هنا دُفِنتْ طفلة تلبس كنزة خضراء مجهولة الهوية

هذه العبارة التي كُتبت على شاهدة قبر إحدى ضحايا الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا في فبراير الماضي من أقسى العبارات التي يمكن أن تُكتب لتدلّ على رُفات إنسان، إلا أنّها قد تكون التّوصيف الأكثر مقاربةً للثورة السورية. تأخّرت نجدتها، فسُلِبت منها الحياة، لتفقد اسمها في النهاية. ندرك جميعًا أنّ الثورة انتهت من قبل أن تُعلن الهزيمة، انتهتْ عندما عُرضت صور ضحايا التّعذيب كصورٍ يتصفّحها ذوو الضحايا ربما من دون أن يستطيعوا التعرف على فقيدهم، انتهت عندما وُضع أمر استخدام السلاح الكيمياوي من جانب النظام السوري ضد المدنيين موضع تساؤل وتشكيك، انتهت عندما قرأنا شهادات لناجيات في كتاب سمر يزبك وغيره وكأننا نقرأ عن مآسٍ وجرائم حدثت في زمن بعيد جدًا، لكنها مع الأسف حدثت في زمننا الحاضر، ولم يتمكن أحد من منعها. انتهت عندما اتّفق العالم على رفض تسمّية الحراك السّوري بالثورة.
يبقى مصطلح الهزيمة بالنسبة لي بعيدًا عن توصيف الحالة السّورية من حيث إنّه قاصرٌ عن استيعاب مدى الخصوصيّة التي حدّدت سياق الثورة السّورية. إذ كيف يُعدّ مهزومًا من لم يُمنح في الأصل شروط المواجهة العادلة؟ الثورة السّورية ليست حربًا، ولا نزاعًا مسلحًا ولا هي حربٌ أهلية كما صدّرها الإعلام الغربيُّ والعالمي، إنها ثورةٌ حقةٌ لشعبٍ طالب بحقوقٍ مشروعة، ثورةٍ خطّتها لغة الأطفال على الجدران، وواجهت الرصاص بالورود وقاومت شراسة ووحشيّة النظام بأغاني السّاروت وأهازيجه.
لذلك قد يكون السّؤال عن الوجهة بعد الهزيمة إشكاليًّا في حدّ ذاته، وإذا كان لي أن أعنون مرحلة ما بعد الثورة، فلن يكون العنوان “ما بعد الهزيمة”، وإنّما “مقاومة موت الثورة” كفكرةٍ أولاً، في الوجدان العام المحلي والعالمي على حدّ سواء، وكغايةٍ وفعلٍ مشروع ثانيًا من الواجب دعمه، فالواقع الذي اندلعت من أجله الثورة ما زال قائمًا، والانتهاكات من طرف النظام، ومن أطراف إقليمية وأجنبية محتلّة، ما تزال مستمرّة لا يُثنيها ولا يُبطلها شيء.
وفقًا لتقرير حديث للشبكة السورية لحقوق الإنسان، اعتُقل تعسفيًا في الأيام الماضية سوريّون مدنيّون بتهمة تواصلهم مع ذويهم وأقاربهم من المناطق المحرّرة التي تضرّرت إثر الزّلزال، ويذكر التقرير أنّ الاعتقالات “اشترك فيها جميع الأطراف” أي جميع القوى التي تسيطر فعليًا على الأراضي السورية، سواء أكان ذلك من النظام أو من الفصائل المعارضة. كيف لنا إذًا أن نطرح مسألة الانتقال إلى مرحلة ما بعد الثورة وأسبابها ما تزال قائمة، بل وازدادت سوءًا عمّا كانت عليه في 2011، ما الذي سيقدّمه الاعتراف بالهزيمة لأولئك الذين قدّموا للثورة كلّ ما يملكون، وشُرّدوا وفقدوا كلّ شيء، وهل المسؤولية الأخلاقية تجاه الثورة تفرض علينا حقًا مثل هذا الاعتراف؟ نعلم جميعًا أنه لا يوجد تفكير أخلاقي موضوعي بحت، لكن هذا لا يمنعنا من التطلُّع إلى تخفيف العبء الذاتي لأحكامنا مع مراعاة الالتفات نحو الواقع المرير الذي مازال قائمًا أو على الأقل محاولة ذلك خاصة في سياق النقاش العام.
جميعنا على علم بالحالة التي يعيشها أهلنا في الداخل السوريّ من تضييقٍ اقتصاديّ ومعيشي وأمنيّ، تراجع للتعليم، انتشار للجريمة، عمالة الأطفال، وزواج القاصرات، والوضع أشدّ سوءًا في المخيمات. وإن كنّا نناقش نظريًا في هذا الملف ما يجب فعله في المرحلة المقبلة بغض النظر عن العنوان العريض فالواجب والأهمّ هو أن تكون الأولوية لمساعدة أهلنا في المخيمات في إيجاد مسكن يليق بهم، يستعيدون من خلاله ما تبقّى لهم من حياة، فلا يكون هناك مَنْ يستغلّهم ماديًا أو جنسيًا، ونحاسِب كلّ من يتاجر بهم، سواء كان ذلك على الأرض أو على مواقع التواصل الاجتماعيّ، من أمثال المسؤولين عن نشر فيدو الطفلة المعنَّفة التي ربما لا تتجاوز الرابعة من العمر، والتي صُوِّرتْ بينما كان الدم يسيل من جبينها كدليلٍ واضح على تعرضها للضّرب والتّعنيف المباشر. حتى وإنْ لم يُصوَّر فعل الضرب، فالمشهد يشرح نفسه بطريقة لا تدع مجالًا للشكّ في حدوث ذلك، لتُردِّد الطفلة بلهجة متقطعة ووجه مذعور ما يطلب منها ذلك الوحش الذي يقبع وراء الكاميرا أن تقول.
يستحقّ هذا الشخص وأمثاله، الذين يمارسون هذا الاستغلال الفاضح للأطفال والقصّر من أجل استعطاف العالم بحجّة جمع التبرعات، العقوبة والتجريم. والسؤال هنا كيف يمكن أن تمرّ هذه الفيديوهات من دون أن يتحرّك المعنيون بتوثيق الانتهاكات لمنعها ومحاسَبة مَنْ يروِّجها؟ أليس هذا أجدى أولًا من الحديث عن أيّ شيء آخر؟ فما نفع الكلام عن مرحلة مُقبلة ونحن نرى الإنسان السوري في وضع غير إنساني وغير قادرٍ على التفكير سوى في تأمين معيشة أسرته أو تدفئة خيمته أو حماية أطفاله؟ ما الذي سنقدِّمه له إن تجاهلنا حاله وتبادلنا الآراء السياسية التي لا تعنيه في شيء؟ والأهم من ذلك كله هو إيجاد الجسر الذي يجب علينا بناؤه مع الواقع ومعرفة آليات بنائه لنكون فاعلين في تحسين التراجيديا السورية على الأرض.
وفي هذا السياق أودّ التّنويه إلى المسؤولية التي تقع على عاتق المشتغلين في الحقل الثقافي والتي تتطلب منّا جهدًا وعناية فعلية في اليومي والثقافي والأكاديمي على حد سواء، وعلى الصعيدين الفردي والمؤسساتي، وأولها وضع أسسٍ لمشروعٍ شامل يحفظ تاريخ الثورة فإن لم تنجح الثورة سياسيًا فعلى الأقل أن تنجو من النسيان والتشويه، بتوثيق حيثياتها محليًا ثم عالميًا عبر نقلها إلى الثقافات الأخرى بواسطة الترجمات ليعرف العالم قصة الثورة السورية وحقيقة ما جرى كما نعرف نحن قصص حروبه وثوراته، لنزع الحصرية في سردية الثورة من النظام وحلفائه بعد أن حُرف مسارها عمدًا من جانب القوى الإقليمية والدولية والتجاذبات السياسية من خلال منح النظام السوري الهمجي غطاءً لقتل كل سوريّ معترض على سياسته القمعية الهولوكستية، ولخلق شبكة ثقافية قادرة على تبني مثل هذا المشروع ودعمه بشكل جدي باعتباره آلية مقاومة لا تقل أهميتها عن العمل السياسي والخروج بمشروع يرقى إلى مستوى المسؤولية التاريخية والإنسانية تجاه الضحايا والمفقودين والمغيبين قسريًا والمعتقلين. فإذا لم تنجح الثورة في تغيير النظام السياسي فعلى الأقل أن تكون خسارتها دافعًا للمقاومة وليس للانهزام عبر مشروع إنساني يؤرِّخها في أذهان الأجيال القادمة ويحميها من النسيان.
ثورة بدأت باللغة لا بدّ أن تُحيا باللغة أو، أضعف الإيمان، ألا تضيع من قاموس ثورات العالم وتتحوَّل إلى مجرد حرب أهلية كما أرادوا تسميتها زورًا. ثورة بدأتها براءة الأطفال وشجاعتهم كيف لها أن تُهزم؟ قد أقبل بمصطلح الخسارة، لكن لا أقبل بمصطلح الهزيمة، الهزيمة تساوي الموت ونحن بعد على قيد الحياة. قد لا تعلم شعوب العالم عن حمزة ورفاقه، لكننا نعلم، قد لا يعرفون مَن تكون مي سكاف أو فدوى سليمان أو حسين الهرموش أو سميرة الخليل أو أبو فرات أو غياث مطر، لكننا نعرف، أسماء مثل مشعل تمو والأب باولو وعبد القادر الصالح ورائد الفارس وأسماء أخرى لا يتسع المجال لذكرها تُذكِّرنا بأن علينا تقع المسؤولية الأخلاقية برفض الهزيمة ومقاومة النسيان بأي وسيلة متاحة لأنها “سوريا العظيمة وليست سوريا الأسد”.

مشاركة: