تفكيك الثورة السورية(1)

مايكل بروفينس(2)

ترجمة: ورد العيسى

في شهر آذار/ مارس 2011، تحدى المواطنون السوريون حكومتهم بالاحتجاج في الشوارع، ومؤخرًا بالمواجهات المسلحة. تعود جذور حركة الاحتجاج واستجابة الحكومة لها إلى الماضي القريب. تتناول هذه المقالة ملامح العقد الماضي، والحوادث في سورية منذ عام 2011، لفهم جذور الاحتجاج الشعبي وأصول رد الحكومة السورية العسكري إلى حد بعيد. ظهرت الاحتجاجات والمعارضة بعد وصول بشار الأسد إلى السلطة في عام 2000. ولم يكن رد الحكومة على هذا الاحتجاج محددًا مسبقًا، بل كان نتيجة هياكل حاكمة محددة وخيارات سياسية اتخذتها نخب الدولة.

هياكل النظام
توفي الرئيس السوري حافظ الأسد في صيف عام 2000، وانتُخب ابنه الثاني بشار الأسد، البالغ من العمر 34 عامًا، رئيسًا، في استفتاء نموذجي لمسابقات الرئاسة السورية. في عام 1999، فاز حافظ الأسد في استفتائه الأخير. كان المواطنون السوريون ملزمون قانونًا بالتوجه إلى صناديق الاقتراع (كان هناك عدد محدود من الأعذار المشروعة لعدم الذهاب) حيث عُرض عليهم خياران: نعم أو لا. ذهب الجميع تقريبًا إلى صناديق الاقتراع، وكان من المفهوم على نطاق واسع أن التصويت بـ “لا” لم يكن خيارًا حكيمًا. نظّم المعارضون الحقيقيون إجراءات طبية أو غادروا البلاد إلى لبنان يوم الانتخابات. كانت الاستفتاءات تجرى كل سبع سنوات، ومع وفاة حافظ، أصبح من الضروري إجراء استفتاء خاص لتعيين رئيس جديد. كان حافظ الأسد مريضًا في سنواته الأخيرة، لكن مدى سقمه كان من أسرار الدولة الخاضعة لحراسة مشددة، وكانت وفاته مفاجأة للجميع تقريبًا.
كان حافظ الأسد خلال ولايته كرئيس قد أرسى مناخًا من التعتيم التام. لقد رَأَسَ الحكومة منذ الانقلاب الذي حدث ضمن حزب البعث، أو ما يعرف باسم الحركة التصحيحية التي قام بها عام 1970. في مناخ من الغموض والتعتيم، لم يعرف أحد ما كان يجري في المناصب العليا للحكومة. في أشهره الأخيرة، وَسْط شائعات عن مرضه واحتمال وفاته، ظهر فجأة على مدرج مطار دمشق، متلفزًا على جميع القنوات الرسمية، للترحيب بالسفير الروسي القادم. بالطبع، كان هذا هو الواجب الطبيعي لوزير الخارجية، لكن مظهر الأسد، النحيف كهيكل عظمي أسكت الشائعات حول عجزه. أصيب البعض بخيبة أمل لأنه لم يمت، لكن معظم القلقين مما قد يأتي بعد وفاته، شعروا بالارتياح بسبب الأدلة على حيويته النسبية. أعلنت اللافتات في جميع أنحاء دمشق “قيادته الأبدية”. تساءل السوريون بهدوء عما إذا كان هناك ما هو أكثر من هذا الادعاء غير غلو النظام النموذجي والسخيف إلى حد ما، ولكن المشؤوم أيضًا.
كانت الخلافة قضية معقدة في سورية. تشير الملصقات والشهرة المتزايدة لبشار الأسد، الابن الثاني للرئيس وطبيب العيون السابق، إلى أنه كان يجري إعداده ليخلف أبيه. كان المعجبون به ورجال حاشيته المحتملون يسمونه “د. بشار”. لكن فكرة الخلافة الوراثية في بلد صُنف على أنه الجمهورية العربية السورية كان يُنظر إليها على نطاق واسع بشك وحتى ببعض الازدراء الهادئ.
وفجأة مات حافظ الأسد. سرعان ما غُيّر الدستور للسماح بانتخاب شخص يقل عمره عن 35 عامًا، وقام الحزب الحاكم بترشيح نجل الأسد. تقرر إجراء الاستفتاء. شهدت العاصمة والبلد المتجهمان والمذهولان والخائفان جِنازة متقنة. فجأة بدا الأسد -الابن الذي خلف حافظ الأسد- الحل الوحيد الآمن القابل للتطبيق.
كان مقهى هافانا القديم الشهير وسط مدينة دمشق هادئًا يوم الجِنازة. كان المقهى معروفًا بكونه مكانًا يتردد عليه المثقفون البعثيون والشيوعيون القدامى المناهضون للنظام. حين كان موكب الجنازة، في مكان قريب من المقهى، يُبث على الهواء مباشرة على شاشة التلفزيون، كان حفنة من رواد المقهى ينظرون إليه بلا مبالاة مدروسة. صرخ زائر سوداني يحتمل أنه كان في حالة سكر، “من هؤلاء الرجال؟” دفن الرواد الآخرون وجوههم في صحفهم وتجاهلوا اندفاعه.

بشار الأسد يتولى الرئاسة
خلف بشار الأسد والده بسلاسة، وبدا أن الشعور العام بالقلق قد تلاشى. مع انحسار القلق والخوف من المستقبل، بدا أيضًا أن الخوف المتأصل من الحكومة يتراجع. أُجريَ الاستفتاء على الرئيس الجديد. اعترف قلة من الشبان الدمشقيين من معارفي باهتمامهم بالتصويت، في تناقض واضح مع الاستفتاء الأخير الذي أجراه حافظ الأسد.
ألقى الرئيس الجديد خطبةً شهيرة أعلن فيها أن سورية ستتغير. وأعلن إنهاء مظاهر التملق والولاء للنظام التي وصفها بأنها ضد كرامة المواطنين. أزيلت اللافتات العملاقة التي يصل ارتفاعها إلى خمس طبقات من على مباني الدولة التي تضمنت عناصر أساسية لعبادة الفرد الجائرة والقمعية. أعلن الرئيس الجديد أن التغيير سيأتي، وإن كان بوتيرة تضمن الاستقرار. كانت الحكومة تعلم أن السوريين الذين تأثروا بذكريات الحرب الأهلية في لبنان المجاور وعقود من الانقلابات في الداخل في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، يقدرون الاستقرار قبل كل شيء.
في الأشهر التي تلت ذلك، بدا أن الرئيس يستخدم شعبيته المكتشفة حديثًا سلاحًا ضد عناصر غامضة من عهد والده وضد أولئك الذين ربما عارضوا وراثته الحكم. غالبًا ما أطلق المحللون الغربيون على هؤلاء المسؤولين المخضرمين لقب “الحرس القديم”، لكن لم يكن واضحًا تمامًا إلى من يشير اللقب. من الموكّد أن الحكومة الجديدة استخدمت مثل هذه الصراعات -حقيقية أو متخيلة أو مسحورة- لإرباك منتقديها وخصومها الدوليين. ظل هذا التناقض القائم على الترغيب والترهيب بمنزلة فن رسمي للدولة السورية. الرئيس نفسه، في مقابلات متكررة إلى حد ما مع الصحافيين والعلماء الأجانب، رفض فكرة وجود حرس قديم منظم، مشيرًا إلى أن الدولة فيها ملايين الموظفين، ومن الموكد أن الكثير منهم عازمون على طرقهم ومترددون في تغيير أي شيء.
في خريف عام 2000، مع ضمان استقرار الدولة، ظهرت حركة تسمى “ربيع دمشق”. وقّع تسعة وتسعون مثقفًا سوريًا بيانًا يطالب بإلغاء قانون الطوارئ، والإفراج عن السجناء السياسيين، وتوكيد الحقوق الدستورية. كان قانون الطوارئ قد فرض الأحكام العرفية السارية وعلّق الحقوق الدستورية منذ الحكومة البعثية الأولى في عام 1963. وردًا على ذلك، أغلقت الحكومة سجن المزة ذائع الصيت في دمشق، حيث احتُجزت أجيال من السجناء السياسيين والسياسيين السابقين إلى أجل غير مسمى منذ زمن الانتداب الفرنسي. أُطلق سراح مئات السجناء السياسيين، ولا سيما اليساريين والشيوعيين. لكن النفي وحكم الإعدام التلقائي على المنتمين إلى جماعة الإخوان المسلمين لم يُغيَّر. افتتح رسام الكاريكاتير السوري الساخر والشهير علي فرزات مجلة “الدومري”، وهي أول دورية مستقلة منذ الستينيات. بدأت سلسلة من صالونات النقاش علنًا لمناقشة القضايا السياسية والاجتماعية.
كان الانفراج قصير الأجل. سواء أكان ذلك بسبب الضغط والمعارضة من داخل النظام، أم من الضغط الخارجي الناجم عن هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر وإعلان بوش “محور الشر” و”الحرب على الإرهاب”، أو، على الأرجح، نتيجة مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية مقترنة ربما مع غريزة القمع الانتهازي، عادت الحكومة السورية إلى عاداتها. بحلول أواخر عام 2001، شَرَعَت في سَجن الناشطين والمثقفين ومعاقبة أي شكل من أشكال النقاش العام أو المعارضة.
إلا أنّ المدّة الجديدة من القمع كانت مصحوبة بإعلانات الإصلاح النهائي، وبالتأكيد حدثت بعض التغييرات. كانت شوارع دمشق أنظف، وزادت رواتب موظفي الدولة، وأصبحت المنتوجات الاستهلاكية أكثر وفرة، وخُففت قوانين البنوك، وبدأت البنوك الخاصة في الظهور. ازداد الاستثمار الأجنبي، ولا سيما من دول الخليج. قام الممول السعودي الشهير الوليد بن طلال ببناء وافتتاح فندق الفصول الأربعة Four Seasons بالقرب من وَسْط مدينة دمشق على طول نهر بردى والطريق القديم إلى بيروت. اشتكى عدد قليل من السوريين من أن الفندق الفخم الجديد قد بُني على أرض حديقة عامة تعود إلى العهد العثماني واستهلك واحدة من المساحات الخضراء العامة القليلة في العاصمة. تبلغ تكلفة الإقامة في إحدى غرفه 400 دولار في الليلة، أي ما يعادل الراتب الشهري لأستاذ بارز في جامعة دمشق. زادت السياحة بشكل كبير، وفتح السوريون محالّ استجابةً لتدفق الأجانب. كان السائحون الجدد سعداء عندما وجدوا سورية جميلة ومضيافة ورخيصة.
عندما فتحت الحكومة ما كان اقتصادًا اشتراكيًا مغلقًا للتغلغل الرأسمالي، أصبح أفراد عائلة الأسد، ولا سيما أبناء خالته، أثرياء جدًا. حصل رامي مخلوف على امتيازات معفاة من الرسوم الجمركية على الحدود السورية اللبنانية ومطار دمشق، إضافة إلى الامتياز الأكبر من امتيازين للهواتف المحمولة الحكومية. صُدم السوريون من المشهد غير المألوف للسيارات الأوروبية الفاخرة والأشخاص الذين يرتدون ملابس باهظة الثمن في شوارع العاصمة. أدى الاستهلاك اللافت للنظر بين أبناء طليعة حزب البعث الاشتراكي إلى استياء يُنذِرُ بالخطر. قامت نخب الدولة ببناء مجمّعات شاسعة مسوَّرة تشبه التقسيمات الفرعية التي قام بها الأميركيون الأغنياء في البساتين والأراضي الزراعية السابقة في الجبال شرق العاصمة. أقام المستثمرون السوريون والأجانب ملاعب غولف وفنادق في القرى الزراعية المحاطة بدمشق. أضفت الحكومة الشرعية على البنوك الخاصة، وبعد مدّة وجيزة، شرّعت الجامعات الخاصة. يمكن للأثرياء السوريين شراء التعليم الخاص لأطفالهم وتجنب مؤسسات الدولة التي تعاني نقص التمويل والازدحام والفساد.
في غضون ذلك، تلاشى استثمار الدولة في ما كان في السابق الأسس الأيديولوجية للشرعية البعثية. على مدى عقود، منذ الستينيات، استثمرت الحكومات السورية، المؤلفة من أشخاص من أصول ريفية متواضعة، مثل حافظ الأسد، موارد الدولة في الريف، وفي بناء المدارس والمستشفيات والطرق المعبدة الجيدة، وتوفير الكهرباء والمياه بشكل مضمون. كان النمو السكاني في الريف سريعًا، إلا أنّ مستويات المعيشة، والوصول إلى الرعاية الصحية، والتعليم، ومعدلات معرفة القراءة والكتابة قد تحسنت منذ الستينيات. وقد تجنبت سورية الآثار المدمرة للهجرة الجماعية من الريف إلى الحضر التي عانتها بلدان نامية أخرى.
زاد عدد السكان السوريين بمقدار سبعة ملايين في العقد الذي تلا وفاة حافظ الأسد. مع تزايد رأسمالية المحسوبية وإثراء نخب الدولة لأنفسهم وأسرهم، تدنَّت الأحوال المعيشية في الريف بشكل ملحوظ. أدى النقص المتزايد في المياه والافتقار إلى سياسات تنظيم الأسرة إلى تفاقم الوضع.
مع مرور العقد، عارضت الحكومة السورية بشدة الغزو الأميركي للعراق وتوقعت بصوت عالٍ وبدقة كبيرة أن الغزو سيؤدي إلى كارثة. انتُقد صانعو السياسة الأميركية في إدارة بوش، الذين ألقوا باللوم على سورية وما يسمى بالمقاتلين الأجانب، لحساباتهم فادحة الخطأ في العراق والكوارث الناتجة منها. وقفت الدولة السورية بحزم في مواجهة الانتقادات العلنية الموجهة إليها، ونجحت في تجاوز العاصفة. سمح التكتيك السياسي السوري العريق والمتمثل في جمود الصبر مرة أخرى للرئيس الأسد بأن يصمد أطول من القوة التي يتمتع بها منتقدوه وخصومه الدوليون الأقوياء.
بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في عام 2005، اضطر الجيش السوري إلى التخلي عن لبنان بعد ما يقرب من ثلاثين عامًا من التدخل الحميم في شؤون البلد المجاور. تعاملت حكومة الأسد مع الإخلاء والأزمة السياسية المرافقة بنجاح، واعتمدت، كعادتها دومًا، على ذخيرة متفاوتة من المماطلة والعرقلة والمصالحة الدورية مع المنافسين الدوليين الأقوياء. تم التعامل مع المعارضين والمنتقدين المحليين الأقل نفوذًا بقسوة أكبر، وهو ما حصل في الخفاء بمعظمه.
شنت إسرائيل حربًا على لبنان في صيف عام 2006. وكانت الحرب مشروعًا أميركيًا إسرائيليًا مشتركًا -بكل ما تحمله الكلمة من معنى- يهدف إلى هزيمة حليف سورية في لبنان، حزب الله، وإلى تواضع الحكومة السورية. وأخفقت في تحقيق هذه الأهداف بشكل كبير، ما أدى إلى تعزيز كل من سورية وحزب الله في هذه العملية. استفاد السياسيون اللبنانيون الموالون للولايات المتحدة من الانسحاب السوري عام 2005، وأقنع بعض اللبنانيين المناهضين لسورية وحزب الله أنفسهم بأن أصدقاءهم الجدد في إدارة بوش سيحمونهم من حزب الله والسوريين وسلاح الجو الإسرائيلي. أثبتت هذه الآمال أنها لا تتجاوز الوهم، وانتهت الحرب إلى طريق مسدودة حيث صد حزب الله غزوًا إسرائيليًا في نهاية المطاف. رحبت دمشق، بلطف وانتهازية معتادة، بمئات الآلاف من لاجئي الحرب اللبنانيين، ليضافوا إلى ما يقرب من مليون لاجئ عراقي وصلوا منذ عام 2003. مع سقوط القنابل الإسرائيلية على لبنان، كانت دمشق هادئة ومرحّبة. فتح السوريون منازلهم ومبانيهم العامة أمام تدفق اللاجئين. وفرت الحكومة الماء والطعام وحافلات انتظار على الحدود لآلاف اللبنانيين اليائسين الذين فروا من قراهم سيرًا.
دمرت حرب لبنان عام 2006 الردع الاستراتيجي الإسرائيلي ودمرت آخر ما تبقى من صدقية الولايات المتحدة في المنطقة. لقد دُمِّرت تطلعات السياسيين اللبنانيين الموالين للولايات المتحدة بشكل دائم بسبب ارتباطهم بالرئيس الأميركي جورج بوش George Bush ؛ ووزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس Condaleeza Rice، ومن ثم رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت Ehud Olmert. خرج حزب الله منتصرًا. تمتعت الحكومة السورية وبشار الأسد نفسه بشعبية محلية ومكانة دولية كبيرة في المنطقة. يمكن القول إن الأسد أخذ الدرس الخطأ من هذه الحوادث ومن قدرته على البقاء وحتى الازدهار السياسي بينما بدا أن خصومه الدوليين منشغلون بتدمير أنفسهم. بدا أنه استُبدِل المُصلح الحذر والمتردد الذي نصب نفسه بنفسه عام 2000 بناجٍ منتصر ومخادع في السنوات الأخيرة من عقده الأول في السلطة.

النظام الظافر
تجلى هذا الشعور بالثقة بالنفس المنتصرة بطريقة استجابة الأسد تجاه التحريض السياسي الشعبي وحوادث عام 2011. في وقت مبكر من ذلك العام، مع بَدْء الاحتجاجات في تونس وليبيا ومصر، لاحظ الرئيس السوري ووسائل الإعلام الحكومية برضىً عن النفس عدم الشرعية الواضحة للدكتاتوريين المجاورين والخطأ الذي يرتكبونه. تحدث الأسد إلى صحيفة وول ستريت جورنال Wall Street Journal في كانون الثاني/ يناير.
لدينا أوضاع أكثر صعوبة من معظم الدول العربية، لكن على الرغم من ذلك فإن سورية مستقرة. لماذا؟ لأنه عليك أن تكون شديد القرب من معتقدات الناس. هذه هي القضية الأساسية. عندما يكون هناك اختلاف بين سياستك ومعتقدات الناس واهتماماتهم، سيكون لديك هذا الفراغ الذي يسبب الاضطراب. لا يعيش الناس على المصالح فقط؛ هم يعيشون على المعتقدات، خاصة في المجالات الأيديولوجية. ما لم تفهم الجانب الأيديولوجي للمنطقة، لا يمكنك فهم ما يحدث. (Assad, 2011a)
جادلت صحيفة الوطن، وهي إحدى الصحف الحكومية، في إحدى مقالاتها الافتتاحية أن الحكومات التي تحدتها الاحتجاجات الشعبية في كانون الثاني/ يناير 2011 قد فقدت شرعيتها لخدمتها مصالح واشنطن قبل مصالح شعوبها. كانت الحوادث في تونس “درسًا لا ينبغي لأي نظام عربي أن يتجاهله خاصة أولئك الذين يتبعون نهج تونس السياسي في الاعتماد على “الأصدقاء لحمايتهم” (مقتبس من “احتجاجات تونس،” 2011). توقع الرئيس الأسد ومسؤولون في الحكومة السورية والعديد من المراقبين أن تؤدي شعبية الأسد والمؤهلات القومية العربية والمناهضة للإمبريالية إلى عزل الدولة السورية عن الاحتجاجات الجادة.
كانت نخب الدولة السورية غافلة عمدًا عن مظالم وتكتيكات الاحتجاجات الشعبية الأخرى. لاحظ الرئيس الأسد ومراقبون آخرون أن مصر واليمن وتونس فقدوا شرعيتهم في الحكم نتيجة استخدامهم الحكومات التي اشترتها ودفعت تكاليفها وزارتا الخارجية والدفاع الأميركية. كانت الشكوى الرئيسة للمتظاهرين حول توارث الحكم ضائعة في هذا التحليل الدقيق. في تونس ومصر وليبيا واليمن، وكلها جمهوريات، كان الرؤساء يستعدون لتسليم السلطة لأبنائهم، وكأنهم يحكمون ممالك. وتراجع المواطنون عن فكرة أن القوميين العرب، الضباط العسكريين، الرؤساء الدكتاتوريين الجمهوريين، سوف يسلمون السلطة لأبنائهم غير المؤهلين، والمدنيين، والمدللين، والرأسماليين، واللعوبين. كان احتمال قيام نظام ملكي عربي من القضايا التي أخرجت الناس إلى الشوارع. في سورية، حدث هذا فعلًا.
رأى أكثر المثقفين السوريين التزامًا أن الحق في التعبير عن المظالم والمطالبة بالحقوق كمواطنين مسألة تتعلق باحترام الذات والكرامة. لاحظ الناشطون المخضرمون والشبان على حد سواء أنه إذا انتفض التونسيون والمصريون والليبيون واليمنيون للمطالبة بحقوقهم، فمن الموكد أن السوريين يمكنهم فعل الشيء نفسه. خططت سهير الأتاسي، ناشطة مخضرمة في ربيع دمشق ومنظمة المنتدى الأبرز، لتظاهرة في أوائل شباط/ فبراير، لكن القليل من الناس لاحظوا ذلك.
بعد أسبوع، اندلعت تظاهرة في سوق دمشق القديمة احتجاجًا على تعسف شرطي. عندما ضرب الشرطي سائق سيارة بعصاه، تجمعت مجموعة من المارة وأصحاب المتاجر حولهما وبدأوا في التنديد بالشرطة، وهم يهتفون في البداية “مجرمون، مجرمون”. وزاد عدد المتظاهرين إلى نحو 1500 شخص هتفوا في نهاية المطاف “الشعب السوري ما بينذل” (القدس العربي، 18 شباط/ فبراير 2011). في نمط سيتكرر قريبًا مرات لا تحصى، وصل موظفون حكوميون، وصور الرئيس في يدهم، وبدأوا في احتجاج مضاد، مرددين عزمهم على التضحية من أجل الرئيس في الهتاف المألوف الذي يعرفه جميع السوريين.
وصل رئيس مركز الشرطة المحلي وحاول تهدئة الحشد المتزايد. عندما فشل جهده، وصل قائد شرطة دمشق ووعد بسماع المظالم ومعاقبة المسيئين. أخفق هذا الإجراء أيضًا في إرضاء المحتجين. وتفرق المتظاهرون أخيرًا عندما ظهر وزير الداخلية اللواء سعيد سمير ووعد علنًا الرجل الذي أشعل ضربه الاحتجاج بأنه سيعاقب من أساء إليه. ظلّ المحتجون غاضبين، لكن يبدو أن الحكومة تعاملت مع تظاهرتهم بشكل مرضٍ.
بعد أيام قليلة، نظمت مجموعة أصغر احتجاجًا منظمًا خارج السفارة الليبية في حي حديث بدمشق لإظهار التضامن مع المعارضة الليبية. كانت دمشق تضج بالشائعات بأن عناصر الأمن والجيش السوريين كانوا يدعمون النظام الليبي. وزعم البعض أن الطيارين السوريين حلقوا بالطائرات الليبية لقصف مواقع المتمردين. فاق عدد أفراد الشرطة بالزي الرسمي وأفراد أمن الدولة ممن يرتدون اللباس المدني عدد المتظاهرين أمام السفارة، وفي النهاية فضوا التظاهرة واعتقلوا وضربوا عدة أشخاص في الحشد الصغير.
بحلول نهاية الشهر، أعلنت الحكومة أن الضرائب على مجموعة متنوعة من المواد الغذائية الأساسية سيتم تخفيضها بشكل كبير، ما سيؤدي إلى انخفاض أسعار المواد الغذائية مثل السكر والطحين والشاي وزيت الطهي. كما أعلنت الحكومة أنها ستوفر مدفوعات نقدية لأفقر السوريين من صندوق حكومي خاص خُصِّص للمساعدة في تخفيف حدة الفقر. في الشهر السابق، كانون الثاني/ يناير، وهو الشهر الأكثر برودة في سورية، قامت الحكومة بقطع الدعم عن وقود التدفئة (المازوت)، المستخدم أيضًا كوقود لمحركات الديزل، ما رفع الأسعار بنسبة 72 في المئة (صحيفة ذا ناشيونال The National، في 20 شباط/ فبراير 2011). ساعد دعم وقود التدفئة الفقراء السوريين في تدفئة منازلهم خلال فصول الشتاء الباردة، لكنه كلّف الحكومة السورية أيضًا مليارات المليارات سنويًا وكان بمنزلة دعم مباشر لصناعة النقل لمسافات طويلة. قامت شاحنات النقل التركية، مستفيدةً من اتفاقية التجارة الحرة بين تركيا وسورية لعبور الحدود، بملء خزاناتها الضخمة بالوقود السوري الرخيص لتعود عبر الحدود إلى تركيا حيث يكلف وقود الديزل ثلاثة أضعاف.

القمع يتفوق على المصالحة
في صباح يوم 6 آذار/ مارس 2011، اعتقل رجال أمن الدولة في مدينة درعا الحدودية الزراعية الجنوبية 15 تلميذًا في المدارس الابتدائية والمتوسطة بسبب كتاباتهم على جدار مدرستهم. كتب الأطفال شعار الاحتجاج المألوف: “الشعب يُريد إسقاط النظام”. زعمت التقارير اللاحقة أنهم أضافوا الكلمات، “إجاك الدور يا دكتور”. نُقل الأطفال إلى دمشق حيث استُجوِبوا واحتُجزوا. في مرحلة ما، سافر وفد من الأمهات إلى دمشق لزيارة أبنائهن والاحتجاج على اعتقالهم. ورفضت السلطات الأمنية لقاءهن وكذلك زيارتهن لأبنائهن (صحيفة الوطن، 31 آذار/ مارس 2011)(3).
في السادس عشر من آذار/ مارس، تجمع 150 شخصًا، بقيادة نساء دمشق البارزين، أمام مبنى وزارة الداخلية القائم منذ العهد العثماني في ساحة المرجة. خطط المتظاهرون للجلوس بصمت وهم يحملون صورًا لأقاربهم المعتقلين قسرًا. فضت قوات الأمن الاحتجاج قبل أن يبدأ وأخذت العشرات من المتظاهرين إلى السجن. وصل المئات من المؤيدين للحكومة، ومعهم كاميرات التلفزيون الحكومية، للتعبير عن ولائهم للرئيس.
بعد ذلك بيومين، يوم الجمعة 18 آذار/ مارس، تظاهر متظاهرون بقيادة عائلات الأولاد المسجونين أمام المسجد العمري الذي يبلغ عمره 1400 عام في درعا. لأسباب قد لا تكون واضحة على الإطلاق، ردت قوات الأمن الحكومية، التي تصرفت بضبط النفس وبعض المصالحة في دمشق، على الاحتجاجات الكبيرة في درعا بالذخيرة الحية والقمع العنيف. في نهاية اليوم، قُتل ما لا يقل عن خمسة متظاهرين، وأصيب واعتقل عدد أكبر.
في اليوم التالي، تحولت المواكب الجنائزية لقتلى درعا إلى احتجاجات شارك فيها الآلاف. منعت قوات الأمن نفسها، بأوامر أوضح من دمشق، من استخدام الذخيرة الحية وسمحت للمتظاهرين بالمضي قدمًا. قدم المتظاهرون قائمة مطالب للسلطات بما في ذلك إقالة المحافظ، ومحاكمة عناصر الأمن، والإفراج عن السجناء، بمن فيهم الفتيان الخمسة عشر (“مشيعون سوريون،” 2011) (”Syrian mourners,” 2011). حدثت احتجاجات أصغر في المناطق الريفية والمحلية في الأيام التالية. زعمت السلطات أنها ستجري تحقيقًا شاملًا وشفافًا في حوادث درعا.
أخفقت هذه الوعود في إيقاف التظاهرات في الأيام المقبلة. سار الآلاف كل يوم وهم يهتفون مطالبين بالعدالة والحرية وحبهم لله وسورية ومعلنين عن نيّاتهم السلمية. تحول المسجد العمري إلى نوع من مقار التظاهرات، وكان مفتوحًا وممتلئًا على مدار الساعة، يحمي المتظاهرين من رجال الأمن الذين يحملون العصي ووابل القنابل مسيلة الدموع بشكل دوري. أقام المتظاهرون عيادة إسعافات أولية داخل المسجد.
في الساعة 2:00 من فجر الأربعاء 23 آذار/ مارس، اقتحمت قوات الأمن مسجد العمري في درعا وقتلت 15 شخصًا. وكانت قوات الأمن قد أغلقت المدينة، وقطعت خطوط الهاتف الخلوي والهواتف الأرضية. وفي ادعاء سيصبح مألوفًا، ألقت تصريحات صحفية حكومية باللوم على “العصابات المسلحة” لتخزينها الأسلحة والمقاتلين داخل المسجد والتسبب بالقمع وإراقة الدماء. وبث التلفزيون الحكومي مخبأ أسلحة يفترض أنه عثر عليه داخل المسجد. وزعمت التصريحات أن الأطفال المخطوفين، الذين يُفترض أنهم من بين القتلى، قد استخدموا كدروع بشرية من جهة العصابات.
أرسى نهج الحكومة إزاء الاحتجاجات في درعا نمطًا تكرر إلى ما لا نهاية في جميع أنحاء البلاد: اختُطِفَت الاحتجاجات المشروعة على يد مجرمين إسلاميين مسلّحين، موجهين ومسلحين ومدفوعي الثمن من طرف مؤامرات أجنبية غامضة. يمكن للدولة مواجهة هذه العناصر الإجرامية بالقوة العسكرية فقط. افتقرت هذه المزاعم إلى الأساس، لكنها عملت على تخويف السوريين غير الملتزمين ودفعتهم لدعم الحكومة، والانقلاب على المتظاهرين، وتبرير القمع المسلح لاحتجاجات المواطنين.
في اليوم التالي، 24 آذار/ مارس، بينما كانت الأخبار الواردة من درعا غائبة عن وسائل الإعلام الحكومية، ظهرت المستشارة الإعلامية الرئاسية بثينة شعبان على الهواء مباشرة. أعلنت شعبان سلسلةً من الإصلاحات الحكومية وخطبةً رئاسية متلفزة قادمة أمام البرلمان السوري. ونقلت التعازي الرئاسية لأهالي درعا، وأشارت إلى أن جميع القضايا مطروحة للنقاش، بما في ذلك المطالب التي أثارها المحتجون. إضافة إلى ذلك، ستُزاد رواتب موظفي الدولة بنسبة 30 في المئة، وستُفَعَّل حرية الصحافة على الفور، وستُمنَح المحاكم المزيد من السلطة المستقلة. زعمت شعبان أنها شاهدت الرئيس الأسد يعطي أمرًا صريحًا لقادة أمنه بعدم إطلاق رصاصة واحدة على المتظاهرين. وذكرت أن أمر رفع قانون الطوارئ البالغ من العمر 48 عامًا قد يُصدَر في المستقبل القريب.
اُستقبلت التصريحات بالتفاؤل والارتياح في دمشق وأجزاء أخرى من سورية إلى جانب درعا. بينما استمرت الاحتجاجات، شعر العديد من السوريين الذين لم يحتجوا بشكل فاعل بالارتياح لأن الرئيس سيستجيب بحكمة وحساسية للحوادث في البلاد. وأشارت شعبان إلى أن الرئيس سيعلن رفع قانون الطوارئ وسيعلن إصلاحات أخرى في خطبته المتوقعة بعد أسبوع.
طرد أمن الدولة عددًا قليلًا من الصحافيين الأجانب من درعا، وأغلق جميع الطرق والاتصالات في المنطقة. عدّ العديد من السوريين درعا جزءًا متخلفًا وغير مستنير من البلاد، وبدا أن هناك القليل من التعاطف بين السوريين الحضريين لسكان منطقة حوران وعاصمتها الإقليمية المحاصرة. كان إغلاق المناطق الريفية المضطربة خلال العمليات القمعية تكتيكًا عريقًا للحكومة السورية، ولم يتفاجأ المواطنون السوريون بإيجاد وسائل الإعلام الحكومية صامتة بشأن تفاصيل الحوادث أو بتعطل خطوط الهاتف في المنطقة.
في 29 آذار/ مارس، نظمت الحكومة مسيرة ضخمة لدعم الرئيس في دمشق وغيرها من المدن الكبرى. مئات الآلاف، وربما الملايين، ساروا عبر الساحات المركزية. على عكس وصول بشار الأسد قبل عقد من الزمان، تميزت المسيرة بعودة شرسة إلى عروض التملق والولاء والحب والتضحية التي لا تنتهي من أجل الرئيس. عادت اللافتات العملاقة. أُغلِقَت المدارس والمكاتب الحكومية لمنح المواطنين فرصة إلزامية -إلى حد ما- لإثبات طاعتهم المستمرة لدخول دولة الأسد عقدها الخامس من الحكم.
في اليوم التالي، ألقى الرئيس كلمة أمام البرلمان في خطبة وصفت على نطاق واسع بأنها الأهم في حياته السياسية. في كلمته، ألقى الرئيس بشار الأسد نكاتًا وبدا أنه يجسد كلًا من الإحراج والزهو بخفة قلب غريبة. في تناقض واضح وغير مواتٍ لوالده، لم يكن سلوكه يظهر القيادة ولا الجدية. وعبر الأسد عن حزنه لسفك الدماء لكنه ألقى باللوم في التظاهرات على المؤامرات الأجنبية والأجانب. وأشار إلى أنه لم يكن كل المتظاهرين من المتآمرين المثيرين للفتنة، لكن الاحتجاجات بدأت بالفتنة والتآمر، وأولئك الذين أغوتهم هذه الدعوات كان ينبغي للوطنيين السوريين طردهم. وأشار إلى أن الإصلاحات والتغييرات الأخيرة قد أُقِرَّت في عام 2005، لكنها تأخرت بسبب أزمات أخرى. أعلن أنه لن يقوم بالإصلاح تحت الضغط أو الرضوخ للتغييرات القادمة من الخارج. وأشار إلى أن الغرباء وصفوه أحيانًا بأنه مصلح مقيّد من عناصر الحرس القديم، لكنه في الواقع كان هو وحده المسؤول. لم يخبره أحد بما يجب أن يفعله، ومن خلال شعاراتهم وهتافاتهم، برهن السوريون عن حبهم له وثقتهم به. واستشهد بالقرآن الكريم: “الفتنة أسوأ من القتل”، وبذلك اختتم حديثه بوعده المضمن بقتل من وصفهم بالمحرّضين على الفتنة (الأسد، 2011 ب) (Assad, 2011b). أثار الخطاب استياء الكثيرين، بمن فيهم أصدقاء الحكومة السورية في لبنان وتركيا.
أخفقت الكلمة في إرضاء المحتجين وفُهمت على أنها إعلان حرب ضد كل معارضة. وتساءل السوريون: من هي المعارضة؟ إذا أجاب المرء بأنهم متآمرون مثيرون للفتنة، فإن دعوة الرئيس للقمع كانت مناسبة. لكن ماذا عن ملايين الأشخاص الذين لم يحتجوا ولم يكن لديهم خطط للاحتجاج، لكنهم شعروا بأدنى قدر من التعاطف مع مظالم أولئك الذين احتجوا؟ الرئيس، متمسكًا باستشاراته ومؤمنًا بحاشيته، قدّر أن تصنيف السوريين في فئتين، متآمرين ومؤيدين، سيسمح للدولة بتهميش وسحق خصومها ومنتقديها. وبدلًا من ذلك، بدا أنه بوساطة تعريف كل معارضة على أنها فتنة، تمكن الرئيس من تقويض شرعيته الشعبية بين العديد من شرائح المجتمع السوري. كان مشهدًا لا يصدق أن تشهده لزعيمٍ سياسي يحظى بشعبية وهو يخطئ في التقدير بشكل خطر ويدمر شرعيته في الحكم علنًا.
أصبحت السفارات السورية في أوروبا والأميركتين بؤرة للاحتجاج في أعقاب حوادث درعا والخطبة السابقة. في برلين، حاصر السوريون المحتجون السفارة في الساعة 9:00 صباحًا بعد خُطْبة 30 آذار/ مارس. ومع ذلك، ومع وصول الشرطة الألمانية بسرعة، خرج موظفو السفارة من المبنى، وفي أيديهم صور رئاسية، ليصرخوا على المحتجين الغاضبين بدعوتهم المألوفة للتضحية بأرواحهم ودمائهم من أجل الرئيس. بدا موظفو السفارة وعائلاتهم والعاملون في الخطوط الجوية السورية والوكالات السورية الأخرى في برلين بائسين ويائسين وهم يواجهون مواطنيهم الغاضبين، لكنهم ظلوا مطيعين وأعلنوا بلا هوادة ولاءهم الدائم للرئيس والنظام الذي يمثله. لم يعد بمقدور أولئك الملتزمين حديثًا بتحدي النظام ولا أولئك الذين قُدِّروا واختيروا لولائهم للنظام التراجع. من الواضح أنه إذا كانت هناك فرصة للمصالحة وإعادة صوغ حكيمة للعلاقة بين الدولة والنظام والمواطنين، فإنها قد تبددت وضاعت في الأسبوعين الأخيرين من آذار/ مارس 2011.

الاستنتاج
سورية الآن في عامها الثاني من الاضطرابات الشعبية. قبل اثني عشر عامًا، خلِف بشار الأسد 30 عامًا من حكم والده. وعد الأسد الشاب بالاستمرارية والتغيير عن الماضي. وللاستمرارية، وعدت الدولة مواطنيها بالاستقرار والأمن والأمان والكرامة للقوميين العرب. وحيدة بين الدول العربية، ظلت سورية خطابيًا غير خاضعة للقوة الإسرائيلية والأميركية وللعدوان الاستعماري الجديد. من أجل التغيير، وعلى النقيض من الماضي، وعد الرئيس بإصلاح حذر ومدروس. فاز التغيير الفوري في اللهجة ببعض الشعبية للرئيس الجديد، ولكن في غضون مدة قصيرة، أصبح من الواضح أن التغيير سيركز على تحرير رأس المال وتسهيل جني نخب الدولة للأرباح.
أصبحت قطاعات مثل امتيازات استيراد السيارات الفاخرة والهواتف المحمولة والاتصالات والإلكترونيات والواردات المعفاة من الرسوم الجمركية حكرًا حصريًا على عائلة الأسد وأولئك القريبين من مراكز القوة. تلاشت القطاعات الأقل استغلالًا، مثل الزراعة والصناعات الصغيرة، مع تراجع الدولة عن سياسات استبدال الواردات الاشتراكية في الماضي. تقلص استثمار الدولة في التعليم والخدمات في المناطق الريفية بشكل ملحوظ. تضخم النمو السكاني، وزادت البطالة وتناقصت العمالة سنويًا. على النقيض من ذلك، أصبحت الثروة المرئية لنخب الدولة غير مسبوقة في العقود الماضية.
في شباط/ فبراير وآذار/ مارس 2011، ظهرت احتجاجات تطالب بالعدالة، والإفراج عن السجناء، وإصلاح النظام، وإرساء الضمانات القانونية الموجودة فعلًا في الدستور السوري. بعد تعرقل المصالحة، ردت الدولة بعنف وقمع ممنهج. كان المتظاهرون عازمين على السلمية، وكانوا يحترمون التباين الطائفي مع استثناءات قليلة. كانت الأغلبية المسلمة السنية ممثَّلة تمثيلًا زائدًا في الاحتجاجات، ولا سيما في الريف، لكن جميع الطوائف كانت موجودة. أدركت نخب الدولة رفيعة المستوى على الفور أن حركة احتجاج سلمية ذات قاعدة عريضة تدعو إلى سيادة القانون، ووضع حد للفساد الرسمي، والتمثيل المتساوي كانت تهديدًا مميتًا للدولة ونظامها، وقرروا على الفور إعادة تعريف المعارضة على أنها تهديد شديد الْخَطَر لاستقرار سورية الذي لا يستطيع حمايته إلا الرئيس الأسد. قُدِّمَت رواية “نحن أو الفوضى” بشكل فعال للقوى الدولية.
وزعمت الدولة أن المعارضة مكونة من مجرمين إسلاميين متطرفين مسلحين وعنيفين تقودهم عناصر أجنبية غامضة وتدفع لهم وتسلحهم. على مدى أشهر، احتكرت الدولة بشكل كامل تقريبًا استخدام العنف، لكن رسالة العناصر المسلحة الفوضوية تكررت بلا نهاية ونجحت في ترهيب الأقليات الطائفية، بمن فيهم المسيحيون والعلويون. في نهاية المطاف، أصبح الانشقاق عن الجيش المجند يشكل قوة خفيفة التسليح وغير منظمة، لكن يبدو أنه من المرجح أن هذه الجماعات ستنجح فقط في تبرير قمع عسكري أكثر شراسة. لم يكن من المحتمل أن يشكلوا تهديدًا عسكريًا للدولة، لكن كان لديهم تأثير مؤسف يتمثل في تحويل بعض الأرضية الخطابية بعيدًا عن المعارضة السلمية لمصلحة الدولة.
تتمتع الحكومة السورية بدعم ملتزم من روسيا وإيران. لن تتخلى أي من الدولتين عن التزامها الاستراتيجي تجاه سورية، وكان كلا التحالفين فعّاليَن ومتقاربين لعدة عقود. تزعم قوى إقليمية أخرى، بما في ذلك دول الخليج وإسرائيل، أنها تعارض الحكومة السورية، لكن ليس من الواضح ما إذا كانت هذه هي الحال فعلًا. اكتشفت إسرائيل بالتأكيد أن الوضع الراهن الذي تضمنه الدولة السورية منذ عام 1973 أفضل بكثير من مستقبل غامض. قد تكون الممالك الخليجية البعيدة صادقة في نفورها -المستوحى من الدين أحيانًا- من النظام السوري وعلاقاته بإيران، لكن من غير المرجح أن تشكل تهديدًا كبيرًا. يشعر رجب طيب أردوغان التركي بخيانة شخصية من الرئيس السوري، الذي كان صديقًا له في السابق. وبصرف النظر عن الغرور المصاب، تخشى تركيا من سورية غير محكومة بقدر ما يخشى أي شخص آخر، ومن غير المرجح أن تساهم في نزاع مسلح في سورية.
لا يزال الخطر الأكبر على دولة بشار الأسد السورية هو المواطنون الناشطون الشجعان والعازمون الذين خرجوا إلى شوارع المدن والبلدات والقرى السورية في أوائل عام 2011. إذا استطاعوا الاستمرار في الفوز والحفاظ على الولاء والدعم لا يمكن لأي قدر من قمع الدولة واللا مبالاة الدولية أن يحافظ على دولة الأسد.

References 

1– Assad, B. (2011a, 31 January). Interview with Syrian president Bashar al-Assad. Wall Street Journal. Retrieved from http://online.wsj.com/article/SB1000142405274870383320457614712441122894.htm

2– Assad, B. (2011b, 30 March). President al-Assad delivers speech at people’s as- sembly. Syrian Arab News Agency. Retrieved from http://www.sana.sy/eng/21/2011/03/30/pr339334.htm

3– Syrian mourners call for revolt, forces fire tear gas. (2011, 19 March). Re- uters. Retrieved from http://www.reuters.com/article/2011/03/19/us-syria-idUSTRE72I22020110319.

4– Tunisia’s protests spark suicide in Algeria and fears through Arab world. (2011, 16 January). The Guardian.


هوامش

1– عنوان المادة الأصلي Unraveling the Syrian revolution، مايكل بروفنس، MICHAEL PROVENCE، مصدر المادة: Regions and Cohesion، تاريخ النشر: شتاء 2012، رابط المادة على الشبكة العنكبوتية:

https://www.berghahnjournals.com/view/journals/regions-and-cohesion/2/3/reco020309.xml

2 يدرّس مايكل بروفنس MICHAEL PROVENCE تاريخ الشرق الأوسط في جامعة كاليفورنيا، سان دييغو University of California, San Diego (UCSD). حصل على درجة الدكتوراه من جامعة شيكاغو Chicago عام 2001. خلال العام الدراسي 2010-2011، كان بروفنس يقيم كزميل من ألكسندر فون هومبولت في مركز الشرق المعاصر Zentrum Moderner Orient في برلين، ألمانيا. وهو المدير الحالي لبرامج الشرق الأوسط بجامعة كاليفورنيا، سان دييغو. يركز بحثه على العالم العربي المستعمر وما بعد الاستعمار، ولا سيما التمرد الشعبي والقومية بين الحربين العالميتين.

3– The Syria Comment Blog, http://www.joshualandis.com, by Joshua Landis, is an indispensable guide to Syria and the uprising. See the various reprinted Arabic Facebook postings at http://www.joshualandis.com/blog/?p=8655&cp=all-comment

مشاركة: