من كسر جرَّة الثَّورة السوريَّة؟عن آصف بيات وكتابه: ثورة بلا ثوّار



اسم الكتاب: ثورة بلا ثوّار؛ كيف نفهم الربيع العربي
المؤلِّف: آصف بيات
ترجمة: فكتور سحّاب
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية
مكان وتاريخ النشر: الطبعة الأولى، بيروت، نيسان/ أبريل 2022
عدد الصفحات: 350 صفحة

“في أثناء الثورة، يتعلم الملايين وعشرات الملايين من الناس في أسبوع واحد أكثر مما تعلموه في عام كامل من الحياة العادية الخاملة”
لينين

استهلال
جاء في الأثر: نزلتُ في بعض القرى وخرجتُ في الليل لحاجة، فإذا بأعمى على عاتقه جرة ومعه سراج. فقلتُ له: يا هذا أنت الليل والنهار عندك سواء، فما معنى السراج؟ فقال: يا أحمق حملته معي لأعمى البصيرة مثلك يستضيء به فلا يعثر بي فأقع أنا وتنكسر الجرَّة.
يطرح المؤلفون أفكارًا ووجهات نظر في كتب تُنير لنا عتمة الدروب وتُهدينا سواء السبيل حتى لا نمسي كحاطب ليل. وقد تذكّرتُ في أثناء مُطالعتي كتاب المفكر الأميركيّ الإيرانيّ الأصل آصف بيات “ثورة بلا ثوّار؛ كيف نفهم الربيع العربي” كتابين مهمين عن الثورات والثوّار توقفتُ عندهما طويلًا في مسيرة حياتي الفكريّة، هما: كتاب المفكر الفرنسيّ ريجيس دوبريه “ثورة في الثورة؛ الصراع المسلّح والصراع السياسيّ في أميركا اللاتينيّة” الذي يوثق أفكار قادة الثورة الكوبية خاصة وعموم قادة ثورات أميركا اللاتينية عامة، ومنهم خوسي مارتي وفيدل كاسرو وأرنستو شي جيفارا، ويدخل في جدل عميق مع ثورات أميركا اللاتينية في ستينيات القرن العشرين، وكان وقع الكتاب عظيمًا في عالمنا العربي حين ترجمته دار الآداب في بيروت عاصمة لبنان في سبعينيات القرن العشرين. وكتاب المفكر الباكستاني طارق علي “مآزق لينين” الذي صدر بنسخته الإنكليزية عام 2017 وترجمه أمير ذكي، وصدرت طبعته العربية في القاهرة – مصر، الكتب خان للنشر والتوزيع، عام 2018. والملاحظة المهمة التي يمكن أن نلاحظها هنا هي: إن وجهة نظر أصحاب هذه الكتب -والكتب وجهات نظر في العموم- كانت ثاقبة لأنهم رأوا الحدث بلا حُجب الأيدولوجيا التي تعيق الرؤية، فكانت وجهات نظرهم واضحة وهم الذين رأوا ما لا يراه صاحب “العقيدة” في هذه الثورات، بمعنى أنهم كانوا يحملون على أكتافهم سراجًا يُنير لهم -أو لنا إن شئت ذلك- دروب الثورات التي تحدثوا عنها. حيث يوكّد المفكر العراقي الماركسي ابن محلّة “كرادة مريم” في بغداد، هادي العلوي في هذا المقام: “العقيدة هي الرقيب الداخلي الذي لا يقل سوءًا عن الرقيب الرسمي. والعقيدة هي المسؤولة عن تكوين الوجدان القمعي للأفراد ومصادرة حريّة الضمير والوجدان. وهي وإن كانت مفيدة لتحريك الجمهور في منعطف تاريخيّ معين، يجب أن تبقى في منأى عن النضال اليوميّ، لئلا تكون كما يقول الإمام أبو حامد الغزالي حجابًا يمنع من النظر إلى حقائق الأشياء”.

عن المؤلف
آصف بيات
، أستاذ علم الاجتماع ودراسات الشرق الأوسط في “جامعة إلينوي- إيربانا شامبين” في شيكاغو في الولايات المتحدة، كما عمل مديرًا في “المؤسسة الدولية لدراسة الإسلام والعالم المعاصر” في “جامعة ليدن” في هولندا. تدور أبحاثه حول موضوعات عديدة، من بينها الحركات الاجتماعية والتغيير الاجتماعي، الدين والمجتمع، الإسلام والعالم المعاصر، والمجال الحضري والسياسة. من كُتبه المهمة الضخمة والمُترجمة إلى العربية كتاب: “الحياة سياسة؛ كيف يُغيّر بسطاء الناس الشرق الأوسط” ترجمة أحمد زايد من إصدار المركز القومي للترجمة، مصر، عام 2014؛ وسأعود إلى هذا الكتاب في فصله الرابع عشر الذي كتبه المؤلف بطلب من مترجم الكتاب إلى العربية أحمد زايد عن ثورات الربيع العربي. وكتاب “ما بعد الإسلاموية؛ الأوجه المتغيرة للإسلام السياسي” ترجمة محمد العربي صادر عن جداول للنشر والترجمة والتوزيع، عام 2016. وأخيرًا كتابه هذا الذي بين يدينا “ثورة بلا ثوّار؛ كيف نفهم الربيع العربي” صادر عن مركز دراسات الوحدة العربية، ترجمة فكتور سحّاب في 350 صفحة، الطبعة الأولى، بيروت، نيسان/ أبريل 2022. وكانت طبعته الإنكليزية بعنوان:
Revolution without Revolutionaries Making Sense of the Arab Spring Asef Bayat (Stanford CA: Stanford University Press 2017)

فصول الكتاب
أحد عشر فصلًا يطرح فيها آصف بيات رؤيته أو قُل “وجهة نظره” في أسباب انتفاضات أو احتجاجات أو ثورات الربيع العربي عام 2011 جاءت عناوين فصول الكتاب كما يلي:
الفصل الأول: ثورات الزمن الخاطئ
الفصل الثاني: ماركس في الثورة الإسلامية
الفصل الثالث: الثورة في الحياة اليومية
الفصل الرابع: ليس لاهوت تحرير
الفصل الخامس: مدن المعارضة
الفصل السادس: ساحات وميادين متضادّة
الفصل السابع: ربيع المفاجأة
الفصل الثامن: نصف ثورة ليست ثورة
الفصل التاسع: النبض الراديكالي الاجتماعي
الفصل العاشر: ألم الانتقال
الفصل الحادي عشر: الثورة والأمل

كما أضاف المؤلف بطبيعة الحال إلى كل فصل من فصول كتابه عناوين فرعيّة أو أبوبًا فتحها بعناوين فرعيّة ليتيسر للقارئ التنقل بين فقرات الكتاب بسهولة ويسر. يقول في مقدمة الكتاب: “الواقع أن تفكيري في الثورة وتجاربي معها، يعود إلى زمن الثورة الإيرانيّة في عام 1979، والتي كُنت فيها مُراقبًا مُشاركًا. وقد أعدتُ مُراجعة دراساتي السابقة في شأن الثورة الإيرانيّة، من أجل هذا الكتاب، من أجل المُقارنة. لكن الجزء الأهم من جهد التفكير والبحث والكتابة، الذي استند إليه هذا الكتاب، برز بمجرد اندلاع الاحتجاجات في سيدي بوزيد، التونسيّة، وما تلاه من تطوّرات فاجأت العالم. ومع الانتفاضات التي توالت في مصر وليبيا واليمن وسورية والبحرين، انغمستُ انغماسًا أعمق في محاولات فهم ما الذي جرى بهذه السرعة”.
ثمَّ يقول: “كنتُ مُدركًا للتحديات التي يواجهها المرء عند دراسة الثورات في أثناء حدوثها. فكيف يمكن أن يقوم الباحث بعمله في الأوقات الثوريّة المضطربة، الزاخرة بالنزاع والتضحيات والمؤامرات والانفعالات، تلك الأوقات التي تكون فيها حياة الناس، وحريّتهم، ورفاههم المادي في خطر؟ كيف يمكننا أن نراقب الحوادث ونفهمها، وهي لا تزال جارية، ما العمل عندما تكون عمليّة المراقبة نفسها، من حيث أثرها، تدخّلًا في الحوادث؟ وقبل كل شيء، كيف يتعيّن على المرء أن يتحرّك بين موقفِ مَن يريد أن يرى نجاح الانتفاضة، ومَن يريد مع ذلك أن يحتفظ برزانة روح النقد الأكاديميّة البحثيّة، والنزاهة والصدق في الأحكام؟ إنني آمل أن يكون هذا النص قد أخذ تلك الهموم في الحسبان، ونجح في تجنّب مزالقها المحتملة”.
لو استعرضنا عناوين فصول الكتاب لوجدنا أن المؤلف يُسلط الضوء -وللضوء في هذا المقال شأن مهم- على طيف واسع من “علامات” الثورات والانتفاضات -نجاحها أو فشلها- في الشرق الأوسط والعالم، حيث يُوكّد في بداية الفصل الأول الذي كان بعنوان “ثورات الزمن الخاطئ”: “تسنى لي أن أُراقب حدثين ثوريّين تفصل بينهما ثلاثة عقود. ففي أواخر السبعينيّات من القرن العشرين في إيران، انخرطتُ وأنا ناشط شاب، في ثورة، كانت فاتحة فصل جديد في السياسة العالمية. إنني أشير هنا إلى الثورة الإيرانيّة في عام 1979، التي تقريبًا كان الساندينيّون يطيحون حكم الدكتاتور أناستاسيو سوموزا في نيكاراغوا، وكانت أيضًا حركة الجوهرة الجديدة في غرانادا التي قادها اليساري موريس بيشوب تنهي حكم إريك غيري الأميركي الميول. قُبيل ذلك كانت انتفاضة اشتراكيِّة تؤسّس في اليمن في السبعينيّات الجمهوريّة الشعبيّة الديمقراطيّة، بينما كانت جبهة تحرير ماركسيّة- لينينيّة تسعى لقب الحكم في مشيخة عُمان المجاورة. ومع اندلاع هذه الثورات في وسط أجواء الحرب الباردة، فإنها استحثّت هبّة راديكاليّة ديمقراطيّة تُنادي بالعدالة الاجتماعيّة، وتُناهض الإمبرياليّة والرأسماليّة. وقد تابعتُ بشغف تلك الحوادث، وكان فيّ فضولٌ حيال السياسات الثوريّة، وحماسةٌ لاحتمالات مستقبل أفضل لهذه الشعوب التي قاست حكم قمع استبداديًا طويل الأمد، ولو أنني أُثبطّتُ بما نتج منها في الغالب من حكمٍ قمعيٍ”.
ما يقوله آصف بيات هنا يُذكرني بحوار طويل جرى في أثناء الثورة السوريّة في أواخر عام 2015 قُبيل دخول الثوار مدينة إدلب في الشمال الغربي من سورية بعدة أشهر مع صديقي غسّان غنّوم السوري الكندي المسيحي الذي كان في السبعين من عمره، يتحدث الفرنسية والبلغارية والإنكليزية بطلاقة، تعرَّفت إليه قبل الثورة السورية بسنة، وكان يجلس في مكتبتي لساعات، واختلفنا اختلافًا كبيرًا حول مفهوم الثورات، كان مع الانتقال السلميّ من مرحلة إلى مرحلة ولا يؤيد العنف الثوري على طريقة حرب العصابات كما فعل الثائر الأرجنتيني أرنستو شي جيفارا، أو بأشكال العنف الثوري الأخرى المتعددة ولا حتى طريقة وديع حداد في الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين أيام خطف الطائرات المدنيّة “ليلى خالد” في بدايات سبعينيات القرن العشرين للفت نظر العالم إلى القضية الفلسطينيّة. وقد ترجم لي نصًا عن الفرنسيّة للمفكر والكاتب الفرنسيّ ريجيس دوبريه، يقول فيه: إن إحدى مفارقات الثورات أنها تؤدي إلى إبطاء سير الأشياء، بعد تسارع كبير في البداية، قبل أن يتحوّل لاحقًا إلى منظومة مكابح ثقيلة. هناك في الثورات مناسبات كثيرة للفرح والبهجة، ولكن أيضًا للحزن والعزاء، وعلى المدى الطويل تتحول البهجة إلى مرارة، وأحيانًا كثيرة إلى كوابيس. سبق وكتب فكتور هوغو عن ذلك، فالانتفاضة الباريسية الكبرى حملت إلى السلطة، وهذه مفارقة جديدة، نابليون الثالث، وهو إمبراطوريّ جدًا، وأحمق بالمناسبة. البؤس يقود الشعوب إلى الثورات، والثورة تعيد الشعب إلى البؤس؛ هذا ما قاله فكتور هوغو الذي يستشهد به ريجيس دوبريه. إنها حلقة تراجيدية كوميدية مستمرة. الثورات التكنولوجيّة فقط، تشذّ عن هذه القاعدة، لأن لا عودة فيها البتة إلى الوراء. لن نعود إلى الشمعة بعد أن اخترعنا الكهرباء، ولا إلى السفن الشراعيّة بعد أن ابتكرنا المحرّكات. الإنترنت غيّر وجه العالم. هنا تقبع محرّكات التاريخ الحقيقيّة الضامنة الوحيدة لتقدم لا رجعة فيه إلى الوراء، سواء أكان جيدًا أم سيئًا.
وتراني أتفق معه في الرأي لأن الثورات مثل الكهرباء تُنير لنا الوجود، فينكشف حالنا وتظهر عيوبنا كلها دفعة واحدة، وهذه مفارقة مذهلة في دلالتها. وهذا بالضبط ما حدث في ثورات الربيع العربي، لقد عرّت واقعنا، وانكشفت أحوالنا، فأصبحنا عراة بحادث إحراق “محمد البو عزيزي” نفسه في مدينة سيدي بو زيد في 16 كانون الأول/ ديسمبر 2010 احتجاجًا على مصادرة الشرطة التونسيّة عربة خضار كان يعيش محمد البو عزيزي مع أسرته من دخلها القليل. عندها تذكرتُ حكاية قرأتها في مجلة “الفيصل” قبل أشهر من “الربيع العربي” في العدد المزدوج 405- 406 مارس/ آذار 2010 بعنوان “الفاقة” من تأليف الكاتب الروسي الساخر ميخائيل زوشينكو كتبها عام 1925، وترجمها عن الروسية السوري هشام حمادي، وقد قرأتُها لصديقي غسّان غنّوم في إحدى جلساتنا في مكتبتي، فأعجب بها، وحفظها عن ظهر قلب، وناقشني في موضوعها وقال إنها تعادل “طنًا” من الأفكار، فابتسمت، فقال: نعم، تبسّمكَ في وجه أخيك صدقة، ولكن ما سبب تبسّمك الآن؟ قلتُ: فكرة جيدة أن تزن الأفكار بالطن، هذه جديدة لم أسمعها من قبل. في القصّة تأثيرات مذهلة تنطبع في الذاكرة البشريّة فتحرّضها على التذكّر والانتباه الدائم واليقظة، إنها أبدع -على قصرها- ما يمكن أن تقرأه في الحياة. ووجدتُ بأنه قد نسخها بين أوراقه بعد أن استعار مجلّة “الفيصل” التي نشرت القصة، وقد تجرأ وأجرى تعديلات على الترجمة الأصلية التي قام بها المترجم هشام حمادي. وهذا نصّ القصّة كما وجدتها بين أوراقه بعد أن غادرنا وغيّر عنوانه لتستقر روحه في السماء:
ما الكلمة الدارجة الآن أيها الرفاق؟ لا شك أن الكلمة التي تدور على كل شفة ولسان هي الكهرباء. ولا يختلف اثنان على أن كهربة البلاد أمر في منتهى الأهمية. ولكن ما زال لهذا الأمر جوانبه غير المضيئة. لستُ أقصد -يا رفاق- أن الثمن مرتفع. كلا فهو ليس أغلى من النقود، ولكن ما أقصده شيء آخر، وإليكم بيت القصيد:
حتى الأمس القريب كنتُ أعيش -أيها الرفاق- في بناء ضخم، لا يُضاء إلا بالكيروسين. بعض الناس يستخدم القنديل القديم، وبعضهم الآخر اقتنى القنديل الحديث، بينما لا يزال آخرون يستخدمون الشموع، يا له من بؤس.
وفجأة بدأ تمديد خطوط الكهرباء لتصل إلى البيوت. كان المفوّض أول من مدّ منزله بالكهرباء، ولكنه لم يكد ينير بيته بالكهرباء حتى طرأ تغير كبير على سلوكه، فلسبب ما أصبح مهمومًا كثير التأمل والشرود، ومع ذلك لم ينبس ببنت شفة، ولم يشكُ أو يتذمّر. لم تلبث عدوى الكهرباء أن أصابت بليزافيتا بيتروفيتا صاحبة الشقة التي أسكن فيها. وفي ذات مرة قالت لي: الجميع يُمدد خطوط الكهرباء، ألم تر أن المفوّض نفسه قد أنارت الكهرباء بيته، فما رأيك؟ وافقت طبعًا.
مددنا الكهرباء، وغمر نورها المكان، ولكن يا إلهي، أيّ شيء هذا!؟ فالبؤس والفاقة يضربان أطنابهما في كل مكان. وأنّى نظرتَ لا ترى إلا ما يُثير القرف والاشمئزاز. فحتى الماضي القريب كنت تذهب إلى العمل صباحًا، ولا تعود إلا مع حلول الظلام. وبعد تناول الشاي تأوي إلى فراشك من دون أن تميز شيئًا في ضوء القنديل الخافت أو الشمعة الهزيل. أما الآن، وبعد أن غمر النور المكان، بتّ ترى الحذاء المهترئ، وترى ورق الجدران الملوث والممزق، وترى البق ينساب أفواجًا، هربًا من الضوء الباهر، وترى خشب النوافذ المسوس، وترى أعقاب السجائر المبعثرة في كل مكان، يا إلهي، ما هذا البؤس الذي يحيط بنا ونعيش في كنفه؟
أي مصيبة هذه، فحيثما نظرت ترى ما يزعج البصر، وما لا يسر الخاطر: فالكنبة التي كانت حتى الماضي القريب كنبة لا بأس بها، لا بل جيدة، وغالبًا ما كنتُ أجلس عليها في الأماسيّ، وآخذ قسطًا من الراحة. أما الآن فلم أكد أشعل الضوء حتى وقفتُ قبالتها فاغر الفم، جاحظ العينين. أي كنبة هذه؟ إنها ممزقة وملوثة ببراز القطط، مبقورة البطن، منهوشة الصدر، تتدلى من أحشائها حزم القش التي تغص بأنواع الهوام. من المستحيل أن تكون هذه كنبة. إن التفكير المستقيم والروح الحيّة تأنفان من ذلك وتثوران عليه. يا إلهي، ما هذه الحياة البائسة التي أحيا؟
ولم تكن حياة بليزافيتا بيتروفيتا -صاحبة الشقة- بأفضل من حياتي، فتراها مثقلة بالهموم والأحزان، وهي لا تكفّ عن العمل في المطبخ الصغير، وأسألها مستفسرًا: ما الذي يشغل بالك يا سيدتي؟ تنفض يديها من ماء جلي الأواني، ثمّ “تُشوبر” بهما وتقول بأسى: لم أكن أعرف -أيها الشاب- أنني أعيش في مثل هذا الفقر المُدقع.
عندما ألقيتُ نظرة على مطبخ بليزافيتا بيتروفيتا، لم أر إلا البؤس، وسقط المتاع من أواني علاها السخام والصدأ، و”كراكيب مطبخية” لا حاجة لها في أغلب الأحيان. كل هذا يغمره النور الباهر، فيبرزه ظاهرًا للعيان، ويعرض نفسه من دون خجل أو حياء. منذ ذلك الحين أمسيت أعود إلى البيت متذمرًا مهمومًا. ولا أكاد أصل البيت وأشعل الضوء، حتى أرى بؤسي حاضرًا، فآوي إلى فراشي وأنا نهب للأفكار والخواطر السوداء.
بعد أن فكّرتُ في الأمر مليًا، وبعد أن قبضتُ راتبي، اشتريتُ كمية من الكلس، وانكببتُ على العمل بهمة ونشاط. نزعتُ الورق الممزق القذر عن الجدران ونظّفتها من جحافل البق وبيوت العناكب. وكلّستُ السقف والجدران، فأصبح كل شيء أبيض مضيئًا، نظيفًا، يشرح الصدر، ويثير البهجة في النفس. للأسف، لم تدم بهجتي طويلًا، فقد قررت بليزافيتا بيتروفيتا فجأة التخلي عن الكهرباء. ما السبب؟ قالتْ: إن الحياة تبدو في غاية البؤس في الضوء، فما الداعي لتسليط الضوء على حياة مزرية كهذه؟
كم توسلتُ إليها، وحاولتُ إقناعها، وسقتُ لها كثيرًا من الحجج والأمثلة حول فوائد الكهرباء، لكن ذهب جهدي كله أدراج الرياح. أخيرًا نفد صبرها من إلحاحي، وقالتْ: بوسعك أن تُغادر هذه الشقة وتنتقل إلى أخرى “مكهربة” أما أنا فسأعود إلى ضوء القنديل العزيز.
لكن هل الانتقال إلى شقة أخرى بالأمر السهل يا رفاق، خصوصًا أنني أنفقت نصف راتبي على إصلاح هذه الشقة. وهكذا خضعت للأمر الواقع وبقيتُ. إنّ الضوء شيء جيد يا رفاق، لكن للضوء مساوئه أيضًا.

هل للضوء الكاشف محاسن ومساوئ أو معايب ونقائص؟ سلّط آصف بيات في كتابه الأضواء على جوانب وزوايا معتمة في ربيع الثورات العربية فانكشف له ما كان مخفيًا ورأى أن: “سرعة ثورات الربيع العربي وانتشارها وزخمها، لا مثيل لها، إلا أن افتقارها إلى الأيديولوجيا وميوعة تنسيقها وغياب أي قيادة جامعة أو مفاهيم فكريّة لديها، أمور لم يسبق لها مثيل تقريبًا. ولكن الأشدّ إدهاشًا هو افتقارها إلى أي نوع من النزعة الجذريّة التي وسمت الثورات السابقة، وأن مُثُل الديمقراطيّة العميقة والمساواة وعلاقات التملّك المنصفة والعدالة الاجتماعيّة، بهتت أو كانت موضع خُطب، أكثر مما كان يُحفزها اهتمام صادق يرتكز على رؤية استراتيجيّة، أو برامج ملموسة. في الحقيقة، يبقى السؤال: إذا ما كان الذي نجم عن الربيع العربي هو ثورات فعلًا، بالمعنى الذي كان للثورات الرديفة في القرن العشرين”.
على كل حال، لو عدنا إلى ما كتبه آصف بيات في الفصل الرابع عشر من كتاب “الحياة سياسة؛ كيف يُغيّر بسطاء الناس الشرق الأوسط” وكان الربيع العربي “طازجًا” ما يزال. وهنا جملة اعتراضية، فكلمة “ربيع” لا تعني فصل الربيع بجماله وحلاوة طقسه على حدّ تعبير الكاتب والباحث المصري مصطفى الفقي: “ولكنها تتجاوز ذلك إلى التأكيد على أن الحدث الذي يحمل هذا الاسم يمثل أهمية كبرى تكاد تكون بمكانة القلب من الجسد. ولذلك عندما زحف تعبير الربيع العربي على حوادث عام 2011 وما تلاها، أدركنا على الفور أن فصلًا جديدًا في تاريخ المنطقة بدأ يملي سطوره على الساحة العربية وامتداداتها المحلية بصورة غير مسبوقة” وقد كان الأمر كذلك قولًا وفعلًا.
بدأ الفصل الرابع من كتاب آصف بيات من الصفحة 499 حتى الصفحة 531، وهو كتاب ضخم كما ترى، حشد فيه المؤلف عددًا من الدراسات البحثيّة في العلوم الاجتماعيّة حلّل من خلالها بنية المجتمعات في الشرق الأوسط، فقد “استطاعت الدول العربية أن تُنتج، عبر الفاعلين الغاضبين، والتفكير السياسي الجديد، والقنوات الجديدة للاتصال والتعبئة، مجالًا عامًا جديدًا يتسم بتوجه ما بعد قومي، وما بعد أيديولوجي، وما بعد إسلاموي. ويقف هذه التفكير الجديد وراء الثورات العربيّة. وقد انتشرت رموز الثورة ومزاجها عبر الوطن العربي مثل الفيضان الهادر، وذلك عبر الأحاديث اليومية، والثقافة السياسية، وعبر اتصالات الناشطين العابرة للحدود، وكان لسان حالهم جميعًا يقول: إذا كان التونسيون قد فعلوها، فلماذا لا نفعلها نحن؟”

خاتمة
هل تستحقّ الثورات هذا القدر من الحب والجهد والأسى والتضحية، عندما لا يكون ثمّة يقين بأنها ستأتي بنظام اجتماعيّ عادل وحرّ؟ كثر هذا التساؤل بعد انتفاضات أو ثورات الربيع العربي ومنها الثورة السورية وسيرها في دروب عسيرة، وعرة وشائكة. وهل من المنطقي أن ينخرط المرء في صنع الثورات التي قد ينتهي بها الأمر إلى اليأس؟ ها أنا أحد المواطنين العرب من مدينة إدلب في الشمال السوري حيث أجبرتنا تداعيات الثورة السورية على الرحيل عن ديارنا لنعيش هنا في المرتفعات الجبليّة في مدينة إزمير على شاطئ بحر إيجة، حياة جديدة لم تكن من بين خطط حياتنا قطّ. نعم، تلك أسئلة منطقيّة، ولكن كم هي أسئلة معقولة ومشروعة؟
يقول آصف بيات في ختام كتابه: “يُذكّرنا القائد الثوري ليون تروتسكي بأن الناس ما عادوا يتلهفون للقيام بثورة، كما يتلهّفون للحرب. فبينما يؤدي الإكراه في الحرب دورًا حاسمًا، ليس ثمّة إكراه في الثورة، سوى إكراه الأحوال. فالثورة لا تحدث إلا حين لا يكون ثمّة مَخرَج غيرها. بعبارة أخرى، نادرًا ما نُقدم على القيام بثورة قاصدين متعمّدين، بل إن الأحوال تُهيّئنا وتدفعنا للقيام بها، حين تحدث فعلًا”.
يُتابع بيات القول: “إذا كانت هذه الجدليّة الفريدة بديهيّة، فإن احتضان الثورات وتعميقها منطقيٌ عندئذ. ذلك أن في هذه الحوادث التاريخية أكثر كثيرًا من مُجرّد الألم والثمن، والثورات تعني أكثر من مُجرّد تبديل النظام، أو التعديل المؤسّسي، مع أن هذين يبقيان جزءًا لا غنى عنه من الثورة. إنني أفكر في فهم أكثر تعقيدًا للثورة، في السياق الذي سماه ريموند وليامز: الثورة الطويلة، أي العمليّة الصعبة، بمعنى أنها مركَّبة وذات وجوه متعدّدة؛ فعوامل التغير الكاملة لا تقتصر فقط على العامل السياسي والعامل الاقتصادي، بل كذلك عوامل التغيّر الاجتماعي والثقافي والإنساني التي تنطوي على أعمق ما في بُنَى العلاقات والمشاعر. وفي النتيجة، بدلًا من أن ننظر في النتائج السريعة، أو نقلق في شأن مجموعة الطالب، علينا أن ننظر إلى الانتفاضات العربيّة على أنها ثورات طويلة قد تُثمر في عشر سنوات أو عشرين سنة، بتأسيس أساليب جديدة لفعل الأشياء، وطريقة مختلفة في التفكير في السلطة وحقوق المواطن. ليست هذه نظرة غير معقولة. ففي الأمر ما هو أهمّ من مُجرّد الفهم الدلالي عن طريق تعريف الثورة، ذلك أن في صلب الموضوع، المشكلات العويصة المتعلّقة بهياكل السلطة والمصالح الحصينة. وكيفما خلُص المرء إلى تعريف العمليّة، على أنها ثورة طويلة، أو ثورة تبدأ بتحويل سريع وجذريّ للدولة، فإن المسألة الأساسيّة هي كيف يُضمن الانتقال الجوهري من حكم الأقليّة والنظام الاستبدادي القديم، من أجل المباشرة في تغيير ديمقراطي حقيقي في اتجاه المساواة، مع تجنّب الإكراه العنيف والقمع؛ وكيف يُضمن أن النبضات الجذريّة في اتجاه المساواة في المجتمع، ومُثُل الانتماء والأنصاف والعدل تبقى في صميم التفكير الجديد. إن هذه مسائل أساسية ومثيرة، لا تزال تنتظر تحديد إجابات معقولة. لكن ثمّة أمرًا موكّدًا: إن المسيرة من القديم الاستبدادي إلى الجديد المحَرِّر لن تجري من دون صراع مرير والتزام شعبيّ مثابر، في المجالين العام والخاص، في التفكير وفي الممارسة، فرديًّا وجماعيًّا. فالثورة تلتزم إعادة تفكير جوهريّة في السلطة، وإعادة تصوّر جذريّة لنظامنا الاجتماعي، والسعي لمجتمع تقوده مُثُل المشاركة والرعاية وروح المساواة والديمقراطية الجامعة وفي الحقيقة، يمكن أن يكون على الثورة الطويلة أن تبدأ حيت تنتهي الثورة القصيرة”.

مشاركة: