التمثيل السياسي في الثورة السورية؛ استعراض وتقويم

مقدمة
مثّلت الثورة السورية -ثورة الحرية والكرامة، التي انطلقت في 18 آذار/ مارس 2011- حراكًا شعبيًا عظيمًا في سعته وتنوعه وعدالة مطالبه، وقد جاءت هذه الثورة في سياق ثورات الربيع العربي في موجتها الأولى، والتي بدأت من تونس نهاية العام 2010، ثم امتدت إلى ليبيا ومصر واليمن فسورية؛ ثورات لم تنجز أهدافها بعد، وما زالت مجهولة المآلات، حتى إن الثورات المضادة قد رجحت على قوى الثورة، إضافة إلى أنها تدوّلَت في كل من ليبيا واليمن وسورية كما سعى لذلك النظام السوري ربما من الأشهر الأولى مع تدخل حزب الله اللبناني، ومَن وُصفوا بأنهم خبراء عسكريون من الحرس الثوري الإيراني، من دون أن تُعرف أعداد أولئك الخبراء، ثم جاء التدخل العسكري الروسي في 30 أيلول/ سبتمبر 2015، بعد تقدم قوات المعارضة ربيع ذلك العام ووصولها إلى جسر الشغور، ثم تدخلت الولايات المتحدة عبر التحالف الدولي الذي قادته لمحاربة (داعش)، ثم تدخلت تركيا بحجة حماية أمنها القومي الذي باتت تهدده (قوات سورية الديمقراطية) المتحالفة مع الولايات المتحدة، بحيث أصبحت سورية رهينة أربعة احتلالات، محدثة تدويلًا أخرج القرار السوري من يد السوريين نظامًا ومعارضةً، وجعل كل طرف تابعًا لداعميه، ما أعاق الحل السياسي الذي دعت إليه القرارات الدولية وآخرها القرار 2254 لعام 2015.
كانت الثورة السورية منذ انطلاقتها، ثورة عفوية غير نمطية، وهذا يدعو إلى تفهّم عدم حضور تمثيل سياسي لها كان يمكن أن يضع خططًا وسيناريوهات لضبط إيقاعها، ذلك أن جيل الشبان الذي امتلك دينامية تعميم التظاهر إلى الجغرافيا السورية كلها، وقام بتوثيق ونشر فعالياتها لحظة بلحظة، عجز في الوقت نفسه عن إفراز قيادة تعبر عنه وتقود حراكه، وهذا مفهومٌ أيضًا، لأن سورية لم تحظ بمرحلة يُسمح فيها للأحزاب والناشطين بامتلاك خبرات سياسية تحت أي مسمى؛ وكانت تكلفة العمل السياسي باهظة جدًا منذ الوحدة السورية المصرية عام 1958، ثم جاءت مرحلة البعث الممتدة منذ العام 1963 أشد وطأة ووبالًا على السياسة وناشطيها؛ إلا أن المشكلة الأكبر كانت عجز القوى السياسية التقليدية عن توحيد وجهة نظرها وفعلها تجاه أهداف الثورة وأساليبها، ما حمّل الثورة أعباء كبيرة، من دون أن يخفف من مبرراتها ثقل التدخل الخارجي الموجود في الواقع، كما أنه كشف عن خلل عميق تعانيه النخب السورية على تنوعها، وأن كل ما كان يجمع تلك القوى هو الموقف من النظام في حده الأدنى ونسبيته، لأن الاصطفافات الأيديولوجية أو المناطقية أو سواها كانت عميقة، ولم تتجاوز الخُطب والبرامج الهادفة إلى تعزيز الوطنية، وما زالت تقليدية بطبيعتها.
تتبدى إشكالية التمثيل السياسي للثورة بوصفها مسألة ملحّة في هذه المرحلة، لإعادة بنائه على الرغم من صعوبة المهمة، حتى يمكن استعادة حضور الشعب السوري في تقرير مصيره، بعد هذه السنوات الطوال من الصراع الدائر في سورية وعليها، من دون تجاهل كم الرسوبات التي تراكمت وباعدت بين السوريين، إلى درجة تطرح التساؤل حول مستقبل الكيان السوري ذاته، إذا لم تُردَم الهوة بين السوريين على الأصعدة كافة.

مقدمات الحراك في العقد الأول من الألفية الثالثة
فتح رحيل حافظ الأسد ما لم يكن في حساب القوى السياسة المعارضة، نظرًا إلى وطأة الاستبداد والقوانين الاستثنائية، وقوى الضبط المتعددة التي طوقت المجتمع؛ إذ لم يكن في مقدور الشعب السوري منع تسلّم الرئيس الجديد السلطة بحكم إشكالية التوريث في نظام جمهوري، ولا سيما أن العهد الجديد قد أطلق خطاب القسم الذي أثقلته وعود الإصلاح، من دون أن يعنيها النظام بالضرورة، كما رافق هذا الخطاب تخفيف القبضة الأمنية على الحراك عما كانت عليه، من دون أن يعني تخفيف المتابعات؛ فانطلقت فعاليات مجتمعية واسعة، بدأت ببيان الـ99، ثم بيان الألف، ونمت ظاهرة المنتديات كالفطر، وعمّت المدن السورية، وكذلك لجان إحياء المجتمع المدني، وأفصح النشاط عن مكنون سوري كان مكبوتًا، وراح السوريون يقتربون من بعضهم بعضًا أكثر، ويتعلمون وإن بشيء من الصعوبة، أساليب وآداب الحوار البنّاء، حيث كانوا ممنوعين عنه، بحكم تجفيف الحقل السياسي، وتأميم حقلي الثقافة والإعلام بما يخدم النظام؛ فشهدت سورية ربيعًا بعد عقود.
لم يدم زمن المنتديات العلنية طويلًا، كما دعوة النظام إلى الإصلاح السياسي، فالنظام بحكم بنيته غير القابلة للإصلاح، وعدم رغبته فيه، لم يحتمل حتى سماع نقاشات نظرية، وأعلن عبد الحليم خدام أن المنتديات مقدمة لجزأرة سورية، لذا يجب إغلاقها، فأُغلقت جميعها، واعتُقل عدد من رموز هذه الظاهرة، في حين أُبقيَ على منتدى جمال الأتاسي للحوار الديمقراطي، لحكمة لم تُعرف، وإن كان ممكنًا التكهن بها، ثم جرى إغلاقه ربيع العام 2005 على خلفية ندوة سياسية تبحث في رؤى القوى السياسية حول الانتقال نحو الديمقراطية، بحجة ورقة مشاركة باسم تنظيم (الإخوان المسلمين) قُرئتْ نيابة عنهم، بحكم أنهم حزب محظور منذ أن استولى البعث على السلطة، ثم جرى تشديده بفعل القانون 49 لعام 1980.
أُغلقَت الستارة نهائيًا على ظاهرة المنتديات التي كانت واعدة في محاولتها تهيئة مناخ سلمي لتغيير ديمقراطي سلس ينهي مرحلة الاستبداد المديد، إلا أنه وكما هو معروف في الذاكرة الجمعية السورية، فإن كل ما يهم النظام استمراريته، بتحصينه خارجيًا عبر أدوار وظيفية أجيدت إدارتها، وضبط داخلي شديد، تكفلت به أجهزة وتنظيمات وفاعليات متعددة، سُخرت لها جميع إمكانات الدولة على حساب التنمية التي تحتاج إليها سورية، وكان في مقدمة ومركز تلك الأجهزة المؤسسة الأمنية متعددة الأسماء والمهمات، وذات الإمكانات الواسعة المادية منها والبشرية، والأهم في نقاط قوتها أنها مضبوطة بولاءَين لا ينفصلان، ولاء للقائد وولاء كوادرها للمؤسسة التي ينتمون إليها.
في 12 آذار/ مارس 2004، كشف النظام، مرة أخرى، عن تفضيله خيار العنف، حتى عندما لا تستدعيه الضرورة، عندما استخدم عنفًا سبّب قتل وجرح العشرات بعد شغب تبع مباراة رياضية بين فريق دير الزور وفريق الحسكة واعتقل المئات، ما هيج الأكراد السوريين وأحزابهم، لكنه كان من جانب آخر مناسبة لكسر الجليد وطوق العلاقات الممنوعة بين الأحزاب السياسية الكردية والعربية، لقد كان تطورًا مهمًا في مسيرة الفعل السياسي المعارض.
جاء اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في 14 آذار/ مارس 2005، حيث حامت شبهات حول تورط النظام في عملية الاغتيال، وما تركته من تداعيات على الوضعين اللبناني والسوري، حيث اضطر النظام إلى سحب جيشه من كامل الأراضي اللبنانية، وبقيت ركائزه الأمنية فاعلة بحماية حزب الله، وهذا التطور جدد همة الحراك السوري، فالنظام دخل في عزلة دولية لم تكن في حسبانه، وراح يخسر المزيد من الأنظمة العربية الصديقة له، فاندفع أكثر وكما يرغب نحو الحضن الإيراني، وفي هذا المناخ ولد إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي في 15 تشرين الأول/ أكتوبر 2005، وضم سبعة عشر حزبًا وتشكيلًا سياسيًا ومدنيًا، ومئات من النخب السياسية والفكرية والثقافية.
يعود الفضل في طرح فكرة الإعلان، في ذلك الظرف المضطرب محليًا وإقليميًا، إلى اثنين من قادة لجان المجتمع المدني، لكن من تولى صوغ بيانه والمفاوضات حوله وإعلانه، كان التجمع الوطني الديمقراطي، أعلنت الوثيقة الأساسية أن التحولات المطلوبة ينبغي لها أن تشمل مختلف جوانب الحياة السياسية، وتشمل السلطة والدولة والمجتمع، بحيث تؤدي إلى تغيير السياسات السورية التي اعتمدها النظام في الداخل، وتغيير سياساته مع دول الخارج التي لم تجلب لسورية أي مكاسب سياسية، كما أن إقامة النظام الديمقراطي تشكل المدخل الأساس والصحيح في مشروع التغيير والإصلاح السياسي، والتغيير يجب أن يكون سلميًا ومتدرجًا، يقوم على الحوار والاعتراف بالآخر، وإطلاق الحريات العامة من أَسر القبضة الأمنية، وتنظيم الحياة السياسية عبر قانون أحزاب حديث، وتنظيم مجال الإعلام، وقوانين انتخابات توفر الحرية أمام السوريين وقواهم السياسية من حيث الفرص المتساوية.
لقد تمدد الإعلان بسرعة، وأُسسَت له منظمات في المحافظات السورية كافة، وكذلك تمكن من تأسيس 11 منظمة في دول المهجر، أما النظام لم يبد في البداية ردة فعل قوية كما كان متوقعًا، لكنه تحين الفرصة لضرب الإعلان في محطتين: أولهما عندما وُقّع إعلان دمشق- بيروت في 15 أيار/ مايو 2006 الذي دعا فيه الموقعون -وضموا سوريين ولبنانيين- إلى إعادة النظر في العلاقات السورية اللبنانية المختلة، وإعادة بنائها على أسس أكثر عدلًا، بحيث يخرج لبنان من أَسر العلاقة المجحفة التي فرضها عليه بالإكراه نظام الوصاية السوري، وإثر ذلك البيان اعتُقل عشرة من الموقعين، وثانيهما عند اعتقال 14 عضوًا ممن حضروا المجلس الوطني لإعلان دمشق الذي عُقد في دمشق بحضور 163 عضوًا بتاريخ 1 كانون الثاني/ يناير 2007، الأمر الذي حال موضوعيًا دون إمكان انعقاده مرة أخرى داخل سورية.
ليس المقام هنا للحديث بتفصيل عن إعلان دمشق، بقدر ما يهدف إلى الوقوف على المناخ الذي ولد فيه، وحرفة اصطياد الفرص السياسية عندما تأتي، شريطة أن تكون جاهزًا لالتقاطها؛ لقد بينت تجربة الإعلان، وهنا نحن أمام حالة خاصة، لبلد تحكّم فيه نظام من نوع خاص، وأغلق المجال أمام أي تحرك، حظي الإعلان بدفق هائل من التوّاقين للتغيير، وجادت الفرص بعنوان يلتفون حوله، لقد توافر للإعلان في لحظة الولادة عاملان، لا بد من توافرهما مجتمعَين لنجاح أي انطلاقة: ظرف موضوعي ملائم، وظرف ذاتي جاهز، ذلك أن العامل الإرادي مهما كان قويًا -وعلى أهميته- ليس كافيًا لإنجاز المهمة، هذا إذا لم يؤدِّ إلى التهلكة لسوءٍ في الحسابات، لكن بعد الاعتقالات وتشديد القبضة الأمنية عليه، والتي ترافقت مع حدثين، أولهما عندما دعا الرئيس الفرنسي نيكولاي ساركوزي الرئيس السوري إلى باريس العام 2008، لحضور احتفالات المئوية الثانية للثورة الفرنسية، كخطوة لفك العزلة عن نظامه، والثاني توسط تركيا بمفاوضات سلام بين سورية وإسرائيل. هذان الحدثان مع التشديد الأمني بعثا برسائل إلى ناشطي الإعلان، مفادها أن عجلة التغيير جرت فرملتها بقرار خارجي، طبعًا إضافة إلى عوامل أخرى داخل الإعلان، حيث راحت تتباعد الرؤى بين بعض أحزابه، لذلك تسرب الكثير من الناشطين إلى خارج الإعلان، إضافة إلى حزبي الاتحاد الاشتراكي وحزب العمل الشيوعي.
لقد شهدت العشرية الأولى من حكم الأسد الابن اضطرابًا لم يعهده النظام منذ العام 1970، فقد وقع نتيجة ارتباكه وخطأ حساباته، بمجموعة من المطبات، من تشجيعه وتسهيله مرور الجهاديين إلى العراق بعد الغزو الأميركي، ثم شبهة المشاركة في اغتيال الحريري، والتفافه على وعوده الإصلاحية، متنقلًا بقصد تضييع الوقت من الإصلاح السياسي إلى الاقتصادي فالإداري، فوقع تحت ضغط خارجي لتعديل سلوكه، وضغط داخلي هدفه الأساس الإصلاح السياسي، لكن النظام هرب نحو سياسات نيو ليبرالية أتاحت لزبانيته التحكم في الاقتصاد السوري ونهبه، ودفع المزيد من شرائح الشعب السوري إلى حافة الفقر، وهذه العوامل مجتمعة، شكلت دوافع تفجير الثورة السورية، في سياق ثورات الربيع العربي التي أطلق شرارتها البوعزيزي من تونس.

حراك القوى السياسية السورية غداة الثورة وما أفضت إليه
لعل الزمن القياسي الذي استطاعت فيه الثورة التونسية، دفع الرئيس زين العابدين بن علي إلى المغادرة، بعد سبعة عشر يومًا من انطلاقتها، لأحوال تخص تونس وصدمة المفاجأة، هو ما أنعش آمالًا كانت غافية في أذهان السوريين، ليبدأ النقاش والتساؤلات حول توقع انتقالها وممكناتها في سورية، حتى النظام من جهته راح يعد عدته، لمثل هكذا احتمال على الرغم من تظاهره بالثقة. ففي مقابلة للرئيس السوري مع صحيفة وول ستريت جورنال ردًا على سؤال إذا ما كان يخشى انتقال عدوى الثورة إلى بلاده، بادر بقوله: “إن وضع سورية مختلف عن الآخرين، لأنه لم يضع يده بيد إسرائيل، والشعب السوري راضٍ عن أداء حكومته”.
مع انتقال الثورة إلى ليبيا ومصر بات الحراك أكثر احتمالًا، ففي 5 شباط/ فبراير جرت الدعوة من جهة لم تعلن عن نفسها، ولعلها مبادرة فردية، إلى التظاهر وسط دمشق، دعوة لم يلبها أحد، لكنها لفتت النظر إلى حجم الاستنفار الأمني لمواجهتها، وفي 17 شباط/ فبراير 2011، تجمع عدد كبير من الناس على غير العادة في (سوق الحريقة) احتجاجًا على تصرف شرطي أساء إلى أحد المواطنين، حيث عُدّ هذا التحرك أكبر إرهاصات الثورة التي أطلق شرارتها اقتحام الجامع العمري في درعا.(1)
بعد حادثة “الحريقة” بثلاثة أيام، ارتكبت مذبحة بحق الناس الذين تظاهروا احتجاجًا على اعتقال أطفال كتبوا على جدار أحد البيوت شعارًا يتناول الرئيس السوري، وأساء الأمن إلى وفد من أهاليهم.
أطلقت حادثة “العمري” شرارة الثورة التي عمّت في أقل من أسبوعين الجغرافيا السورية كافة، وانخرط ملايين الناس في حركة احتجاج سلمي مثابر في كل يوم جمعة توفر له من ينظم ويدعو ويرتب ويوثق وينشر من جيل الشبان السوري، وسرعان ما أُسّسَت التنسيقيات التي عُبر عنها من جهتين (لجان التنسيق المحلية واتحاد التنسيقيات السورية)، الأمر الذي وجه النظام نحو تصفية الظاهرة باستهدافه جيل الشبان في المرحلة العمرية بين 18 و35 سنة بالتصفيات والاعتقال أو الهروب خارج البلد أو اللوذ في المناطق التي راحت بعد أشهر تخرج على سيطرة النظام.
عند هذه العتبة يجدر نقاش وتتبع ردة فعل القوى السياسية المعارضة، وكذلك ردة فعل النظام، وكيفية اتخاذ الصراع مساره الدموي.

أولًا: حراك القوى السياسية المعارضة
بما أن الثورة السورية كانت ثورة عفوية غير نمطية، لم يقف وراء انطلاقتها لا حزب ولا حركة، ولم يدَّعِ أحدٌ ذلك بطبيعة الحال، وبما أن جيل الشبان الذي أدار نشاطها، لم يكن بوارد تسليم قيادتها إلى أحد، أقله في الأشهر الأولى للثورة، نظرًا إلى ما يحمله من موقف تجاه نمطية العمل السياسي، وضريبته العالية في ظل نظام استبدادي، جعلته عمومًا بعيدًا عن طبيعة العلاقات، أو الحراك داخل الأحزاب، ولعله كان لدى الكثير من هذه الأجيال، نظرة غير إيجابية تجاه الأحزاب السياسية، من دون أن تكون مستندة بالضرورة إلى تجربة عيانية؛ فإنَّ الأحزاب السياسة وجدت نفسها ملحقة بالثورة، وجرت محاولات لتوحيد المعارضة في مواقفها خلف الثورة، ثم تاليًا محاولة تشكيل قيادة سياسية لها في الداخل، وجرت لذلك اجتماعات ولقاءات واتفاقات لم تُنفذ، وعُرضت وثائق كمشاريع تحالفية، من دون أن تفضي إلى نتيجة مرغوبة وملحة، بحيث استُقطِبَت في النهاية القوى السياسية في ثلاثة أطر تحالفية، مثّل أولها ائتلاف (إعلان دمشق) ومثّل الثاني تحالف قوى ضَمت إلى الاتحاد الاشتراكي عددًا من الأحزاب والشخصيات بعضها كان في إعلان دمشق، وانحاز إلى مشروع (هيئة التنسيق الوطنية) التي أعلنت رسميًا في 30 حزيران/ يونيو 2011 عبر مؤتمر عقدته في ريف دمشق، والثالث كان (المجلس الوطني الكردي) الذي أعلن عنه في 26 تشرين الأول/ أكتوبر 2011، حيث ارتأت الأحزاب الكردية جميعها أن لها مشروعها الخاص الذي يتمحور حول القضية الكردية في سورية، وهو موقف حمل شيئًا من ضيق الأفق أكثر مما حمل من هموم القضية المعنية التي باتت قضية وطنية سورية بامتياز، أقله منذ انخراطهم مع بقية أحزاب المعارضة السورية في تحالفات سياسية، لكن في الخلفية يكمن قرار أنهم لا يريدون دفع تكاليف توقعوا أن يضطروا إلى دفعها أو هُددوا بها، في ما لو بقوا في إعلان دمشق، كما أنهم لم يجدوا قضيتهم لدى أغلب أحزاب هيئة التنسيق ولم يكونوا موافقين على برنامج الهيئة، أو الاستقطابات داخلها، يضاف إلى ذلك حالة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (بي واي دي) الذي ضبط الحراك الكردي في مناطق وجوده، وهيمن على الحقل السياسي الكردي بالقوة العسكرية والأمنية العارية، ولم يكن ليحظى بتلك القوة في ذلك التوقيت لولا رضى النظام وتدفق السلاح والدعم من قيادات جبال قنديل، ذات العلاقات العميقة مع إيران، حليفة النظام منذ بداية الثورة وشريكته في محاولة وأدها.
ذهب كثيرون من الناشطين السياسيين حينها، إلى تحميل الفشل في توحيد المعارضة خلف الثورة، إلى الاستقطابات السابقة التي وسمت العلاقة بين حزب الشعب الديمقراطي، وحزب الاتحاد الاشتراكي، ولا سيما بعد رحيل الدكتور جمال الأتاسي على الرغم من وجودهما في التجمع الوطني الديمقراطي منذ انطلاقته عام 1979 وحتى انطلاقة إعلان دمشق، والذي مكث فيه الاتحاد حتى انعقاد مجلسه الوطني الأول، حيث غادره مع حليفه حزب العمل الشيوعي بعدها، كما يعزو البعض بإصرار الخلاف إلى تباين الرؤى بين رياض الترك وحسن عبد العظيم، عبر إضفاء طابع شخصي على هذا الاستقطاب، وهذا على الرغم من حضوره في العلاقة بين الشخصيتين، إلا أنه لم يكن ليشكل سوى بعد ضئيل من المشكلة، ذلك أن المشكلة كانت تقبع في مكان آخر، لا يُعتَرف بها، أما أن تُعزى المشكلة إلى خلاف شخصي وحسب فهو يمثل استهانة كبيرة بعقول بقية كوادر الجهتين، لينساقوا من دون دراية أو رضا وراء مثل هذه المصادفة السيئة التي جمعت الرجلين، وحتمت على شخصين لا ينسجمان أن يعملا معًا على مضض، نظرًا إلى تضارب مواقفهما من النظام، ومدى جذريتها واقعيًا قبل أي شيءٍ آخر.
ربما كان العامل الأهم يتمثل بفقدان الثقة غير المعلن بمواقف الاتحاد الاشتراكي ونزوعه الى أداء دور قائد لجبهة معارضة، تماشيًا مع المادة الثامنة من الدستور السابق، الذي خول حزب البعث قيادة الدولة والمجتمع وجبهة وطنية تقدمية، ومرد هذا المضمر غالبًا، المفصَح عنه أحيانًا، وهمٌ بأنه الحزب الأكبر في المعارضة، بصرف النظر عن مدى صحة هذا الاعتقاد في ظل نظام استبدادي، يضاف إلى ذلك ظن يصعب التأكد منه، يرى أن الناصرين الذين غدر بهم حلفاؤهم البعثيون في تنفيذ انقلاب 8 آذار/ مارس 1963، ونكلوا بهم في حوادث 17 تموز/ يوليو 1963، وأخرجوهم من دائرة السلطة التي ساهموا في الوصول إليها، وبما أن الناصريين يشكلون العمود الفقري في ائتلاف الاتحاد الاشتراكي العربي الذي أُسس نهاية الستينيات، فقد أخذوا موقع المعارضة على طول الخط، مع اعتماد استراتيجية عدم الصدام مع النظام، لذلك هم يسيرون قريبًا من الخط الفاصل بين السلطة ومواليها من جهة، وبين المعارضة من جهة أخرى، هذا ما تشي به التجربة المديدة إن صدق الظن، هذا الإرباك كان واضحًا في الأسابيع الأولى لانطلاقة الثورة، حيث طلبت قيادة الاتحاد عبر بيان من كوادرها عدم المشاركة في التظاهرات، من دون أن تلتزم كوادر دوما وحرستا على الأقل بذلك البيان، وتشهد مذبحة دوار العنب، أن عددًا من كوادر الاتحاد قضوا نتيجة إطلاق النار على المتظاهرين، والحال أن هناك انشقاقًا حصل داخل الاتحاد، وإن كان محدودًا، على خلفية موقف الحزب.
كان إعلان دمشق الذي تابع انطلاقة الثورة ملتحقًا بها، مثله مَثلُ القوى الأخرى، قد طلب من كوادره عبر بيان المشاركة في التظاهرات، في أماكن وجودهم كلها، في الجغرافيا السورية كلها، وكان منفتحًا مع بعض الحذر على فكرة توحيد المعارضة، لكن الاتحاد الاشتراكي والقريبين من رؤيته، كانت استراتيجيتهم تقوم على جلب الآخرين إليهم لتسنم قيادة الثورة، وربما التصرف باسمها، وقد يكون من المفيد للتاريخ القول إنه كان هناك طرف آخر، تمثله كوادر المجتمع المدني، وبحكم ثقلهم الفكري والثقافي وبعضهم لنشاطه السياسي التنظيمي، ومن موقع عدم وضع قطبي المعارضة على محمل الجد، فإنهم كانوا يرون أن بروز تحالف جديد، يطرح نفسه على الثورة لقيادتها، بحيث تكون فرصة الحضور والتأثير لهم، أكبر بما لا يقاس بحكم الوضع القائم آنذاك، بخاصة أن النظام حاول من خلال لقاء بعض تلك الوجوه، والإيحاء بقبوله فكرة التفاوض والبحث عن حلول للطارئ الجديد، أن يبعث برسائل بأنه يريد حلولًا. وهناك نقطة أخرى حكمت موقف الإعلان هي عدم ركونه للمبادرات التي كثرت في الأشهر الأولى للثورة، وبما أن القوى السياسية، لم يتح لها قيادة الثورة بل التحقت بها، فقد رأى في تلك المبادرات تشويشًا على الثورة، قبل أن تتجاوز عتبة اللاعودة، وكان مع فكرة التريث وعدم الاستعجال، خاصة أن النظام أطلق حله الأمني، فاتحًا بوابة العنف على مصراعيها، لذلك كله فشلت أول محاولة واسعة لتوحيد المعارضة، تلاها فشل المحاولة الثانية التي جمعت أطياف المعارضة في القاهرة في آب/ أغسطس 2012، وراح كل طرف يحمّل الأطراف الأخرى مسؤولية الفشل، وبعد هذه العتبة راح الاستقطاب يأخذ شكلًا أكثر تحديدًا، وشكل الأساس لفكرة المنصات المعارضة، في مواجهة التمثيلات الرسمية، التي تشكلت في الخارج كالمجلس الوطني السوري، وائتلاف قوى الثورة والمعارضة.

المجلس الوطني السوري
في المسافة الفاصلة بين تاريخ انطلاقة الثورة، وتاريخ إعلان تشكيل المجلس الوطني السوري ممثلًا للثورة في 2 تشرين الأول/ أكتوبر 2011، شهد الحراك المعارض الذي بدأ يمارس نشاطه في الخارج، بعد أن تمدد عنف النظام وتقلصت رقعة التظاهرات، نشاطًا واسعًا، فعُقدت المؤتمرات والحوارات في تركيا وستوكهولم والقاهرة، وأُطلِقت مبادرتان على الأقل لتشكيل مجلس وطني، ووضعت أسماء، وأخفقت كلها، وهي مبادرات كانت تستلهم تجربة المجلس الوطني الليبي، لكن ندوتي الدوحة الأولى والثانية في شهر أيلول/ سبتمبر 2011، بدعوة من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تم التوافق فيهما بين أطياف المعارضة المدعوة على تشكيل المجلس وأُعِدَّ بيان تشكيله، لكن الاتحاد تراجع عما اتفق عليه، وطلب تعديل البيان طارحًا “لاءاته” الثلاث التي لم يكن لها أي مبرر سوى حجة لتنصله من الاتفاق، فليس هناك من طلب تدخلًا خارجيًا، ولم يكن الخارج بوارد التدخل، وقيل ذلك بوضوح صارخ، ولم تُرفع شعارات طائفية، كما أن الثورة استُجرت إلى العنف وبقيت سلمية تواجه القتل المتدرج ستة أشهر، وقد فتح الاتحاد بموقفه هذا الباب أمام ديماغوجيا مضللة بقسمته المعارضة إلى معارضة داخل ومعارضة خارج، وأخيرًا تشكل المجلس الوطني من إعلان دمشق والإخوان المسلمين، وتنسيقيات الثورة، والمنظمة الآثورية الديمقراطية والمستقلين، لكن الإخوان راحوا يدخلون تشكيلات أخرى موالية لهم، وخرجوا على قاعدة التوافق، بحيث ضمنوا بعد أقل من عام الهيمنة على المجلس والتحكم فيه، الأمر الذي أثار حفيظة وتحفظ الدول الداعمة، وفي المقدمة منها الولايات المتحدة والسعودية، فعمدوا بالتعاون مع بعض المستقلين في المجلس، إلى الانتقال إلى تشكيل جديد عقد اجتماعه الأول في الدوحة في 1 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012 بهدف تخليص تمثيل المعارضة من هيمنة الإخوان من دون أن يفلحوا، لأن الإخوان كانوا يحظون بدعم قطري تركي واسع ويتحكمون في أموال الائتلاف وغيرها من ممارسات عكست نهجًا حزبيًا مغلقًا، همه الوصول إلى السلطة أو أن يكون الطرف الأساس في أي حل سياسي، بصرف النظر عن أهداف الثورة التي يدعونها. ومع انطلاق مفاوضات جنيف برعاية الأمم المتحدة، دعت الحاجة إلى تشكيل هيئة عليا للمفاوضات، جرى الإعلان عنها في المؤتمر الأول الذي عُقد في الرياض في شهر كانون الأول/ ديسمبر 2015 ، وضمت 32 عضوًا منهم تسعة من ائتلاف قوى الثورة والمعارضة، وعشرة من الفصائل المعارضة المسلحة، وخمسة من هيئة التنسيق الوطنية، وثمانية مستلقين، وفي 22-23 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، عقد مؤتمر الرياض اثنان، حيث انتُخب خمسون عضوًا في التشكيلة الجديدة بمن فيهم ممثلون عن منصتي القاهرة وموسكو، لكن مفاوضات جنيف توقفت، واقتصرت على اجتماعات اللجنة الدستورية كأحد السلال الأربعة للمبعوث الأممي ستيفان ديمستورا من دون أن تحرز أي نتائج حتى الآن.
لقد كانت تجربة التمثيل السياسي للثورة السورية تجربة قاصرة، إن لم تكن فاشلة، ويبدو أن مسيرتها على هذا الشكل قد فرضتها طبيعة الثورة وتعقيدات الصراع وثقل التدخل الدولي. لكن يبدو أن تجربة المجلس الوطني الذي اعترفت به 124 دولة في اجتماع تونس، كانت التجربة الأقرب إلى ثورة السوريين، لو لم تنبع مشكلته من داخله بالدرجة الأولى.
يلفت النظر في نقد تجربة المجلس الوطني السوري، ما كتبه أول رئيس للمجلس الدكتور برهان غليون في كتابه (عطب الذات) حين يقول في أكثر من موقع ومعنى: “كانت سياسة الدول العربية تسعى للضغط على النظام، ودفعه إلى انتهاج سياسة واقعية تجنبه التورط في حرب داخلية تهدد مصالحها، لذلك كانت أكثر الحكومات اهتمامًا بمصير الأسد مثل قطر وتركيا والسعودية، وقد استعداهم الأسد باستهزائه بهم وخداعة لهم”(2)، ثم يتابع في موقع آخر “إن الدول الأخرى (والمقصود الدول الغربية) التي دعمت المجلس الوطني لترشيد الثورة ومن وراء ذلك ترشيد النظام ذاته”(3)، والأغرب من ذلك القول: “والحال أن المجلس الوطني الذي ولد في إطار البحث عن حل سياسي من المجتمع الدولي، لم يكن مؤهلًا لقيادة ثورة مسلحة والوفاء بشروطها، فقد شاركت في تشكيله منظمات سياسية كانت تؤكد على الطابع السلمي للثورة وتراهن عليه”(4)، ومع وصف أن الخلاصات التي وصل إليها الدكتور غليون هي تالية لتجربته وليست سابقة لها، ومع الصحة الجزئية في بعض ما قاله عن الدول المتدخلة إلى جانب الثورة، ما مفاده أن حرصها على النظام أكثر من حرصها على انتصار الثورة، حفاظًا على مصالحها مع النظام، وبما أن مصالح الآخرين طوال خمسة عقود من حكم الأسد، انحصرت في الجانب الأمني، وبما أنها أخفقت في ترشيده وترشيد الثورة، لم تتابع وإن بوتيرة أقل، لأسباب معروفة وخاصة بكل طرف داعم. وفوق كل المواقف هذه، يقبع الموقف الأميركي الذي لم يكن واضحًا
لماذا أضاعت هذه الدول جهدها في تشكيل المجلس الوطني الذي تكون بإرادة خارجية في إطار البحث عن حل سياسي، والقيام بأعبائه السياسية، وهي تعلم أنه عاجز، وأن التشكيلات العسكرية لم تكن جزءًا منه؟!

ثانيًا: مواقف النظام واعتماد العنف خيارًا أوحد
لم يخالط الشك الكثير من السوريين في أن النظام لن يعتمد إلا الحل الأمني الذي يعبر عن طبيعته، ويستطيع أن يضمن من خلاله حسم الأمور لمصلحته، كما بينت تجربة الصدامات السابقة وأكبرها حوادث الثمانينيات، لكن مع ذلك وكسبًا للوقت ريثما يرتب النظام خططه، ويستكشف مدى تماسك الجبهة المعارضة، ومدى قدرة الثورة على الاستمرار، فقد عمد إلى الإيحاء بالبحث عن حلول مع رموز معارضة، وفي أكثر من موقع، ثم ألغى قانون الطوارئ، واستبدله بعد أقل من عام بقانون الإرهاب الذي يعدّ أشد وطأةً، ثم سمح بعقد مؤتمر للمعارضة في فندق السميراميس 4 تموز/ يوليو 2011، ثم تبعه في 10 تموز/ يوليو 2011 بمؤتمر صحارى الذي رَأَسَه فاروق الشرع نائب الرئيس، وحضره بعض المعارضين، ومن دون أن يفضي إلى شيء أيضًا، سوى محاولة النظام الإيحاء بأنه يبحث عن حلول، ويسمح بنشاط للمعارضة في عاصمته، كل هذا والخيار الأمني يمضي بشدة أكثر، وربما كان قانون الأحزاب آخر ما في جعبة الأجهزة الأمنية، تنفيذًا لمرسوم رئاسي حمل الرقم 100 تاريخ 12 أيلول/ سبتمبر 2011، حيث حددت اللائحة التنفيذية التي صدرت عن رئاسة مجلس الوزراء، 2222 التي تحكم شروط وموجبات الترخيص، وآلية عمل تلك الأحزاب وفقًا لما تقرره لجنة تحدث في وزارة الداخلية أمانة سر اللجنة تسمى أمانة سر لجنة شؤون الأحزاب، تتولى تسيير الأمور الإدارية للجنة، وفي خلاصة اللائحة والمرسوم، تمت الموافقة على منح تراخيص إلى عشرة أحزاب، لم تتبين أي اختلافات في برامجها السياسة المعلنة، وكلها تتفق على البحث عن حل سياسي برعاية النظام.
لقد بلغ تعنّت النظام وإصراره على الحل الأمني الذي أدى من حيث النتيجة إلى استجلاب التدخل الخارجي، أنه رفض مبادرتي الجامعة العربية لحل الأزمة في سورية، حيث تضمنت الأولى التي أطلقت في 16 تشرين ثاني/ نوفمبر 2011 وكانت تتضمن خارطة طريق تقوم على وقف إطلاق النار وسحب الجيش من المدن، وإطلاق عملية إصلاح سياسي، وحوار بين النظام والمعارضة، يفضي إلى إطلاق الحريات وإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية، وقد قررت إرسال بعثة مراقبين عرب لمراقبة وقف إطلاق النار، لكن النظام دفعهم إلى إنهاء مهمتهم بعد أسابيع، ما حدا بالجامعة لإطلاق مبادرتها الثانية في 22 كانون الثاني/ يناير 2012، وهي مبادرة حاكت إلى حدٍ بعيد، مبادرة دول مجلس التعاون الخليجي تجاه اليمن، إلا أن النظام رفضها جملةً وتفصيلًا، ما حدا بالجامعة إلى تعليق عضوية سورية في الجامعة، وسحب سفراء الدول العربية من دمشق، وهو قرار لم تلتزم به بعض الدول العربية، كذلك حملت الجامعة الملف إلى مجلس الأمن الدولي، وطلبت إرسال قوات أممية عربية لفرض وقف إطلاق النار، لكن المجلس اكتفى مبدئيًا بتعيين ممثل مشترك للأم المتحدة والجامعة، وكان كوفي أنان الأمين العام السابق للأمم المتحدة السابق، واستمرت مهمته ستة أشهر تقدم خلالها ببيان جنيف 1 الذي بُني بدوره على مبادرة الجامعة الثانية.
بالتوازي مع جهد النظام للالتفاف على مطالب الثورة، كان هناك جهد روسي موازٍ مع بعض التأخير في التوقيت، تقوده روسيا للالتفاف على قرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة، والتي وافقت عليها كلها، وقد ابتدأت بجنيف 1 تاريخ 30 حزيران/ يونيو 2012، وآخرها 2254 لعام 2015، حيث دعت إلى مؤتمر موسكو1 في كانون الثاني/ يناير 2015، ثم موسكو2 في 27 آذار/ مارس 2015، بهدف خلق قاعدة سياسية عبر جمع أطياف صنفت نفسها بأنها معارِضة، وتقيم بالداخل مع حضور للنظام، ومنها تفرع مؤتمر أستانا الذي ضم روسيا وتركيا وإيران بصفتها دولًا ضامنة إلى النظام والمعارضة التمثيلية عام 2017، ووصل عدد اجتماعاتها إلى رقم 17 من دون إحراز أي تقدم، وفقًا للأهداف المطروحة، ثم جاء مؤتمر سوتشي تاريخ 15 كانون الثاني/ يناير 2018، الذي انبثقت منه فكرة اللجنة الدستورية، وكذلك هي الأخرى لم تحرز أي تقدم، إن التحركات الروسية على هذا الصعيد خارج سورية، كان يواكبها العديد من اللقاءات لمعارضين داخل سورية في قاعدة حميم، مقر قيادة القوات الروسية في سورية، وما زالت الأمور تراوح مكانها ومن دون أي نتائج، لأن النظام وحلفاءه لا يريدون حلولًا، وفق القرارات الأممية، بل يريدون حلولهم الخاصة، في حين أن الدور الأميركي ما زال يقوم على تعطيلها، لأن شروط الحل السياسي وفقًا للموقف الأميركي لم تنضج بعد.

حول معضلة التمثيل السياسي للثورة السورية
قبل الخوض في مفهوم التمثيل السياسي وممكناته، قد يكون من المفيد رصد ضعف الخبرة السياسية للكوادر السياسية بشكل عام. ظهر هذا الضعف على مستوى إدارة العلاقة مع الدول المتدخلة في الملف السوري، وعلى مستوى الإتقان الاحترافي لفنون التفاوض. هنا يمكن تلمس بعض العذر، ذلك أنها أول مرة تجد المعارضة السورية نفسها في مواجهة استحقاقات من هذا النوع، لكن يمكننا إيراد بعض التناقضات التي برهنت على براغماتية قاصرة للقوى السياسية، أو الشخصيات المستقلة التي دفعتها خصوصية الوضع السوري إلى موقع قيادي في المؤسسات التمثيلية، بحيث أنها لم تجد ضيرًا في تقلب مواقفها بين النقيضين أحيانًا، فعلى سبيل المثال، لم يكن حزب الاتحاد الاشتراكي، ومن يشاركونه الموقف الحقيقي، راغبًا في مشاركة الإعلان في الهيئة، من دون أن يعني ذلك أن الإعلان كان متحمسًا للأمر، ثم إنه تملّص من موافقته في ندوة الدوحة لتشكيل المجلس الوطني السوري، والموقف ذاته من ائتلاف قوى الثورة والمعارضة، على أساس أنه يقود معارضة الداخل الأكثر وطنية، لكن ومن دون مبرر شارك في مؤتمر الرياض 1 والرياض 2، لتشكيل هيئة التفاوض بالتشارك مع الائتلاف والفصائل المسلحة التي تمارس العنف الذي كان يرفضه وكان جزءًا من وفد التفاوض في جنيف، وكذلك في اللجنة الدستورية، ولو سُئل عن هذا التغيير، لأجاب بأنها جاءت نزولًا عند نصائح الأصدقاء، وواجب المشاركة في تقرير مستقبل سورية!.
نموذج آخر؛ الفصائل المسلحة التي تجاوز عديدها في البداية 400 تشكيل من مختلف الأحجام، ثم راح العدد يتقلص عبر عمليات الاندماج أو الدمج القسري، وهذه الفصائل لم تقبل قيادة المجلس الوطني وتمثيلها سياسيًا، على الرغم من الاعتراف الدولي الواسع به، وخروج جمعة تظاهر بعنوان (المجلس الوطني يمثلني)، في الوقت ذاته الذي يدّعون فيه حمل أهداف الثورة والدفاع عنها، ثم انضموا من دون تبرير إلى عضوية الائتلاف، لكن التناقض الأكبر كان بذهابهم إلى مسار أستانا التفاوضي، برعاية الدول الضامنة؛ اثنتان منها، إيران وروسيا، تعدّهما الفصائل عدوًا، وتقاتله على الأرض، ثم شاركت في وفد المفاوضات، ولو سألتهم أيضًا عن تفسير، لأجابوا إنها نصائح الأصدقاء! والتساؤل الذي يطرح نفسه هنا، هل يعدّون أنفسهم ممثلين عن الثورة التي قام بها الشعب السوري، أم هم قادة ثورة خاصة بهم لإحلال حكم عسكري جديد، محل حكم عسكري قائم؟ وهل كانت في حساباتهم حروب التصفيات المحتملة، في ما لو سقط النظام، على طريقة التنظيمات الأفغانية بعد انسحاب السوفيات؟ تناقضٌ مخز آخر، ومناقض لشعارات الديمقراطية وقع فيه الائتلاف عندما مارس عملية تبادل مواقع بين رئاسة الائتلاف ورئاسة هيئة التفاوض، ما بين العبدة والحريري، جريًا على ما قام بين بوتين وميديدف في روسيا.
عندما يجري الحديث عن التمثيل السياسي، وهو أهم بند في أجندة العمل السياسي، فإنه يستدعي أول ما يستدعي فكرة التفويض التي تتضمن عوامل الخبرة والتجربة التاريخية والثقة، لأنه من دون تفويض لا معنى للتمثيل السياسي، والتمثيل عادة يكون متينًا أكثر في الحزب الواحد، معبرًا عنه بقيادته المنتخبة، أما في التحالفات السياسية -وأغلب الثورات قامت على تحالفات- فإن قوته تُقاس بمدى تطابق البرامج والأهداف الاستراتيجية والمرحلية بين مكوناته، ولو أردنا تطبيق ذلك على تمثيل الثورة السورية سياسيًا، آخذين في الحسبان تعقيدات الوضع السوري، وتداعيات الاستبداد المديد وتدويل القضية السورية، وهذه عوامل موضوعية، جعلت من بلورة تمثيل سياسي فاعل لثورة قدمت مئات آلاف الضحايا، أمرًا ليس سهلًا، لكن وبالقدر ذاته فإن العوامل الذاتية أساءت أيما إساءة للفكرة من جهتين: أولًا من جهة القوى السياسية والشخصيات المستقلة، التي وجدت لها مكانًا في تلك الهيئات التمثيلية، حيث تحكم عند الأغلبية عامل الذاتيات المتضخمة حد النرجسية، أو العصبوية الحزبية أو المناطقية، ثم شيوع الانتهازية عند البعض، وتسخير الموقع في خدمة البحث عن أدوار مستقبلية، ومن جهة أخرى حيث جماهير الثورة التي لا يجمعهما على ما ظهر، سوى الهدف العام ألا وهو اسقاط النظام، أما مستقبل سورية فإما غير مفكَّر فيه، وإما مؤجل إلى حينه، بمعنى سيادة العفوية، يضاف إليه انعدام الثقة، فجمعة (المجلس يمثلني)، وبعد عام (الائتلاف يمثلني)، وبعدها (لا أحد يمثلني)، وحتى لا يقع المرء بشبهة التحامل، فلربما أن هناك قوى لديها القدرة على تحريك الناس بحسب مصلحتها، وهذا وارد لكنه خطر، عندما يتعلق الموضوع بثورة، ترتب عليها من حيث النتيجة أثمان هائلة. وبالنتيجة، وبعد تجربة عقد ونيف تبين أن مشكلة الحالة السورية، تتحدد بأن الاستقطابات المعلنة أو المضمرة، تنخر الجسد السوري المحكوم موضوعيًا، كما بينت التجربة بولاءات ما قبل وطنية، قومية وطائفية وعشائرية وأيديولوجية، كانت تغطيها قشرة من الشعارات الوطنية، ولا شك أن الاستبداد المديد، عمل بشكل ممنهج على تعميق الصدوع الثاوية في قعر المجتمع، بدلًا من العمل على ترميمها.

هل يمكن إنضاج بديل سياسي واعد؟ وكيف؟
هل من بديل؟ لعله السؤال الأكثر إلحاحًا في أذهان النخب السياسية والثقافية كافة منذ سنوات، بعد أن ثبتت ضحالة الأداء السياسي لائتلاف قوى الثورة والمعارضة، ويضاف إلى ذلك انغماس الفصائل العسكرية بممارسات، بحق المواطنين والإعلاميين والناشطين، لا تختلف عما مارسه النظام، فضلًا عن الفساد والمعابر والسطو على أرزاق الناس، في وضع ثبتت فيه خطوط التماس، وهدأت العمليات العسكرية على العموم، منذ اتفاقات خفض التصعيد وترحيل المعارضة إلى الشمال السوري.
بما أن القرار قد خرج من يد السوريين سلطة ومعارضة، وآل لمصلحة الدول المتدخلة الأربعة، فإن فكرة البحث عن بديل باتت تشغل الناشطين، وقد حصلت الكثير من المحاولات والمبادرات من دون جدوى، ولعل السبب الرئيس وراء فشل جميع المحاولات، هو فقدان الحامل الدولي لمثل تلك المبادرات، واستمرارية وقوف المجتمع الدولي والدول الفاعلة حتى الآن خلف دوام الصفة التمثيلية للائتلاف، وليس فتح الطريق لمبادرة مختلفة، ما يدلل واقعيًا على أن الملف السوري، مركون على الرف إلى أجل غير معروف، وما زاد من صحة هذا الاستنتاج، انشغال الغرب بالغزو الروسي على أوكرانيا، وتعثر مفاوضات الملف النووي الإيراني، والتعنت التركي الذي يتذرع بحماية أمنه القومي الذي تهدده تجربة الإدارة الذاتية في شمال سورية.
ثمة عامل آخر له شأنه في هذا الخصوص، يتعلق بضعف الثقة بين تلك النخب، فالتجربة العيانية لها لم تكن مشجعة، وكما هو معروف في تاريخ الثورات، فإنه عندما تؤول الثورة إلى حالة تراجع، كما هو واقع الثورة السورية، يصبح التشتت في المواقف والرؤى والحلول المطروحة سيد الموقف.
مازال الكثيرون ممن يشاركون في النقاش العام، حول الوضع السوري، سواء في الندوات أو اللقاءات أو المقالات المنشورة، أو تلك الآراء المطروحة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حول ضرورة عودة السوريين إلى قرارهم المستقل، والاعتماد على قدراتهم الذاتية، لكن وبمقدار ما يحمله هذا الطرح من رومانسية سياسية، إن لم يكن مطروحًا من باب المزاودة السياسية، فإن طول المسافة التي قطعتها القضية السورية على طريق التدويل، ووقوع سورية تحت أربعة احتلالات جديدة، يصعب الفكاك منها، وفق معادلات الصراع القائمة حاليًا، وقد يتناسى البعض عن حسن نية أو بتجاهل غير بريء، أنه في تاريخ الثورات، قلما انتصرت ثورة بصرف النظر عن نتيجتها من دون حليف ودعم خارجي، هذا بديهي لكنه ليس لب المشكلة، فالمشكلة تكمن في الأسس والقواعد التي بنيت عليها العلاقة مع الخارج، طلبًا للدعم سياسيًا كان أو ماديًا، وأين موقعك في تلك العلاقة.
يتعلق السؤال الراهن بإمكان الخروج من هذا الوضع، ما دامت المآلات ما زالت مفتوحة، والصراع لم ينته بعد إلى حل، والجواب نعم، لكن هذا الخروج له شروطه الموضوعية، وتوقيته الزمني، ولا تنجده كثيرًا الإرادوية، وهو مرتبط بشكل أساس بانطلاق عجلة الحل السياسي الذي يتوقف بدوره على كسر معادلات الصراع القائمة بين الدول المتدخلة عند هذه العتبة، ذلك أنه عند اشتغال الحل السياسي، وفقًا للقرارات الدولية ذات الصلة، في تلك اللحظة سوف تُفتح أمام السوريين آفاق جديدة وديناميات فعالة، وسوف يدخلون بعد هذا الصراع المؤلم في مراجعات لا بد منها عند الأطراف كلها، فالأثمان كانت فوق التحمل، بخاصة الخسائر البشرية، وعندها سوف تسقط الكثير من الشروط القائمة من لائحة العوائق في وجه هكذا مبادرات، وهذه ليست دعوة للانتظار، لكنها تتضمن بالضرورة دعوة إلى العمل البطيء، وتَملك الجاهزية لتلقف مثل هذه الفرصة، والعمل على إنضاج تمثيل فاعل، تكون النقطة الجوهرية فيه العمل بهدوء على تشكيل نواة منسجمة في أهدافها، محمودة في تاريخها، ذات تجربة وخبرة وصدقية، يلتف حولها الناس، وتدخل بالتفويض الممنوح لها معترك إعادة بناء الحياة السياسية السورية والعلاقات بين السوريين، سواء أكان خيارها مع المشاركة الفعالة في الحل السياسي، أم العمل من موقع المعارضة، بهدف تحسين شروط الحل بما يخدم مصالح الشعب السوري، وهذا يقوم على افتراض منطقي مفاده أن الحل السياسي مهما تأخر، لا بد أن يمثل مصالح الدول التي سارت به وتوافقاتها.

خاتمة
تبين تجارب الشعوب أنه كلما ضاقت الأمور، وباتت تتعلق بمصائر ثورات أو حتى دول أو تحالفات تعاني تراجعًا في رصيدها في المجتمع، تتجه الأصابع إلى مقولة التمثيل السياسي، وتبدأ المقارنات بين أداء عفوي وارتجالي يعتمد على ردة الفعل، وأداء ديناميّ احترافي مميز، يستمد شرعيته من تفويض واضح وواسع، ويعرف متى يتقدم ومتى يتراجع، ويغير من تكتيكاته، مع ثباته على استراتيجيته المعتمدة ويعرف أين تكمن مصلحته في تحالفات دعت إليها الضرورة أو تطورات الحوادث، وما هو حجمه فيها أو أن يدير لها ظهره حتى لا يُحمل من يمثلهم وزر الخسارات التي قد تترتب عليه.
وخلاصة القول إن الثورة السورية على عظمة تضحياتها، لم توفَّق بتمثيل سياسي فعال، ذلك أن تمثيلها برز في سياق متسارع للحوادث والتدويل، ولم يستند إلى قاعدة واسعة من قوى الثورة، كما أن الشرط الخارجي لم يكن ملائمًا، نظرًا إلى تعقيدات الوضع السوري، وصراعات الدول التي دخلت على خط الصراع باحثة عن النفوذ، أو تلك التي لا تريد ضياع نفوذها، الأمر الذي أطال أمد الصراع، وزاد تكاليفه البشرية والمادية.
ونتيجة لما آلت إليه الأمور، تحضر مشروعية البحث عن تمثيل سياسي للثورة السورية، يحاول أن يعيد الشعب السوري إلى معادلة الصراع والحلول، بعد أن تحكمت فيه الدول، أو قوى الأمر الواقع التي ستكون عنصر عدم استقرار خطر في مستقبل سورية.

هوامش:

1- https;///bbcArabic.com
2-
 برهان غليون، عطب الذات؛ وقائع ثورة لم تكتمل؛ سورية 2011- 2012، ط2 (بيروت: الشبكة العربية للبحوث والنشر، 2020)، 84.
3-
 المرجع نفسه، ص86.
4-
 المرجع نفسه، ص199.

مشاركة: