لكلِّ تغييرٍ ثمن، فإما أن تدفع ثمنَ التغيير، أو تدفع ثمنَ عدم التغيير.
تتواكب بداية السنة الثانية عشرة للثورة السورية مع إعادة بعض الدول العربية علاقاتها مع النظام الحاكم في سوريا، لتتكاثفَ نتائجُ الثورة السورية، كهزيمةٍ عربيةٍ جديدة، تُذكرنا بهزيمة “الخمسة أيام التي غيرت وجه الشرق الأوسط”، دلالةً على هزيمةِ الخامس من حزيران من العام 1967، التي لم يعد الشرق الأوسط بعدها كما كان قبلها، ولتكون الثورة السورية بنتائجها، عنوان الهزيمة الجديدة في المرحلة العربية المُقبلة، ليس من زاوية إعادة العلاقات فحسب، بل ومن زاوية وأدِ فكرة التغيير في الواقع العربي، بصيغة “الثورات”، إن كان سياسيًا أو فكريًا أيضًا، بعد أن تم تأويلها باتهاماتٍ مُعلبةٍ وجاهزةٍ للإطلاق.
منذ مطلع السبعينيات وعنوان المرحلة العربية يمكن اختصاره بـ “ثبات الهزيمة”، عنوانٌ يسوده الاستسلامُ والتماهي مع الوضع المُفقَر والمُتصحّر سياسيًا، وانعكاسه على الوضع الثقافي والاجتماعي، حتى أصبح هو الوضع الطبيعي، ولتظهر أي صحوةٍ وكأنها حالةٌ غريبةٌ ودخيلةٌ، وصلت حدَّ أن تُوسَم بالمؤامرة!
فاليسار العربي في موقفه من ثورات الربيع العربي وعلى رأسها الثورة السورية، كان أكثرَ تطرفًا من اليمينِ نفسه، وعاد وانكفأ على فكرة المقاومة، التي لم تكن تشوبها شائبة لدينا جميعًا، بحملها رداء القداسة، الذي نزعته إياه الثورةُ السورية، بعد أن تناقضَ موقفُها من المحتلّ الإسرائيلي مع موقفها من الإجرام المُشابه بحق الشعب السوري، من جانب النظام الحاكم.
الثورة السورية، في انفجارها وملامحها، أتت خارجةً عن الإطار العربي المهزوم، لكن متوافقة معه في النتائج، التي احتاجت إلى أكثر من إرادة السوريين لتحققها.
فالدم السوري الذي انسكب، سُكب عادةً في مواجهة قوى الاستعمار، وليس في مواجهة نظامٍ حاكمٍ بهدف التغيير، وهي مواجهةٌ فريدةٌ ومِقدامة، وخارجةٌ عن إطار الشخصية العربية المهزومة، وبعضُ مظاهر هذه المواجهة، مازالت حاضرةً، وإن على نطاقٍ مُتفرقٍ وضيق، على الرغم من المصير القاسي الذي واجهه السوريون خلال الاثني عشر عامًا.
محاولات الشباب السوري لم تكن كافية، لأن تحقيق التغيير يحتاج إلى أن يكون شاملًا ومُتحملًا لمسؤولية هذا التغيير من كافة الشرائح، وهو ما عجزت عنه الطبقة السياسية في سوريا، لتظهر الثورة السورية كامرأةٍ جميلةٍ بروح الشباب المِقدام، لكنها عرجاءُ بفكر سياسييها الممثِلين لها، الذين مسّتهم روح البعث ونفحاته، وانعكست على كامل سلوكهم خلال تمثيلهم للثورة، فخسروا تأييد الشارع وإيمانه بهم.
فشلت المعارضة السورية في مساعدة الشعب السوري أولاً، وداعمي الثورة، الذين تساقطوا دولةً تلو الأخرى، على تحقيق الانتقال الديمقراطي، حتى وإن كان جزئيًا، إذ هو عمليةٌ معقدة، تمرّ عبر عملياتٍ ومراحلَ كثيرة، ربما تُفضي إلى جزءٍ من أساس الانتقال الديمقراطي، تُستكمَل بعدها بعملياتٍ ومراحلَ أخرى.
هذا الفشل، يعني فشل الانتقال الديمقراطي من الأسفل إلى الأعلى، من خلال قوى المعارضة المدعومة شعبيًا، أو التفاوض بينها وبين النخبة الحاكمة، أو حتى نتيجة تدخلٍ عسكريٍ خارجي، وجميع هذه الوسائل انتهى التفكيرُ فيها وتوقعُها، حتى ولو تم إجراءُ تعديلٍ دستوري، أو تضمينُ بعض شخصيات المعارضة في حكومةٍ مُقبلة، فهو إجراءٌ شكليٌ لن يُغيّر واقع الحال، في التأسيس لمظاهر حكمٍ ديمقراطية.
في خطوتها، قد تحاول الدول العربية إجراءَ بعضِ التغيير الديمقراطي، على النظام الحاكم في سوريا، بحيث يبدأ من الأعلى، أي من خلال النخبة الحاكمة، لكن المعضلة في سوريا هي أنَ الإصلاح الديمقراطي الذي كان المطلب الرئيسي في بدايات الثورة، لم يعد هو المشكلة، بل أصبحت المشكلة هي مشكلةُ دمٍ وحقٍ، لا يقل عن “حق العودة” للشعب الفلسطيني في نظر السوريين، وفي الوقت نفسه فإنَ النظام لم يُخفِ الرغبة التدميرية نفسها تجاه هذه الدول نفسها، من أجل بقائه حيًا.
إن مظاهر التغيير التي طرأت على المجتمع السوري، في الاتجاهين السلبي والإيجابي، هي مظاهرُ جذرية طالت البنية والفكر والسلوك.
فعلى صعيد المرأة مثلاً، رأينا السيدات يخرجن إلى المظاهرات حتى وإن عارضنَ مواقفَ أزواجهن، وخضن العمل السياسي والمدني والإسعافي حتى في أصعب المناطق وأكثرها خطورة، أو اتّخذت حياةُ بعض مَن اعتُقلن منحىً آخر، بعيدًا عن العودة إلى بيت الطاعة، إذا رُفضَت من جانب عائلتها بعد الخروج من المعتقل، نظرًا لسمعة السجون السورية الموغلة في السوء، بما فيها من جرائم وصلت حدّ اغتصاب الزوجات والأخوات أمام الأزواج والأخوة، والقتل تحت التعذيب. كذلك ظهر أثرُ التغيير على السيدات في دول اللجوء، عربيات أكُنّ أم أوروبيات، لنسمع ونرى قصصَ نجاحٍ فرديةً للمرأة، على صعيد الاختصاص، الخارج عن القوالب السابقة للمرأة السورية منذ حكم البعث، أو على الصعيد الاجتماعي واتخاذها لقراراتها بعيدًا عن أية وصايةٍ أو أبوية.
هذه المظاهر وغيرها، على الرغم من عدم ملاحظتها في الوقت الراهن، كتأثيراتٍ حفرت في المجتمع السوري، فلن تُعيدَ ما بعدها إلى سابق عهده، بل ستظهر تأويلاته بحسب ظروفٍ أخرى.
ولأنَّ أسبابَ هزيمةِ 67 كانت شخصية وقراراتية أكثر منها لوجستية، فلو تم التعامل معها بطريقةٍ أكثرَ مسؤولية، كما يؤكد باحثُ التاريخ المصري، خالد فهمي في سلسلة حلقاتٍ على يوتيوب، في محاولةٍ لشرح أسباب هذه الهزيمة وفهمها، ربما لاختلفت نتائجها، لكنها وبتلك النتائج خطّت اسمها بـ “الخمسة أيام التي هزّت الشرق الأوسط” وكذلك احتاجت لحرب أكتوبر، علَها تطوي وصمة الهزيمة، التي حتى يومنا هذا، لم تُنزَع عنها، لعدم القدرة على تصحيح نتائجها.
هزيمة الثورة السورية، هي هزيمةٌ عربية، لرغبة التغيير العربية، ليس فقط في إطار تغيير سياسةٍ داخليةٍ لنظامٍ مُستَبد، بل هي هزيمةٌ في مفهوم التكوين العربي العام، ككيانٍ ضروري في مواجهة تحدياتٍ ومخاطرَ تُحيقُ به، فسوريا هي قلب المتوسط سياسيًا وليس جغرافيًا وحسب، وخسارة الثورة السورية هي خسارةُ هذا القلب العربي، بعد استباحة قراراتها وسيادتها قبل أراضيها، من أكثر من مُحتلٍ، بموافقة النظام الحاكم، وبالتأكيد ستحتاج لخطوةٍ أكيدةٍ في المستقبل لمحو هذه الهزيمة.