عينُ الحقيقة..قصة قصيرة

تَرنو عينايَ إلى البعيدِ، أتعبدُ بها اللهَ بتأملِ ما خلقَ، أُخزنُ ببطءٍ كُلَّ المشاهدِ في رأسي كما يفعلُ النملُ مع حباتِ القمحِ، لكن عندما أعارني ابنُ عمي آلةَ التصويرِ خاصتَه، حملتني السعادةُ التي أحاطتْ بي، كأنّي أركضُ خلفَ المشاهدِ لأمسكَها، لا لأصورَها؛ أكتبُها بالضوءِ، ثُمَّ أقلبُ الصفحةَ بضغطةٍ زر، أرسمُها، أجردُها عما تراه عيني بطريقةٍ تثيرُ التساؤلاتِ في الأذهانِ، وتفتحُ تصوّراتٍ لا حدودَ لها في الخيالِ.
أنا أصورُ الحياةَ صامتةً مبتعدًا عن صخبِها، فقد أحببتُ أن يرى الناسُ صوري بعقولِهم قبل عيونِهم.
لكن بعد الحادثةِ التي جرتْ ذاتَ مساءٍ باردٍ تغيرتْ طريقتي بانتقاءِ الصورِ، وتغيرَ أسلوبي في التصويرِ، حينها خرجتُ من البيتِ أحملُ آلةَ التصويرِ، أبحثُ عن أصعبِ الصورِ لأجربَ مهارتي بالتقاطِها وتقديمِها مغلفةً لدائرةِ المُعجَبينَ بصوري التي أخذتْ تكبر، كم كنتُ أحبُ إسعادَ الناسِ وتقديمِ الدنيا لهم بطريقةٍ مختلفةٍ.
عثرتُ عن طريقِ المصادفةِ على صبيًا مُتشرِّدًا غريبَ الملامحِ، جالسًا على الأرضِ مصغيًا إليها، يرتدي أسمالًا باليةً، كان مُتعبَ الوجهِ، لألأَتْ عيناه، فذابَ قلبي، ناديتُ عليه وأخذتني به الشفقةُ، فاشتريتُ له ما يأكلُه ويشرَبُه، طلبتُ منه أن ألتقطَ له صورًا لقاءَ بعضِ القطعِ النقديةِ، وافقَ من دونِ أَن يَنبِسَ ببنتِ شَفةٍ، خطرَ لي أَن أصورَه في مكانٍ يلائمُ الحزنَ الّذي يبللُ تقاسيمَ وجهِه، مثلًا في المحطةِ وهو يصعدُ القطارَ يمدُّ يده لتودعَ الغدَ تمامًا كما تودعُ الأمسَ، أو في المقبرةِ أمامَ قبرٍ غسلته امرأةٌ بدموعٍ تهطلُ من فضاءِ الحدسِ، أو أَن يقذفَ الحصى باتجاهِ نهرٍ من طهرِه يجبُ ألا يُمسَ.
تبعني بخطى بطيئةٍ كخطاي، مررنا بحديقةٍ غنَّاءٍ في طريقِنا إلى المحطةِ، استغربتُ أنَّ العصافيرَ لم تجره من أذنِه ليسمعَها، فحولتُ دربي إلى مدينةِ الألعابِ، وقفَ وعيناه بائستانِ أمامَ السياراتِ الكهربائيةِ، راحَ يراقبُها كيف تتحركُ!
رأيتُ الشرارةَ الناتجةَ عن تلامسِ عمودِ السيارةِ مع الشبكةِ المعدنيةِ التي تغطي الصالةَ في عينيه، اشتريتُ له بطاقةً ليجربَها لكنَّه رفضَ، ربما خافَ مني، ربما خافَ من الزحامِ، طلبتُ منه أن يضحكَ… أن يبتسمَ… لكن لا شيءَ يعجبه، لا النقودَ، لا الألعابَ، لا الأشجارَ، يريدُ فقط أن يبكي.
تركتُه يبكي… جاءني شعورٌ مفاجئٌ أن أرى نفسي في صورةٍ، طلبتُ منه أَن يلتقطَها لي، كان يتحركُ بلا شعورٍ، كأنَّه لا يفهمُ شيئًا مما يعملُ، تابعتُ حركاتِه بانتباهٍ شديدٍ قبلَ أَن أرى في الصورةِ التي التقطها لي دمعةٌ تتدحرجُ على خدي.
من يومِها وأنا أصورُ المشاهدَ كما هي.
تابعتُ طريقي إلى المحطةِ التي بدتْ كأنَّها خليةُ نحلٍ ولم يكنْ هناكَ عسلٌ، شدني رجلٌ عجوزٌ يقرأ كتابًا، ويسجلُ ملاحظاته على هامشه، وكأنَّه يحدّثُ أحدًا جالسًا أمامَه، التقطتُ له صورةً من بعيدٍ، بُعدَ السعادةِ عن قلبِه.
وقفتُ مشدوهًا أمامَ كومةٍ من الصحفِ المتشابهةِ ملقاةً إلى جانبه على الرصيفِ، لم يكنْ فيها أشياءً جميلةً، كلما باعَ واحدةً يقرأُ عناوينَ الصحيفةِ التي تحتَها، وكأنَّه يوجهُ لي رسالةً أنَّ الكرةَ كرةٌ والسيقانَ سيقانٌ، فصحفِ اليومُ تشبهُ صحفَ كُلَّ الأيامِ.
أحيانًا يلتقطُ الصُحفَ التي قرأها أصحابُها وتركوها على مقاعدِهم، ويعطيها لمن لا يملكون نقودًا لشرائِها، لكن من لم يملكْ ثمنَ صحيفةٍ لا يهمه قراءةَ أخبارِ الدولةِ السياسيةِ والاقتصاديةِ والرياضيةِ، تركتُه وصورتُه لم تتركني، لاحقني بنظراتٍ تقولُ: لا شيءً يستحقُ الاهتمامَ… شعرتُ أني أنتمي إلى عالمهِم.
لم أكنْ لأتركَ مناسبةً أو رحلةً إلا وأوثقُها، باستئذانٍ ممن سأصورُه أو بغفلةٍ منه.
يطلبُ مني صديقي ألفريد قائلًا: التقطْ لي صورةً عند النصبِ التذكاري.
وقبل أَن ينتهي، ينادي عليَّ صديقي ألكسندر مازحًا: صورني وأنا لستُ منتبهًا.
وأكثر ما يميزني -كما يقولُ أصدقائي-أَنَّ عيني ملتصقةً دائمًا بعينِ آلةِ التصويرِ، وأني أخذُ الصورةَ الواحدةَ من زوايا متعددةٍ، وكُلُّ صورةٍ كأنَّها صورةٌ مختلفةٌ عن سابقتِها، بالإضافةِ إلى ذلكَ أرسمُ على وجهي وأنا أصورُ الشخصَ، ابتسامةً أكبرُ من ابتسامةِ الشخصِ نفسِه، على الرغمِ من أني أطلبُ ممن سأصورُه لحظةَ الالتقاطِ أن يقولَ كلمةَ “ْجُبْنٍ” باللغةِ الإنكليزيةِ.
لقد عينوني مصورَ الشِلَّةِ من دون منافس، بأفقٍ سماويٍ ما يزالُ تحتَ الشمسِ.
عندما انتهيتُ من الثانويةِ، أهداني والدي آلةَ تصويرٍ ماركةُ “Canon” تمتازُ بدقّةٍ عاليةٍ، مع قدرَتِها على التصويرِ اللّيلي بوضوحٍ تامٍ، مع عدسةٍ إضافيةٍ وقاعدةٍ ثلاثيةُ الأرجلِ، صارتْ رفيقتي بل قطعةً مني لا تتركُ يدي أبدًا.
جعلتُ عقلي في عمليةِ تفكيرٍ كاملٍ ودائمٍ، أفكرُ في مقدارِ الفتحةِ التي أحتاجُها، وعمقِ الميدانِ المطلوبِ للصورةِ، وتوازنِ الأبيضَ والألوانِ في الصورةِ، ودراسةِ الضوءِ والظلِ، والخلفيةِ، والعناصرِ المشتتةِ للنظرِ، وكيفيةِ ترتيبُ الاشخاصِ أو المشهدِ الّذي أراه بأفضلِ طريقةٍ، والكثيرِ من الأمورِ التي قد لا تخطرُ على بالِ الناسِ.
بالإضافةِ إلى هوايتي، تابعتُ دراستي في كليةِ الصحافةِ، وعملتُ بعدَ التخرجِ في إحدى الصحفِ اليوميةِ التي تصدرُ في المدينةِ، وتحولتُ من مصورِ شارعٍ إلى مصورٍ أكاديمي باحثٍ عن الحقيقةِ، تقصيتُ الأخبارَ الدقيقةَ، وحَلُمْتُ بالوصولِ إليها في الأماكنِ المشتعلةِ.
لا لشيءٍ، فقط لأنَّ الأحلامَ لا تتحققُ إن كانت أكبرَ ممن يَحلُمون بها، كنتُ أكبرَ من حلُمي، ففي زحمةِ الضخِ الإعلامي المزدوجِ، قدَّمتْ وسائلُ الإعلامِ المحليةِ والعالميةِ لكلُّ حادثةٍ روايتينِ مختلفتينِ تمامًا، وقصصٌ مغربلةٌ، وهو ما صعَّبَ المهمّةَ أمامَ العالمِ حتّى يعرفوا ما يجري تمامًا.
كانتْ هناكَ روايةً ثالثةً قررتُ أن أبحثَ عنها، وأحققُ حلُمي عبرَها، وتحوَّلَ حبي للتصويرِ من رغبةٍ إلى قضيةٍ، في بقعةٍ كانتْ منسيةً وباتْ العالمُ كُلُّه يذكرُها، وجدتُ نفسي هناكَ، ممتلكًا أدواتي، وأشعرُ أني قادرٌ على التغييرِ، يا لتعاسةِ من لا يستطيعُ أن يغيرَ نفسَه، بل هو أشدُ تعاسةُ من ميتٍ.
هنا فقط شعرتُ أن أفقي السماويَ تعدى حدودَ الشمسِ.
رحتُ التقطُ صورًا للدمارِ وآلاتِ التدميرِ، ولأطفالٍ يقولونَ الحقيقةَ بدموعِهم، ينتظرونَ أَن تطلُعَ الشمسُ من مغربِها، بكلِّ بساطةٍ إنَّه التصويرُ الإنسانيُ، أحببتُه؛ وَلَعَمري إنَّه حبٌ على أصواتِ المدافعِ.
سمعتُ عن مؤتمرٍ لناطقةٍ باسمِ دولةٍ متورطةٍ في هذه الحرِب، وصلتُ الفندقَ الّذي سيُعقدُ فيه المؤتمرُ باكرًا، كان فندقًا فخمًا في إحدى الدولِ العربيةِ، وكان هناكَ اجتماعٌ للعربِ، وجدتُها فرصةً وقررتُ أن أغطّيَ هذا الاجتماعَ.
أمسكَ كُلُّ من في الصالةِ من المجتمعينَ لافتةً صغيرةً وورقةً وقلمًا، يبدو أنَّ القضيةَ مصيريةٌ!
بدأ قائدُ الاجتماعِ بإلقاءِ كلماتٍ حماسيةٍ، تشحذُ الهِممَ وتقوي العزيمةَ، لكن بلغةٍ أجنبيةٍ، لا يهمْ… المهمُ أنَّهم اجتمعوا.
كُلُّ هنيهةٍ يخرجُ صوتٌ من الصالةِ، يصفقُ له الحضورُ، يليه صوتٌ جديدٌ يوقفُ التصفيقَ القديمَ ليبدأ تصفيقٌ جديدٌ.
كان هناكَ شيخٌ يجلسُ في الصفوفِ الأولى، يقفُ بجانبِه رجلٌ شادًا يديه على جنبيه في وقفةِ استعدادٍ يراقبُ بعيونِه كنسرٍ، ورجلٌ آخر ٌيجلسُ جانبَه يسجلُ ما يقولُه الشيخُ من أوامٍ ودُررٍ، ينحني على أُذُنِه كُلُّ هنيهةٍ ليسألَ أو ليسمعَ مع مراقبتِه لما يجري في الصالةِ، قالَ الشيخُ:

  • حتى تكونَ مميزًا عليكَ أن تكونَ مميزًا في كُلِّ شيءٍ.
  • اللهُ اللهُ يا شيخُ، هذه حكمةٌ يجبُ أن ترددَها البشريةُ كُلُّها صباحًا ومساءً.
    وتابعَ الشيخُ: ولن تكونَ مميزًا في كُلِّ شيء حتى تكونَ مميزًا بشيءٍ معينٍ.
    هنا رسمَ الرجلُ ابتسامةً كبيرةً جدًا على وجهِه وصاحَ:
  • حكمةٌ رائعةٌ لا ينطِقُ بها إلا الكبارُ، كلماتٌ بسيطةٌ لكن مضمونَها عميقٌ جدًا.
    مالَ إليه الشيخُ آمراً:
  • تابعْ ما يجري أريدُ الدخولَ إلى الحمَّامِ.
    وقفَ الرجلُ كأنَّ شيئًا نخزَ مؤخرَته، وثمَّنَ جملةَ الشيخِ الأخيرةِ.
  • واللهِ إنَّكَ شيخٌ عظيمٌ، ديدنُكَ النظافةُ، متواضعٌ تفعلُ ما نفعلُه نحنُ!
    رانَ صمتٌ غيرُ معتادٍ في هكذا اجتماعاتٍ، تلاشى الصمتُ مع عودةِ الشيخِ الّذي نطقَ رقمًا قبلَ أن يجلسَ، لم يستطعْ أحدٌ التفوُهَ بعدَهُ وكأنَّه استجمعَ قواهُ في الحمَّامِ، صرخَ القائدُ الهمامُ صرخة ًظهرَ في نهايتها حبلُ الوريدِ في رقبتِه، فقفزَ رجالٌ من عشيرةِ الشيخِ الجالسِ بوقارٍ، التفوا حولَه ورفعوا إشارةَ النصرِ، ذرفوا الدموعَ، وتبادلوا التهاني والقُبلاتِ.
    وقفَ الشيخُ المزهو بفوزِه بنمرةِ سيارةٍ، دفعَ ثمنَها مبلغًا خياليًا لأنَّها تحوي رقمًا واحدًا فقط!
    تقدمَ منه القائدُ العربيُ وخرَ له مقبلًا يده، وأعلنَ انتهاءَ اجتماعِ العربِ، هززتُ رأسي كما يفعلُ طبيبٌ مع مريضٍ لا أملَ بشفائِه.
    بدأ المؤتمرُ الّذي دُعيتُ إليه، كان هناكَ أشخاصٌ مهمونَ لا يستطيعونَ فعلَ أيِّ شيءٍ وحدهم، يجتمعون ليقرروا أنَّه لا يوجدُ ما يمكنهم عملُه…
    كان خدمُ الفندقِ أكثرَ من عددِ المؤتمرينَ، عبرنا حديقةً واضحٌ أنَّه مُعتنى بها بشكلٍ جيدٍ، وصولًا إلى قاعةٍ كبيرة ٍأكثرُ شبهًا بإحدى قاعاتِ المتاحفِ، الجدرانُ مغطاةٌ بستائرٍ باهظةِ الثمنِ تناسبُ لونَ الثرياتِ المعلَّقةِ في السقفِ، هناكَ لوحةٌ كبيرةٌ فيها صورةٌ للقاعةِ مأخوذةٌ من ارتفاعٍ، مقاعدٌ وثيرةٌ غاصَ فيها المدعوونَ، لم يكنْ بينهم حسنو النيَّة، بقيتُ واقفًا، كنتُ عاجزًا عن البقاءِ جالسًا في مكاني، لا أكفُ عن القيامِ، أحملُ صورَ الضحايا، ولا أبتسمَ لأحدٍ، كأنَّها جلسةٌ خرساءٌ.
    فُتِحَ البابُ، فدخلَتْ الناطقةُ الروسيةُ ذاتُ الشعرِ الأشقرَ والبشرةِ الثلجيةِ، أدتْ تحيةَ ترحيبٍ تشبهُ تلكَ التحيةَ التي ختمتْ بها رقصةُ “الكالينكا” في حفلٍ الشهرِ الماضي.
    سردتْ الناطقةُ رواياتٍ كاذبةٍ من دونِ الاعترافِ بضحايا سياسيةِ بلدِها، خرجتْ بعضُ الهمهمةِ من الصحفيينَ، فقالتْ الناطقةُ: لا بأسْ يا أحبائي سأفسرُ لكم.
    لم أنتظرْ تفسيرَها ورفعتُ الصورَ عاليًا لتراها، رأتْها وأشاحتْ نظرَها عنها، رأيتُها وهي تفرِكُ يديها إحداهما بالأخرى بتوترٍ واضحٍ.
    قالتْ: نحن دولةٌ تحمي العالمَ بأسلحتِها، لقد أوقفنا بقوةِ إيمانِنا زحفَ أعدائِكم الألمانِ في أشدِ الحروبِ ولولانا لغزوا العالمَ.
    صرختُ: إنَّكم تقتلونَ الأطفالَ.
    فردتْ منفعلةً: لا تبالغوا، وإن كانَ؛ لا بد من أن يكونَ هنالك ضحايا!
    انتفختْ أوداجي من شدةِ الغضبِ؛ وللمرّةِ الأولى تركتْ آلةُ التصويرِ يدي لتصيبَ رأسَ الناطقةِ!
    ابتسمتُ راضيًا قبلَ أن يقبضوا عليَّ وابتسمتْ لي آلةُ التصوير ِالمحطمةِ.
    تمت

مشاركة: