(خيط البندول) عنوان استعاري يشكّل مع تصميم الغلاف عتبةً نصية دلالية وترويجية لرواية وكتاب في آن واحد. فحين ينبثق العنوان من بؤرة سردية ميتافيزيقية، نرى في منظور لوحة الغلاف مهد طفولة ورديًا (مدمىً) فارغًا، ينتصب بتحد وعناد على مساحة صامتة موشاة بغبش فجري حيادي، ربما يفضي إلى حيرة تأملية أو إلى مفارقة لافتة. ولأن رسالة العنوان مفهومية، ورسالة اللوحة جمالية/ إشارية، كان لا بدّ من تجادلهما لإبراز رسالة الكاتبة بوصفها أقرب إلى سيرة تراجيدية مأسوية، تجسد موقفًا نضاليًا للمهندسة (نداء) التي فشلت محاولاتها في الولادة البديلة عشرين مرة ولم تيأس، ثمّ انتهت لتوكّد على خلاصتها الفكرية الرافضة لاستسلام الإنسان لقدره وجعلِ النضال لبلوغ هدفه النبيل قيمة أخلاقية وإنسانية عليا. إنها رسالة بارزة، تعيد الكاتبة تأكيدها لتُكسبها في كل مرة بُعدًا إضافيًا متوائمًا مع أنساقها المعرفية وسياقاتها السردية المتجددة، وبوصفها الحبل السري الرابط بين عبث الطفولة الاستشرافي، ونكد الحياة الذي مكّن خيط البندول من احتلال العنوان بجدارة لافتة.
أولًا: في رحاب الرواية
في إطار دراستها وتقصّيها واقع مجتمعها الافتراضي، تبني الكاتبة نجاة عبد الصمد على ما أنجزته في روايتين سابقتين (بلاد المنافي 2010، ولا ماء يرويها 2018)، وروايتها الجديدة (خيط البندول 2023) التي حددت فضاءها الزمني ما بين 1993 و2010، لنكتشف أن خيط بندولها هذا هو خيط العلاقة السردية المنبثقة من تفاصيل الواقع ودقائقه، والتي عملت على رصّها كأرضية أو بنية تحتية، تحمل لبنات هرمٍ حكائيٍّ موازٍ، يقوم على دعائم من قوة التفكير ونفاذ البصيرة وعذوبة السرد؛ تلك العذوبة التي تضفي على المآسي متعة فنية وبوحًا وجدانيًا، يبني على كثافته الديموغرافية ثلاثة أجزاء تغوص عميقًا في مجتمع أهلي ريفي فقير، ما زالت تتجاذب طلائعه المثقفة من بنات وأبناء الفئات الوسطى والفقيرة قيم الحداثة في الحرية الفردية والاجتماعية وحقوق الإنسان وحرية المرأة واستقلال قرارها، ويواجهون وعيًا اجتماعيًا لا يزال مطمئنًا إلى صلاحية ثقافة الماضي المحكوم بعلاقات القربى (صلة الدم والنسب) الموروثة من مجتمعات ما قبل الدولة. وحيث الجميع مضطرون للتعايش والتجاذب في هذه البنية المستلبة في هوامش عصر العولمة وعلاقات السوق وثقافة السلعة والربح والخسارة. والكاتبة تذهب هنا إلى تقصي المستجدات والمتغيرات في مجتمعها السردي الافتراضي الموازي لمجتمع واقعي عاينته بدقة واختارت أن تكرّس قلمها أداة لتنويره والانتقال به إلى الحداثة وتسليحه بالوعي في ظلّ نكوص في مستوى الوعي العام العربي/ الإسلامي، والتطّيّر من كل فكر جديد. لذا جاءت المواجهة حربًا باردة بين ثقافتين على قاعدة مجتمع انتقالي، ما زالت طلائعه تتلمّس عوامل قوتها وقدراتها على التغيير فيه. فكان لا بدّ من نظرة نقدية جادة، تقدمها الكاتبة ببصيرة نافذة ودأب وذكاء.
وبهدف التعميم وتوسيع الفضاء الروائي، أغفلت الكاتبة حدود الحاضنة المكانية واختارت لشخوصه أسماء دلالية وظيفية، تشير ولا تصرّح، ولكنها عززتها بخصائص البيئة الثقافية (الهوية المحلية) بتسيير بعض مفرداتها الدراجة، وأساليب تعبيرها وعاداتها، وفولكلورها الشعبي، وأصّلتها بكل ما يعزّز الخصوصية، لتكون أسًا معرفيًا قابلًا للتعميم باتجاه الحاضنة الوطنية والعربية عامة، وبها تغدو الحالة الديموغرافية في المغمورة وزعفران والعلالي والعاصمة أسماء لثقافات محيط لا محدود، تسلط عليه ضوءًا تنويريًا جادًا مبنيًا على الحضور البارز والمستحدث للمرأة بنفسج، والمعلمات الرائدات، مقابل صور فاقعة للمرأة المضطَهدة والضحية (وردة وجدعة)، ومجتمع الفتيات الفقيرات اللواتي يعملن في الحصاد ويُستَغَلّ فقرهنّ وجهلهنّ ماديًا وجنسيًا، فتحمل منهن ثلاث أو أربع فتيات بعد كل موسم حصاد، وفقًا لما التقطته أذن وردة ابنة سنواتها الخمس من حكايا أم أيمن لستّها، وحيث تستأنف الحكاية، قائلة: أما اليوم فقد “تعلمت بنات المغمورة القراءة والكتابة والعلوم والحساب، وتعلمن أيضًا كيف يدارين الحمل”، لكن الجدة العجوز ظلت هيكلًا معادلًا لماض جاثم بثقله ولم يتغير؛ إنها من جيل كانت عجائزه تحمي فتياته من القتل بسبب فضائح الحمل والعلاقات المشينة، أما الآن فقد صار أطباء النساء هم من يتسترون على فضائحه: “لو سُرقت سجلات مريضاتهم وكُشفت شكواهنّ المريبة، لتحطمت قلوب وتقوضت أُسَر. وقد تندلع بسببها حروب أهلية.” وفق ما أكده دكتور مختار”.(1)
وعبر تبويبها المنهجي وفي ما تخصصه من مساحة لكل تقاطع بين شخوص الرواية وحوادثها في الفضاء الزمكاني، يبرز مدى تركيز الكاتبة على علاقة جدلية بين مبنى الرواية (أسلوب ترتيب حوادثها وعمليات التقديم والتأخير وتوزيعها إلى عناوين صغرى وغيرها)، ومتنها المحتشد بأفكارها وحدسها وخيالاتها، وعبر هذه الفاعلية المتجادلة، أسست بنية تحتية متينة مؤهلة لحمل الثقل النوعي للبناء الفوقي المزدحم بالوقائع وبديناميات تنمو وتنتهي محكومة بروابط سببية على مبدأ الاحتمال أو (حكمة اللا يقين). وعلى حين يشكل جزؤها الأول والأطول فرشًا واسعًا وأسًّا لمحمول الجزء الثاني، ولما تخلص إليه من رسائل قيمة في جزئها الثالث المكثف في عشر صفحات، تُحَلّ خلالها العقدة الأولية بتخلي الزوجين عن تبني الطفل (آدم)، والتي أُجِّلَت من التوطئة إلى نهاية السرد الحكائي. ولقد أفسحت هذه البنية التنظيمية الرحبة في المجال لتعدد الأصوات وتلونها، وأتاحت للراوي الرئيس أسامة، أن يتحرر من إلزام الضرورة الواقعية إلى لزوم الضرورة الفنية، ومن الاختزال إلى الرحابة ومن اللغة المباشرة الشائعة إلى روح اللغة المبدعة وشعريتها المتوهجة بالعاطفة، وهذا يوكّد أن الكاتبة نجاة عبد الصمد، تفحص كلماتها وتدقق في خصائصها التعبيرية والفنية، لتصل إلى تحقيق المتعة والفائدة، على مبدأ ليس مفيدًا ما ليس جميلًا وممتعًا وعكسه صحيح أيضًا.
ثانيًا: السرد والمسرود والسارد
تجسد سيرة (نداء) يوتيبيا سردية تقوم على مغالبة قَدَرها المشؤوم، والإصرار على دفعه عنها، فما أن عاكسها خيط بندولها حتى عاكسته، ثمّ صعدت بحلمها إلى مواجهة حرمانها من الولادة؛ تلك السيرة الأساسية المخترقة لمبنى الرواية، بدءًا من مكوناتها السببية إلى مآلاتها، وكما في السيناريو حيّدت باحترافية لافتة (توطئة) من صفحتين سابقتين تضمنتا جلسة خاصة قبل الدخول في المبنى الروائي، وفيهما يضع (د. أسامة) العقدة الحكائية أمام (د. مختار) ويطلب نصيحته بإمكان تبنيه هو وزوجته (نداء) الطفل (آدم) الذي ولّده في عيادته وبيديه، وطلبت منه قريبته الصيدلانية (بشرى) جدة الطفل، أن يكتم سره ويخفي أثره اتقاءً للفضيحة، لكونه ثمرة اغتصاب ابنتها الطفلة (نور). ثمّ ينخرط د. أسامة في سرد حكايته مع زوجته نداء وتتبع صراعها الوجودي المرير، من أجل الحصول على طفل بالزراعة، ابتداءً من إصابة نداء التي أدت إلى عقمها وحتى الانتهاء إلى خلاصة تجربتها المريرة، يسود سرد مهني احترافي ينكسر وينعطف ويلتف خارج الزمن الخطي الواقعي، وتخوله مرونته لحمل سيرة مركبة، بادئًا بضمير المتكلم واصفًا واقع الحال ومتحدثًا عن مدى اضطرابه وحزنه، حين حضر بإجازة من الخدمة العسكرية ولم يجد زوجته نداء في البيت، فذهب إلى أمه التي مهدت له باستعارة شعبية مستمدة من حكمة الكبار حين يريدون تخفيف وقع الصدمة: أسامة يا بني؛ اجلس وقل باسم الله. زوجتك في المستشفى “صادت غزالًا” أي أصيبت بطارئ صحي مفاجئ. ثمّ يسارع إلى المستشفى الوطني مكان عمله قبل الخدمة وهو يغالب شعورًا بالاختناق: “بدا ′المشفى′ قلعة أجنبية غامضة، تمنيت لو أن أشجار السرو والصنوبر العالية تُقلع من مكانها حول المدخل، لتأتيني كفايتي من الضوء”.(2) وعلى نتائج هذا الطارئ المؤلم الذي أدى إلى استئصال المبيَضين والقناة الرحمية للمريضة، بُنيت سردية معاناتهما وسفرهما إلى الأردن ولبنان، وكل ما بذلاه من جهد معنوي ونفسي وتكاليف مادية مرهقة من دون جدوى. ولقد قاد التبادل الرشيق للأدوار بين الزوجين إلى تجاوز مسألة الجندرة وارتقت العلاقة بينهما إلى مرتبة حوار الذكورة والأنوثة من جهة، كما أدى إلى تغيير جوهري في وظيفة السارد وطبيعة السرد وموقعه من الحدث من جهة ثانية، وعبره تنحت نداء الشخصية الأقرب إلى الكاتبة عن السرد الذاتي، لتستقر في بؤرة الحدث، وتغدو موضوعه والضحية وبطلته في آن واحد. وتبعًا لذلك تحولت السيرة الذاتية إلى سيرة غيرية شديدة الاتصال بساردها د. أسامة، الذي زودته بخبرتها في طب النساء، فبرع في التعبير عنها، واحتل موقعه كطبيب وزوج وراوٍ من داخل الحدث، وعالم بكل تفاصيله، ثمّ ليقدما معًا سيرة مشتركة لمعاناة مؤلمة وغنية، ترتقي بالمعاناة الفردية إلى مصاف التجربة الإنسانية المضافة التي تمثلت فيها إحدى تحديات الطب الحديث وواحدة من المآسي التي تواجهها بعض الأسر في ظل وعي اجتماعي لا زال ينتقص من شأن المرأة المحرومة من الولادة، ويضطرها إلى التستر والمراوغة كما فعلت شيرين في حبلها المزيف، إذ استأجرت سرًا رحم امرأة في إيران، لكن الدكتور شهاب المعروف بفساده، عاد ونقل لأخيها أسامة حكايتها مع حزام البلاستيك والخديعة المتبادلة بين صاحبة المال زوجة شامخ والطبيب شهاب، ثمّ ولدت طفلًا يثير بجماله الريبة. لقد أتاحت هذه التغييرات البنيوية إمكان تمرير رسالتها في رفض الاستسلام والتأكيد على ضرورة المناضلة للوصول، بصرف النظر عن الفشل أو النجاح، لأن الطريق إلى الهدف أمتع وأنبل من الوصول ذاته. إضافة إلى لفتها الأنظار إلى ضرورة تثقيف المجتمعات الأهلية، لتقبل الأبناء القادمين بشتى السبل، والتبصر وبما يكمن خلف رفضهم من جرائم بحق أجنة لا ذنب لهم.
إنها إحدى مسائل التنوير إذًا، والتي يُعبَّر عنها سرديًا بالانتقال إلى مستوى المسؤولية الأخلاقية والإنسانية المتعادلة للشريكَين ووضعها في أفق ديمقراطي يتوافق مع ثقافة الرواية، ويوكّد مع (يونغ) أن المسافة بين الرجل والمرأة أقرب كثيرًا مما نعتقد.
ولكن حكاية (نداء) التي شكلت الشريان الرئيس في متن الرواية المزدحم بالحكايا، لم تُقدم كحالة معزولة عن مجتمعها، بل كحصيلة لديناميات متحركة وسط شبكة ملحمية من علائق السرد وعلاقات الأفراد والأسر وتقاطعاتهم في فضاء الرواية الزمكاني. وفي هذه الشبكة برزت حكاية (فريدة) صديقة (نداء) التي بادلت أخاها فريد حبًا أخويًا يلتبس أو يسترشد بما يقدمه علم النفس في هذا المجال والذي يتكشف عن حقيقة أن فريد ليس أخاها. وسيأتي مرضها بعد زواجها من صلاح ثم وفاتها مكملًا لحياتها البائسة في بيت والدها التاجر البخيل فوزي، والذي طرد فريد من بيته بدوافع خفية وبادية، على الرغم من دوره في إنجاح تجارته في الأقمشة وتطويرها. لذا شكلت فريدة نموذجًا خاصًا لبيت من بيوتات إشكالية متنوعة كبيت الخالة جدعة، التي فسخ أهلها خطبتها ونقلوها إلى بيت أختها عذبة بعد ولادتها الخامسة وإصابتها بالجنون ثم بمشورة العقل الطوباوي الغني عن المعرفة والمتعايش مع أوهامه كان على عذبة المجنونة أن تلد بتتابع سريع خمسة أطفال آخرين لتشفى، لكنها ماتت في الولاة العاشرة وتركتهم لأختها جدعة، فحوّلت هذه البيت إلى حاضنة تستقبل أطفالًا بأجر يساعدها مقابل رعاية قبيلة أطفال ترعاهم عند انشغال أهلهم. وفي هذا البيت دفع والد الطفل أدهم أجرته، ليعتاد العيش في هذا الحشد حوالي سبع سنوات، قبل أن تعود أمه ملهوفة من غيابها المفاجئ والطويل بعد صراع مع زوجها وخلف مهماتها الحزبية، وتنقله معها إلى بيروت وتقدم له شهادة ثانوية مزورة في الفرع العلمي أمنت له دراسة الطب في الاتحاد السوفياتي.
إنها لمن سخريات القدر ومفارقاته المضحكة المبكية حقًا، أن تتخلّى أم أدهم عنه لسنوات وأن يولد (آدم) بعمومية اسمه بظرف طارئ يلوّح بالفضيحة لأهالي الطفلة نور، في محيط دغمائي حيث العار والفخار عامان، وأن تلد عذبة المجنونة عشرة أطفال وتموت وتُحرم أختها جدعة من حياتها الطبيعية، بينما يعاند قدر الزوجين المميزين عشرين مرة، ويدفعان أغلى التكاليف المعنوية والمادية والإرهاق الجسدي والنفسي، ولا يحصلان على مولود. هذه خلاصة تجربة ورسالة قيمة عليا، تنتصر فيها الكاتبة لإنسانية المرأة ومؤهلاتها سواء أنجبت أم لم تنجب، وبها ارتقت إلى مرتبة الباحث الاجتماعي التنويري المنشغل بهاجس تغيير الأفكار وتحديثها، كما أضافت لبنة على المكانة الخاصة التي حجزتها لقلمها حين اقتحمت به ميدانها المفضل، مزودة بثقافة مهنية في طب النساء، وأخرى اجتماعية وعامة وإحساس جمالي وبموهبة سردية مميزة، أهّلتها لتكون واحدة من حملة و”شهود الحكايات الأثقل من صخرة موسى” وفقًا لما نسبته عبر أسامة إلى د. مختار أستاذه في الطب النسائي والذي أضاف: “لو سُرقت سجلات عياداتنا أو تفككت شيفراتها لتحطمت قلوب وتقوّضت أسر، وربما أُشعِلت حروب”.
وفي لوحة كتابية تنطبع طويلًا في ذاكرة القارئ، قدمت الكاتبة وصفًا دقيقًا لوجه فريدة وأضفتْ عليه بالكلمات والتعابير المؤثرة تعاطفًا، يحلل دواخل نفس المريضة المضطربة: “ولدت فريدة بوجه شاحب أقرب إلى الصفرة، وجفن أيسر ينسدل على عينها كشرشف من حزن طري، تذبل عينها اليسرى من تحته، فإذا تطلعت فريدة إلى محدثها، تبدو نظرتها حياءً خالصًا، أو اعتذارًا أبديًا عن كونها كذلك.”(3)
وإذ يصعب في نص محدود تناول كل جمالات الوصف، ويكتفى بجرعة من سلسبيله، قد لا تكون الأجمل ولا الأهم، ولكن للإشارة إلى طريقة تعاطيها مع سيميائيات اللغة والبلاغة، سنجد تلمس السارد لمشاعر فريدة: “هبطت باقة الورد على رأس فريدة، سرى ملمس الورد من يدها إلى دمها، ثقب غلالة الحزن فيها إلى حين.”(4) وبالوصف يبرز أسامة الفارق بين عقلانيته وعناد نداء وثباتها على حلمها: “(…..) طوال الطريق الذي لم يوصلنا إليهم (فراخ البط) رابضت نداء عند فكرتها ورابضتُ عند عقلانيتي. ظلت على قلقها وأنا على هدوئي” وفي وصفه لعلاقتهما القائمة على التكامل والاستقلالية: “منذ أن التقينا كنا مثل شجرتين، مهما مرت الريح وشبكت أغصانهما لن تتحولا إلى شجرة واحدة، وينتهي الحال بالشجرتين إما مهمشتين أو واقفتين ولكن منهكتين أو واقفتين فوق جذورهما وأغصانهما في عناق. ما بيننا يشبه ما كان بين أمي وأبي.”(5)
وتبرز في الحوار الوظيفي بكثافته النوعية الخصائص النفسية والثقافية المتباينة للمتحاورين ويكشف عن طبائعهما ومستواهما الثقافي، ومثاله حوار بنفسج الغني عن التعليق مع جد أطفالها: “خذ بيتك، ولك أيضًا حصتك من راتب ابنك، تتعهد لي أمام شهود أنك تأتمنني على أولادي، وتتنازل عن حقك في قطعة الأرض التي اشتريناها في زعفران أنا ومجيد.”(6) وكذلك حوارها مع الطبيب النسائي الذي زرعت عنده لولَبًا مانعًا للحمل قبيل زواجها من فؤاد، وطلب منها أن تأخذ موافقة الزوج، لكنها أجابته بلغة بليغة باترة:
- (7)هو الحال لا أريد من هذا الزواج أولادًا. سأقاتل برحمي عن أولادي
- سيصير زوجك وإن لم تخبريه فأنت تخدعينه
- زواجي منه هو الخدعة، وجئت إليكَ لأكمل ما نقص من معاهدة الضرورة
ببراغماتية لافتة فازت بنفسج برعاية أطفالها وقبلت بزواج غير متكافئ، لكنها تدبرت أمرها بتركيب لولب مانع للحمل في غفلة منه، وثقلت الصراع القائم، ليغدو صراعًا ثقافيًا واجتماعيًا وجندريًا في آن واحد، ثمّ أكدته من جديد بحكاية وردة(8) التي تلخص سيرتها: “أبي لا أعرفه، أمي تركتني لخالتي، وخالتي تركتني لأهل أبي. أنا بنت لن يقاتل من أجلها أحد.”(9) إنها ابنة أسرة اغتنى الأب والأخوة فيها من عملهم بالتجارة والسفر إلى الخارج، وتسلّعت أخلاقهم وقيمهم وباتوا فائضين عن مجتمعهم، عائمين خلف مصالحهم وشهواتهم، لا يرتدعون عن رمي أولادهم وأسرهم لقدرهم، ولا سيما البنات الأقل حظوة من الحماية والاهتمام. لقد هجرها والدها مع شقراء أجنبية إلى الأرجنتين وتزوجت أمها فأذاقتها جدتها العجوز في المغمورة صنوف الظلم والإذلال، وبذلك يبرز طبع التسلط كثقافة لجيل جدتها لأبيها التي أجبرت الطفلة على الاعتناء بنظافة جدها العاجز واستحمامه، حتى إذا توفي ولم يعد هناك من يحبها، وقعت الفتاة فريسة سهلة لنمر تاجر المخدرات المدمن الذي خطفها، ثم أُدخل في السجن خمس سنوات فاصطحبها والدها العائد بإجازة من الأرجنتين وحاول تزويجها هناك، ولكنها رفضت وعادت إلى زوجها نمر من جديد، ولما ارتكب جرمًا وعاد إلى السجن ومات فيه، ظلّت وحيدة وعادت إلى الدكتور أسامة، لتعرض عليه التبرع برحمها لزوجته وتكشف ما يتردد من أقاويل في مجتمع زعفران عن ضيق في رحم زوجته نداء يمنعها من الولادة.
ثالثًا: الواقعية في الوقائع السردية
الواقعية في رواية خيط البندول مناخ أصيل، يجسد حكايات واقعية معدلة جينيًا، وأخرى متخيَّلة مطعّمة بنكهة الواقع، وكلها تتوافق وتتآلف مع أنساقها المعرفية وسياقاتها السردية، وتظل مستقطبة حول البؤرة المركزية لتوكّد أنه مهما تشاكلت الرواية مع الواقع لن تكون سوى (ميتافيزيقيا العقل) المتشاكلة والمخالفة في آن واحد مع الواقع المعيش. هكذا بكل بساطة يخبرنا السرد في لعبة خيط البندول: “فريدة رسبت وسالي رسبت وتزوجت و(انشغلت بالحمل والأطفال) وكاميليا ذهبت إلى كلية الفنون في العاصمة، وذهبت نداء إلى شغفها بالهندسة المعمارية.” لقد حفزها عناد خيط البندول فعاندته ثمّ خانها حظها، فانبرت تخوض معركتها الوجودية في سبيل الحصول على طفل عبر الزراعة، حتى إذا فشلت محاولاتها عشرين مرة، لم تيأس، بل زادها إصرارًا على تحقيق هدفها وجعله نهجًا لحياتها. وما زاد من تصميمها على التميز التشبه بوالدها وشعورها بخلو حياتها من الحب وفق وعي اجتماعي مجحف، يميز بين الناس بحسب ألوان بشرتهم، لا بموجب مؤهلاتهم وإمكاناتهم، لذا راحت تلحف في طلب الحب معبرة عن فتاة مأزومة، يخرمها الفقد والحرمان، فتتجه بندائها المجروح الى والدها مَثَلها الأعلى والمحبّ الأنضج، لتقول له: “تعال خذني من هنا، (أنا بنت وحيدة ونحيلة وغامقة السمار، لا أحد يحبني كما أحببتني أنت)”(10) حتى إذا سرى صوته الرسالي الطوباوي، صار محفزًا إضافيًا وداعمًا معنويًا، يكمل عناصر شخصيتها المستقلة الرافضة، ويدفعها أكثر فأكثر نحو النجاح في مسعاها، لتكمل نجاحها الذي بدأته في دراسة الهندسة، وتابعته بالزواج من الحبيب د. أسامة، ولم تزل تجد وتجتهد بالسبل كلها للحصول على طفل، بعد أن تحطم حلمها بثلاثة أطفال، كانت قد انتقت أسماءهم وأرادتهم تجديدًا رمزيًا لمن أحبت وفقًا لسنة الحياة. ولكن قدرها الذي اختارها لهذه المواجهة الشرسة، كأنه تواجه بطلة تراجيدية في معركة وجودية ضارية مع قدر غاشم. وحين فشلت تعززت بدعم معنوي من شريكها أسامة، ثم تجاوزت تعلقها بالطفل البديل آدم، لكي تعود إلى مسار حياتها الطبيعي، موكّدة أن قيمتها الإنسانية لا تكمن في القدرة على الولادة أو عدمها، ثم يذكّر السرد بحكاية أدهم كأنموذج آخر، تربّى في بيت الخالة جدعة وأهدته أمه شهادة ثانوية في الفرع العلمي مزورة من لبنان، لكنه جدّ واجتهد وتخرج طبيبًا في موسكو، ثم صاحب العديد من البنات “سخنتهنّ كؤوس النبيذ في ليالي موسكو الباردة، أو شمس الصيف في منتجعات يالطا وسوتشي”، ومن بينهن تزوج لودا الروسية وبعد أن صار أبًا لطفلين، وقع على سهير المصرية القادمة لدراسة الطب في موسكو، ومن بعد أسفار خياله فيها “سافرت بينهما لغة الضاد كما الماء في منحدر”(11) وحين حملت منه وولدت، سلمت طفلها إلى بيت الشباب الوطني بموجب إقرار رسمي. بينما ظل أدهم يعمل في تجارة الشنطة التي شاعت بين الدراسين في الاتحاد السوفياتي آنذاك، وتنقل بتجارته بين تركيا ولبنان وموسكو، وبعصامية عمّر بيتًا في مدينته ليعود إليه، حين: “داهمت البيروستريكا البلاد وفككتها وأودت بها إلى شفا الفوضى.”(12) وبذا تغطي الكاتبة واقع الطب أخلاقيًا، وتكشف بعض إشكالات الدراسة في موسكو. وتشير إلى موقف السارد من البيروستريكا، والذي لا تزال بقايا جدل حول أحقيتها قائمة حتى الآن!
وفي التركيز على تميز طليعة الشريحة الوسطى، ومؤهلات أسرها التي ترفض الارتهان للثقافة التقليدية، يبرز والد نداء الضابط الطيار الشهيد مجيد الذي كان جذرًا مؤسسًا للقراءة والثقافة، وأمها المعلمة بنفسج التي كانت من أبرز الرائدات في اختيار شريك حياتها وفي استقلالية شخصيتها واعتدادها بنفسها، وقد عبرت عن ذلك بوقوفها في وجه جد أولادها، وخلفه جيش من القوانين والأعراف الضاغطة التي اضطرتها لتوقيع ما أسمته (معاهدة الضرورة)، وتزوجت عم أولادها فؤاد المنادي المرتجل على الركاب في الكراج، ومعه تقاسمت وأولادها الثلاثة (إسراء وطارق ونداء) السكنى في بيت جدهم في زعفران، وعاشوا حياة عملياتية خالية من الدفء تلازمهم فيها رائحة الوالد الغائب. وفي البيت ذاته، وتبعًا للعادة المعبرة عن مباركة الأهل ورضاهم، يعطي طارق ذراعه لأخته العروس نداء، ويسلمها إلى عريسها أسامة الذي كانت قد تعرفت عليه في حفل تخرجه من كلية الطب، لتمضي معه “بقلب ندي ورأس مرفوع وعينين وقّادتين، أميرة نفسها وأميرته.”
والواقعية هنا ليست تلبيسًا للواقع على النص ولا التباسًا به، بل هي تعاط متكامل مع كوامنه وتجلياته وتقديمه عبر نماذج نسائية ورجالية كاشفة، بحيث لم يقلل حضور المرأة المتنوع من فرص تقديم نماذج لرجال افتراضيين، أهمهم الشخصية النامية والناضجة أسامة الزوج الذي تميز بوعيه ونبله، بينما برز في محيط مدينته زعفران ومنطقته رجال آخرون مارسوا أدورهم كسادة وغطاريس، منهم والد فريدة، أو مستهترين مثل والد وردة، أو شاذين مدمنين وتجار مخدرات مثل نمر الذي أغوى وردة وخطفها، ثم دفع مهرها لأعمامها ذهبًا، ثم مات في السجن وتركها لمصيرها ضعيفة لا سند لها. وبهذه النماذج البشرية المتباينة، تكون الكاتبة نجاة عبد الصمد قد غطت ثقافات وأخلاقيات، تتعايش في مجتمع واحد، وتكشف بروح الناقد الموضوعي وقادة التنوير نواقصه وعوامل تخلفه، وتشير إلى إرهاصات التغيير والتحديث فيه؛ ومن خلال هذه الواقعية المتلازمة مع التخييل قدمت لغة سردية مميزة ومتوائمة مع اللهاث وضربات القلب الجياش بالعاطفة والمفعم بالعزيمة وإرادة التحدي، ومن خلال الكلمات والفواصل والنقاط الموزعة بحِرَفية، في هذه اليوتيبيا الملامسة للمشاعر والغارفة من صميم القلب والوجدان، تجلت القيمة الإنسانية الأهم لإنسانة لم يدمرها الفشل المتكرر، بل خرجت بمشاركة زوجها إلى حياتها الأحق والأجدر: “قومي نداء… لا يزال في الحياة متسع… دوسي على بقع الدم وسيري، التفتي خلفك لا ندمًا، بل كفارة، تدربًا على عدم النسيان، لو عاد الزمن وخيرك، فسوف تسلكين الدرب ذاته، إنما بنكهة أخرى”، وتختم بخلاصة الخلاصات “إنه الحب، هنا، أمامك، حولك، بين يديك، فيك، الحب الذي منذ لحظته الأولى، منح حياتك معناها.”(13)
رابعًا: شخوص الرواية
شخوص الرواية نتاج التقاطع والتفاعل بين مجتمع زعفران والمغمورة ومحيطهما، ومستوى وعي الأسر وأحوالها وملكات الأفراد وقدراتهم، وعبرهم يبرز التأثير المتبادل سلبًا وإيجابًا. فمقابل أسرة نداء المثقفة وسويتها الاجتماعية والأخلاقية، سنجد المرأة الضحية (وردة) التي تخلّى والدها عنها وعن أمها وهاجر مع شقرائه إلى الأرجنتين، فوقعت تحت تسلط الجدة لتنجر في مراهقتها المبكرة بسهولة إلى أحضان تاجر المخدرات نمر. وهي حالة تضاف إلى حكاية جدعة الضحية الأخرى للعقل الاجتماعي وإن بأوضاع مختلفة. فالشخوص إذًا هم المجسّدون لرؤية الكاتبة والمعبرون بسلوكهم وطبيعة علاقتهم عن ثقافة مجتمع أهلي، انتقالي، أبناؤه ريفيون في المدينة ومتمدنون في ريفهم، ويتعايشون على القلق تجاه ما يصبون إليه من الحداثة والتقدم، وما يعيق تقدمهم من ثقافة أبوية ذكورية تستند إلى علاقات مجتمع ما قبل الدولة، وبموجبها اضطر د. أسامة الخضوع لقانون العيب الاجتماعي، وينتهك قَسَم أبقراط وشرفية المهنة، في بيئة تهتم بالستر أكثر من اهتمامها بالواقعة الإنسانية.
وعبر هذه الواقعة وغيرها وكطبيبة عريقة، عبرت إلى تشريح بنية وعلاقات القطاع الطبي بوصفه الأكثر تمثيلًا للسوية الأخلاقية والاجتماعية ومن المفترض به، أن يكون الأجدر بحالات التثاقف والتجديد، وعليه ومن داخله، أصدرت أحكام قيمة على لسان الطبيب أدهم وبعض التعليقات العابرة، ففي التواصل الضروري مع مهنته، يروي أسامة إرباكه كطبيب نساء بدعوات طارئة، وتحدث عن قريبته الصيدلانية بشرى التي استغاثت به واضطر لإلغاء سهرة العمر بسيارته (التيوتا) البديلة عن (إيج) في العاصمة، ليقوم بتوليد ابنتها الطفلة نور المغتصبة من أربعة شبان بعد تخديرها، مخالفًا بذلك القانون ومنتهكًا قَسَم أبقراط. ومدينًا لمجتمع الاستهلاك عبر الصيدلانية بشرى التي غفلت عن مراهِقة في الرابعة عشر من عمرها، في غمرة انغماسها بأرباحها. وحين استُدعي لتوليد زوجة أخيه وحيد، قاده توارد خواطره إلى توسيع المعلومة الشائعة عن كون الرومان هم أول من أجروا عمليات قيصرية، موكّدًا أن أول من أجراها بنجاح مع الحفاظ على سلامة الأم وطفلها كانت طبيبة، تسمت باسم رجل وهي “مارغريت آن بكلي”. ثم يكشف السرد النقاب عن واقع النقابات المهنية والعلمية وانتخاباتها الشكلية بالإشارة إلى فوز الطبيب شهاب السيء السمعة والموالي للأجهزة الأمنية. ويشير إلى تأنيب أدهم زملاءه الأطباء كاشفًا عن أطباء حفَظة، يتلقوّن ولا يبدعون وتقوم علاقاتهم على النفاق والكذب والحسد، بقوله “منذ أن دخلتم كلية الطب رفعتم مناخيركم.. في حين كنا نتلقّى كلنا جديد الطب مثل الببغاوات… في موسكو لم نكن منفوشين على خواء” ؛ إنه مجتمع كثيف ومتشابك وقلق ومتواثب، وفيه إشارة واضحة إلى ما يتركه حرمان الطفل المادي والعاطفي من أثر في مستقبله، يقول السارد: “قرأ أدهم في مكان ما أن كل ما ينقص من ثوب الطفولة، يبقى مكانه عاريًا مكشوفًا كخاصرة رخوة، لن تتغطى وإن ملك صاحبها ثلاثين بدلة في زمن النضج”(14) وحيث في أول الوعي كان شروده ارتدادًا إلى ذاته يبوح لها وحدها كنديم لا يشي بما لو عرفه رفاقه عنه لأصبح مهزأتهم.
رواية خيط البندول مجتمع مثيل وبديل ومضاف عليه وإليه، وقد صنّعته الكاتبة بحرفية وزودته بحزمة أفكار قيمة مشبعة وجدانيًا وعاطفيًا، من دون أن تتخلّى عن موضوعية الباحث والناقد التنويري، ولا ما يمكن أن يضاف إلى حوامل اجتماعية وثقافية للسياسة والشأن العام من دراسات أنثروبولوجية وسيكولوجية، بروح شعرية وسيميائية مفعمة بإشارات واستعارات مبتكرة، يتعادل فيها التعبير والتفكير وحسن التدبّر، فيرضي أذواق أهل الثقافة ويرتقي بأذواق العامة وأفكارهم.
خامسًا: الخلاصات والرسائل
يزدحم الجزء الثالث والأخير بكثافة نوعية تستوعب خلاصات التجربة وحكمتها في عشر صفحات، وفيها يتضح نضوج الزوجين، والوصول عبر مراجعة التجربة والتفكّر إلى مواقف عقلانية، يصارح كل منهما نفسه بما أخفاه خلال معارك قيدت حريتهما ووسمت حياتهما بطقوس من التخفي والريبة والقلق، بعيدًا عن أعين الأهل والمحبين. لقد بدا الخروج من هذا العبء تحريرًا للإرادة وخطوة ضرورية إلى الحب بوصفه القيمة الأسمى والتعبير الذاتي عن الوجه الإنساني للحرية الحقيقية. وخلالها تحدّث أسامة عن خطواته عند تسليمه آدم لقدره، راسمًا المشهد في موكب احتفالي درامي نَسَكي أشبه بطقوس تشييع الموتى، وبه يتدفق التعبير عن عاطفته الجياشة وهو يمضي متناغمًا مع إيقاع تمزقه الداخلي، وثقل خطواته وتكسرها في مشهد درامي فائق الحساسية، فيقول: “كان عمره عشرة أيام، غافيًا فوق سريره الموقّت في بيتنا. رفعته عنه وسرت به خارج بيتي. لم يستيقظ ولم يتنهد ولم يتململ. أنا أمشي وأحضنه وأبكي، وهو مغمض العينين لا يدري إلى أي أهل آخذه.”(15) وبهذا التشييع الرمزي للطفل، يكون أسامة قد قطع مع التجربة وشيّع معها كل ما أحاط بمسارها من وهم وتعلق عاطفي، ثم اتجه إلى شريكته، معلنًا: “كفّى!”؛ وكفى هذه دلالة نضج وتغليب الواقعية وحكمة الحياة على ملاحقة الفراغ واللا جدوى: “كفى! هذه ليست رغبتي، هذه محرقة. لو خيرت بينك وبين طفل يكلف هذا العناء لاخترتك أنت.”(16) نعم لقد خسرا معركة ولادة طفل، لكنهما ولدا طفل الحياة وصار كل منهما “طفل الآخر” الأجدر بالبقاء والنمو. وقد حفزت هذه المراجعة نداء فخرجت من الطوباوي إلى الواقعي، لتقول: ” كنتِ ترغبين أن تكوني محبوبة، ولكنك لم تتعلمي كيف تحبين نفسك بما يكفي، ولم تصغي إلى نداء حبيبك” بينما يقول الطبيب أسام “ظننتُ في لحظة عابرة أن كل شيء سيكون على ما يرام، طوباوي… آدم عندي أمنيتي وأمانتي. آدم الذي يبكيني أن مقامه بيننا لن يطول أطول من مقام ضيف.”(17) ثمّ يستعيد السرد خلاصة التجربة وحكمتها وعمقها عبر مونولوج تصالحي مع ذاتها المرهقة، وتعزية، ولتستمد منه الشفاء وتجدد العزيمة على متابعة الطريق: “قومي نداء، غادرك آدم وبعثرك إلى حين، لكنك لم تصبحي أشلاء، ولا تزال روحك وثّابة… دوسي على بقع الدم وسيري… لو عاد الزمن وخيّركِ، فسوف تسلكين الدرب ذاته…” وهنا تكتمل حكمة التجربة الجديرة بالاهتمام “إنه الحب، هنا، أمامك، حولك، بين يديكِ، فيك، الحب الذي منذ لحظته الأولى منح حياتك معناها.”(18) إنها حكاية خيط سرى من بداية السرد إلى خاتمته، ليوكّد جدارته في أن يكون حبلًا سرديًا ميتافيزيقيًا، تسري ظلاله بين وجهين متكاملين: الميتافيزيقيا والواقع.