ومحامون ومعقّبو معاملات ورجال أمن ومدّعون ومدّعيات وأصحاب قضايا، مرتشون ومتلاعبون بالقانون وأطفال، وأمهات أخريات، تذكَّرن غيّابهن أيضًا عندما واجهتهم تلك الأم بسؤال الغياب عبر صورة، هو ابنها، وفي الواقع هو مفقود ومغيَّب ومجهول المصير. ترفَّق بقلوب الأمهات أيها الغياب، وانطق بمَن يعرف مصيره أو مكانه، مَن يدلّ أمه على رائحته، أو مَن ينقل له مجرد خبر، اصمد يا فتى فوالدتك تنتظرك! يحضر الانتظار هنا حالة من الصمود أيضًا، حالة من الانتصار لدم الضحية ولمواجهة التغييب، ينهض الانتظار فعلا معاندًا للغياب.
سافرت السوريات نحو العالم الجديد، غيرَّن أزياءهن بثقة، اتُهمن بأنهنّ وجدن في الهجرة بابًا للانحلال، وكأنّ تلك الزيجات الهشّة التي تهاوت بقرار حازم من النساء كانت تستحق الإبقاء عليها قيودًا من ظلم وتعسف.
هل جرَّب أحدنا الدخول إلى الصفحات الجماعية للسوريات في البلاد الجديدة؟ تاريخ متكامل وثابت في الحضور هوى فجأة، بقي بعض الحنين وبضع مذاقات على طرف اللسان ستطويها قريبًا نكهات جديدة يحبها الأبناء والبنات في بلادهم الجديدة، وغياب المذاقات أو هجرانها لا يُعَدُّ ثورة، لكنه انحرافٌ حادّ يكسر نمطية حرفية وخانقة، دقيقة وحاسمة ولا تقبل التغيير أو التجديد أبداً، نمطية تسخر من باقي النكهات لدرجة أنها قد توازي عنصرية محترفة تصف طعام الغير بصفات مستهجنة وساخرة، هنا اكتُشفَت صورة الآخر، وربما حضوره غير القابل للتجاهل، وهذا ما افتقدته السوريات عبر تاريخهنّ الطويل، فكلّ آخر هو عدو أو مشروع معتد أو متلاعب بالنساء، وبعقولهن الصغيرة كحبات البندق بين أنياب سنجاب بري.
والسوريات الممتدات كبلد يغرفن من القوة الكامنة في دواخلهن ويتظاهرن بالصلابة، لا خيارات أمامهن، القوة ثم القوة، والصبر مائع وبنكهة باهتة، لا يجذب ولا يشجع على التجريب، فمن يقنعهن بأن الصبر مفتاح الفرج بعد كلّ الآلام التي حاصرتهن؟ من يسدِّد الضربة القاضية للصبر المستكين لتنهض القوة على شكل تحدّ أو تمرّد أو غضب؟ في البيوت تخلخلت البنى الهشّة، وفي المحاكم تمّت المواجهة، تحضّر السوريات أنفسهن بشكل جيد قبل الجلسات، يتبيّن التفاصيل بدقة بالغة وكأنها قضية موت أو حياة، والانتصار هنا ليس حبرًا على ورق ولا مصالحات أو تعهدات، الانتصار هنا بدايات لصعوبات جديدة، تحتدّ وتتبسط، لكنها مواجهة أيضًا، والسوريات يواجهن بحماوة العاطفة وشراسة الجسد المقيّد وهو مثخن بالجراح.
على المنصّات العامة وعلى طاولة المفاوضات وفي أروقة المجالس الدولية، حضرت النساء السوريات كما لم يحدث من قبل، التقييم هنا لمبدأ الحضور، لقوته، لصلابته، وربما لضعفه وانكساره، لكن الأهم أن المشهد ضمن هذه الأروقة والمحافل بات جزءًا من المشهد العام لحضور السوريات.
هل تنتصر الثورة ببضعة أسماء لنساء متميزات أو شجاعات؟ من المؤكَّد لا، لكنّ هذا التميز وهذا الحضور بات جزءًا من الحضور العام، أنا كامرأة يكفيني القول: اتركوا هذه المقاعد، فهي محجوزة للنساء.
نظرية التراكم في مواجهة نظرية الانتصار، ونظرية الحضور الإجباري في مواجهة قاعدة أن المقاعد للأجدر، وهل اختبرنا في الأصل الأجدر من الرجال؟ هل تبوّأ الأفضل أمكنتهم المستحقّة؟ تبدو الصورة مهتزّة قليلًا، من جانب التمثيل أولًا، ومن جانب مَن يختار مَن، ومَن يمثِّل مَن؟ والسؤال هنا مردود إلى مشهد عابث وغير مسؤول وتمييزي، وسؤال العدالة عصيٌّ على الطرح، ولا أجوبة، فالمناخ العام هو تواطؤ لتثبيت قدم في حيز لطالما تم التنازع عليه وبحكم القوة الصارمة والطاردة للنساء بات تصميم الموقع على مقاسات أقدام الرجال وحدهم! هي الحقيقة وتبادل الأدوار هنا كما لعبة الكراسي، لابد من وجود مَن يخرج في كلّ دورة للعبة، يتمثَّل الانزياح هنا بضرورة خروج عدد من الرجال لتثبيت أقدام عدد من النساء.
يبدو هذا الكلام جلفًا وانتقاميًا وغير مقبول، لكن اللحاق بالمكان في خضمّ وقت لجوج وضيّق يفرض خروجًا صادمًا وغير متوقَّع من أجل دخول النساء، والأيديولوجيا هنا مهزومة حكمًا، كما الكلام المقفّى والآيات البيّنات وسلطات رجال الدين وتسلُّط حراس الشرف الأشراف، لا وقت للتفكير ستُنمِّي النساء حواسهن بشدّة متناهية، حتى وإن سقطن على أطراف الكراسي المتبقية، لكنهن حجزنها رغمًا عن الجميع.
خرجت النساء من أماكن سكنهن الأصلية، من القرى شبه المغلقة على أهلها، من البيوت العائلية التي ترفض انفصال أبنائها عنها بعد الزواج، واتجهن نحو أماكن جديدة، نساء غوطة دمشق سكنّ في السويداء، واجهن غربة مرعبة في البداية، وكلّ محاولات الاندماج كانت متعبة وقهرية، لا يمكن نسيان تلك الانتقالات السريعة الكارثية في بداياتها، ولا يمكن وصفها حتى من الناحية العاطفية، ونساء الغوطة ودير الزور في ضواحي دمشق، ولم يعدن، ولن يعدنّ كما صرّحت الكثيرات منهن! يمكن القول إنهن لم يعدن بقرار حاسم منهن، وإن كانت الواجهة في اتخاذ القرارات حكرًا على الرجال، انكسرت الحلقة الواسعة لمفهوم العائلة، لم يكن عدم جاهزية المساكن سببًا حقيقيًا، يمكن القول إنه كان ذريعة، مع أن الأغلبية أيقنت أن ما كُسِر ونُقِض من بنىً متداخلة ومتشابكة لن يعود للتشكُّل من جديد، هنا يمكن القول وبكلّ ثقة :إن انهيار الهرمية العائلية الصارمة كان أحد وجوه الانتصار لحيوات النساء والبنات أيضًا، ستبقى النساء في المدينة والضواحي المنتعشة من أجل رقابة عائلية أقل، من أجل تعليم البنات، من أجل حرية التنقّل وتخفيف الأعباء الواقعة على النساء في العائلات الكبيرة.
لطالما رغبت النساء بتغيير اسم عقد الزواج، ولطالما فاوضت الناشطات النسويات أولي القرار بأن المطلوب هو مجرد تبديل لكلمة واحدة فحسب، تبديل كلمة نكاح بزواج! كم تحتاج تلك الكلمة من وقت لتتغيَّر؟ يبدو الزمن عاجزًا هنا حتى عن السير الوئيد وتغيير الكلمة حرفًا فحرف. حصل التغيير في عام 2019، صار اسمه عقد زواج، والوقت هنا استثنائي في تلبيته للحاجة إلى التغيير التي طالت لعقود دونما أي تجاوب بذريعة عدم نكث ما هو شرعي. بات الركون على عدم التغيير مبدأ ثابتًا بحجة عدم المواجهة مع الشرائع، واختبار الجودة والفائدة المتحصّلة أو المرجوّة هنا متروك للزمن أيضًا. تِسعون مادة قانونية تغيَّرت في العام ذاته، بعضها لامس جوهر التغيير المطلوب، وبعضها طبع التغيير بشكلانية تحتاج المزيد من التدخّل والمزيد من الإصرار على تكرار محاولات التطلّب العنيد.
ثمة حيوية أسَّست لها النساء على الرغم من القهر، ثمة شكل ذاتي من الإدارة فرضته ظروف كلّ عائلة أو كلّ امرأة، لم يُرصَد بصورة منهجية حتى الآن، واللافت أن التغيُّرات السريعة تصبح ثوابت وبسرعة قياسية أيضًا، كعمل النساء خارج المنزل، وبأعمال جديدة وغريبة عن الأعمال المسموح بها للنساء أصلًا.
يمكن بكلّ بساطة رصد محلّ لبيع لوازم النجارة في منطقة قريبة من دمشق، تعمل فيه امرأة، تحمل ألواح الخشب، تبيع وتشتري، يمكن رصد شارع تجاري بأكمله غاب عنه الباعة الرجال، واستلمت البيع فيه نساء وعلى ورديتين صباحية ومسائية، والكثير من الأمثلة.
لا نزيِّن الحرب بالورود، فالرصاص مكوَّن من البارود، ولا نقول بأن النساء خرجن برغبتهن الكاملة إلى العمل ونِلن حقوقهن كاملة عن التعب المديد، لم يكافئهن أحد على الانتظار الطويل، ولا على تكبّد عناء البحث عن الرجال وحماية من تبقى منهم.
هي التغيّرات العاصفة على شكل ثورات أو خضّات كبرى وواسعة، تعصف بالأضعف، ومن يبقى سيبلغ منه التعب أشدّه، لكنه سيبقى.
ستبقى النساء، ليروين حكاياتهن وحكايات الجميع ربما، كي لا يسرق حكاياتهن الغرباء، كي لا يروي غيرهن ألمهن وتغيّراتهن وتماهيهن مع ثورة يعشنها بالفطرة، ويخضنها بالإرادة، ويحفرنها في ذاكرتهن ليبنين على ما بُني، ويمضين دومًا نحو الأمام.

مشاركة: