مفهوم العصرتفلسف على عتبة إلياس مرقص

المُعاصر هو الذي يعرف كيف يكتب
بغَمس قلمه في غموض الحاضر.
جورج أغامبين

مُلخص
ظلَّ مفهوم المُعاصرة من المفهومات التي لها قدرة عجيبة على الإفلات من التحديد، ومع أن الكلمة تُستخدَم على نطاقٍ واسع، إلا أنها انتمت إلى حزمةٍ المعاني البديهية في أغلب الحالات، وأوّل فعلٍ تقوم به هذه الدراسة لتسوِّغ وجودها هو مساءلة هذه البداهة. وتكاد الأدبيات العربية التي تناولت هذا المفهوم بصورة مباشرة نادرة جدًا قياسًا بمفهوماتٍ أخرى تنتمي إلى الحقل المعرفي ذاته، وتمنح هذه الندرة في الأدبيات موضوعَ هذه الدراسة أهميةً من نوعٍ عام General، ومن نوعٍ عمومي Public (وهذه أكثر أهمية). ويضفي تناول هذا الموضوع من طريق إلياس مرقص على هذا النوع من التفكير أهميةً خاصة تحيل على استئناف النقاش الكوني حول ذواتنا (حول الـ نحن)، بل إعادة التساؤل عن “من نكون”، إلى المنطقة “الأكثر استفزازًا للتفكير”، الأمر الذي يصب في ابتداع (نحن) أكثر كونية، ومن ثم أكثر معاصرة.
موضوع هذه الدراسة سؤالٌ عام كبير: ما الذي يعنيه العصر؟ بما يتضمن هذا السؤال من تساؤلاتٍ عن ماهية المُعاصَرة، ومن ثم عن المُعاصِر: من هو؟ وكيف نكون معاصِرين؟ ولمقاربة هذا الموضوع نضع المُفكرَ السوري إلياس مرقص مدخلًا لصوغ سؤالٍ بحثي تؤدي الإجابة عنه إلى فهم موضوع البحث وسؤاله العام، فنسأل من جديد: كيف نفهم العصر باستخدام إلياس مرقص أنموذجًا؟ والأمر الذي يسوِّغ اختيار مُرقص لهذه المهمة هو أنه كان كوني التفكير والمقاربة (وكان هذا نادرًا في حينه)، وفي الوقت نفسه، حافظ على عبء الانتماء (ما قبل الكوني) بإخلاصٍ منقطع النظير.
اتكأ البحث على عديد الأطر النظرية على المستوى الفلسفي، أهمها هايدغر: التفكير، والكينونة (كينونة الـ نحن) بوصفها مرتبطة بالزمان، وصولًا إلى إمكان القول “نحن زماننا”. وتضع الدراسة فرضيةً تقول إن العصر عند مرقص هو الزمان والخطاب المرتبطان جدليًا بالـ “نحن”. تثبت هذه الدراسة صحة فرضيتها بالاستناد إلى منهجٍ تحليلي مُركب ينطلق من مدخل تعامل مرقص مع مسألتي الإنسانوية Humanism وتحديدًا في نقده ألتوسير، والماركسية كما يرويها إلياس في كتابه “الماركسية في عصرنا”.
وبهذا المعنى، ظل هايدغر في هذه الدراسة مؤشرًا منهجيًا بما يثيره من تساؤلاتٍ عن نوعية العلاقة التي من الممكن أن تكون بين مخرجات مرقص وفكر هايدغر، وعن تفادي مرقص الخوض في هذا الفكر، والاكتفاء بالتحويم حوله. التحويم الذي بدا لنا واعيًا بأسبابه ومساراته طوال مدة تعقبه في كتابات مرقص.

مقدمة واستشكال
البحث عن طريقةٍ ما، عن مدخلٍ ملائم، أو إطارٍ نظري ربما، من النوع الذي يتعاظم معه إمكانُ عودة النقاش الكوني حول أنفسنا، هو ما نعنيه بفعل التفلسف على العتبة؛ فالعتبة التي نعني هي عتبة الكوني بوصفه مشروعًا إنسانيًا، وقد نقول مبدئيًا إن هذه هي عتبة المُعاصَرة نفسها. تفصل العتبات بين داخلٍ وخارجٍ، أو بين جواني وبراني، والعتبة بالمعنى الذي نريد طريقٌ للدخول إلى العصر، وطريقٌ للخروج منه أيضًا (بإرادة أو من دون إرادة، وبوعي بهذا الدخول والخروج أو من دون وعي). ومن غير الممكن القبض على معنى عبارة “إمكان النقاش الكوني حول أنفسنا” (استئنافه أو افتتاحه) من دون حدٍ أدنى من الاتفاق أو الحوار حول دلالة الضمير “نا” في كلمة أنفسنا: أي معنى الـ “نحن” الخاصة بفردٍ أو جماعة معينة تفكر على هذه العتبة. وربما تكون الـ “نحن” منظورًا إليها من بوابة الاختلاف، هي موضوع هذا التفلسف هنا في العمق؛ فالاختلاف هو الذي يجعل المُعاصَرة ممكنة، وهذا أيضًا قولٌ مبدئي.
عتبة إلياس مرقص هي تلك العتبة المعنوية التي تصوَّرها إلياس ليدخل إلى العصر الكوني، أو الأصح التي نبنيها نحنُ، والآن، استنادًا إلى قراءة جديدة لـ مرقص، وإلى فهمنا له (وربما تأويلنا)؛ فإلياس لم يكتب عن مفهوم العصر بصورة مباشرة وواضحة، ولذلك ينبغي للباحث عن مفهومٍ للعصر عند إلياس أن يجد هذه العتبة ويقف عليها تمهيدًا لإمكان إقامة مقاربة اسمها “مفهوم العصر عند إلياس مرقص”. والبحث في مفهوم العصر، على عتبة إلياس، محاولةُ إنصافٍ لذواتنا من مدخل إنصاف إلياس مرقص: يعني أننا ننطلق من أن البحث في مفهوم العصر عند إلياس، يساهم في إنصافه لأنه يردُّه إلى عالميته بوصفه فيلسوفًا ومفكرًا وكاتبًا، والأكثر أهميةً بوصفه فردًا (أنا تُفكر)، وينصفنا بأن يعيد إلينا بعض إمكانات استئناف التفكير بأنفسنا في الزمان، وربما هذا شكلٌ من أشكال الكينونة. والحديث عن الإنصاف في حضرة إلياس، حديثٌ يستمد مشروعيته من الفجوة بين جهده ونتاجه الوفير من جهة، وقلة قارئيه قياسًا لأهمية طروحاته، وقلة فاهميه من بين قارئيه، من جهةٍ أخرى. في أي حال، هذا بتقديرنا موضوعٌ يصلح موضوعَ تفكيرٍ مستقل.
لسببٍ نجهله، ظل مفهوم العصر، قادرًا على الإفلات من البحث، بل ظل ينتمي إلى غير المفكَّر فيه بعد، وكأن مشكلةً تحول بيننا وبينه، ربما تكون مشكلةً من جنس مشكلاتنا مع تاريخنا، يعني بوجهٍ أعمق: هي مشكلةٌ من جنس مشكلاتنا مع ذواتنا الفردية والجماعية، أو مع كينونتنا بوصفنا جماعةً في الزمان (في حين يكون هذا التعبير ممكنًا). الـ “نا” في هذا السياق مدخلٌ مهم لمقاربة مفهوم العصر أيضًا (أي عصر)؛ فلا يفهم أحدنا شيئًا عن معنى العصر، إلا إذا فهم أكثر ما يمكنه أن يفهم عن معنى ذاته، ليس على مستوى ماهية الذات (ما هي ذاتي؟)، بل على مستوى الـ “من”: (من أكون أنا الآن، ومن نحن الآن). فالماهية ثابتة ولا يغيرها الزمان إلا حين يجعل منها غيرها، وأما الـ “مَن-هيَّة” (مِن سؤال الـ مَن) تتغير مع الزمان، وتُغيِّره، ومن ثم يكون تتابع العصور ليس إلا تَغيُّرًا في الإجابة عن سؤال “من نكون نحن”، “ومن أكون أنا”، بتغير الزمان. ولهذا السبب بالتحديد لا يبدو لنا مفهوم العصر مطلقًا، بل نسبيًا يتغير بتغير السائل عنه والمجيب. وليس العصر واحدًا في زمنٍ واحد، ولذلك أيضًا يصير القول إن المُزامنة(1) لا تكفي للمعاصَرة قولًا ممكنًا، ويصير القول إن مُفكرًا قد توفي منذ قرنٍ من الزمن مثلًا، لا يزال أكثر معاصرة من مفكرٍ راهن، قولًا ممكنًا أحيانًا.
غالبًا، يبدأ السؤال الأولي في التفكير في معنى العصر من صوغ سؤالٍ مبدئي: متى ينتهي عصرٌ ويبدأ آخر؟ أي متى تبدأ المُعاصرة؟ ويبدو أن الإجابة عن هذا السؤال لا تكون في التاريخ، بقدر ما تكون في الذوات السائلة نفسها، والذين يجيبون عن هذا السؤال يخبروننا عن ذواتهم أكثر مما يخبروننا عن التاريخ. يمكن أن نقول إن السؤال عن مفهوم العصر، ينتمي إلى ما لم نتعلم التفكير فيه بعد، ومن أهم ما لم نتعلم التفكير فيه هو ذواتنا: بصورة رئيسة مفهوم الفرد، ومفهوم الوطن، ومفهوم الإنسان، بوصفها آفاقًا تمنح ذواتنا أهم مصادرها المعاصرة. بهذا المعنى، ينبغي أن يكون سؤال العصر في منطقةٍ يسميها هايدغر الـ “أكثر استفزازًا للتفكير Most thought-provoking” وذلك لأن الأكثر استفزازًا للتفكير هو أننا لا نفكر بعد:
(2)“Das Bedenklichste in unserer bedenklichen Zeit ist, dass wir noch nicht denken”
التفكير بهذا المعنى هو عناية (die Sorge = care): هو أن تعنينا ذواتنا. وكلمة “التعلم” في عبارة “ما لم نتعلم التفكير فيه بعد” تعني أن نوجه اهتمامنا إلى ما هو كائن من أجل العناية به(3). وهكذا لا تكون الموضوعات إلا بحضور ذواتٍ تُعنى بها؛ فالعناية التي تقدمها الذات لموضوعٍ هي التي تجعل من هذا الموضوع يتحرك إلى منطقة الـ “أكثر استفزازًا للتفكير”، وما أن ينتمي إلى هذه المنطقة بفضل عناية هذه الذات، حتى يعود ليمنح الذات قدرةً على تفكيرٍ من نوعٍ ما.
قد بدا لنا أن مجمل الإنتاج الواسع الذي قام به مرقص ينتمي إلى هذا النوع من العمل: دعوة ما لم نفكر به بعد إلى منطقة الـ “أكثر استفزازًا للتفكير” من طريق العناية التي تجعل منه موضوعَ تفكير، ويجعلها ذاتًا تُفكر: أي ذاتًا قابلة لأن تكون معاصرة. وربما لهذا السبب لا يبدو مرقص مُغريًا لمن يبحث عن كتابةٍ من النوع الأكاديمي الجامعي العلمي المحض؛ فـ مرقص بهذا المعنى هايدغري من زاوية تبنيه للفكرة الهايدغرية بأن العلم لا يفكر (قولًا وفعلًا)(4)، لأن مسار العلم ووسائله لا تسمح له بذلك، وهذا ليس نقيصة في العلم بذاته، بل ميزة العلم أنه لا يفكر، مع أنه مهمٌ للتفكير. ومع أن هذه الفكرة هايدغرية بالأصل، ومع أن إلياس لم يبدُ أنه التقى مع كتابات هايدغر، بل ظل ينقد بقوة من تأثر به في تلك الفترة مثل ألتوسير وليفي شتراوس، إلا أن هذه الفكرة كانت دائمًا فكرةً محوريةً عنده: مثلًا نقد ستالين بالاستناد إلى هذه الفكرة، وقال إنه “أعلى من شأن المعرفة وحط من شأن الفكر”، وكانت هذه الفكرة من مجمل الاتهامات التي وجها إلى ألتوسير أيضًا، واستخدمها ضد معاصرين له من العرب مثل محمد عابد الجابري، وصادق جلال العظم. يقول عنهم بصورة اتهام: “هم وأمثالهم مغرمون بالمعرفة والعلم والعقل” و”العلم لا يفكر” هو المعنى العميق لمقولة إلياس في هذا السياق: “أنا أريد الفكر”(5).
لذلك تنظر هذه الدراسة إلى هايدغر بوصفه ضرورة منهجية في هذا البحث؛ فهو بالنسبة إلى ألتوسير في نقده لـ ماركس، وتحديدًا في موضوع الإنسانوية، كان حدثًا جللًا يرقى ليكون بداية عصر فلسفةٍ جديد، مثل ما كان نيتشه بالنسبة إلى هايدغر. ولكن لا يبدو أن مرقص اقتنع بذلك، وفي الحقيقة لا ندري إن كان قد قرأ هايدغر أصلًا، فنحن لم نجد أي إشارة أو اقتباس أو أي ذكر لاسم هايدغر في كتابات مرقص التي استطعنا الاطلاع عليها، ولكننا وجدنا فكر هايدغر حاضرًا في كتابات مرقص، وكثيرًا من مصطلحاته حاضرة بقوة.(6)

الحدث الجلل والـ “نحن” المرقصيَّة
نعيد صوغ الفكرة المحورية في ما سبق من تقديمٍ واستشكال: يحيل مفهوم العصر على التفكير، والفكر، وهذان يسببان نوعًا إيجابيًا من المعاناة (أو نفترض أنه إيجابي)، ومن هذا النوع الإنساني من المعاناة تنطلق الذوات إلى الكونية؛ فالكونية، في أحد أكثر معانيها أهميةً، هي حضورٌ دائم لفكرة الإنسانية. ثم يدعو هذا الانطلاق الكوني الذواتَ إلى إعادةِ فهم نفسها، وإعطاء معنى جديدٍ لوجودها. يعني ذلك أيضًا أن الفكر يحيل على الحضور الدائم للإنسانية من طريق المعاصرة، وكأن العصرَ وسيطٌ بين التفكير والإنسان. وبهذا المعنى تكون المعاصَرة مُعرَّضةً للذاتية دائمًا، ومن ثم يصير الحديث عن مفهوم العصر عند إلياس مرقص حديثًا موضوعيًا عن ذات إلياس مرقص التي عبر عنها موضوعيًا من خلال مجمل أعماله، وهذا التداخل بين الذات والموضوع له أهمية كبيرة، وهذا الذي يجعل سؤال هذه الدراسة مُمكنًا: ما هو مفهوم العصر؟ وما هو مفهوم العصر عند إلياس مرقص؟ يجعل إلياس هذه المهمة أسهل؛ لأنه ممن يعتقدون بالوحدة الجدلية بين الذات والموضوع، وأيضًا يمكن أن نقول إن قابلية المعاصرة للذاتية، تعني أيضًا في وجهٍ من وجوهها قابليتها للتذاوت Intersubjectivity: وهو في حالتنا سيكون ذلك التذواتُ المُتأخر بين المُفكِّر والمُفكَّر فيه.
بطبيعة الحال، وضعية المعاصرة في مهب الذاتية ليست مسألة جديدة، منذ كانط في أقل التقديرات، والذي رأى أن الإنسان لا يصير كونيًا إلا إذا أصبح ذاتًا محضة، وكثيرون عبَّروا عن أنهم أكثر معاصرةً من “معاصريهم”، مثل بودلير Charles Baudelaire: “المعاصر هو المعاصر لي”، وكثير من الإشارات عند رولان بارت Roland Barthes مثلًا، وحتى قبلهما عند نيتشه Friedrich Nietzsche في مفهومه عن غير الواقعي؛ ولكن، ما الذي يجعل العصر نسبيًا يتغير بتغير الذات التي تسأل عنه؟ نجيب عن هذا السؤال بوساطة مفهومٍ نسميه “الحدث الجلل” الذي يصير حدًا بين عصرين متتابعين، وهذا الحدث هو الذي يفصل بين عصرين بالنسبة إلى من يراه جللًا، وهذا هو الحسَّاس للذاتية وللنسبية بقدر حساسيته للأيديولوجيا أيضًا؛ فما هو جللٌ نسبيٌ وذاتيٌ وعرضةٌ للأدلجة. بهذا المعنى، يمكن أن نفهم موقف ألتوسير من الإنسانوية بأنه معاصَرة بالنسبة إليه، لأنه ممن ينتمون إلى “حدثٍ جلل” صنعه هايدغر في تاريخ الفلسفة اسمه “الإنسانوية ليست إلا ميتافيزيقا”؛ بينما لم يرَ إلياس مرقص هذا الحدث كله، وظل يدافع عن الإنسانوية بوصفها لغة العصر.
يمكن رؤية الموضوع من زاوية عبء الانتماء العربي الذي اعتنى به مرقص، وحافظ عليه في مقاربته لذاته، ومن ثم للـ”نحن”، التي تختلف بطبيعة الحال عن “نحن ألتوسير”. وعلى ذلك يمكن أن نفهم صراعه مع ألتوسير (في هذه الجزئية) اختلافًا في فهم العصر، وخلافًا في الغاية من التفكير، فحسب: ربما يمكن أن نطرح أن شعور إلياس بأهمية الإنسانوية انطلاقًا من مقاربة الـ نحن التي ينتمي إليها، منعته من الاعتراف بإنسانوية هايدغر الميتافيزيقية إلا بوصفها “تخريفًا”(7). هل يعني ذلك أن إلياس اتخذ موقفًا أيديولوجيًا؟ قد يحتاج هذا إلى تفكير، ولكن القول الذي يبدو ممكنًا عند هذا الحد هو أن إلياس اتخذ وضعيةً مغايرة من أجل المعاصرة، مثلما اتخذ ألتوسير وضعيةً مغايرة “من أجل ماركس For Marx”(8).
ظلَّ ماركس بالنسبة إلى مرقص هو الحدث الجلل، وهذا النَفَس حاضرٌ في قوله: “أنا ماركسي أرثودوكسي، أعارض وأحارب كل ما أعدّه انحرافًا عن الماركسية”(9). صحيح أنه لا يصح أن نتوقف كثيرًا عند كلمة “أرثودوكسي” ونحمّلها أكثر مما تحمل بالنظر إلى أن مرقص قد عبَّر عن ضدها مثل قوله في حوار العمر مثلًا: “ماركس عزيزٌ علي، لكن الحقيقة أعز”(10). إضافةً إلى أن الأرثودوكسية غير معنية بالعصر (بالمعنى الهايدغري للعناية) بينما كتب مرقص “الماركسية في عصرنا”، وهذا يدل أيضًا على عنايته بعصره، وبالنظرية من بوابة المعاصرة. وعلى أي حال، هذا كله لا يزيل التناقض عند مرقص بين الأرثودوكسية من جهة، والمعاصرة والحقيقة من جهةٍ أخرى، فالتناقض واضح، ولكن ينبغي لنا الانتباه إلى ضرورة الفهم الكلي لمرقص(11). إنما المهم في سياقنا هذا هو أن هذه “الأرثودوكسية” قد تبدو مهمة جدًا في تحديد “الحدث الجلل” الذي يشير إلى بداية هذا العصر الكوني عند مرقص، وهذا الحدث بطبيعة الحال هو ماركس. ولكن إذا اتفقنا، كما أسلفنا، بأن تحديد معنى المعاصرة يتألف من قسمين: تحديد الزمان، وتحديد الـ نحن؛ فإن ماركس بوصفه حدثًا جللًا بالنسبة إلى مرقص لا يكفي لتحديد العصر بالنسبة إلى الأخير، لكن ينبغي لنا أن نلقي نظرة على مفهوم الـ نحن عنده ليكتمل هذا التحديد.
وضع مرقص لكتابه “الممارسة ونظرية المعرفة” (وهو الكتاب الذي نقد فيه عملية ألتوسير ضد ماركس بصورةٍ لاذعة) مقدمةً طويلة، ومن هذه المقدمة عنوان لافت: “مفهوم الممارسة والمجادلة الراهنة مع اليسار الكاريكاتوري الفلسطيني والعربي”، تحدث مرقص تحته عن اليسار العربي والمقاومة في دلالةٍ على ما يشغله حقيقةً في نقده لـ ألتوسير (دوافعه الحقيقية خلف هذا النقد ربما)، بدأ بالتساؤل الآتي:
 “هل من داعٍ لأقول إن ممارسة شعبنا لازمتني وأنا أكتب هذه الدراسة؟ وإنني كنُت أفكر بمصر وبالسودان …إلخ، أفكر بريجي دوبري، بزيارة نيكسون للصين، بسياسة الاتحاد السوفياتي، بحوادث واحتمالات العالم؟”
قد نفهم من هذه العبارة، وخصوصًا أنها تحت عنوانٍ الزمن فيه محددٌ بـ “الراهن” (الممارسة والمجادلة الراهنة)، أن مرقص يقارب الـ نحن على مستويين متداخلين: العربي، والكوني (“شعبنا” و”احتمالات العالم”)، ولكن يمكن ملاحظة فكرة الـ نحن عند مرقص أنها تساوي فكرة العرب في مجمل كتاباته، و”نحن العرب” عنده تطغى على “نحن اليسار” و”نحن العالم”.
وأيضًا، اقتَبس مرقص تعريف ماركس وفراكلين: “الإنسان حيوان صانع أدوات” ليستخدمه حجةً ضد ألتوسير وليدحض قوله إن مفهوم الإنسان قد غاب عند ماركس(12). ولكن ألتوسير الذي صار ينتمي إلى ما بعد هايدغر، أي إلى مقاربة النزعة الإنسانية بوصفها ميتافيزيقا، لا يسأل ما هو الإنسان، ولا تهمه الإجابة أن الإنسان حيوان صانع أدوات، ولا يرضيه هذا السؤال، ولا هذه الإجابة، بل يسأل من يكون الإنسان؟ وهذا هو الفرق بين ما قبل هايدغر وما بعده. وبهذا المعنى مثلًا يقول ألتوسير في “من أجل ماركس” أن “الإنسانوية الثورية الماركسية لا يمكن إلا أن تكون إنسانوية طبقية”وأن نهاية استغلال الإنسان تعني عند ماركس نهاية استغلال الطبقة end of class exploitation. وإذا أردنا أن نكون كانطيين هنا، وقلنا إن الحكم على صحّة الكونية أو أصالتها يكون في قياس أصالة اشتقاقها من ذاتيةٍ ما، فإن لم تشتق من ذاتية ما، كانت ادعاءً من أجل السياسة ليس أكثر؛ فإننا سنقول إن فكرة الإنسان العربي في أفق القومية (من دون دولة) هي فكرة تشبه فكرة الإنسان المخلوق (بالمعنى الديني) في أفق الأمة (من دون دولة وفي ضوء الملة مثلًا)، وأن كلتا الفكرتين مضادتان للكونية. ويبدو أن مرقص أدرك ذلك، ولكنه لجأ إلى الماركسية ليقوِّلها شيئًا ما في عصر(نا): أراد منها أن تكون عتبة دخول هذه الـ “نحن” إلى “المعاصرة الثانية” التي تمليها عليه الـ “نحن” الثانية (العالمية والاحتمالات).
في الحقيقة، يبدو لنا أن مرقص سأل “ما العربي”، ولو أنه سأل “من يكون العربي” لأصبح أكثر معاصرة. الماهية تعطي، أو هي التي تمنح حقيقتها، بتعبيرات هايدغر: هي ما يقال عنها (es gibt) أي ثمة ماهية والـ “ثمة” تعطي (it gives)(13). ولكن الـ “من_هي” تأخذ أيضًا، وفي الوقت نفسه تصنع الماهية، وهذه المعادلة مدهشة؛ وتكمن المعاصرة في فهمها، وإعادة تأويلها باستمرار.
ثمة بيت شعرٍ لـ المعري مغرٍ دخوله إلى هذا الحقل من التفكير، يقول فيه:
إذا اشتاقت الخيلُ المناهلَ أعرضت عن الماءِ فاشتاقت إليها المناهلُ
نقدم لهذا البيت فهمًا كالآتي:
المنهل هنا ماهية: ثمة منهلٌ يعطي، ولكن المنهل لا يكون منهلًا من دون الخيل، فإذا أعرضت الخيل عن المناهل اشتاقت إليها شوقهًا إلى كينونتها، ولذلك إذا اشتاقت إليها تعرض عنها: يعني إذا تصورنا الوطن (عندما يكون)، فإنه بالضرورة يعطي لأنه يكون (يصير منهلًا)، ويشتاق إليه المواطنون (الخيل) عندما يُقصِّر في العطاء؛ فيصيرون وكأنهم مغتربون عنه مع أنهم يعيشون فيه، وعندها (عندما يشتاقون إليه) يغادرونه من أجل حياة أفضل (يُعرضون)، وبهذه المغادرة يشتاق إليهم الوطن شوقًا إلى ذاته، لأنه لا يصير وطنًا (منهلًا) إلا عندما ينهلون منه (يواطنون فيه ومن ثم يتواطنون). هذه فلسفة رائعة يمكن فهمها من بيت المعري، ثم يمكن أن نقول بموجبها إن فكرة الشعب في تساؤل مرقص السابق عندما قال: “هل من داعٍ لأقول إن ممارسة شعبنا لازمتني وأنا أكتب هذه الدراسة؟” بما تحيل على “الشعب العربي”، هي ماهية خيالية، يعني الوطن العربي فيها منهلٌ من دون خيل(14)، أي الشعب فيها من دون كينونة؛ فالوطن من دون مواطن لا كينونة له ولا معنى والعكس. وقد يطرح المرء استنادًا إلى ذلك أن اختلاف مرقص مع ألتوسير هو في العمق اختلاف في إجابة السؤال: كيف نعاصر؟ أو أين نعاصر؟ أو كيف نفهم العصر؟ إحدى أهم معاني هذا الكلام أن المُزامنة، أو تشارك الزمن نفسه، (مثل المُزامنة بين ألتوسير ومرقص) لا تعني المعاصرة، بل في المزامنة أكثر من طريقة للمعاصرة: في مثالنا يمكن، في إحدى صور توصيفات المعاصرة عند مرقص وألتوسير، أن نقول إنها تنبع من الهم (من محط العناية الذي يفرضه انتماء معين): فما يهم مرقص تحرري، يحيل على ما قبل سؤال الـ “كينونة”، ويسأل “ما”؛ بينما ما يهم ألتوسير هايدغري، يحيل على الكينونة، ويسأل “من”.
على أي حال، سنحاول التفصيل في مسألة هذه الدراسة أكثر فنتناول المسائل واحدةً تلو الأخرى.

الإنسانوية ميتافيزيقا: هذيان أو عصر جديد
قد يلاحظ المرء أن هايدغر صاحب طرح “الإنسانوية ميتافيزيقا” لم يكن حدثًا جللًا بالنسبة إلى البعض فحسب (15)، بل كان للبعض الآخر شيئًا يشبه الجرح النرجسي عند برنار لاهير Bernard Lahire، يعني تم التعامل معه مثل جرح كوبرنيكوس مثلًا (نحن لسنا المركز)، أو داروين (نحن قردة)، أو فرويد (نحن لا نمتلك ذواتنا). وقد نلاحظ سمة مشتركة بين عدد مِمَّن “أوَّلنا” رؤيتهم إلى هايدغر بأنها جرحٌ نرجسي (في حدود اطلاعنا)(16): السمة المشتركة هي أنهم “ماركسيون جدًا”، ومنهم مرقص(17). هربرت ماركيوزا Herbert Marcuse مثلًا الماركسي جدًا، وتلميذ هايدغر(18)، رأى استحالة المصالحة بين ماركس وهايدغر، بل إن فكرة الإنسان العيني (المهمة بالنسبة إلى مرقص أيضًا) هي بالنسبة إلى ماركيوزا بعيدة عن هايدغر. بل رأى في موضعٍ آخر أن مصطلحات هايدغر، مثل الدازين (Dasein) والكينونية (Sein)، ليست إلا “تجريدات ركيكة Bad abstracts”، وظل يعتقد أن هايدغر لم يقرأ ماركس(19). مثل هذا النقد الجذري نجده أيضًا عند جورجيو لوكاتش Gyorgy Lukacs الماركسي جدًا أيضًا، الذي رأى هايدغر “ممهدًا للفاشية pre-fascist”(20). وانتقد موقفه من الإنسانوية واصفًا إياه بالسطحي، وبطبيعة الحال عارض تفضيل هايدغر لـ هولديرلين Friedrich Holderlin على غوته Johann Geothe؛ التفضيل الذي أقامه هايدغر استنادًا إلى قناعته بأن هولديرلين قد أفلت من الإنسانوية. وأيضًا نجد مثل هذا النفس عند روجيه غارودي Roger Garaudy عندما كان ماركسيًا جدًا(21)، وكان ناطقًا رسميًا للحزب الشيوعي الفرنسي، عندما وصف هايدغر بأنه يمثل ارتباك العالم في فترة ما بين الحرب العالمية الأولى والثانية. وبطبيعة الحال قد تكون هذه المواقف الجذرية لا تحيل على أكثر من صراع ميول سياسية باسم الفلسفة: “ميول إلى النازية”(22)، وميول مناهضيه الاشتراكية، إضافةً إلى الكلام عن وجود حملات ممنهجة ضد هايدغر(23). ومع إمكان أن تكون الأمور على هذا النحو، إلا إن هايدغر ظل حدثًا كبيرًا لهؤلاء.
ونتساءل: لماذا تجاهل مرقص هايدغر، على الرغم من نقد فكرة “الإنسانوية ميتافيريقيا”، ومواجهة ألتوسير، من دون حتى التعريج ولو مرة واحدة على النص الأم لهذا النمط في التفكير وهو نص هايدغر رسالة في النزعة الإنسانية أو في الإنسانوية Über den Humanismus(24). من يقرأ مرقص ويقرأ هايدغر يمكن أن يفترض بسهولة أن مرقص قرأ هايدغر جيدًا، فآثاره حاضرة في كتابات مرقص في أكثر من موقع(25)، مع أنه في مواضع أخرى يشعر المرء أنه يستخدم هايدغر من دون أن يقرأه (مثل غياب استخدام كلمة دازين وحضور “الموجود هناك” وكأنها بديلٌ أو ترجمة، وبصورة غير عميقة).
نشير في الآتي إلى بعض هذه المواضع التي كان فيها مرقص هايدغريًا، باختصارٍ شديد، على أن نحاول العمل على هذا العنوان مستقبلًا:
أولًا: يقول مثلًا في المذهب الجدلي والمذهب الوضعي إن خلاصة ما استنتجه بصورة نهائية بعد 1965 هو أن “الكعبة هي الوجدان_ الوعي”(26). وهذه جملة عميقة يقولها بعد أن يستخدم توصيف “عدم الاهتمام” ليصف به الماركسيين والتقدميين والثوريين العرب. وكأن “عدم اهتمام” مرقص ليس إلا غياب العناية عند هايدغر. وأما الحديث عن الكعبة؛ فقد أتى في سياق الدعوة إلى تحويلها من موسكو، لكن ليس إلى القاهرة أو دمشق فلا شيء هناك ولا تفكير هناك (بالمعنى الهايدغري للتفكير)، إنما تحويلها إلى الوجدان، إلى الوعي، وهذه فكرة هايدغرية بامتياز، طوَّرتها حنا أرندت أيضًا واستخدمتها في كتابها إيخمان في القدس(27)، وصولًا إلى أن “الشر لا يفكر”(28). ثم بعد ذلك يتكلم إلياس في الكتاب نفسه عن الرعب بالطريقة نفسها التي يتكلم فيها هايدغر عن مفهوم الخطر.
ثانيًا: في المذهب الجدلي والمذهب الوضعي يتكلم عن هايدغر بوضوح من دون أن يذكره(29)، وكأن إلياس صار لوكاتش هنا، (مع فرق أن لوكاتش كان يخاطب هايدغر بوضوح) يقول: ثنائية (موجود، غير موجود) هي أول وأهم ثنائيات الأيديولوجيا (ينفي عن هذا التفكير فلسفيته) ثم يتابع: هذه الثنائية، ويترجمها إلى العربية (موجود، هناك، ثمة)، تستطيع أن تثبت الأشياء وتدحض العفاريت (في سخرية منها) ويقصد الصيغة الهايدغرية (es gibt, Da sein)(30). ويتابع في القول “إنها (أي الثنائية) لا تستطيع، بقوة عظمتها وسحرها، أن تقيم رياضيات وفيزياء وكيمياء، وعلم اقتصاد سياسي وعلم تاريخ أو علم نفس (31) .. تبدو بالفعل هذه الكلمة الأخيرة ليست إلا شرحًا لكلمة لوكاتش في نقد هايدغر: concrete (أي العياني عكس المجرد). بل إن لوكاتش يقول ذلك بتبسيط واختصار تهكمي يفهمه بطريقته:
“The thinking of being has, as Heidegger expressly emphasizes, nothing to do with science”
يعني: “التفكير في الكينونة، كما يشدد هايدغر بوضوح، ليس له أي علاقة بالعلم.(32)
ويبدو أن مرقص قد فكَّك كلمة العلم، ووضع مكانها الرياضيات والفيزياء والاقتصاد السياسي والتاريخ وإلى ما هنالك، ولكن إلى أي درجة نسي مرقص، هنا، أنه يؤمن بأن العلم لا يفكر أيضًا وبأنه قال ذلك وشدد عليه صراحةً أيضًا، بل واستخدمه سلاحًا ضد العظم والجابري وغيرهم. قد(33) يكون هذا دليلًا على أيديولجيا مرقص في هذه المقاربة وافتقاده لمنهج أو لإطارٍ نظري يخصه بالفعل. أو إذا أردنا أن ننتقم لألتوسير بطريقة إلياس نفسه يمكن أن نقول إن هذا قد يبدو “هذيان” وهي الكلمة التي وصف بها مقاربة من مقاربات ألتوسير في إحدى المرات، (ولكن لا ينبغي قول ذلك).
مع أن مرقص يدرك أن فكرة ألتوسير هي العكس، فكرته هي: تُخضِع الأيديولوجيا الذوات، وتوصفها، بقولها لهم، ونسبهم إلى، وجعلهم يميزون: ما هو موجود بنتيجة ذلك وما هو غير موجود أيضًا (هكذا نفهم ذواتنا العالم والآخر، وهكذا نكتسب هوية)(34).
لم يفعل مرقص إلا أنه عَكَس النده interpellation الأيديولوجي عند ألتوسير، وربما يكون سبب هذا العكس أن ألتوسير ينطلق من الأفراد (عصر(ه)/ الحداثة) ومرقص ينطلق من الرعايا (عصر(ه)/ امتداد الدولة السلطانية)(35).
ثالثًا: كان مرقص هايدغريًا في منهج العودة إلى الأصل اليوناني اللغوي لمفهوماتٍ كثيرة منها مثلًا مفهوم الشكل والروح وإلى ما هنالك.
لنتوقف عند هذا الحد عن علاقة إلياس بهايدغر وأصدقاء هايدغر في زمنه، على أن نعود إلى ذلك لاحقًا، في دراسة منفصلة.
لكن، ما دخل هذا كله بالعصر؟
في الحقيقة، لا نقول هذا كله لنثبت شيئًا، ولا لنطلق أي حكمٍ أو استنتاج، ولكن هذا كله لنضع أطروحة، أو لنبني الخلفية الذهنية لصوغ الأطروحة الآتية: عصر مرقص (الكوني) الذي لا يمتلكه بوصفه عربيًا، كان قد تجاوز الإنسانوية، ويبدو أن مرقص يميل إلى ذلك من ميوله إلى بعض منطق هايدغر، وميزة هايدغر أنَّه نظرية في الفلسفة كلية ومتناسقة، من الصعوبة أن تأخذ منها جزءًا وتترك الآخر، (وهي غير هايدغر في السياسة بطبيعة الحال)؛ وعصر مرقص الذي يمتلكه (الـ “عصرنا” الذي من أجله كتب الماركسية في عصرنا) وينتمي إليه بنبل العربي الحقيقي(36)، عصرٌ لا يزال في حاجة إلى الإنسانوية، وبنقد مرقص لتجاوز الإنسانوية مصلحة شخصية في صورة مُعاصرة تهم ذاته “المحل- كونية Glolocalized”(37).
هذه أطروحة تفتح بابًا للبحث: لإثباتها أو نفيها، ولكننا ندعي أننا أثبتنا أن لها ما يكفي من المسوغات المنطقية لتسويغ وجودها بين موضوعات البحث بوصفها أطروحةً متماسكة. بل من الممكن الذهاب إلى أبعد من ذلك؛ فنقول الآتي:
لو أن مرقص لم يتمسك بعبء الانتماء العربي، أو لم يتمسك بإنسان عياني عربي (يعني لو لم يكن لوكاتشيًا في هذا الموضع)، ربما انتمى إلى ألتوسير وفوكو وشتراوس مقابل غارودي ولوسيان سيف وغيرهم. وبتحفظ: ربما قرأ هايدغر بصورة أكثر عمقًا، أو ربما التفت إليه.

الماركسية في عصرنا
افترضنا سابقًا أن مرقص يعيش في عصرين، له بموجبها مسارين للـ “نحن”: كونية ينتمي إليها ولا يمتلكها، وعربية يُصرُّ على الانتماء إليها لأنه يمتلكها. فما الـ نحن التي يعنيها مثلًا في عنوان كتابه: “الماركسية في عصرنا”؟(38)
في غلاف كتاب “الماركسية في عصرنا” كتبت دار النشر الجملة الآتية:
“إنه حلقة من سلسة كتب السياسة والمجتمع التي تقدمها دار الطليعة للإنسان العربي. اقرأه! فواجبك كعربي أن تلم بما فيه”.
وقد تساعد هذه الجملة في تكوين انطباع عن طبيعة وسمات الجو الفكري الذي يكتب مرقص فيه/ إليه. في هذه الجملة معنى مضمر يفيد أن كاتب الجملة، عربي أكثر من غيره، وصولًا إلى درجة العروبة التي يعدُّ نفسه عندها مؤهَّلًا لتحديد واجب للعربي؛ فواجب العربي (أي عربي) أن يقرأ هذه السلسلة بالتحديد! يمكن، بأسلوب إلياس مرقص، أن أشدد على الكلمات التي وردت في هذه الجملة كلها تقريبًا: “الإنسان”، و”العربي”، و”واجبك” و”أن تلم”. هذا منطق غريب لمفهوم الإنسان، ومفهوم العربي، ومفهوم الواجب، ومفهوم الإلمام. إضافةً إلى أن هذا التحديد للواجب بصيغة الأمر الإلهية الاستعلائية (اقرأ)، تجعل المرء يميل إلى قول إن إشارة التعجب التي وُضعَت بعد فعل الأمر “اقرأه” هي الأكثر منطقية في هذه الجملة (إن لم تكن الوحيدة). قد تكون هذه الجملة عينة من طريقة تفكير الـ “نحن المُرقصية” التي يعود عليها الضمير “ـنا” في كلمة “عصرنا”، وهذا افتراض لا ينفيه سياق الكتاب وأفكاره.
في آخر مقدمة هذا الكتاب نفسه، كتب مرقص جملة كثيفة في معانيها ودلالاتها، وكأنه يضع دوافعه لهذه الدراسة كلها، كتب الآتي:
“ليس المطلوب اليوم تبنّي الماركسية قولًا وصراخًا، بل فهمها وتمثلها، تمثل جوهرها الحي، المتحرر من القيود والقشور.
إن هذه الدراسة محاولة إسهام في تحقيق هذه المهمة، أما نقد “الفكر القومي” فسوف يكون موضوع دراسةٍ أخرى.”
تفيد كلمة “اليوم” في بداية الجملة راهنيةَ التوصيف في حينه، وكانت هذه الجملة، في ذاك الراهن، جملةً صحيحةً في نظر كاتبها: أي وكأنها تدلنا، في يومنا، على طبيعة راهنه (راهن مرقص): وكأنه يقول إن الماركسية، في يومه ذاك، قولٌ وصراخ، في ما كان ينبغي لنا فهمها وتمثل جوهرها الحي، وإن هذا الجوهر متحرر من القيود والقشور التي يفرضها القول والصراخ. يعني أن مرقص يأتي بمسألتين مهمتين هنا: المسألة الأولى أنه يحاول أن يبني ماركسية معاصرة، من ثم يكون هو نفسه معاصرًا، من خلال نقد الراهن، وهذه فكرة لا يمكن للمرء أمامها إلا أن يقول إنها فكرةٌ خلاَّقة. والمسألة الثانية هي أنه استخدم الـ”نا” استخدامًا كونيًا، عندما قال: الماركسية في عصرنا، وهذه في العمق فكرة رائعة أيضًا، لأنه بهذه المحاولة كأنه يقول لنا إنه يريد ماركسية تصنع له الـ”نا”: بكلمة أخرى مكثفة ولكن بسيطة: الماركسية في العصر الذي نمتلكه نحن (أي أن نكون ماركسيين معاصرين)، تعني جوهرًا حيًا متحررًا. أي إن ما يفعله مرقص هنا في العمق هو دعوة إلى إنتاج الـ”نحن” بموجب العصر، وليس العكس. ولأن الـ أنا عند مرقص كانت كونية؛ يمكن قول إنه كان يدعو الـ”نحن” إلى أن تكون على صورة فردانيته (الماركسية جزء من فرديته). وربما يكون هذا واحدًا من أسباب قلَّة عدد قُرائه: فالتفرد تهمة تستوجب “الاستعاذة بالله” في هذه الثقافة: ثقافة “واجبك كـ عربي أن تقرأه”.
صار ممكنًا القول إن محاولةَ مرقص القول إن عصرًا راهنًا ملكٌ لجماعةٍ يُمكِّنها من إضافة الضمير (نا) إليه (عصرنا)، محاولةٌ تعني إعادة إنتاج هذه الـ نا لتصير معاصِرة بمعنى أن تنتمي إلى الإنسانية كلها، وتعني أيضًا صعوبة المعاصَرة من دون استجابة الـ نا لهذه الدعوة. الدعوة إلى العصر بوصفها دعوة إلى الكونية، هي أيضًا دعوة إلى الـ نحن لتقوم على الاختلاف. ومرةً أخرى لا يستطيع المرء مقاومة هايدغرية هذه الفكرة، يقول هايدغر: إن إفراغ الكلام من ثرائه، ينجم منه مخاطرة بكينونة الإنسان. بلغة مرقص القول والصراخ (= إفراغ الكلام من محتواه) يعيق الـ نحن بوصفها معاصِرة: أي يعيق تكونها في الزمان: أي مخاطرة بكينونة الإنسان.

المعاصر والواقعي: تفلسف على عتبة مرقص
قد يكون كتاب مرقص “المذهب الجدلي والمذهب الوضعي” الذي نشر بعد وفاته (في عام 1991) مصدرًا مهمًا لفهم فكرة العصر بصورة جديدة تعكس نمطًا أوضح في مقاربته لهذا المفهوم. ليس لأنه يولي أهمية للزمان في هذا الكتاب فحسب، لكن أيضًا لأن منهجه يحيل على طريقة التفكير في الحقيقة، ومن ثم في الـ أنا، والـ نحن، في الزمان، ومن منظور تغير الفكر وحركية مركزية الأفكار بتغير الزمان. لم نتمكن من معرفة متى كتب مرقص هذا الكتاب على وجه التحديد، وخصوصًا أنه كان يكتب أكثر مما ينشر، ولكن يبدو أنه في حينها صار أكثر درايةً بالفلسفة الألمانية مقارنة بما كان عندما كتب “عملية ألتوسير ضد ماركس” و”الماركسية في عصرنا”، وبدأ ينجز تعددية أكثر في مصادر فلسفته التي كان يطغى عليها الطابع الفرنسي أكثر. بل يمكن المجازفة بالقول إنه في هذا الكتاب صار هايدغريًا أكثر على مستوى التفكير وبناء الأسئلة، وصار ألمانيًا أكثر على مستوى الطريقة.
في هذا الكتاب، يبدو “الراهن” في نظر مرقص نوعًا من التغير المنهجي من الوضعي إلى الجدلي، ويقدِّم حدود هذا التغير بوصفها طريقة التفكير التي يجب عليها أن تحوِّل “السائد” إلى “معاصر”. الراهن عنده هو الجدل لا الوضعية، من ثم الديمقراطية لا الليبرالية، يقول:
(40)من أجل هذه القضية(39) التي هي تاريخنا الأخير والراهن، على المفكر أن ينتقل بوعي من عنصر وضعانيته الفلسفية إلى عنصر الجدل”
الراهن بهذا المعنى صار مفهومًا لا يرتبط بالزمن فحسب، بل بالجدلية على حساب الوضعية، وعليه، وعند هذا الحد، صار ممكنًا التمييز بين السائد والراهن والمعاصر، فمن الممكن تحديد كلمة السائد استنادًا إلى كتاب مرقص “نقد الفكر القومي السائد” بوصفها تساوي معنى المُزامن، والراهن هو الجدل، أو قل هو المقاربة الجدلية للواقع؛ فما هو المعاصِر؟
يرى مرقص أن هَمّ أوغست كونت، بوصفه مرجع الوضعية الأكثر أهمية، كان “إنهاء العصر الثوري”، (أي عصر الثورة الفرنسية وما تلاها) ولكن لأنه لم يرتقِ إلى الجدل، بدا وكأنه شكلٌ من أشكال التبشير الجديد. وكأن عنوان كتاب كونت الذي يمكن للمرء التوقف عنده منهجيًا (الكاتيشيسم الإيجابي: (41)The Catechism of positive religion) لم يخرج عن فكرة التبشير. ورأى مرقص أن هذا مدخل لمخاطبة الإنسان العادي بلغةٍ يفهمها، الأمر الذي يعني في العمق ما يمكن أن نسميه “تعلم لغة الـ نحن”؛ فالإنسان العادي هو مادة الـ نحن الأولية. وبطبيعة الحال يضع مرقص هنا فكرة العادي مقابل فكرة النخبة، وهذا موضوع قابل للنقد بشدة أيضًا (اليوم)(42)، ولكن ما يبدو أكثر أهمية في السياق هو أن مقاربة مرقص لما يسميه “عصر كونت” تضمنت إدراكًا بأن العصر هو الـ نحن في الزمان (زماننا). يقول واصفًا عصر كونت وفكرة الكاتيشيسم الإيجابي:
“الزمن كان عصرًا عظيمًا، وجماهيريًا، الفكر يريد مخاطبة جمهور البشر”
هنا فكرة نوعية في مقاربة مرقص للعصر، فالعصر هو الزمان متضمنًا الخطاب السائد (أي المُزامن). الكلمتان المفتاحيتان هما الزمان والخطاب، ويبدو أن الجدلية التي بينهما هي في العمق المعنى الأكثر دقة لمفهوم العصر. الزمان والخطاب كلاهما يرتبطان بالـ نحن جدليًا: يكوِّنانها وتكونهما.
نترك الزمان والخطاب لبرهةٍ لنختم بهما، ونقف وقفة مهمة عند منزلة مفهوم الواقع بين مفهومات السائد والراهن والمعاصر، وقد يمكن أن نقول إن مرقص يميل بحرفة الفنان إلى بناء الواقع على راهنيةٍ من نوعٍ ما، مرتبطة بموضوعٍ محددٍ بوساطة ذاتٍ تحيل على الـ نحن. لبسطٍ أكثر لما يعنيه ذلك نتأمل في مقاربة مرقص الآتية:
(43)“نحن نبني واقعية الأمة على راهنية قضية الوحدة العربية المرتبطة براهنية التجزؤ العربي”
ونقرأ هذه المقاربة المدهشة كالآتي: أولًا أن الواقعي يُبنى: لا يُعطى ولا يكون جاهزًا، وثانيًا أنه يبنى على راهنية مرتبطة بموضوع الواقع، ولكن من الذي يحدد موضوعات الواقع؟ إنها الذات (الـ نحن) وكلما كانت الذات معاصرة كانت موضوعاتها معاصرة، فيصير ربط الواقع بالراهن هو معاصرة في واحدة من أهم صورها. وعليه يمكن أن نقول إن الواقع هو مجموعة موضوعاته التي تجد لنفسها ارتباطًا راهنيًا. وفي هذا السياق تحديدًا يمكن أن نفهم مقولة مرقص في حوار العمر:
“عندما تصبح الأمة العربية مليوني أنا وأنا أفكر تكون قضية الوحدة العربية قد خطت خطوتها الأولى”.
التفكير لا يعني هنا إلا بناء راهنية تمهد لواقعية الوحدة، وعلى أي حال يمكن للمرء اليوم أن يتفق مع مقاربة إلياس منهجيًا، ولكن بالضرورة لن نتفق مع استنتاجه (الآن) فالـ أنا العربي الذي يفكر ينفي واقعية الوحدة أكثر مما يقترب منها. وفي هذا السياق، وفي كل الأحوال، يظل سؤال هايدغر “ما الذي يسمى تفكيرًا” سؤالًا ملحًا ومعاصرًا. لا يبدو لنا أن التفكير المعاصر سيوصلنا إلى واقعية الوحدة العربية، لأنه لا يتم بوصفنا عربًا أصلًا، بل بوصفنا “أيًا كان”؛ فمن لم يفكر (اليوم) بوصفه أيًا كان؛ فلن يفكر أبدًا (بتعبيرات جورج أغامبين). مفهوم التفكير ومفهوم المعاصرة متداخلان إلى درجة يصعب تمييز أحدهما عن الآخر، إنهما، كما يقول بودلير: “تقطير الأبدي من العابرTo distil the external from the transitory”.

خاتمة واستنتاج
الزمان والخطاب المرتبطان جدليًا بـ “النحن”، هما العصر عند مرقص، وهذه قراءة مُعاصِرة بموجب معنى المعاصَرة التي تتضمنه (أي أننا انطلقنا من هذه المقولة منهجيًا لنثبت صحتها معرفيًا). هنا بالتحديد متعة البحث في مفهوم المُعاصَرة: بأن نتيجة ضبطه ينبغي لها أن تكون مُعاصِرةً بموجب ذاتها، هكذا فالزمان والخطاب المرتبطان جدليًا بـ النحن هي مقاربة مُعاصِرة للمُعاصَرة. وهذا ما نجده في عبارة جورج أغامبين المدهشة: “المُعاصر هو الذي يعرف كيف يرى الغموض (الغامق)، هو القادر على الكتابة بتغميس قلمه في غموض الحاضر”
The contemporary is precisely the person who knows how to see this obscurity, who is able to write by dipping his pen in the obscurity of the present.
لا يعني ذلك أن المُعاصر يحوِّل الغامض إلى حاضر، ولا إلى واضح يمكن الإحساس بوضوحه، لكن يُحوِّله إلى “كتابة”: إلى كلماتٍ تمتلك معنى أو، ربما، إلى خطاب discourse له سلطة التغيير وجعل الحاضر عابرًا وانتقاليًا باستمرار. يعني أن المعاصر يكتب بالغامض، أو يُنَظِّم الغامض بقلمه، إنه إعادة تنظيمٍ مستمرٍ بالكلمات للغموض ومن ثم للغامض. وإذا أضفنا طرح أوستين المدهش في أن الكلمات قابلةٌ للتحوُّل إلى أفعال(44)، فإن المعاصرة ليست إلا تحويل الغموض إلى أفعال. والحقيقة التي تفيد بوفرة الغامض الدائمة مقابل قلة الأفعال بالنسبة إلى هذه الكثرة، هي، بتقديرنا، ما تجعل المعاصَرة دائمًا ممكنة، وهي ما تمنح الكلمة معناها الجوهري.
قد تعمل ثلاثية بودلير التي استخدمها لتوصيف الحداثة مع المعاصرة أيضًا (الانتقالي، العابر، المُحتمل The ephemeral, The fleeting, The contingent). الانتقالي والعابر فكرتان من الزمان، وأما المُحتمل فمن الذات: صارت من الذات بعد عصر الحداثة (ربما بعد كوبرنيكوس والأرض ليست ثابتة، ومن ثم كوبرنيكية ديكارت والكوجيتو). علاقة الذات بالغامض هي فحوى مشروع الحداثة، وقد نقول إنها فحوى الحدث الجلل الذي افتتح به كوبرنيكوس عصرًا جديدًا بحق يسمى عصر الحداثة؛ فيمكن أن نقرأ في تجربة كوبرنيكوس أنها تجربة العودة إلى الذات في حل الموضوع. لأن ما قام به كوبرنيكوس ليحل مشكلة التقويم، وما كان يعرف بـ “الكواكب المتحيرة Wandering stars”، هو أنه انطلق من الأرض وجعلها في نظريته تدور، مدشنًا لمنهجٍ مدهش صار مع ديكارت منهج “الحواس لا تنتج علمًا” وصولًا إلى الـ “أنا أشك”. بهذا المعنى كان ديكارت صاحب منهجٍ فاتحٍ بحق، وحدثًا جللًا بنى على حدثٍ جلل سبقه هو كوبرنيكوس. لذلك لا يزالُ ديكارت ما، وكوبرنيكوس ما، يعاصراننا إلى اليوم.
اهتدى بعض المفكرين العرب إلى علاقة الـ نحن بالزمان بالإمكان (بالمُحتمل)، ومن ثم استنادًا إلى ذلك حاولوا المعاصَرة من طريق الانطلاق من الذات نقدًا وتهذيبًا وابتكارًا، ومنهم إلياس مرقص. لكن لم يكن أيٌ منهم ديكارتًا له كوبرنيكوسه الخاص. ولم يكن إلياس مرقص استثناءً في ذلك، فهو لم يرقَ إلى ديكارتٍ عربي لأنه لم يرقَ إلى حدثٍ جلل يدشن عصرًا، ولأنه لا يمتلك كوبرنيكوسًا خاصًا به؛ إلا إنه اهتدى إلى الدور المهم للعلوم مثل الرياضيات والعلوم الأخرى في ابتداع الذات بتعبيرات بودلير (To invent ourselves) (مع الحفاظ على المبدأ الهايدغري “العلم لا يفكر”)، وهذا الابتداع طريق لا بد من المرور منه إلى الحداثة، وهذه واحدة من أكثر المسائل التي تميز إلياس بحق.
ظل أن نقول إن هذا التمييز لا يتجاهل تناقضه مع الطريقة التي كان فيها إلياس ماركسيًا جدًا، نقول “جدًا” كي لا نقول “أرثوذوكسيًا” فنظلمه (مثل ما ظلم نفسه بهذا التوصيف).

المراجع:

المراجع باللغة العربية:

1– أولفسن، فريدريك. السياسية عند هايدغر: حوار مع هربرت ماكيوز، جميلة حنيفي (مترجِمة)، (د. م: مؤمنون بلا حدود للأبحاث والدراسات، 7 شباط/ فبراير 2018).

2– جباعي، جاد الكريم ، حوار العمر، أحاديث مع إلياس مرقص، (دمشق: دار حواران للطباعة والنشر، 1999).

3– مرقص، إلياس. الماركسية في عصرنا، (بيروت: دار الطليعة، 1965).

4- المذهب الجدلي والمذهب الوضعي، (د. م: د. د، 1991).

5– الممارسة ونظرية المعرفة، أو عملية ألتوسير ضد الماركسية، (دمشق: دار الحصاد، 2021).

 


المراجع باللغات الأجنبية:

1– Althusser, Louis. For Marx, Ben Brewster (tran.), (New York: Verso, 2005).

2– Arendt, Hannah. Eichmann in Jerusalem: A report on the banality of evil, (New York: Viking Press, 1963).

3– Austin, J. L. How to do things with words, J.O. Urmson & Marina Sbisa (Eds.), 2nd edition, (Massachusetts: Harvard university press, 1975).

4– Goran, Therborn. The ideology of power and the power of ideology, (London: V illiers Publications, 1980).

5– Heidegger, Martin. Pathmarks, William McNeill (Ed.), (New York: Cambridge university press, 1998).

6  ___. What is called thinking, Fred D.Wieck & J.Glenn Gray (trans.), (New York & London: Harper & Raw Publishers, 1954).

7– Lukacs, Georg. Heidegger Redivivus 1951, First published: in Existentialismus oder Marxismus, Aufbau-Verlag, Berlin (in German), 1951.

 


هوامش:

1- راجع: تفيد الألف المشاركة، ونميز المزامنة -بمعنى مشاركة زمانٍ ما- من التزامن -بمعنى وقوع أفعالٍ في الزمن (الوقت) ذاته- قد يشاركنا زماننا من لم تتزامن واقعة وجوده مع واقعة وجودنا، وقد تتزامن واقعة وجودنا مع وجود آخر ولا يتمكن من أن يكون مزامنًا لنا، (أو لا نتمكن من أن نكون مزامنين له) وأيضًا، المزامنة لا تعني المعاصرة بالضرورة.
2-
Martin Heidegger, What is called thinking, Fred D. Wieck & J. Glenn Gray (trans.), (New York & London: Harper & Raw Publishers, 1954).
3-
 المرجع نفسه، ص3-18.
4-
 نحن لا نعرف على وجه التحديد إن كان مرقص قد أخذ هذه الفكرة من هايدغر، أم استوحاها من الفلاسفة الغربيين المتأثرين بهايدغر الذين قرأ لهم، أو اهتدى إليها منفردًا، لكننا نعرف إنها فكرة هايدغرية بالضرورة. ولهذا أهمية خاصة في التحقيب لفعل التفكير، ومن ثم هي مهمة في النظر إلى العصر من منظور التفكير. فإجابات هايدغر عن “ما الذي يسمى تفكيرًا” (was heißt denken) هي حدث بالضرورة جلل من زاوية النظر إلى العصور من زاوية التفكير. القول إن هايدغر قد دشن عصر تفكيرٍ جديد قولٌ ممكن.
5-
 جاد الكريم جباعي، حوار العمر، أحاديث مع إلياس مرقص، (دمشق: دار حواران للطباعة والنشر، 1999)، ص31.
6-
 سنفرد مساحة أوسع لبعض هذه الأفكار في سياق هذه الدراسة، وقد تكون موضوعات مستقلة للدراسة في المستقبل.
7-
 استخدم إلياس هذه الكلمة (تخريف) في توصيف ما يسميه نظرية ألتوسير “الماركسية” الجديدة، بوضع قوسين حول الماركسية، ولهذه الأقواس أهمية عند مرقص فهو يحمِّل استخدامها كثيرًا من المعاني في تحليلاته وكتاباته وترجماته. تفيد هنا الأقواس نفي صفة الماركسية عن ألتوسير أو كما قال في موقعٍ آخر عنها: إنها ستالينية من دون ماركسية. قد يلحظ قارئ مرقص الكثير من التوصيفات التي تشبه كلمة “تخريف” وهذه مسألة غير محمودة في نظرنا، لأن هذه الصفات فيها توصيف ذاتي، وفيها شيء من الاستعراضية، فضلًا عن أنها قد تحمل سمة الشعبوية. فكلنا يعرف أن ألتوسير ربما قد أخطأ في مقاربات كثيرة، وهو نفسه تراجع عن كثيرٍ مما طرحه، وهذا طبيعي في مسيرة أي مفكر وفيلسوف، إلا أن جميع من قرأ ألتوسير يعرف أن ما يسميه مرقص عمليته ضد ماركس لم تكن أبدًا تخريفًا، بل ربما ما رآه مرقص تخريفًا ليس إلا لغة عصر جديد. نقول، ربما، ولا نجزم، ولا نحاول (حتى مجرد المحاولة الدفاع عن ألتوسير) ولكن نستنكر بوضوح نوعية التوصيفات مثل “تخريف” و”تزوير”. وإن أراد القارئ أن يفكر مثل مرقص بإطلاق أحكامٍ من هذا القبيل ماذا يمكن أن يقول عن اتهام مرقص لألتوسير بمناهضة الإنسانية كلها! 

ثمة عبارة لألتوسير  قال مرقص إنها تلخص موقف ألتوسير من الإنسانوية (النزعة الإنسانية) (وهذا صحيح)، والعبارة هي بالإنكليزية كما وردت في كتاب (من أجل ماركس for Marx) كالآتي: (Theoretical antihumanism) والعبارة الأصلية بالفرنسية هي (Antihumanisme théorique)، وتعمَّد إلياس وضع هذه العبارة في صورة ترجمة عربية، توحي إشارةُ المساواة فيها بالترجمة فحسب، ليقول للقارئ العربي: “Antihumanisme théorique = مناهضة الإنسانية على صعيد النظرية”؛ فأضاف بذلك الإنسانية ومفهوم الإنسان إلى الإنسانوية التي يناهضها وكأن هذه الـ (isme) لم تعد تعنيه شيئًا في هذا الموضع! وعلى الرغم من أنه في موقعٍ آخر من ورقة بعنوان “نقد الفكر القومي السائد” يقول: حين تتحول الماركسية إلى ماركساوية، والناصرية إلى ناصروية، والمسيحية إلى مسيحاوية، والإسلام إلى إسلاموية […..] نكون قد أقمنا الوثنية. وعلى أي حال نحن لا نقول إن العملية المعاكسة التي قام بها بتحويل الإنسانوية إلى إنسانية تزوير، أو تخريف، ولا نميل إلى التفكير معه ضده لنقول إنه بهذا التحويل أقام وثنية مضادة، ولا ندعي معرفة سببه، ولكن نميل إلى التفكير في سببٍ يحيل إلى تمسك مرقص بالإنسانوية بوصفها تلائم وضعيته التي لم يتبرأ فيها الرجل من عبء انتمائه العربي، على الرغم من إمكان ذلك التبرؤ بالنسبة إلى مفكرٍ مثله، ولكن نميل إلى التفكير بأن سقوط الإنسانوية بوصفها مفهومًا ميتافيزيقيًا كما أراد ألتوسير في امتدادٍ لفكر هايدغر الذي تجاهل مرقص وجوه، قد يجرد مرقص من أسلحته التنويرية على صعيدٍ عربي قومي، أي يربك الجزء الذي يحيل على الـ نحن في مقارباته لعصره، وهذا أطروحة تحتاج إلى برهانٍ أو نفي، ولكننا ممن يعتقدون أن لها إمكان كبير لكي تُطرح بحق. 

راجع: إلياس مرقص، الممارسة ونظرية المعرفة، أو عملية ألتوسير ضد الماركسية، (دمشق: دار الحصاد، 2021) ص46، 47، 54.

8- Louis Althusser, For Marx, Ben Brewster (tran.), (New York: Verso, 2005).
9-
 الاقتباس من روقة لإلياس بعنوان: مقدمات في نقد الفكر القومي السائد.
10-
 جباعي، ص17.
11- على الرغم من صعوبة هذه المهمة بنظر الكثيرين من قرّاء مرقص (وخصوصًا الشبان منهم).
12-
 مرقص، الممارسة ونظرية المعرفة.
13-
 Martin Heidegger, Pathmarks, William McNeill (Ed.), (New York: Cambridge university press), 1998. P:254.
14
 خيلٌ من فرط اشتياقها لم تعرض فحسب، بل خاب أملها، ونقلت فكرة “الوطن العربي” من الطموح إلى النوستالجيا، لنلاحظ أن الهجرة من “الوطن” سعيًا لحياةٍ أفضل هي نتيجة الشعور بغياب مفهومه: يعني الشوق إليه بوصفه منهلًا وهذه فلسفة عميقة لفكرة الغربة. وتبدو صورة المعري في هذا البيت متقدمة فلسفيًا (بل ومعاصرة)؛ فغياب أو قصور فعل الوطن/ المنهل العياني في الفرد على مستوى مصالحه ورفاهيته واستقراره النفسي وما إلى ذلك، بفقد الفرد الشعور بوجود الوطن مع أنهم يعيشون فيه: أي يشتاقون إليه. الشوق بهذا المعنى هو نفسه يجعلهم يغادرونه إلى أمكنةٍ يكونون فيها أكثر إنسانية (وهذا هو الإعراض عن الماء: إذا اشتاقت الخيل المناهل أعرضت عن الماء)، المغادرة هنا ليست بالضرورة مغادرة المكان، بل مغادرة من العبد إلى الفرد وما أن ينجزوا هذه المغادرة، ويصيروا أفرادًا حتى يصيروا مشروع مواطنين، فيشتاق إليهم الوطن لأنه بهذا الشوق يشتاق إلى ذاته: فالمنهل لا يكون منهلًا إلا إذا نُهل منه.
15
 مثل حنا أرندت Hannah Arendt وجورج أغامبن Giogio Agamben، وألتوسير وشتراوس وفوكو وسارتر …إلخ.
16
 قد يبدو توصيف “جرح نرجسي” في هذا السياق مبالغًا فيه، إلا أننا نراه ملائمًا إذا نظرنا إليه بصورة نسبية طيلة هذه الدراسة. أي إنه شيء من الاستعارة للفكرة من دون استعارة الحقيقة ذاتها. لنقل إنه توصيف على مستوى التأويل (إن صح هذا التعبير).
17
 نقول “ماركسيون جدًا” لنتجنب استخدام “ماركسيون أرثودوكسيون”.
18– أشرف هايدغر على أطروحته في الدكتوراه، وقد عملا معًا في هامبرغ.
19
 فريدريك أولفسن، السياسية عند هايدغر: حوار مع هربرت ماكيوز، جميلة حنيفي (مترجِمة)، (د. م: مؤمنون بلا حدود للأبحاث والدراسات، 7 شباط/ فبراير 2018).
20 Georg Lukacs: Heidegger Redivivus 1951, First published: 1951 in Existentialismus oder Marxismus, pp161-183, Aufbau-Verlag, Berlin (in German).
21
 قبل أن تخف حدة ماركسيته، ويعتنق الإسلام، أو قبل أن تؤدي به حدة ماركسيته إلى الإسلام، لا أدري.
22 قد لا يصح استخدام كلمة ميول ولكنها على أي حال استُخدمت من جهة خصومه.
23 رأى هابرماس مثلًا أن فلسفة هايدغر أكبر من هذه الحملات كلها.
24
 مرجعنا في هذه الرسالة هي الترجمة الإنكليزية: Heidegger, Pathmarks, P239
25
 قد يكون هذا العنوان موضوع بحثٍ مستقل أيضًا. وبالنسبة إلينا نرى أنه مهمٌ لفهم إلياس مرقص أكثر.
26
 إلياس مرقص، المذهب الجدلي والمذهب الوضعي، (د. م: د. د، 1991)، ص77.
27
راجع: Hannah Arendt, Eichmann in Jerusalem: A report on the banality of evil, )New York: Viking Press, 1963(.
وأيضًا المرجع السابق ذكره: 1954 Heidegger, what is called thinking
28
 ربما يكون إلياس قد تأثر أيضًا، أو توصل، إلى فكرة شبيهة لذلك في ما أعطاه جاد الكريم الجباعي، مُحرر “حوار العمر”، عنوانًا لافتًا وهو “الدفاع عن الشر” ويتكلم مرقص تحت هذا العنوان في أفكار أعمق من فكرة تفاهة الشر وينظر في مسألة غياب إمكان استئصال كامل للشر، ولكن يعرج أيضًا على فكرة الوعي، ويفرق بين الوعي والعقل بطريقة (هايدغر/ أرندت) يقول: “نقول العقل ولا نقول الوعي والروح ولا نقول الذكاء والذهن والفهم ولا نقول الفكر هذه مصيبة”.
29مع أن إلياس يستنكر من يلمح إليه من دون أن يذكره.
30 يدل غياب استخدامه لكلمة دازين كما هي، على غرار ما فعلت ترجمات اللغات الأخرى، أنه ربما بالفعل حكم على هايدغر من خلال فلاسفة ماركسيين مناهضين له، وربما من لوكاتش الذي شاركه السخرية من الكينونة الهايدغرية.
31
 مرقص، المذهب الجدلي والمذهب الوضعي.
32– لوكاتش
33
 نقول “قد” لأننا لا نزال نفكر على مستوى صوغ الأطاريح، مقدمات التفكير (على العتبة).
34 Therborn Goran, The ideology of power and the power of ideology, (London: V illiers Publications, 1980).
وقد نقل إلياس هذا الكتاب إلى العربية وصدر بعنوان: أيديولوجيا السلطة وسلطة الأيديولوجيا.
35 الأيديولوجيا بحسب ألتوسير تنده الأفراد ليصيروا رعايا، ويسمي هذه العملية بـ”النده interpellation“، ولكن مرقص يترجمها بـ “الخطاب”؛ فيقول إن الأيديولوجيا تخاطب الأفراد ليصيروا رعايا. ولا نميل إلى هذه الترجمة بسبب تداخلها مع معانٍ كثيرة، لئلا تُفهم بصورة غير صحيحة. إضافةً إلى أن الخطاب discourse مفهوم آخر يأتي في سياقٍ مختلف، الأمر الذي قد يؤدي إلى أن تصير هذه الترجمة مضلِّلة أيضًا. ولسنا ممن يعتقدون أن مرقص لا يدرك ذلك، ولكن يبدو أن لديه موقفًا دفاعيًا عن الأيدولوجيا، وآخر توفيقيًا بين فكرة الأيديولوجيا وفكرة الفرد المواطن citizen. ويبقى هذا المدخل مفتوحًا للدراسة والبحث.
36
 ربما يمكن القول إنه نبل الصعلوك (بالمعنى الإيجابي للكلمة التي تحيل على الفردانية في بيئة القبيلة والحمية).
37  من مصطلح (Glolocalization) الذي نحته السوسيولوجي البريطاني رونالد روبرتسون Ronald Robertson، وتعبر عن التصالح أو التكامل بين المحلي والكوني. قد تكون هذه المقاربة مفيدة في تأسيس فكرة الحداثات المتعددةmultiple modernities على غرار صماويل أينشتات Shmuel Eisenstadte والذي لم يم يكن إسرائيليًا بتصورنا لما توجه إلى نحت مثل هكذا مصطلح. فلم تكن رغبته بحداثات متعددة إلا تعبيرًا عن الـ نا في عصره، والتي توجهه نحو إثبات إسرائيل بوصفها نموذجًا حديثًا جديدًا في العالم، وإن كانت خارج منظومة الحداثة الغربية، وهو في ذلك يشبه مرقص العربي (التشبيه هنا غير سياسي وغير أيديولوجي إنما منهجي فحسب) (وهذه أيضًا أطروحة يدفعنا إليها سلوك أينشتات وعضويته في ما يعرف بجمعية البروفسورات مثلًا التي عملت على وضع خطة لترحيل الفلسطينيين)، المهم هنا هو التشابه الذي بين أيدينا في دوافع الاستنتاج العلمي لخدمة جزء الـ نحن في مفهوم المعاصرة (إن صح التعبير بهذه الطريقة) والتشابه بين مرقص وأينشتات هنا غير سياسي وغير أيديولوجي لكن منهجي فحسب؛ (ونشدد على ذلك).
38 إلياس مرقص، الماركسية في عصرنا، (بيروت: دار الطليعة، 1965).
39 يقصد قضية الديمقراطية مفصولةً عن قضية الليبرالية.
40 مرقص، المذهب الجدلي والمذهب الوضعي، ص28.
41 الكاتيشيسم تعني تعليم الدين بصورة مبسطة مختصرة ومنهجية.
42 نعتقد أن مقابل الإنسان العادي اليوم ليس الإنسان النخبوي، لكن ما يمكن أن نسميه الإنسان المقلوب أي (الإنسان المؤدلج).
43 مرقص، نقد الفكر القومي السائد، ص10.
44انظر: J.L.Austin, How to do things with words, Edited by: J.O. Urmson & Marina Sbisa, 2nd edition (Massachusetts: Harvard university press, 1975).

مشاركة: