ملخص
فتحت الثورات والاحتجاجات التي عرفتها أغلب البلدان العربية، نوافذ معرفية جديدة على كل ما يتعلق بسياقات هذه الثورات ومساراتها. خاصة ما يتعلق بأدوار المثقف العربي ووظائفه عامة، مع التطلع نحو تجديد التساؤل والنظر في ماهية الدور المطلوب في المراحل الانتقالية لهذه الثورات، وأسباب تنوعها وتناقضها، وانكساراتها أحيانًا، وهو ما يستدعي الحرص إبستومولوجيًا ومنهجيًا على امتلاك أدوات جديدة قادرة على إحداث اختراق حقيقي في مضمار رصد الواقع المرتبك للنخبة المثقفة، والمآلات المحتملة والممكنة لتلك الأدوار. ولئن كانت الثورات والاحتجاجات التي قادها شبّان متعلمون في عام 2011 في المنطقة العربية؛ آلت بعد مخاض عسير إلى واقع سياسي مؤلم ومركب ومستعص في عدد من البلدان (ليبيا واليمن وسورية ومصر)، فإن هذه النتائج وذاك المخاض هما الكفيل بتقديم المبررات الكافية لتسليط الضوء مجددًا على الأدوار التي يتعين أن يعمل المثقف العربي على تجديدها وتطويرها. لتتلاءم ومقتضيات السياق الثوري وإفرازاته الدامية والكارثية، خصوصًا الدور النقدي التاريخي والأخلاقي. لأن المسارات المختلفة التي اتخذتها الثورات العربية، أوجبت تجديد النظر في فهم الوظائف والأدوار التي اضطلع بها المثقف العربي في سياقاتها ومآلاتها المتعددة التي أفرزت اصطفافًا جديدًا في المجال العمومي. كما كشفت عن مواقف ومسوغات غريبة وغير متوقعة، في حاجة إلى تقييم ومراجعة. ولا يخفى في هذا السياق أن تأمل التجارب الثورية، في سورية ومصر واليمن وليبيا وتونس على وجه الخصوص، يقود حتمًا إلى أسئلة مقلقة عن حجم التباين في أدوار المثقفين، وارتباطاتها بالعلاقة الملتَبَسة بين الثقافي والسياسي، وإلى زحزحة كثير من التصورات التقليدية والنمطية عنها.
مقدمة
عرفت أغلب البلدان العربية أوضاعًا وتطورات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية متباينة في الشدة والتأثير على مختلف فئات المجتمع، من الطبقة السياسية إلى النخب الأكاديمية والاتحادات إلى باقي فئات المجتمع الأخرى. ومن أبرز هذه القضايا: ظاهرة الطائفية، وأزمة العنف والإرهاب، والحراك الثوري أو ثورات الربيع العربي، وفي مقدمتهم النخب المثقفة التي من المفترض أن تكون الفئة الأكثر تأثيرًا وتأثرًا بما حدث ويحدث من تحولات. حيث فرض عليها هذا الواقع العربي الجديد التحرك من أجل التأثير، بغية المساهمة في توجيه هذه الحوادث في المسار الصحيح الذي يحقق مصالح الأوطان.
شكلت انطلاقة الثورات العربية أو ما اصطلح على تسميتها بـ”ثورات الربيع العربي” نهاية سنة 2010، منعطفًا محوريًا ولحظة تاريخية في حياة الشعوب والدول العربية على السواء. فقد أسست لمرحلة جديدة تختلف عما قبلها، على الرغم من أنها قد أثّرت سلبًا وإيجابًا في الصعيدين الداخلي والخارجي للدول العربية بأبعاد مختلفة (سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا وأمنيًا). لكن على الرغم من تداعيات هذه الحوادث إيجابًا أو سلبًا، فقد بدا الإنسان العربي مسكونًا بآلامه وآماله في الوقت نفسه. ويقف المثقف العربي في المقدمة بمواقفه ومشاركته في هذه الثورات، من حيث التأثير والتأثر. لكنّ المتأمِّل في سياقات هذه الثورات العربية، يجد نفسه أمام العديد من الأسئلة الجوهرية المتعلقة بسياقات الثورات العربية ومساراتها. تنبثق هذه الأسئلة عن دور المثقف العربي في عدد من القضايا والأزمات الراهنة. بحيث يختلف هذا الدور من حيث أهميته وشكله وطبيعته، وبحسب بيئة المثقف التي تتباين من دولة عربية إلى أخرى بسبب اختلاف طبيعة السياقات العامة بين الدول العربية. لكن في ظل الحاجة إلى تحديد الدور المطلوب من المثقف في ظل هذه السياقات، يواجه الباحث العديد من الأسئلة، أبرزها: من هو المثقف اليوم؟ وما الدور الذي يقع على عاتقه القيام به في البلدان العربية في مواجهة أصناف الطائفية والعنف والإرهاب والتفاعل مع الثورات العربية؟ ما الأدوار التي اضطلع بها المثقف العربي في السياقات والمسارات المختلفة التي اتخذتها الثورات العربية؟ هل هناك دور نقدي فعال ومنتج للمثقفين العرب عمومًا والسوريين خصوصًا خلال هذه المرحلة المفصلية؟ هل يمكن القول إن المثقف العربي لم يتمكن خلال هذه المرحلة من تجديد النظر في فهم الأدوار التي يجب أن يضطلع بها في سياقاتها ومآلاتها المتعددة التي أفرزت اصطفافًا جديدًا في المجال العمومي العربي/ الشعبي؟ من خلال هذه الأسئلة المحورية وغيرها، ركزت هذه الدراسة على القضايا التالية: المثقف والثورة، دور المثقف في الثورات العربية، المثقف السوري ومسارات الثورة السورية، الثورة السورية وانتكاسات المثقف، الثورات العربية وخطاب المؤامرة.
أولًا: المثقف والثورة
تميز تأثير المثقفين في الحياة العامة بأهمية كبرى في العصر الحديث، فبدت آراء الفلاسفة والمفكرين في المثقف تتنوع أكثر فأكثر. ركز أغلبها على مفهوم المثقف العضوي عند أنطونيو غرامشي، والقضايا والمشكلات المتعلقة بهذا المفهوم. يرى غرامشي في هذا الإطار، أن ما يحكم تعريف المثقف ليس الخصائص الجوهرية لنشاطه الذهني فحسب، بل كذلك الوظيفة الاجتماعية التي يؤديها المثقف لمجتمعه.(1) ينطلق تحليل غرامشي لمفهوم المثقف من النقد الثوري لكل فارق بين العمل الذهني واليدوي. لهذا، ميّز بين المثقف التقليدي والمثقف العضوي وبين مثقفي الشمال والجنوب. ما مكن غرامشي من إعادة النظر في مفاهيم تحولت إلى أقانيم مقدسة (مفهوم الحزب ومفهوم الهيمنة السياسية، والدولة، والمجتمع المدني). لهذا، أعاد غرامشي تشكيل خطابه الثقافي بشكل عام، وخطاب المثقف بشكل خاص من خلال الوضع الإبستمولوجي الذي أحدثه مع الفكر الميتافيزيقي. ساهمت القطيعة التي أحدثها فكر غرامشي في بروز كتابَات عدة عن المثقف ودوره في نهوض المجتمع والأمة، وقيل عنه الكثير. حيث تناولت بعض الدراسات والأبحاث موضوع النُخب المثقفة بوصفها محركًا للتاريخ. يرى الأديب الفرنسي جوليان باندا في كتابه الشهير ‘خيانة المثقفين’ أن “المثقفين طبقة صغيرة تتميز بالموهبة الاستثنائية والحس الأخلاقي الفذ، هم من يشكلون ضمير البشرية، وهم بالغو الندرة، نظرًا لما ينادون به ويدافعون عنه من قضايا الحقِّ والعدل”.(2) لذا، عدّهم في مرتبة تفوق مرتبة البشر العاديين. نظرًا لدورهم الأساس في فضح وتعرية الفساد ومناصرة الضعفاء. وإذا كان غرامشي قد عرّف المثقف انطلاقًا من أدواره التاريخية ووظيفته المجتمعية، وما يجب أن يكون عليه هذا المجتمع، فإن سارتر يرى أن “المثقف هو صاحب الموقف الملتزم والمنحاز إلى القيم والعدل والحق والنيات الحسنة، قبل أن يكون تقنيًا ومتخصصًا في أحد فروع العلم أو فنانًا”.(3) أما علي أومليل، فيوكّد على أن “المثقف هو صانع الأفكار ومروّجها، ودوره أساس في التأثير باتجاه التغيير نحو ما يراه أفضل”.(4) لهذا، فإن المثقف الحقيقي هو من يمتلك القدرة على اتخاذ مواقف شجاعة استنادًا إلى قاعدة معرفية. تمكنه من التوصل إلى أحكام قيمية ومعيارية. وإذا ما ارتبطت الثقافة بالموقف النقدي، فإن قيمتها الحقيقية تكمن في الموقف الثوري الذي يبديه المثقف حياله، ومن ثمّ ليس “شرطًا أن يكون المثقف ثوريًا يساريًا، وإنما قد يكون يمينيًا أو حتى متدينًا لكنه يدافع عن القيم السائدة ويوجه نقده إلى الممارسات التي لا يمكن التشبث بها”.(5) وبذلك، فإن المثقف “لا يمثل فقط حركة اجتماعية باطنة أو هائلة فحسب، وإنما يمثل أيضًا أسلوب حياة خاص، وهو أسلوب مزعج ومنفر في آن، كما يقوم بدور اجتماعي يتفرّد فيه صاحبه تمامًا عن سواه”.(6) وإذا كانت الثقافة (بحسب التصورات السابقة الذكر) معرفة وقيمة أخلاقية بالدرجة الأول، فإن القيمة الحقيقية للمثقف تتمثل في الموقف المبدئي والأخلاقي الذي يقفه تجاه مصير أمته والبشرية جمعاء. يقول جان بول سارتر: “إن عالِم الذرّة في المعمل وهو يجري الاختبارات المعقدة على فصل عناصر الذرّة لا يُعد مثقفًا، بل هو مجرد عالم متخصص، إلا أن هذا العالم نفسه عندما يعي الخطورة الكبيرة لاستخدام الذرّة في المجال العسكري وتأثير ذلك في حياة الإنسان والأرض، ويقرر التوقيع على عريضة ضد تطوير واستخدام الأسلحة النووية، فإنه وقتها ينتقل من مجرد عالم متخصص إلى مثقف، لأنه في هذه الحالة يخرج من كونه عارفًا إلى كونه مثقفًا. يعبّر عن ضمير الناس، بوصفه حاملًا للوعي الاجتماعي، بالتوجيه والنقد وكشف الحقائق، والتعبير الحي عن الالتزام تجاه مجتمعه، وهو لا يستكين للواقع بعيوبه كلها ومفاسده ومغرياته، بل يعمل على فهمه وتحليله وتغييره في الوقت ذاته”.(7)
كما يعد المفكر عبد الله العروي من أبرز الذين كتبوا عن المثقف من خلال تناوله أزمة الضمير التي يعيشها المثقف العربي. يرى العروي أن أزمة المثقف العربي إنما “هي انعكاس لأزمة المجتمع، على الرغم من وجود أزمة ذاتية تهم المثقف نفسه، والتي يُلهي بها ذهنه وأذهان قارئيه، ومن ثم فإن أبرز سمات المثقف العربي البؤس الذي يقوده إلى اليأس من إصلاح شؤون مجتمعه”. (8) في حين يرى زكي نجيب محمود أن المثقف “يتميز عن عامة الناس بكونه يُدرك الفوارق الدقيقة الكائنة بين ظلال الفكرة الواحدة”(9).
تكشف هذه التصورات والآراء أن الرسالة الواجب على المثقف تأديتها، هي أن يحمل هموم أمته ومجتمعه وواقعه. ومن ثم، فإن المسؤولية الواقعة على عاتقه كبيرة وخطرة، الهدف منها المساهمة في إصلاح الواقع الذي يعيشه وتغييره ومواجهته. لذلك، يمكن القول إن رسالة المثقف في زمانه هي القيام بالنبوة في مجتمعه ونقل رسالته إلى الجماهير. وهذا ما أكده محمد عابد الجابري حيال طبيعة رسالة المثقف هذه من خلال قوله: “إنهم يقولون ما يعرفون، ليقوموا بالقيادة والتوجيه في عصر صار فيه الحكم فنًا في القول، والمثقف هو الذي يلتصق بهموم وطنه وهموم الطبقات المقهورة والكادحة، إنه المثقف العضوي الذي يضع نفسه في خدمة المجتمع ويواجه تحدياته المختلفة دفاعًا عن الحق والحقيقة، ورفضًا لكل أشكال الظلم والقهر والتسلط في المجتمع”.(10) أما إدوارد سعيد فيرى أن “دور المثقف عمومًا جدلي ومتناقض، وهو أن يكشف ويوضح الصراع، وأن يقهر الصمت المفروض بالقوة والهدوء المطيع للسلطة الخفية أينما كانت وكلما كان ذلك ممكنًا”.(11) لهذا، لا يمكن للثقافة أن تساهم في نهوض المجتمع من دون أن يكون المثقف نفسه حرًا، شجاعًا ومستقلًا برأيه، يجاهر بصوته من دون خوف ومهابة، لا يرضخ للإغراءات والإملاءات، وإنما يرفض التدجين وشراء الذمم وفسادها. بناءً على ذلك، ليس كل مثقف مثقفًا، إذ “لا يكفي أن يكون المثقف باحثًا متبّحرًا في بعض ميادين العلم والمعرفة، بل لا بد أن يكون مسؤولًا منخرطًا في أتون الهموم العامة لمجتمعه، خصوصًا إذا كان هذا المجتمع يُعاني مشكلات حارقة، كما هي الحال في مجتمعاتنا العربية والإسلامية؛ وإذا كان للمثقف الغربي المعاصر الحق -كل الحق- في أن ينخرط أو ألا ينخرط في الشأن العام، لأن مجتمعه قد تجاوز مرحلة الانعطافات الحادة والأزمات الكبرى، وأصبح ينتمي إلى مجتمع قوي ومستقر نسبيًا”،(12) فإن المثقف العربي عمومًا مطالَب بأن يؤدي دوره بتحرير العقل العربي من “الأغلال والقيود التي تكبله وتنخره من الداخل، بالعمل على تغيير الأطر الفكرية التي يستند إليها”،(13) على حد تعبير محمد أركون، سواء أكانت إسلامية أم شوفينية بعثية مُستَعبِدة. إذا كان المثقف يسعى للتغيير نحو الأفضل للمجتمع ونقد الأوضاع السلبية التي فيه كإحدى مهماته، فإن الثورة هي السبيل إلى التغيير السياسي والاقتصادي، والاجتماعي في أحد تجلياتها ومضامينها. لأن المثقف الثوري مسكون برغبة التغيير والرفض لكل أدلجة جاهزة. إذ يحاول تجاوز المعطى الجامد وكشف حدود الالتباس في المفاهيم الصورية المنجزة أو المنتجة من السلطة.(14) لهذا، ينظر المثقف الثوري إلى حالة الثورة، ينضم إليها حيثما وقعت. يرتكز هذا الفعل على منطلقات ثلاث: الأول تحليلي نظري مبني على استنتاج مفاده أن واقع النظام السياسي القائم لا يسمح بالتغيير التدريجي الإصلاحي من دون ثورة. والثاني، كون الثورة على نظام الاستبداد، عبارة عن فضيلة ضد الظلم. أما الثالث، فيسعى من خلاله لتحقيق القدرة على التأثير في الثورة نفسها عند انخراطه فيها. ما يجعل المثقف الثوري يحافظ على مسافة نقدية سواء تجاه النظام أو تجاه الثورة أيضًا. كما تكون لديه الجرأة على نقد الشعب وليس مواجهة النظام فحسب. على الرغم من أن ممارسة نقد الشعب مهمّة صعبة في لحظات الثورة.(15) هكذا، تكون العلاقة وطيدة بين المثقف والثورة، على الرغم من أن دور المثقف قد لا يكون كبيرًا في بداية اندلاع الثورات، بيد أنه يكبر مع الثورة، من حيث كونه الموجّه لها حتى النهاية. لهذا، تصل الحماسة ببعض المثقفين إلى المجاهرة بقول إنه: “من دون مثقف لم تشتعل أي ثورة رئيسة في التاريخ الحديث”.(16) وفي المقابل، لم تقم أي حركة مضادة للثورة من دون المثقفين كذلك. لكن على الرغم من تواطؤ عدد من المثقفين مع الأنظمة، إلا أنه من غير الممكن إهمال ما بذلته النخب عبر عقود من النضال في الفكر والسياسة وما تراكم من ذلك. ما يعني أن النخب والمثقفين هم الذين فعّلوا الميادين على الرغم من أن لكل ثورة نخبها. لأن الثورات أكبر من أن تترك السياسيين يتدبرون أمورها.(17)
ثانيًا: دور المثقف في الثورات العربية
يقول إميل زولا: “إذا سألتني ماذا جِئتَ تفعل في هذا العالم أنا الفنان؟ سأُجيبك: أنا هنا لأعيش بصوتٍ عالٍ”.(18) ما يشير إلى أن على المثقف أن يتحلى بالشجاعة. لأنّ للمثقف واجبًا تجاه الكلمة التي هي حقيقته. فالمثقف الساكن الذي لا يهتم بالشأن العام وفق برهان غليون(19) لا يدخل ضمن فئة المثقفين، سواء أكان كبيرًا أم صغيرًا. ومن ثم لا يصبح كذلك، إلا إذا حقق الشرطين التاليين: القيام بممارسة منتظمة للتفكير في الواقع الاجتماعي والسياسي، والمشاركة الفعّالة في تغييره. أما عبد الله العروي فيرى “أن على المثقف العربي الثوري عندما يضيق نطاق العقل التعميمي في مجتمع ما، وتنقص حظوظ التأثير في الحياة الاجتماعية بالتداخل التلقائي، أن يتدّخل لتغيير مجتمعه جذريًا وواقعيًا من أجل الخروج من الخيبة”.(20)
في حين يرى هشام شرابي أن “المثقف هو الشخص الملتزم والواعي اجتماعًيا، بحيث يكون في مقدوره رؤية المجتمع والوقوف على مشكلاته وخصائصه وملامحه، وما يتبع ذلك من دور اجتماعي فاعل من المفروض أن يقوم به لتصحيح مسارات مجتمعية خاطئة.(21)
أدخلت الثورات العربية دور المثقف في سجال حول إن كان للمثقف العربي دور في انطلاقة هذه الثورات أم لا. فتعددت الآراء وكثرت الدراسات في هذا الشأن. لكن على الرغم من هذا التعدد، فقد هيمن اتجاهان متضاربان:
- الاتجاه الأول: ينفي وجود دور للمثقفين في الثورات العربية. ما جعل هذه الأخيرة تعرّي الواقع العربي المرّ الذي ترزح تحت وطأته الشعوب العربية. كما كشفت العديد من الحقائق التي أُخفيت قسرًا طوال عقود من الاستبداد، ورفعت الحجاب عن حقيقة النخب المثقفة التي فاجأتها شرارة اشتعال الثورات العربية التي لم تكن لهم مساهمة في صنعها وتوجيهها؛ بقدر ما كشفت الهوة التي تفصل النخب المثقفة عن الشعوب، وغربتها عن المجتمع الذي يفترض أن يكون محل اهتمامها ومجال نشاطها.(22) لهذا، جاءت هذه الثورات يتيمة بلا مثقفين يسهرون على التخطيط والتأطير لتحقيق التغيير المنشود منها. سواء على صعيد تغيير الأنظمة الاستبدادية، أم في الجوانب العلمية والأدبية التي تعيش انتكاسة منذ قرون أضحى فيها حاضر الشعوب العربية ومستقبلها بين أيدي غيرها، بعدما نفض العالم يده من كل ما هو عربي. فقد غاب المثقف العربي بحسب هذا الرأي عن مشهد الثورات العربية في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية. لأن أغلب المثقفين العرب نسوا رسالتهم الإنسانية، وربطوا أنفسهم بالأنظمة العربية الدكتاتورية التي رحل بعضها، وسيرحل البعض الآخر، وتترك له تركة ثقيلة ووزر الدماء التي أراقتها تلك الأنظمة في ظل تأييدهم لها طوال سنوات حكمها.(23) كما يُرجع هذا الاتجاه غياب المثقف العربي وتأثيره الفاعل في مشهد الثورات، إلى أن العديد من الدول العربية رمت الثقافة الواعية والمنصفة في مجاهيل وزوايا النسيان، وحاصرت هذه الثقافة وقمعتها واضطهدت المثقفين، وتعاملت مع المثقف بصورة غير منتجة للثقافة الحقيقية. ما ساهم في صناعة ثقافات معوقة ومشوهة غير قادرة على التغيير الحاسم، ولم تترك هامشًا صغيرًا كما في الدول المتقدمة.(24) وبذلك -بحسب هذا الاتجاه- فقد هزم الفعل التاريخي للثورات العربية خطاب المثقفين العرب، من دون أن يكون لخطابهم دور فيها.(25)
- الاتجاه الثاني: ذهب هذا الاتجاه إلى الإقرار بوجود دور مؤثر للمثقفين العرب في انطلاق الثورات العربية، وأن المثقفين العرب قدموا الكثير على الرغم من تعثرهم بالصعوبات التي لاقوها. لأن الثقافة العربية كانت ساحة للنضال العربي منذ القدم. وقد علل هذا الاتجاه ذلك بكون العديد من المثقفين قد تنبؤوا بقيام هذه الثورات ومنهم الشعراء والكتاب الذين حذروا من غضب الشعوب، ومهدوا للثورات بكتاباتهم ومقالاتهم وقصائدهم وكشفوا النقاب عن جرائم الفساد التي ترتكبها الأنظمة المستبدة. لهذا، شكلت الثقافة قطار التغيير في العالم العربي. كما أن الفعل الثوري الاحتجاجي، قد أُطِّر سياسيًا، وصارت له عناوين وشعارات يطالب بها الشبان المثقفون والواعون الذين تشربوا قيم الحرية والديمقراطية. كما ارتكز على مخزون فكري نقدي كان للمثقفين العرب الفضل في تراكمه عبر سنوات طويلة. حلموا فيها بالإصلاح والتغيير الديمقراطي، وسعوا للحرية لتكون السبيل الملائم للارتقاء بالمجتمعات والشعوب العربية.(26)
يتضح من خلال هذا السجال وتعدد الآراء، أن الاتجاه الثاني هو الأقرب للصواب حتى لا يغمط حق المثقفين الذين سعوا وعملوا لانطلاق شرارة هذه الثورات العربية. لأن كل قضية أو حدث يمر يمس حياة المجتمع والأمة، يقتضي الحال فيه أن يتحمل المثقف مسؤوليته إزاءه ويؤدي ما يحتمه عليه واجبه بوصفه مثقفًا، الأمر الذي ينطبق على ما يفترض أن يؤديه المثقف في مرحلة الثورات/ الربيع العربي من أدوار وواجبات. فقد كان المثقف العربي على وعي بمجموعة من القضايا أهمها: - العمل على الخروج من الواقع الإقصائي وحالة الاستبداد، والبيئة الحاضنة لنمط وحيد للإدارة السياسية، والتحول إلى حالة من الانفتاح وقبول الآخر والاعتراف. وذلك من خلال تعدد الآراء وتباين المواقف وحرية التعبير الفردية والجماعية، والانخراط في استنبات مرجعية سياسية جديدة مبنية على أسس ومبادئ حقوق الإنسان وثقافة التعدد وسيادة القانون والسلم المدني.(27)
- الانخراط في حركية المجتمع والالتزام الثقافي والسياسي بالقيم الكبرى التي تكمن وراء إنتاج شروط أحسن للعيش والحياة، والاعتماد على الفكر والسؤال والنقد من خلال مهارات وآليات يستثمرها مثقفون بهدف بناء وعي أفضل بالوجود.(28)
- تحمل المسؤولية والانخراط بشكل مباشر في الشأن العام وقضايا الأمة، والعمل على تصويب وتوجيه طاقات الشباب التي ساهمت في تفجير الثورات وتاهت في ما بعدها. وأن تكون مساهمة المثقف باجتراح الحلول الإبداعية التي يمكن البناء عليها، وبناء استقلال فكري متكامل الأبعاد، حتى يكون النتاج الفكري للمثقف معلمًا جديدًا للثقافة في ماضيها وحاضرها وأحد أركانها الأساسية التي تشيد مستقبلها المتناسق والمسكون بشمولية الحياة وتكامل العناصر.(29)
- يعمل المثقف العربي على بلورة الذات من جديد، ويسعى لصوغ مشروعات تمكّن من إعادة النظر والتقييم ثم البناء وفق منطلقات مختلفة. تمكن المجتمعات العربية من التوجه نحو آفاق أبعد من شروط اللحظة التاريخية وشروط الحاضر السياسي المكبلة، وضرورة ممارسة الثقافة بوصفها ضرورة حياتية، وأداء يضمن المساهمة في بناء جمالية تحريرية تفاعلية تليق بمسار يبشر بتحرير الإنسان العربي من الأوهام، وأولها وهم امتلاك الحقيقة.(30)
- كل حديث عن ربيع عربي، يرتبط بالحديث عن “ربيع للثقافة العربية”، فمن أجل إنجاح الربيع العربي لا بد من إحداث تغييرات جوهرية في الثقافة العربية التي تطغى عليها الموروثات القديمة، وأفكار ما قبل الحداثة.(31) وذلك من أجل الارتقاء بالوعي المجتمعي ومواكبة التطورات المختلفة الحاصلة على الساحة العالمية.
- يقوم المثقف العربي بدوره الريادي في تحريك المجتمع وتوجيهه إلى المسار الصحيح. وتنوير الفكر وبعث نهضة اجتماعية وثقافية وسياسية واجتماعية واقتصادية وتربوية تبشر بمستقبل عربي مزهر.(32)
- دور المثقف العربي في التأكيد على طرح مشروع مستقبلي للأمة متحررًا من قوالب الماضي وقيود الواقع، من دون التخلي عن قيم الأمة البناءة ومثلها الإنسانية، والتأكيد على الأسس المشتركة للمجتمعات العربية التي من الممكن أن تضمن وجود تكامل عربي شامل.
- الدور المؤثر للمثقف في بناء ثقافة النهضة لدى المجتمعات العربية التي استطاعت اجتياز مرحلة التخلص من الأنظمة الاستبدادية، حتى تتمكن من إحداث الإصلاحات الثقافية والاجتماعية المطلوبة، والعمل على إحداث نقلة ثقافية تعيد للفرد العربي وعيه ومسؤولياته.(33)
- مساهمة المثقف العربي في حماية الأمن الثقافي للمجتمعات العربية من خلال الحفاظ على القيم والهوية العربية في ظل تنامي تأثير ظاهرة العولمة، وأهمية الاستفادة مما تقدمه من وسائل مادية يمكن الانتفاع بها في تطوير المجتمعات من جهة، وتنوير الرأي العام بضرورة عدم الانجراف وراء ما تحمله من قيم وسلوكيات تتنافى وقيمنا العربية الأصيلة من جهة أخرى.
ثالثًا: المثقف السوري ومسارات الثورة السورية
تمتلك سورية خصائص تميزها عن كثير من دول الجوار، وتجعلها مختلفة عن جميع الدول العربية من حيث طبيعة النظام، والخصائص الجيوسياسية، والعلاقات والتحالفات الإقليمية والدولية، وخلفيتها التاريخية. حيث تعدّ سورية بلدًا مقاومًا مناهضًا للسياسات الأميركية الغربية في المنطقة، ما جعل سياستها الخارجية تحظى باحترام وتقدير كبيرين؛ فكثيرًا ما وقفت مناصِرة وداعِمة للمقاومة اللبنانية والفلسطينية، ومؤيدة لمنظمات عراقية تقاوم المشروع الأميركي. لهذا، استطاع النظام السوري تحصين نفسه خارجيًا من خلال شبكة من العلاقات الوثيقة التي تربطه مع قوى مؤثرة جدًا مثل روسيا والصين وإيران وحزب الله، وداخليًا من خلال سحق معارضيه، وإفقار البلد سياسيًا واقتصاديًا. هذه الخصائص كلها جعلت النخب السياسية الحاكمة تعتقد أنها ستكون بمنأى كبير عن كل ما عرفته الدول العربية الأخرى من ثورات. لكن ما حدث على أرض الواقع، كان مغايرًا جدًا. فقد شهدت الأرض السورية ثورة شعبية بدأت بتظاهرات انطلقت ضد القمع والفساد وكبت الحريات. حيث قام بعض الناشطين من المعارضة بدعوات على وسائل الاتصال الحديثة، وصفحات التواصل الاجتماعي وذلك في تحد غير مسبوق لنظام بشار الأسد، متأثرين بموجة الثورات العربية التي اندلعت في بعض بلدان الوطن العربي. إلا أن الجيش السوري واجه الاحتجاجات بعمليات عسكرية واسعة؛ وفي الوقت نفسه، كان للنخبة المثقفة دورها في الثورة السورية، حيث لم يقتصر دور المثقف السوري على السير في ركب الثورة، بل كان له دور بارز فيها، إن لم يكن له الدور الأبرز في التنظير للثورة، فقد ظهرت قبيل الثورة معالم الصدام العنيف الذي حدث بين المثقفين الثوريين في سورية، والذين وجهوا النقد للنخب السياسية الحاكمة، ونادوا بضرورة إصلاح المنظومة السياسية في الدولة. كما طالبوا بالعدالة والكرامة والحرية، وذلك من خلال العديد من الكتابات والمؤلفات والأعمال الأدبية والفنية. لكن كثيرا ما رد النظام الحاكم في سورية على أعمال المثقفين بالعنف، فحاربهم بطرق شتى. وذلك من خلال النفي والإبعاد والاعتقال والمحاصرة إلى القتل في أحيان كثيرة. لهذا، لم يكتف المثقف السوري بالتنظير لاندلاع ثورة شعبية ضد النظام السياسي فحسب، بل كان له منذ انطلاقتها دور كبير في قيادة التشكيلات المعارضة التي ظهرت على الساحة. حيث أعلنت الكثير من النخب المثقفة انحيازها التام إلى صفوف الحراك الثوري ودعمها لمطالب الثوار المشروعة والمتمثلة في الحرية والكرامة وبناء الدولة الديمقراطية. كما أن رفض القمع وإدانة استخدام القوة العسكرية ضد المتظاهرين، كان فاتحة لتحرك جزء آخر من المثقفين السوريين. وقد شهدت البدايات الأولى للثورة السورية مع تطور الحوادث، عددًا من اللقاءات والاجتماعات دعا إليها مثقفون سوريون لتغليب لغة العقل والحوار، ونبذ العنف وتعزيز روح التضامن والوحدة الوطنية. تزامنت مع إصدار بعض البيانات والرسائل والعهود الوطنية، حملت أسماء أدباء وشعراء وفنانين من مختلف المدن السورية.(34) لكن تكمن أهم أسباب عدم تمكن المثقفين السوريين الإجماع على قيم وطنية مشتركة، تكون بمنزلة خريطة طريق للمرحلة الانتقالية، هي القطيعة الكبيرة التي حدثت بين قطبي الثقافة السورية التي انقسمت إلى اتجاهات عدة حيال الثورة السورية. يمكن تصنيف المثقفين السوريين وعلاقتهم بالثورة إلى خمسة أنماط:
- مناصرو الثورة: ظهر هذا الصنف من المثقفين الذين أيدوا الثورة منذ بدايتها، وشاركوا فيها بطرائق سلمية مختلفة. رافقوا الثورة من خلال المشاركة في التظاهرات والاعتصامات، ناهيك عن القيام بالتحليل الفكري والسياسي لأهدافها والآفاق المتاحة أمامها، والنقد المستمر لأوضاعها التي أخذت تزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم. دفعهم إلى ذلك حَماسة كبيرة وإيمان مطلق بأهداف الثورة، وقدرتها على إحداث التحولات الكبرى المرجوة. أُلِّف هذا الصنف من المثقفين المناصرين للثورة بشكل أساس من جيل مختلف من المثقفين والناشطين الشبان الذين يجمعون بين الجانب الثقافي والجانب السياسي المباشر، وبين الكتابة الفكرية والاشتراك في الحراك الشعبي، مثلما يقومون بنشاط إعلامي وثقافي شعبي بوساطة وسائل التواصل الاجتماعي. ولا سيّما بعد أن سمح النظام بدخول الفيسبوك على شبكة الإنترنت السورية بعد أشهر قليلة من اندلاع الثورة. يقوم هذا الصنف بتكوين فهم عام بالثورة، وكيفية تحقيق أهدافها، والأولويات التي يجب أن يُرَكَّز عليها. لهذا، كان هذا الصنف أكثر حماسةً للثورة ومشاركةً فيها، تجلى في عدد كبير من القائمين على “لجان التنسيق المحلية” وكذا جماعة “الأمانة العامة لإعلان دمشق”، وأعضاء “لجان إحياء المجتمع المدني”، و”إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي”، و”الهيئة العامة للثورة السورية”، والقائمين على منتديات ربيع دمشق التي ظهرت بعيد توريث السلطة عام 2000، إضافة إلى عدد كبير من المثقفين والناشطين والمحامين وإعلاميي وسائل التواصل الاجتماعي، وعدد أقل من الفنانين والصحافيين والجامعيين والقضاة.
- الإصلاحيون المؤيدون للثورة: يعود الفرق بين هذا الصنف والصنف السابق إلى أن الثاني مؤيد للثورة ولكن بشروط، خلافًا للفئة السابقة التي لا تضع أي شرط. يقف الإصلاحيون مع الثورة ويدعمونها ويقفون إلى جانبها ويوجهون نقدًا منظمًا للنظام وسياساته، غير أنهم يطلبون أن تسير الثورة في مسار محدد. ولذلك يسحبون تأييدهم من الثورة إذا سارت في طريق غير الذي يريدونه لها، وكأنه يمكن التحكم في الثورات بعد اندلاعها. تحددت المواقف الأساسية لهذا الصنف بالتمسك المبدئي والمطلق بسلمية الثورة، والتأكيد على أن النظام هو السبب الرئيس في ظهور الحركات الإسلامية المتشددة، والفكر المتطرف عمومًا. لأن النظام وممارساته، قبل الثورة وبعدها، هو المحرك الفاعل في تأجيج التطرف الذي لم يعرف طريقًا في سورية قبل سبعينيات القرن الماضي بحسب حسين العودات الذي يرى أن “الأنظمة الشمولية والدكتاتورية وأنظمة القمع هي المسبب الحقيقي للإرهاب وتطوره وانتشاره في مختلف البلدان العربية”.(35) لذلك، فإن المواجهات التي شهدتها السنة الثالثة من الثورة السورية بين الفصائل المسلحة والنظام، هي مواجهة ليس للشعب السوري أي مصلحة فيها، فالأولوية لدى السوريين ليست في الدخول في حرب طاحنة هو غريب عنها، بل في التغيير والعدالة، وتمكنه من بناء دولة المؤسسات؛ فوجد المواطن السوري نفسه غريبًا في هذا الصراع. لهذا، فإن هذه الفئة أقل التصاقًا بالحراك الشعبي من النمط السابق.
- الإصلاحيون الرافضون للثورة فكريًا وثقافيًا: تجلى ذلك في موقف بعض المثقفين والتيارات السياسية الإصلاحية الذين يتفقون مع أهداف الثورة في الوصول إلى مجتمع الحرية والعدالة والكرامة، كما يوكّدون على أن السلطة وصلت إلى درجة غير مسبوقة من الظلم والفساد، وأنه لا بديل عن التغيير، غير أنهم يعتقدون أن الثورة قد لا تكون هي السبيل الأفضل للتغيير. لذلك لديهم تحفظات كثيرة على أسلوب عمل الثوار وطريقة إدارتهم للثورة. كما يذهبون إلى أن على الثورة اتباع طريقة الإصلاح السلمية واتباع طرائق متدرجة في المعارضة، حتى ولو لم يلقَ نهج الإصلاح أي استجابة من النظام الحاكم. يتشكل هذا الصنف في أغلبهم من نموذج المثقف التقليدي. ذلك أن أصحاب هذا الموقف، وعلى الرغم من توجيههم النقد للسلطة، وتأكيدهم أنها ألحقت الظلم بالناس، إلا أنه موقف يشكك في الثورة، ويرفضها بطرائق غير مباشرة. ما يجعل من كتابات هذه الفئة (المعارضة للنظام) تستهدف بالنقد الثورة والثوار أكثر بكثير مما تستهدف النظام والسلطة.
- الحياديون: يتلخص موقف هذا الصنف في عدم اتخاذ موقف واضح من الثورة، واللجوء إلى موقف الـ “لا أدري”. وحجتهم في ذلك أنهم بعيدون عن السياسة، أو متفرغون للبحث المعرفي، أو عدم وضوح الرؤية بالنسبة إليهم، أو أن النظام القائم لم يضرهم في شيء بشكل مباشر. يندرج ضمن هذه الفئة ما يسمى بـ “المثقفين الأداتيين”، وهم جيل من المتخصصين الذين تنحصر اهتماماتهم وبحوثهم وفاعليتهم في تخصصهم الدقيق، بعيدًا عن أي انتباه للمجال السياسي والاجتماعي العام للمجتمع. تتكون أغلبية هذه الفئة من الموظفين عند الحكومة، والمغتربين الذين يعيشون خارج سورية، وعدد كبير من الكتاب والشعراء والفنانين. 5. المعارضون: يستند تصور هؤلاء إلى ما صارت إليه أحوال البلاد، وإلى الإرباك والتوترات التي تعاني منها دول الثورات العربية الأخرى، من أجل الطعن بمشروعية الثورة، وبأنها جالبة للاضطرابات والفوضى للبلاد.(36)
رابعًا: الثورة السورية وانتكاسات المثقف
- الثورة السورية وصورة المثقف
فنّدت الصور المتعدّدة التي اتخذها المثقفون السوريون أمام التحوّل التاريخي الكبير الذي مثلته ثورة عام 2011، عدم تحمل المثقف السوري مسؤوليته أمام تراجع الوجه المدني والديمقراطي للثورة. فعلى الرغم من أن المثقف السوري لم يقد الثورة، أو يصنعها، غير أنه صاحبها. وإن انزوى القلة القليلة من المثقفين السوريين في الظل والصمت. في حين فضلت قلة قليلة أخرى الاستمرار في مهنتها التي اعتادت عليها في خدمة السلطات. ومن جهة أخرى، سقط في الميدان كثير من المثقفين، أو اختفوا في ظلمة السجون، أو اضطروا لرحلة التهجير على طريق التغريبة السورية الكبرى. لهذا، شكلت الثورات العربية، اختيارًا قاسيًا للمثقفين السوريين في إحدى تجلياتها. كما شكلت انكشافًا قيميًا، وأزمة كشفت زيف الادعاء الثقافي في بعض جوانبه. فظهر ما يمكن تسميته أزمة أو انتكاسات المثقف السوري التي تمثلت بحالة من الانكشاف الموقفي والقيمي والثقافي.(37) كما عرّت الكثير من منتمي الفئة المثقفة ورموزها حينما أظهرت هذه الأزمة تناقضاتهم مع أيسر المسلّمات الابستمولوجية الأيديولوجية، وادعاءاتهم بالتمسك بشعار السعي لترسيخ قيم العصر الثقافية كالحريات العامة وحقوق الإنسان والديمقراطية.(38) خاصة أن نجاح ثورات بعض الأقطار العربية الأخرى (التونسية والمصرية والليبية واليمنية) في إطاحة رؤوس الأنظمة الحاكمة، وضعت المثقفين العرب أمام مقتضيات الشأن العام لمجتمعاتهم ورؤيتها كما هي، بمشكلاتها التاريخية وطموحاتها وأحلامها. حيث ظهرت تمايزات جديدة لمواقف وأنواع المثقفين. أما بالنسبة إلى الثورتين السورية والليبية اللتين اتسمتا بطابع الكفاح المسلّح، فقد ظهر إشكال أخلاقي أمام المثقف النقدي المؤيد للثورة، تجلى في نقاش فكرة الظالم والمظلوم وتداعيات الكفاح المسلح على المجتمع وبنيته، كما واجه المثقف أيضًا مشكلة نقد السلوك اليومي للمظلوم وقد حمل السلاح، وهذا أمر ضاغط نفسيًا؛ فوجد المثقف نفسه مرة أخرى أمام أزمة انحيازه للحق وانتقاده سلبيات الجماعات الثورية المسلحة، وذلك من أجل التفكير في تحديد السلبيات والإيجابيات للمسار الثوري بهدف إنجاحه.(39)
لكن أزمة المثقف تجاوزت أحيانًا التفكير في مسار الثورة، لتعرّف تحولات طالت مواقف عدد من المثقفين العرب في مرحلة ما بعد الثورات التي وصلت إلى حد التناقض في القول والفعل،(40) حيث انقلبت حال بعضهم فتحولوا من ممثلين لقيم الحرية والعدالة والتسامح، إلى أدوات أو معاول في أيدي السلطات الحاكمة الجديدة، حيث أصبحوا يسوغون عنفها وقمعها وينظرون إلى سيطرتها على المجال العام على أنه ضروري. ولعل الأمر بدا واضحًا في الحالة المصرية.(41)
شكلت مرحلة ما بعد الثورات في العالم العربي حالة فريدة إذ ترك المثقفون العرب جدليات الثورات وشعاراتها، وتحولوا إلى مربع السلطة، وهذا كان مشهدًا عامًا في ثورات العالم العربي كلها، ويعزوا البعض ذلك إلى سببين رئيسين:
أ. خيبة أمل المثقفين العرب من قدرة الثورة على حسم الخلاف مع النظام القديم، إذ أخذت الثورة في دول العالم العربي منحيين، عدا التصالح مع الأنظمة القديمة كما حدث في مصر وتونس، وإما استدامة القتال كما هو المشهد في سورية وليبيا. في الحالة الأولى، شعر المثقف العربي أنه مجبر على الانحياز لأيديولوجيته، وفي الحالة الثانية، وجد المثقف نفسه أنه جزء من النظام السياسي سواء المعارض أو نظام الحكم القديم.
ب. الخصومة مع التوجه الإسلامي الذي هيمن على المشهد العام الذي أتت به ثورات الربيع العربي. حيث طغت الأيديولوجية الإسلامية، وذلك من خلال فوز الإسلاميين في الحكم في أغلب دول الربيع العربي، أو حتى طغيان المشهد الإسلامي على حالة القتال في الثورات التي أخذت الطابع العسكري، ما دفع المثقفين العرب إلى الانحياز مرة أخرى لأيديولوجيتهم، وصعّدوا حدة الخلافات حول طبيعة النظام السياسي والاجتماعي الذي يفترض أن تبنيه الدولة العربية لما بعد الثورة. لهذا، فإن الثورات العربية التي جمعت مختلف شرائح القوى السياسية ومثقفي المجتمعات العربية على شعاراتها، من ناحية إسقاط الأنظمة السياسية الدكتاتورية، وكذلك تحقيق العدالة الاجتماعية، تحولت بعد انتهاء الثورات إلى إشكالية كبرى تواجه مختلف قوى المجتمع. وبدا ذلك واضحًا في عدم الاتفاق على المرحلة الانتقالية، وبالذات في ما يتعلق بالقضيتين المركزيتين: إدارة الدولة، وهوية الدولة. لكن يبقى للمثقف دور مهم ومطلوب من خلاله يتحمل مسؤوليته في التعامل مع ما تمر فيه المجتمعات من حوادث وقضايا، وأن يؤدي دوره المفترض مثقفًا في الاهتمام بقضايا الشأن العام مهما واجه من صعوبات وتحديات.(42)
كذلك الحال من المفترض أن ينطبق على المثقف العربي الذي يعيش في مجتمع تتوالى الحوادث عليه تباعًا، وتستمر أزماته وتتعدد قضاياه. لعل هذا ما وضع الجميع في حلقة مفرغة لا توصل إلى نتيجة تخدم المجتمع، ووضعتهم في أزمة عميقة.(43)
من هنا، فقد أدت ثورات الربيع العربي إلى بروز أزمة المثقف العربي وكشفت عن ضعف الوعي الديمقراطي لدى كثير من المثقفين والنخبة، حتى صار الدفاع عن قيم الحرية والعدالة أمرًا عارضًا ظرفيًا، وليس انحيازًا ذاتيًا مبدئيًا لدى بعضهم؛(44) يقول علي شريعتي: “عندما يحترق بيتك فإن من يدعوك إلى الصلاة خائن، وأي عمل غير إطفاء الحريق خيانة”،(45) فما الذي فعله المثقف السوري لما من شأنه إطفاء هذا الحريق الذي يبتلع الأراضي السورية وأهلها وسيادتها؟ - الثورة السورية ومثقف السلطة
أدت مجموعة من المواقف والملابسات التي صاحبت الثورة السورية إلى بروز أنماط عدة من المثقفين. فحسب مجريات وحوادث كل ثورة، فإنه ما من ثورة إلا وانقسم المثقفون حولها بين مؤيد ومعارض، بين داعٍ لها ومتحفظ عليها. وهذا ما حصل مع مختلف الثورات، بدءًا من الثورة الفرنسية 1789، مرورًا بالثورات الأوروبية 1860 والثورة الروسية 1917 والثورة الإيرانية 1979، وانتهاءً بالثورات العربية مع بداية 2011. لقد وُجدت على مدى التاريخ فئة من المثقفين ورواد الفكر، مرتبطة بالسلطة القائمة، وليس لها من وظيفة سوى تبرير سلوكيات الأنظمة وعقلنتها، وجعلها مقبولة من الناس. تتكوّن هذه الفئة بشكل خاص، من مثقفي البلاط: وهم رؤساء تحرير الجرائد والمجلات والتلفزيونات الحكومية –أو القريبة من النظام– والمحررون الرئيسون فيها. إضافةً إلى أعضاء من نقابة الصحافيين، ونقابة الفنانين في سورية، وعدد من الصحافيين اللبنانيين الذين ارتبط اسمهم بالنظام، ناهيك عن فئات واسعة من المثقفين والفنانين الذين لهم باع طويل في الدوران في فلك السلطة. يتشكلون من فئة من رجال دين مسلمين ومسيحيين، إضافة إلى المفتين في المحافظات، وأغلبية خطباء الجوامع، والقائمين على مؤسسات الأوقاف، ومقدمي البرامج الدينية، وعدد من شيوخ وأتباع الطرائق الصوفية. فقد أكد هؤلاء أن الثورة ليست سوى “مؤامرة خارجية”، والثوار مجرد “إرهابيين” أو مغرَّر بهم. لذلك أخرجوا بعض الشعارات التي تبرر وجود السلطة القائمة والتشكيك بأهداف الثورة من قبيل: إن الثورة هي ضد الأقليات، وتستهدف “محور المقاومة”، كما أنها مرتبطة بقوى استعمارية. حتى أن بعض مؤرخي الثورات يرفض إدراج هذه الفئة في فئة المثقفين القائمين بذاتهم.
خامسًا: مثقف الثورة بين خطاب المؤامرة وخطاب التخلف
- خطاب المؤامرة
تعد نظرية المؤامرة من النظريات الأكثر رواجًا في العالم العربي. حيث تهيمن عند وقوع الحوادث وحلول الأزمات، فالمواطن يعتقد أن الحكومة لا تمثله ولا تخدم مصالحه، وهو نوع من أنواع المؤامرة الداخلية، والحكومة ترجع كل فشل تسببت به سياساتها الخاطئة للمؤامرات الخارجية (الأيادي الخارجية). وحتى في الغرب يوجد من يؤمن بنظرية المؤامرة، لكن قلما نسمع كلمة مؤامرة في إعلام وسياسة الدول الغربية. إلا أن الفرق بين العرب والغرب في هذه الإطار، يكمن في كون الغرب يخطط ويعمل، مقابل الإنسان العربي الذي لا يملك مشروعًا ولا يتخذ الأسباب، وهو ما يجعله غير محصن من مخططات ومشاريع الدول الكبرى. بعبارة أخرى، الدول الكبرى لا تتآمر على الدول الضعيفة، لكنها تستثمر في الحوادث وتوجهها لمصلحتها. من هنا، فإن أصل المشكلة يكمن في ضعف الجبهة الداخلية للدولة العربية وهشاشتها. فالصين مثلًا تريد غزو الولايات المتحدة بالبضائع الرخيصة، بغية زيادة صادراتها، وهذا ما دفع بالولايات المتحدة للرد بفرض رسوم جمركية مشددة على البضائع الصينية، من أجل التغلب على العجز التجاري الذي تبلغ قيمته مليارات الدولارات، واستعادة الوظائف الأميركية المفقودة بسبب التغلغل الصيني، هذه الحرب التجارية القائمة بين الصين والولايات المتحدة، يمكن تسميتها بالمؤامرة الاقتصادية بحسب مؤيدي نظرية المؤامرة، لكنها لم تنجح في إضعاف اقتصاد أي من البلدين، لأن أميركا تخطط وتعمل وتطور، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الصين؛ ما يوكّد أن المؤامرات الخارجية لا تنجح إلا مع الدول الضعيفة ذات الجبهات الداخلية الهشة. ويشير مصطلح الجبهة الداخلية إلى القوة المدنية (الشعبية) للدولة، وإلى تماسك الشعب مع بعضه بعضًا، إضافة إلى تماسك الشعب مع قيادته (حكومته)، بسبب وعي المجتمع وارتفاع مستواه الأخلاقي والقيمي. لهذا، فالمؤامرات الخارجية لا تكون فعالة مع الدولة ذات الجبهة الداخلية القوية، وعلى النقيض من ذلك يتسبب انتشار الفساد وتدني أخلاق المجتمع في هشاشة الجبهة الداخلية للدولة، ما يجعلها عرضة للمؤامرات الداخلية والخارجية.
يميل أنصار المؤامرة في سورية إلى التشبث بهذه النظرية لتفسير جميع المشكلات والأزمات التي تحدث في المنطقة، بغية تبرئة الذات والتنصل من المسؤولية، وكأسلوب للهروب إلى الأمام بدلًا من مواجهة الحوادث والبحث في أسبابها الحقيقية. إن انتشار الفكر التآمري على مستوى عامة الشعب والنخب على حد سواء يدل على تفشي الجهل الفكري، وغياب الوعي في هذه المنطقة من العالم، يوكّد أغلب الباحثين على أنه ليس كل متعلم مثقف.(46) لهذا، فإن تشبث بعض المثقفين السوريين بنظرية المؤامرة، ينزع عنهم صفة المثقف، ولا يتجاوزون صفة المتعلم، ذلك أن هناك فرق شاسع بين الإنسان المثقف والإنسان المتعلم. يوكّد علي الوردي على “أن المتعلم هو من تعلّم أمورًا لم تخرج عن نطاق الإطار الفكري الذي اعتاد عليه، فهو لم يزد من العلم إلا ما زاد في تعصبه وضيّقَ من مجال نظره، آمن برأي من الآراء أو مذهب من المذاهب فأخد يسعى وراء المعلومات التي تؤيده في رأيه وتحرضه على الكفاح في سبيله، أما المثقف الحقيقي فيمتاز بمرونة رأيه وباستعداده لتلقي كل فكرة جديدة ليتأمل فيها ويملي وجه الصواب حيالها”.(47) وبذلك فإن “مقياس المثقف ليس بمقدار ما يمتلكه من معلومات وتعليم وعدد الشهادات، إنما يعتمد على امتلاكه المنهج العلمي والطريقة الفكرية التي تمكنه من ممارسة النقد على نفسه -نقد الذات الفكرية- وفي الوقت نفسه، تسمح له بقبول الآخر المختلف. فقبول الآخر، يستدعي بالضرورة توافر المرونة لدى المثقف والقدرة على الحوار. لأن الحقيقة نسبية ومتغيرة بتعدد البشر وأوانهم واختلاف مشاربهم.(48) وبكل الأحوال، فإن المثقف يتميز عن سواه من أهل العلم والفكر، من كتاب وأدباء وفنانين ومفكرين وعلماء، وفق علي شريعتي”(49) بسعة الأفق ووضوح الرؤية وهو ما ينطبق على المستنير أيضًا (بعيد النظر أو مستنير). بحيث لا يتصف بالتقيد والتوقف عند جانب دون آخر، بل يفكر بوضوح وسعة الأفق. لهذا، فإن “المثقف الحقيقي هو كل من له تفكير علمي نقدي. يكشف به عن المسلمات والبديهيات الزائفة السائدة في المجتمع، ويطرح الحلول ويقارب مسائل وقضايا مجتمعه باعتماد العقل والمنطق، بعيدًا عن التحيز والعواطف والقيود السائدة، ويكون صاحب نصيب واسع من المعارف والعلوم المرتبطة بالمجال الذي يقاربه. بحيث تكون غاية أفكاره الإصلاح والتصحيح والتطور والمنفعة العامة للمجتمع، يتقبّل النقد والأفكار والآراء المخالفة بصدر رحب من دون تشنُّج، وبذلك هو يختلف اختلافًا كبيرًا عن أشباه المثقفين من المتعلمين وأصحاب الشهادات المؤدلجين الذين يتعصبّون ويتحيّزون لأفكار معينة ولأيديولوجيا بذاتها بصرف النظر عن ضررها، أولئك الذين يجادلون للانتصار لتلك الأفكار والدفاع عنها وحسب، وليس الإصلاح والتطوير”.(50)
إن المثقف الحقيقي هو من يمتلك دوره الفاعل في المجتمع، ويتخذ موقف المواجهة والمجابهة لكل سلطة تقليدية ولكل المسائل والقضايا الحرجة في المجتمع. بافتراض “أن النخبة المثقفة بحكم وعيها وموضوعية التفكير ووضوح الرؤية لديها قادرة على التحليل والمحاكمة المنطقية”،(51) ما جعل المثقف السوري في حصن من أن تنطلي عليه نظرية المؤامرة وأساليب السلطة التبريرية. ومن ثم، “فإن هؤلاء، هم وحدهم القادرون على تصحيح تلك الصورة في الوعي الجماهيري، ورسم الطريق الصحيح لتحقيقها في حيز الواقع الملموس”.(52) بل المثقف الحقيقي على غرار باقي المفكرين مثل سبينوزا وفولتير، يدافع عن المعايير الأزلية للحق والعدل، بوصفها معايير هذا العالم، مقارنة بعامة الناس الذين لا يدافعون عن مثل عليا بل تسيّرهم الفائدة المادية ويأسرهم التقدّم الشخصي، فيقيمون علاقة وثيقة مع السلطة وأصحاب النفوذ السياسي. وهذا ما يفسّر سوسيولوجيًا كيف تنبثق طبقة حكّام فاسدة من شعب ينتخبهم في علاقة زبائنية. ومن ثمّ، فإن أسوأ ما يرتكبه المثقفون هو ترويض المواطن وتنظيم المشاعر الاجتماعية وتبريرها، وغسل الأدمغة.(53) لهذا، تتميز رسالة المثقف بشكل أساس بالمشاكسة والعناد، وبذلك هو أشبه ما يكون بذبابة سقراط، أو كما يقول جورج طرابيشي: “أن يوقظ الناس لا أن يُنيمَهم، وأن يَلسع لا أن يُخدِّر”، (54) وهو ما يوكّده علي الوردي أيضًا، بقوله إن “المثقف الحقيقي هو من يتصف بالشجاعة الفكرية فيقتحم التابوهات، لا يتلقى ما يسمع ولا يستظهر كل ما قرأه كالببغاء، ولا يعتمد الأفكار الجاهزة مثل العوام وجُلّ المتعلمين، بل يعتمد التمحيص والبحث والتحري، ويراعي الموضوعية والنزاهة حين التعبير عن رأيه بعيدًا عن التعصب والتحيز، يقودنا ذلك إلى أن المثقف الحقيقي حين يقرأ لا يُلغي عقله بل يَتًشرّب أفكار المؤلف مثله مثل الإسفنجة، يقرأ بتمحيص ونقد، لا يثق من دون حجج، ولا يصدق بسهولة، كي لا يقع ضحية الأدلجة والتغييب”،(55) إن مهمة المثقف “هي أن يُزعج الآخرين، وأن يوقظهم ويقضُّ مضاجعهم، وألا يدعهم يستريحون، لا أن يداعبهم أو يمتعهم بما يريحهم”.(56) لذلك، من الطبيعي أن تكون المشكلة لديهم في الآخر -كل آخر- إلى درجة أن كل ما يدور في هذا العالم غربًا أو شرقًا، إنما هو محض مؤامرة، الهدف منها الاقتصاص من تلك الأنظمة وتطويعها. لذلك لا يرى هؤلاء المثقفون سوى أن المشكلة في رئيس الحكومة وأعضائها الذين يخيبون دومًا أمل القيادة،(57) كما أن المشكلة في أعضاء مجلس الشعب الذين لا يقومون بدورهم على الوجه المطلوب، المشكلة في حجم الفساد العام الذي يَسقُط أصحابه بين فترة وأخرى من السماء، المشكلة في المؤامرة الكونية التي تحاك ضد سورية ونظامها المقاوم، لا بل المشكلة في هذا الشعب الذي لم يُقدِّر نِعَم الاستبداد وبركاته، فخرج يُطالب بمطالب غير محقة. نستطيع القول إن رسالة المثقف كبيرة، ومسؤوليته الأخلاقية تكمن أولًا وأخيرًا في الانحياز إلى ناسه وشعبه، بافتراض أن المثقفين هم “تلك الفئات التي تهّيأت لها أسباب التعبير والثقافة وأحيانًا القيادة الفكرية”.(58) ومن ثم، لا خيار آخر أمام المثقف، إلا أن ينحاز إلى الجماهير، فيتكلم بشجاعة بمواجهة انحراف السلطة وهيمنتها. - خطاب التخلف
صفة التخلف والبديل الديني والإرهاب لعب عليها مثقفو السلطة السورية طوال سنوات الأزمة، والسؤال الذي يطرح نفسه: ماذا فعل هؤلاء لانتشال المجتمع السوري من حالة التخلف التي يتحدثون عنها؟ سوى أنهم كانوا ولا يزالون الأدوات التي ساهمت في عملية التجهيل. ما الذي قاموا به بوصفهم المحرك الأساس في عملية التغيير سوى أنهم خذلوا هذا الشعب وتركوه من دون ظهر ثقافي يحميه، ما الذي فعلوه حيال ما قامت به السلطة من تبعيث (حزب البعث) المجتمع وتخريبه، من خلال سياسة التسلط والإخضاع والتبخيس التي تعرض لها؟ لم يسقط مبارك إلا بعد أن سحب المثقفون المصريون الثقة منه في الشارع. يقول علي الوردي إن “هناك صراعًا فكريًا على طول التاريخ، بين من يدعو لتبني ثقافة جديدة وينفتح على الآخر، وبين من يدعو للتمسك بثقافته وتراثه وينغلق على ذاته، هذا الصراع الفكري والثقافي لا ينتهي أبدًا. وبالتالي، فإن المجتمع الذي تسوده قوى المحافظين يتعفّن كالماء الراكد، أما المجتمع الذي تسوده قوى المجددين، فيتمرد كالطوفان ويجتاز الحدود والسدود، والمجتمع الذي يتحرك بهدوء لا يتعفن ولا يطغى”.(59) أي مهمة وأي رسالة تلك التي يحملها المثقف السوري؟ ثم أي دور وطني يقوم به؟ وللإجابة عن ذلك يمكننا القول إن مثقف السلطة يتكلم عن كل شيء، وبالمقابل يسكت عن كل شيء، فمثلما سكت عن الحلول الأمنية التي لجأت إليها السلطة لمواجهة المطالب الشعبية، سكت عن صفقات المحسوبية والفساد التي أكلت جهاز الدولة، أو عن التمييز المطبق في المؤسسة العسكرية، أو في معرض قيام السلطة بخرق نصوص الدستور، أو عند قيامها بالاعتقال خارج نطاق القانون، أو اختفاء كاتب أو مثقف أو معتقل، أو تسريح موظف عام لمجرد ميوله السياسية، يسكت أيضًا حيال ما يشهده الوطن من نزف يومي. كان سارتر يقول: “بما أنني أحيا في الحرب العالمية الثانية، فأنا مسؤول عن إشعالها”،(60) كان هؤلاء المثقفون ومعهم بعض المثقفين العرب يأتون إلى دمشق مصفقين، وخيرة مثقفيها إما مطاردون أو معتقلون، لم يكونوا شهودًا على هذا الخراب فحسب، وإنما كانوا شركاء في عملية التهديم.
خاتمة
نزل المثقف السوري شأنه شأن باقي مثقفي البلدان العربية التي عرفت ثورات الربيع العربي، إلى الشارع مطالبًا بالحرية، ومدافعًا عن حقوق المواطن السوري، من أجل تحقيق الانتقال إلى تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية. لكن القمع السلطوي وآليات اشتغال الأطراف الدولية والإقليمية التي عملت على توظيف الحراك العربي لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، وكذلك الوعي المشوه الذي وظفته السلطة السورية لمواجهة الثورة، كان له الدور الأساس في إخراج أغلب المثقفين من دائرة الفعل الجماهيري. ما أدى إلى خلق نوع من الالتباس في دور المثقف في الثورة السورية خاصة، والثورات العربية عامة. شكّل هذا التحول، بداية أفول دور المثقف السوري في الثورة، إذ لم تقف التحولات التي طالت مواقف بعض من المثقفين ورموز النخب الليبرالية واليسارية والعلمانية التي ناضلت ضد الاستبداد، عند حدود التناقض في القول والفعل، بل تحوّل بعضهم في زمن الأزمة إلى جزء من بنية السلطة التي يُعاد بناؤها، وإلى أدوات للدفاع عن السلطة نفسها. وفي الوقت ذاته، تعرّض المثقف السوري الذي تمسّك بقيمه وأهدافه ومثله العليا، إلى العديد من أنواع الضغوط والمغريات والابتزاز من السلطة، في حين تنازل البعض الآخر عن دوره المعنوي والمعرفي عندما انخرط في الحراك بشكل مباشر، وتحول إلى رهينة طغيان الوعي الجماهيري المتغيّر والمتقلب، فكانت مواقفه رهينة ضغط الثوار؛ فبدل أن يمارس دوره المعرفي التنويري في أوساط المجتمع، تحول إلى متلقٍ، فقد بات الشارع هو الضابط لآليات تفكيره والمحدد لأشكال حركته. لهذا، تقاطعت أزمة المثقف مع الأزمة السياسية والفكرية والأخلاقية التي عانت منها شرائح من الثوار، ذلك أن التحولات التي عرفها بعض المثقفين السوريين، جاءت بسبب خيبة أملهم من أداء القوى السياسية والثورية التي لم تستطع تحقيق التغيير الضروري في بنية الدولة العميقة، أو نتيجة اختلافاتهم أو تناقضاتهم الفكرية والأيديولوجية البينية، أو نتيجة ممارسات أجهزة السلطة الأمنية.
كما كشف الحراك العربي عامة والسوري على وجه الخصوص، التآكل والضعف والهشاشة التي تعتري البنية السياسية العربية القائمة على القهر والأحادية السياسية. وكذا، ضحالة وهشاشة وسطحية الوعي الديمقراطي عند فئة من النخب المثقفة، إذ لم يرق الدفاع عن قيم الحرية والعدالة لديها إلى الانحياز الذاتي المبدئي، فكان البعض يرى في هذه المثل مشروعه الأساس طالما هو خارج السلطة؛ لعل هذه الهشاشة في الوعي، جعلت المثقف السوري يُصدم كما غيره بالثورة، فهي ثورة مفاجئة مباغتة، خصوصًا بعد تلك العقود التي أظهرت الشعب خانعًا مستسلمًا، وهنا تجلّت نتائج التاريخ، لأن الثورة التي لم يكن للنخب الثقافية أو السياسية تأثيرًا مباشرًا في اشتعالها، على الرغم من أنه لا يمكن أن نتجاهل التأثير التراكمي الخفي، تشعر هذه النخب أنها ثورة منفصلة عنها، ولئن حاولت الالتحاق بالثورة، فقد قادها ذلك إلى الانصياع الكامل لرغبة الشارع كون ذلك من واجبها، لأنها على وعي بتخليها عن دورها النقدي والتوعوي في أكثر الأوقات حاجة إليه. وإذا استثنينا بعض المناطق، وفي بعض الأوقات، التي كان لمثقفيها دور فاعل في ثورتها، وهو دور اجتماعي بالدرجة الأولى، فإن فاعلية المثقفين، في عموم مناطق الثورة، كانت شبه معدومة، وهذا ما جعل الثورة تنحرف أحيانًا عن مسارها أو تجنح نحو الانتقام والتطرف في بعض المناطق المشتعلة. لكن على الرغم من ذلك، يظلّ المثقف ممثلًا لضمير الشعب ووعيه، وصوت الجماهير. كما يجسّد قيمهم من خلال تمسكه بها من دون مساومة أو تفريط. لأن دور المثقف العضوي في العديد من الثورات التي شهدها العالم، كان على درجة من الأهمية.