مقدمة
يحظى موضوع العنف براهنية كبيرة، في ظل تنامي هذه الظاهرة، وتهديدها لقيم الإنسان ومستقبله ووجوده، بما يبعث على القلق، وهي ظاهرة معقدة يتداخل فيها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والقانوني والثقافي. لذا، حظي موضوع العنف باهتمام مجموعة من العلوم الاجتماعية من تاريخ وأنثروبولوجيا وعلم اجتماع وعلم نفس اجتماعي، وغيرها، والتي حاولت تفكيك ظاهرة العنف والحفر في أصوله، والكشف عن أنماطه وأساليب تحوله، ومعرفة تجلياته.
من العسير جدًا استعراض كل ما يتعلق بمجالات العنف من أسباب، ومظاهر، وتداعيات …إلخ، ولذلك ارتأينا في هذه الورقة البحثية تسليط الضوء على أحد مجالات العنف، ويتعلق الأمر هنا بالعنف السياسي الذي صار هو الآخر يحتل أهمية مركزية بالنسبة إلى جميع المجتمعات، وخاصة بالنسبة إلى المغرب، حيث أصبح موضوع العنف السياسي سمة بارزة في تاريخ المغرب المستقل، وركنًا أساسيًا من بنيات النظام السياسي والثقافة السياسية السائدة.
تمثّل هذه التوطئة النظرية الواردة أعلاه في تصورنا مسوغًا إبستيمولوجيًا لفكرة إنجاز هذه الورقة البحثية التي سنسلط فيها الضوء على الحالة المغربية، وسنضع العنف السياسي في سياق مراحل التحولات التي عرفتها الدولة في المجتمع منذ بداية الاستقلال. كما سنحاول أيضًا إبراز أهمية المقاربة العلمية التحليلية ولا سيما التاريخية بالنسبة إلى موضوع العنف السياسي، وفي استحضار تام للنقاش أو السؤال العريض حول الذاكرة والتاريخ والجدل الدائر حولهما. إضافة إلى احتمالات تحوير الحوادث، إذ غالبًا ما تتأثر رواية الأحداث بهفوات الذاكرة ورهانات الحاضر.
أولًا: سرديات الذاكرة ورهانات كتابة تاريخ المغرب الراهن
ثمة إشكالية كبرى احتلت في الآونة الأخير مركز الصدارة بالنسبة إلى البحث التاريخي الغربي (الفرنسي) عمومًا والمغربي خصوصًا، وصارت من ثمّ محل نقاش كبير داخل الأوساط الجامعية، ولا سيما أوساط المؤرخين المهنيين أو المحترفين.(1) يتعلق الأمر هنا بالذاكرة؛ فالجدل الدائر حولها وحول استخدام الشهادات الشفوية في إعادة بناء التاريخ قد حفّز الاهتمام بمسألة العلاقة المفترضة بين التاريخ والذاكرة؛ وقد فرضت هذه الأخيرة نفسها بقوة بسبب غزارة إنتاجها كقراءة للماضي بموازاة مع تاريخ العالم الذي يبدو هو الآخر مجال نقاش وتفكير علمي هادئ، ولكن قد يقع هذا المجال أحيانًا تحت وطأة الذاكرة (الفردية والجماعية)، وأحيانًا أخرى قد ينفلت منها.
كان للطفرة الكمية والنوعية التي حققها الغرب في مجال المعرفة التاريخية عمومًا، وما يتعلق بمناهج التاريخ الشفوي(2) خصوصًا، أثر كبير داخل أوساط المؤرخين المغاربة، حيث اقتنع هؤلاء أولًا بضرورة توسيع مفهوم الوثيقة التاريخية كي تشمل أصنافًا أخرى ومن بينها المصدر الشفوي. وثانيًا بضرورة توظيف هذا النوع من المصادر في البحث التاريخي المغربي المعاصر، وذلك كله في انتظار تكوين أرشيف شفوي من شأنه أن يساهم في بناء المسارات الفردية والجماعية.
وعلى الرغم من أن استخدام المصدر الشفوي أو الشهادات لا يزال أمرًا حديث العهد والتجربة في أوساطنا الجامعية، فإن هذا لا يمنعنا من استحضار بعض الكتابات التاريخية الجادة التي حاولت إبراز مكانة ومنهجية الذاكرة الشفوية بالنسبة إلى البحث التاريخي المغربي المعاصر؛ غير أن جلّ تلك الكتابات كانت تتعلق بمونوغرافيات القرن التاسع عشر.(3)
وإذا انتقلنا إلى الراهن المغربي، فإن الحاجة إلى المصدر الشفوي وتوظيفه في البحث التاريخي تصبح أكثر إلحاحًا، وذلك بالنظر إلى مجمل الاعتبارات والسياقات التاريخية التي أوردنا بعضها في فقرات سابقة من هذا البحث. إن جل المؤرخين المغاربة اليوم، مقتنعون تمامًا بضرورة تخصيص حيز من مجهودهم لواجب الذاكرة، غير أنهم ينبهون في الوقت ذاته إلى صعوبة التعامل مع الشهادات التي تتحكم فيها الهواجس وجميع أنواع رهانات الحاضر. وكثيرًا ما تطرح هنا مسؤولية المؤرخ الذي لم يألف التعامل مع حوادث ما زال الفاعلون فيها ماثلين أمام الرأي العام المترقب للقول الفصل.
إن الشهادات من دون شك تبقى مهمة جدًا بالنسبة إلى المؤرخين المغاربة لدراسة المجتمع وإعادة بناء المسارات الفردية والجماعية، ولكن يجب أن يخضع استخدامها لقواعد منهجية صارمة كأي مصدر آخر. وإذا كان الأرشيف الضخم الذي كونته “هيئة الإنصاف والمصالحة” (L’Instance Équité et réconciliation) انطلاقًا من التحريات التي انكبّت على أكثر من عشرين ألف ملف(4) هو بمنزلة الرد الصارخ للذاكرة الحية على الذاكرة المجازية الرسمية، فإن هذا الأرشيف وخاصة في جانبه الشفوي يطرح تحديات كبيرة على الباحثين المغاربة، ولا سيما المؤرخين منهم، وذلك بالنظر أولًا إلى الصعوبات التي يطرحها المصدر الشفوي، وثانيًا بالنظر إلى الحدود المنهجية التي ينبغي للمؤرخ المغربي أن يحافظ عليها عند التعاطي مع الشهادة والشاهد. وهذا يعني أيضًا، وكما سبق أن أشرنا إلى ذلك سالفًا، استحضار النقاش حول السؤال العريض الذاكرة والتاريخ.
إن مسألة استخدام الذاكرة كشاهد تاريخي، خضع لأشكال مختلفة من النقد الحاد. وعلى الأقل منذ نهاية القرن التاسع عشر، حيث ركز المؤرخون على مدى ولاء تلك الذاكرة، والمهم بالنسبة إلى ذلك النقد كان التأكيد على تآكل تلك الذاكرة بفعل الزمن، وبتأثير عوامل أخرى منها مسألة الحنين إلى الماضي، والتي تجعل الذاكرة غير موثوق بها في كثير من الأحيان. فضلًا عن عملية التحريف والتلاعب الذي قد تطال الذاكرة. إحدى أهم تلك المتغيرات كانت الاعتراف بكون الذاكرة غير موثوق بها وربما تشكل مصدرًا للحوادث أكثر منها مشكلة في تفسير وإعادة تشكيل الذاكرة.
ومما لا شك فيه، هو أن الذاكرة ليست بناءً بيولوجيًا قادرًا على إعادة تقديم صورة عن الماضي بدقتها ضمن إطار سؤالها الملائم. فالطرائق التي يتذكر بها الإنسان ماضيه، إضافة إلى ما يتذكره لا تشكل فقط تساؤلًا حول سيكولوجية الفرد، عمره، جنسه وطبقته الاجتماعية ومحيطه الثقافي الذي يشكل حياته وذكرياته، ولكن أيضًا هيئة تلقيه لتلك الذكريات. وهناك أبعاد مختلفة للزمن وللتقاليد والتجارب المأسوية والتي تؤثر بشكل عميق وغير متساوٍ في التطورات في الذاكرة. هذه الأخيرة غالبًا ما تحفز تجارب جارحة وأليمة ويمكن أن تقدم شهادات تاريخية ومفاتيح لتنظيم تذكر الحوادث. فالذاكرة تعيد مراجعة، وتنتقي وتفرز وتعدل وتخزن الحوادث، ولكن يمكن أن تكون للذكريات المنسية في بعض الأحيان قيمة بالنسبة إلى الذكريات المسترجعة.(5) صحيح أن التذكر دائمًا يفصل ويشرح ويحلل ما حدث بشكل حقيقي، وهذا بشكل بسيط يشكل صوتًا من أصوات الماضي. وبمعنى آخر، فالذاكرة هي تفسير للحوادث التاريخية المشتركة مع المتناقضات والأخطاء المسكوت عنها. الشيء الممتنع في تلك الشهادات ليس فقط حقائق الماضي بل الطريقة التي تُذكَر بوساطتها تلك الذكريات، وطريقة تفسيرها وإعادة تشكيلها استجابة لتغير الأحوال، لتصبح في ما بعد جزءًا من الوعي المعاصر.
وضمن السياق المغربي، هناك حاجة ملحة اليوم إلى توظيف التاريخ الشفوي أو الأرشيف الشفوي “لإخضاع أطروحات الذاكرة السياسية (العنف السياسي والعنف المضاد) إلى محك البحث الميداني”،(6) ومن ثمّ المساهمة في كتابة الراهن المغربي على غرار ما حدث في الغرب حيث أن كتابة الذاكرة هي التي أتاحت إمكان الكتابة التاريخية حول الماضي القريب، وذلك لأنها أثارت تعدد المحكيات، وساهمت في تراجع مساحة الطابو والمحرمات.(7) وهكذا برزت إلى الوجود وبشكل لافت للانتباه أشكال تعبيرية، تمنح من متعدد أجناسي ينفتح على الشهادات والمذكرات واليوميات والمحكيات السردية والرسائل وغيرها. يتعلق الأمر هنا بأدب السجون أو الاعتقال.(8) وهكذا التقى الجمهور المغربي بأعمال طالها المنع والرقابة لسنوات طويلة، وقد نشر البعض منها أولًا في فرنسا، والبعض الآخر وبشكل متزايد في المغرب، وقد صدر ثلث هذا الإنتاج في أواخر تسعينيات القرن الماضي. ولقد كانت هذه النصوص في واقع الأمر بمنزلة شهادات حية تختزل في طياتها وبحسب ما ذهب إليه عبد الأحد السبتي دلالتين: “فهي من حيث المضمون شهادات حول سنوات الرصاص، وهي من حيث أشكال التلقي شهادات حول إرادات معلنة لطي صفحة الماضي. غير أن الإشكالية تكمن في ضرورة القراءة المتأنية والجادة للصفحة التي أُعلِن عن الرغبة في طيها”.(9)
والواقع أن تلك الكتابات أو الشهادات لم تكن وبرأي عبد الأحد السبتي دائمًا سوى جزء من إنتاج أوسع، “ففي الظرفية نفسها صُدرت كتب ألفها فاعلون سياسيون آخرون ينتمون إلى جهات متعددة. هناك مسؤولون فرنسيون من مرحلة الحماية، ومناضلون من الحركة الوطنية والمقاومة المسلحة، وشخصيات سياسية أو حكومية قريبة من النظام الملكي القائم، ومن بينهم ضباط ورجال مرتبطون بأجهزة سرية متعددة. نجد المذكرات، وإلى جانب ذلك سير تتفاوت في نفسها التوثيقي، وضعها صحافيون أو أقرباء أو أتباع أو أصدقاء”.(10) والملاحَظ أيضًا أن الصحافة المغربية عرفت انتعاشًا وتجديدًا حقيقيًا، ولعبت دور الوسيط، حيث ساهمت في تحريك »الخطوط الحمراء« وفي تحفيز حركة التأليف والقراءة حول مرحلة حاسمة من تاريخ المغرب المعاصر. وهذا ما أدى إلى انتعاش الكتابة عن الذات لكونها تكشف الانتهاكات الجسدية والنفسية لما يعرف بسنوات الرصاص والجمر Les années de plomb et de braise، وتضيء بعض الجوانب الغامضة أو الملتبسة في الحياة الاجتماعية والسياسية المغربية المعاصرة. ونظرًا للنجاح الذي حققته بعض تلك الكتابات والتي نشرت على شكل حلقات أو حوارات (شهادات) مطولة في أعمدة بعض الصحف، فقد تحولت إلى كتب عمدت بعض الصحف في ما بعد إلى تقطيعها ونشرها طيلة أشهر عديدة من أجل إثارة فضول عدد واسع من القراء.
ومن ناحية أخرى وعلى غرار مجموعة من القضايا الحساسة، فإن اللغة التي اعتمدتها الصحافة في معالجة قضايا الراهن وشهاداته كانت تنطوي على الانتقاد، حيث وصفتها بالتاريخ الذي تحكمه الأيديولوجيا ويتأسس على الوهم والتستر، من خلال مقالات مثيرة أعطى فيها الصحافيون الكلمة للمؤرخين المفترض فيهم إثبات الحقيقة أو الوقائع التي يحجبها الخطاب الرسمي المبتور.(11) ولقد أغنت هذه التجربة أي المعالجة الصحفية الصريحة المعرفة التاريخية، حيث ساهمت في بلورة النقاش حول ما ترتب عن الرقابة الطويلة الأمد التي فرضتها الدولة على نقل الحوادث التاريخية.
ثانيًا: أدب الاعتقال؛ مساهمة الشهادات الشفوية في التوثيق وأرشفة الذاكرة السياسية
تعد كتابات الاعتقال السياسي (12)La détention politique ظاهرة لافتة للانتباه في السياق المغربي؛ وهي تكشف بدورها عن تجارب متنوعة أمام القارئ المغربي الذي لم يستأنس بعد بهذه الكتابات التي نزلت إلى المكتبات بشكل كبير في منتصف تسعينيات القرن الماضي، وفي بداية الألفية الجديدة، ليفتح المجال لسلطة الذاكرة وسلطة اللغة عبر الرواية والشهادة والإبداع عمومًا في باحة الخيال والواقع.
هناك إذًا تراكم مهمّ في المعطيات حول تلك الكتابات سواء على مستوى أشكالها وأنواعها الأدبية وطبيعة الأسئلة التي فجرتها حول ما يعرف بسنوات الجمر والرصاص، مع إدانة المرحلة وكشف المستور وانتقاد الذات وتعرية أخطائها. هذه الأشكال تمثل في الواقع وثائق تاريخية مهمة في علاقة الفرد بالدولة والمجتمع وما لذلك من تجليات فكرية.(13) وهي أيضًا فضاء للمكاشفة والمراجعة والنقد، تعكس حراك المجال السياسي في المغرب، فالكتابة هنا هي مناسبة لتفريغ شجون الذات (علاج نفسي Psychothérapie) ونقد درجات العنف السياسي وتركة الاستبداد السياسي في فترة عصيبة من تاريخ المغرب المعاصر، وهي أيضًا تشخيص لآليات القهر والجور والاستبداد (العنف السياسي)، وآلية لمواجهة العنف المضاعف حول الذات في السجون والمعتقلات وغياهبها المظلمة.
يمكن الإحالة في هذا المجال إلى مجموعة كبيرة من تلك الكتابات (المذكرات والروايات والحوارات …إلخ) والتي صدرت منذ مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، وتلاحقت بوتيرة عالية في الصدور، في بدايات القرن الواحد والعشرين. وهي كتابات تختلف من حيث خلفيتها السياسية والأيديولوجية، ومن حيث أساليب الكتابة وكيفية ترتيب الحوادث، وتردد العوالم السردية بين الواقعي والتخيليّ.(14) ولعل هذا ما يتضح فعلًا في بعض النصوص أو الكتابات السجنية(15) التي تحكي عن مآسي وملابسات سنوات الجمر والرصاص. وأهمية هذه الكتابات تكمن في كونها تفسح المجال أمام كثير من الفاعلين السياسيين والباحثين أيضًا، ولا سيما المؤرخين منهم، لإعادة قراءة تاريخ الصراع السياسي في مغرب ما بعد الاستقلال، وهو الأمر الذي يسمح بالوقوف على معطيات قد تساعد في عملية فهم سياقات الصراع بأبعاده المختلفة، ومن ثم تسليط الضوء على مرحلة دقيقة وحاسمة من تاريخ المغرب المعاصر والراهن.(16)
إن معظم الشهادات التي تندرج ضمن حقل أدب الاعتقال، أو حتى تلك التي جُمِعَت من طرف هيئة الإنصاف والمصالحة، تعد فعلًا بمنزلة ذاكرة مرجعية ووثيقة أساسية لرصد واقع العمل السياسي في مغرب ما بعد الاستقلال. بل هي كذلك وبحسب عبد الأحد السبتي “وثيقة تمكّن من الاقتراب من الطريقة التي عاش بها الأفراد والمجموعات الفعل السياسي في مرحلة تاريخية محددة”.(17) ومن حيث جانب التوثيق التاريخي أيضًا، فقد اشتملت هذه الكتابات على “معطيات وحقائق وخبرات ومواقف وحالات نفسية وردّات فعل مهمة جدًا، بل اشتملت على أكثر من ذلك، فهي في واقع الأمر ذاكرات متنوعة فيها الفضاء وفيها الزمان والأشياء، وفيها أيضًا جزئية من تاريخ نضال الشعب المغربي ضد التسلط والقهر والتوق إلى الحرية والديمقراطية والعيش الكريم”.(18) ويجب الاعتراف هنا كذلك بأن تلك الكتابات وبحكم طبيعتها تقدم رؤية شخصية وحقائق سردية ذاتية، وهي أيضًا ومن دون شك أداة عمل تسمح للمضطهدين بالمطالبة بتصحيح تاريخهم، وحفظ الذاكرة وصيانتها، وسيكون لمثل هذا النوع من المطالب دور كبير في إرساء أسس الديمقراطية وفي تعميم الأرشيف. لكن نجاح مهمتها يكمن في إثارتها فضول المؤرخين لتبدأ مرحلة جديدة تتميز “ببناء نسقي وسرد موضوعي للتاريخ. وإلا فإن الكتابات الذاتية -كما حدث في عدة تجارب- تأخذ في التناسل والتنوع والتضارب، فتتنازع الذاكرات مما ينتج عنه آثار سلبية لا تخدم الذاكرة الجماعية.(19)
وتطرح نصوص أدب الاعتقال وشهادات ضحايا الانتهاكات (جلسات الاستماع) بموازاة مع مضامينها تلك العلاقة الشائكة بين الذاكرة والتاريخ، وكيف يمكن الانتقال من التاريخ إلى الذاكرة، خصوصًا إذا كان هذا التاريخ في بعده الرسمي يتجاهل ويقفز على معظم اللحظات الحرجة التي سجلها المعتقلون والمضطهدون ودوّنوها في نصوصهم، “فما يحكيه الأفراد، انطلاقًا من تجربتهم الخاصة، وأيضًا الجماعية، الحزبية أو القبلية يحول الذاكرة الخفية إلى ذاكرة علنية، ويمكّن اشتغالها من تعدد إنتاج الشهادات، في الوقت الذي تتراجع فيه الذاكرة الرسمية أي ذاكرة الدولة.(20)
ثالثًا: حدود توظيف الشهادات الشفوية في كتابة التاريخ المغربي الراهن
إذا كان المؤرخون المغاربة قد اقتنعوا اليوم بضرورة تخصيص حيز من مجهودهم لواجب الذاكرةdevoir de mémoire، فإنهم ينبهون في الوقت ذاته إلى صعوبة التعامل مع الشهادات التي تتحكم فيها الهواجس وأنواع رهانات الحاضر كلها. وكثيرًا ما تطرح مسؤولية المؤرخ الذي لم يألف التعامل مع حوادث ما زال الفاعلون فيها ماثلين أمام الرأي العام المترقب للقول الفصل. إن الشهادات تبقى من دون شك مهمة جدًا بالنسبة إلى الباحثين المغاربة، ولا سيما المؤرخين منهم لدراسة المجتمع ولإعادة بناء المسارات الفردية والجماعية. وهي أيضًا بمنزلة ذاكرة مرجعية ووثيقة أساسية لرصد واقع العمل السياسي في مغرب ما بعد الاستقلال. إن ما يحكيه الأفراد، انطلاقًا من تجربتهم الخاصة، وأيضًا الجماعية، الحزبية أو القبلية، يحول الذاكرة الخفية على ذاكرة علنية، ويمكن اشتغالها من تعدد إنتاج الشهادات، في الوقت الذي تتراجع فيه الذاكرة الرسمية أي ذاكرة الدولة. وعلى هذا النحو يمكن القول إن كتابة الذاكرة هي ما جعلت كتابة التاريخ ممكنة، عبر إنتاج سرد متعدد وتقليص مساحة المحظور، وهنا يبرز تدخل المؤرخ كما يوكّد على ذلك عبد الأحد السبتي،(21) إذ تمكّن منهجيته من معالجة إنتاج الذاكرة على نحو دقيق، بإبراز الشهادات الفردية، أو بتركيب فقرات متعددة من هذه الشهادة وتنسيقها مع شبكة من الموضوعات، وعلى ضوء إشكاليات محددة.
وبناء على ذلك وجب التنبه لتفادي الخلط بين الشهادة التاريخية والكتابة التاريخية. فما أفصح عنه محمد الفقيه البصري من شهادات بخصوص الصراع على السلطة في مرحلة ما بعد الاستقلال، وما رواه أيضًا أحمد المرزوقي في )الزنزانة رقم 10( (22)وجواد مديدش في )الغرفة السوداء(،(23) وما كتبه رجل المخابرات السابق، أحمد البخاري، حول قضية المهدي بنبركة،(24) كلها إنتاجات لا يمكن توصيفها بالكتابة التاريخية. بمعنى آخر، لا يمكن للشهادة أن تحل محل كتابة المؤرخ.(25)
وتعد هذه المسألة من العوامل الأساسية التي حفزت المؤرخين على تكسير حاجز الصمت والتعبير عن رأيهم في الموضوع. فقد تابع المؤرخ عبد الأحد السبتي تفاعلات شهادة أحمد البخاري في الأوساط السياسية والثقافية والإعلامية وما قاله البعض بكونها كتابة تاريخية، وردّ بإثارة انتباه المهتمين بضرورة التمييز بين الشهادة التاريخية والكتابة التاريخية.(26) “فالشهادة أو الذاكرة، فردية كانت أم جماعية، تبقى ذات سمة ذاتية، انفعالية، رمزية، تخلط بين المعيش والمنقول، بين الماضي والحاضر، بين الذاكرة الفردية والجماعية. كما أنها تتعرض للنسيان، ولا تحمل دقة بخصوص مؤشرات ومعطيات الماضي، لأنها تعتمد كليًا على الذاكرة. وبذلك فهي تفتقر إلى جهاز مفاهيمي وتعمل بكيفية إرادية أو لا إرادية، بناء على حاجيات اللحظة، على تضخيم الحوادث أو تقزيمها. ومن ثم تبقى مجرد صورة غالبًا ما تغلب عليها القدسية، كصورة بعض الشخصيات السياسية، من زعماء أحزاب أو زعماء تمرد أو قادة حرب. ولذلك تقترن، كما يرى بيير نورا Pierre Nora ، بإعادة بناء المخيال وخروج المكبوت. ثم إن الذاكرة تحكمها الغائية، وتشتغل من منظور »الواجب« تحت شعار ‘حتى لا يتكرر هذا’، والذي غالبًا ما يخضع لتوجهات سياسية وأخلاقية” (27).
رابعًا: المقاربة التاريخية النقدية للمصدر الشفوي
إذا كانت الشهادة مصدرًا غير مكتمل، ناقص، لما يعتريه من تآكل وغموض واضطراب في السرد بالنسبة إلى المؤرخ، فإن هذا الاختلال وهذا النقص هو ما يشرع تحول الشهادة إلى مادة التاريخ. وبحسب مارك بلوك Marc Bloch دائمًا ليست هناك شهادة جيدة وأخرى رديئة. وما يهمّ المؤرخ، من هذه الشهادات كلها، هو بناء الواقع، وإعطاء معنى للتاريخ.(28) وبخلاف الذاكرة التي تجنح نحو الذاتية، فإن الكتابة التاريخية تقوم على الموضوعية والتحليل والنقد. فما ينتظره القارئ من المؤرخ يختلف عما ينتظره من راوي الشهادة أو منتج الذاكرة. فالقارئ يترقب من الكتابة التاريخية فك تعقيدات الماضي، سواء أكان ماضيًا بعيدًا أم قريبًا، ومساءلة هذا الماضي والسعي إلى فهمه. وهو فهم يقوم على النقد، على الاحتمال، وعلى النسبية، لإعادة بناء نسق التطورات والاستمراريات الزمنية وسببية الأشياء، بعيدًا عن أشكال الحكم كلها. وفي هذا السياق يقول بول ريكورPaul Ricœur : “إن القاضي هو الذي يحكم ويعاقب، والمواطن هو الذي يناضل ضد النسيان ومن أجل إنصاف الذاكرة، أما المؤرخ فمهمته تكمن في الفهم من دون اتهام أو تبرئة”.(29)
إن موقف بول ريكور هذا، هو موقف سواد المؤرخين المحترفين، والذي يحصر دور المؤرخ في التفسير وتحري الحقيقة ومحاولة الفهم. ولذلك كان لا بد للمؤرخين أن ينهضوا لوضع النقاط على الحروف وليبينوا الحدود بين الذاكرة والتاريخ من ناحية، وخطورة التماهي مع الشهود من ناحية أخرى. وقبل أن تكون لديه رؤية استقرائية للوقائع والحوادث، يظل المؤرخ متمسكًا برؤية نقدية، كما أن مهنية المؤرخ الحقيقي تكمن في استجلاء الموقف، وغربلة المواقف، من خلال سبر أغوار الحوادث التاريخية (السياسية) لمغرب ما بعد الاستقلال بالاستناد إلى منهج علمي سليم وطريقة موضوعية في تناول الحوادث من دون تعصب أو تحامل، وذلك بهدف الوصول إلى الحقيقة التاريخية وتجنب بعض الانزلاقات التي تتهدد قواعد مهنة التأريخ وأخلاقياتها.
تعد الشهادات الشفوية وبلا شك مصدرًا قويًا بالنسبة إلى الذاكرة الجماعية، إلا أنه يتحتم الارتقاء بهذه التجربة إلى نسق أرفع وذلك بربطها ببرنامج البحوث التي ينتجها المؤرخون المغاربة؛ “فالكتابة التاريخية المحترفة وحدها قادرة على مواكبة الطلب الاجتماعي المتصاعد على تاريخ مغربي تعددي، غير مختزل ولا إقصائي. وذلك لكونها تعتمد مناهج علمية تعيد قراءة المصادر ومقارنتها، وفحص الشهادات المختلفة والمتناقضة أحيانًا، وتنتج معنىً نسقيًا جامعًا كفيلًا بإتمام حداد سنوات الجمر، وبناء ذاكرة معافية متطلعة لبناء مستقبل أكثر إنسانية وديمقراطية”.(30)
على سبيل الختام
في نهاية تحليل هذه الورقة البحثية يمكن القول إن تقييم التاريخ ما بعد الكولونيالي للبلاد يمتلك أهمية سياسية أكثر من أي وقت مضى، وهنا تقع اليوم مسؤولية كبيرة على الباحثين المغاربة ولا سيما المؤرخين منهم، من أجل إعادة النظر في الأسس النظرية التي حُلِّل في إطارها النظام السياسي المغربي حتى اليوم. وعلى الرغم من وجود بعض الكتابات لبعض المهتمين بحقوق الإنسان حول مواضيع ذات صلة بالعنف السياسي، إلا أنها تقتصر في تحليلها على مقارنة النصوص القانونية، وتشكو من غياب الطموح النظري في معالجة انتهاكات حقوق الإنسان بوصفه أحد الأشكال البارزة في مجال العنف السياسي.
وباقتحام المؤرخ المغربي لمرحلة حساسة جدًا من تاريخ المغرب المستقل، يكون البحث التاريخي الجامعي الوطني قد حقق نقلة نوعية، وذلك عبر الانفتاح الإرادي على مقاربات أخرى جديدة،(31) والاعتياد على تنويع المصادر والمراجع المعتمدة، ومن ضمنها الشهادات الشفوية كمادة خام والتي يمكن أن ينطلق منها الباحث لبناء تأملاته وتحليلاته. وإن تقدمًا من هذا القبيل لمن شأنه من الناحية الأكاديمية ملء الفراغ أو الفراغ النسبيّ الذي تعانيه مرحلة حاسمة من تاريخ المغرب الراهن أو الذاكرة القريبة. كما أن الإنتاج العلمي المزمع تحقيقه سيمكّن الباحث من الاستجابة لتطلعات المجتمع، وتلبية رغبته في معرفة فترة لا تزال تثير العديد من التساؤلات.
إن ما ينتظره القارئ أو الجمهور المغربي من عمل المؤرخ، هو مجهود يتولى مساعدة المجتمع على فهم ماضيه. ومن ثم تسليط الضوء على مرحلة حساسة من تاريخ المغرب المستقل. ويفترض ذلك أن يتوافر للباحث رصيد من الوثائق والأرشيفات بما في ذلك الأرشيفات الشفوية، ويتمكن، في أحوال ملائمة، من تجميع المعطيات، وإنضاج عملية التحليل والتأويل تجاه الراهن المغربي (مرحلة العنف السياسي) وقضاياه بعيدًا عن كل تشنجات أيديولوجية وسياسية.(32)
إن الهدف من التحليل التاريخي يبقى فهم الحاضر بوساطة الماضي والعكس صحيح، وبعبارات صريحة للمؤرخ الفرنسي مارك بلوك يبقى هدف هذا التحليل فهم الظواهر المدروسة، وليس إعطاء أحكام عنها سواء كانت مسبقةPré-notions أو متأخرة، أو أحكام قيمة Jugement de valeur، وعلى العكس من ذلك كله فهو يوكّد على مسألة الفهم وليس الحكم Comprendre et non juger، إنه يدعو المؤرخين إلى التخلص من الخلفيات الذهنية أو الأيديولوجية جميعها (عرقية، دينية، أيديولوجية …إلخ)، والنظر إلى الظواهر التاريخية: السياسية والاجتماعية بنظرة موضوعية.(33)
ولا شكّ أن استدعاء المؤرخ المغربي في قضايا الراهن وعلى غرار نظيره في الغرب، بصفته شاهدًا أو خبيرًا يضع ويستتبع عدة قضايا معرفية مرتبطة بمفهوم صناعة التاريخ والذاكرة والهوية، وبمفهوم وقيمة الشهادة التاريخية، وكذلك بمسؤولية التمييز بين التحليل التاريخي والإدلاء بالخبرة العلمية.(34) وتعدّ هذه القضايا التي أثبتت جدواها في مراكز البحوث في الغرب الشكل الأنسب، على الأقل في الوقت الحاليّ، لاجتناب خطرَي المؤرخ الخبير الذي يحرم الشهود من تجاربهم، والطلب الاجتماعي الذي يسعى لتوظيف المؤرخ.(35)