النضال المدني ونزعة التسييس

تسيطر على حياتنا السياسية فكرة عامة قلما تعرضت للنقد، تنطلق من “مسلمة” تقول إن مشكلتنا الحقيقية تكمن في السلطة السياسية، في استبدادها وفسادها ونهبها وقمعها… إلخ. وتصل هذه الفكرة بالناس إلى قناعة تقول إن طريق الخلاص لا يكون إلا بالخلاص من السلطة المستبدة. وبطبيعة الحال، يكون ذلك عبر أحزاب سياسية معارضة، تشكل مشاريع سلطات بديلة “غير مستبدة”. ولعل اطمئنان أصحاب هذه الفكرة إلى أن هذه السلطات البديلة، إذا قيض لها أن تحقق ذاتها، ولن تكون مستبدة،… يستند إلى المحاكمة التالية: ما دامت هذه الأحزاب تعارض وتنتقد وتقارع سلطة مستبدة، فإنها لن تبني سلطة مشابهة. تبدو هذه المحاكمة ساذجة، وهي كذلك، ولكننا لا نجد تفسيرًا آخر للقناعة الآنفة الذكر.

لهذه الفكرة “التسييسية” حضور طاغ عندنا، حين نقول “تسييسية” نقصد أنها تبالغ في دور السلطة السياسية فيبدو لها أن تغيير السلطة السياسية هي مفتاح التغيير. هذا ما قاد الناس إلى القناعة بأن الخلاص من الاستبداد يتوقف على “النضال السياسي”، أي على حسم المعركة السياسية بين “الحزب” الحاكم المستبد والأحزاب المعارضة “غير المستبدة”. أما الناس فإنها تنقسم في قلوبها (وفي قولها وفعلها إذا سمحت الظروف) بين الأحزاب المتصارعة. على هذا تبقى شروط حياة الناس المادية والمعنوية مرهونة بحسم الصراع السياسي الذي يبدو، والحال هذه، كما لو أن حسمَهُ دخولٌ إلى جنة منتظرة ترسمها المخيلات العطشى إلى “جنة” الخلاص من الاستبداد.

من الطريف أنه مع نجاح الانقلاب العسكري الأبرز في العالم العربي، نقصد انقلاب الضباط الأحرار في مصر (1952)، انتقل هذا التصور إلى النخبة الحاكمة التي “خرجت من الشعب”، والتي باتت ترى، من موقعها في السلطة، أن الصراع في المجتمع تولده الأحزاب وأن “حل الأحزاب” هو السبيل إلى السلام الاجتماعي. كأنه لا صراع في المجتمع سوى الصراع الحزبي، أي الصراع على السلطة السياسية. الفكرة نفسها تقود، من موقع مواجهة السلطة، إلى ضرورة تشكيل الأحزاب، وتقود، من موقع السلطة، إلى حل الأحزاب.

تقوم سياسة حافظ الأسد في إنشاء “الجبهة الوطنية التقدمية” بعد 1970، على الفكرة نفسها، وهي أن الأحزاب هي من يخلق الصراع في المجتمع. إذا كان عبد الناصر قد اعتمد سياسة حل الأحزاب، فإن الأسد اعتمد سياسة كسبها وتدجين قادتها ببعض المزايا.

هذا التصور التسييسي يشوه الفكرة الشهيرة التي تقول “كل صراع طبقي هو صراع سياسي” حين يختزلها، في الحقيقة، إلى “لا صراع طبقي إلا الصراع السياسي”. صحيح أن الظروف التي دفعت باتجاه هذا الاختزال هو استبداد السلطة السياسية وحصارها المحكم للمجتمع، إلا أن هذا الاختزال هو، في الواقع، ضرب من الهروب إلى الأمام في مواجهة السلطات المستبدة. السلطة تبتلع الدولة وتحاصر كل نشاط مدني مستقل، وبدلًا من العمل على مواجهة السلطة على مستويات منخفضة، لاستعادة شيء من المجال العام، فإن العمل يتركز أساسًا على إسقاط السلطة التي تحاصر المجال العام. والحال إن غياب قوى مدنية تحمي المجال العام، يجعل من هذا الأخير لقمة سائغة لأي سلطة “بديلة”، مهما يكن اسم “الحزب” الجديد أو لونه أو أيديولوجيته.

****

من طبيعة السلطة أن تميل إلى التمدد والاحتكار والسيطرة التامة، ولا يحد من هذا الميل سوى المقاومة التي تبديها سلطة أو سلطات أخرى. ومن نافل القول إن السلطة الأقوى تسعى إلى تحطيم أي مقاومة تواجه ميلها إلى السيطرة، سعيًا إلى أن تكون السلطة الوحيدة أو المطلقة.  ليس في المجتمع سلطة تتفوق على سلطة الدولة في القوة، لذلك كان من الضروري إيجاد حل للمعضلة التي تتمثل باحتمال أن تستخدم نخبة الحكم السياسي سلطة الدولة لسحق كل سلطة أخرى تقف في وجه ميلها إلى التمدد والاحتكار. كان الحل الأنسب هو تقسيم سلطة الدولة إلى سلطات مستقلة بعضها عن بعض بحيث تحرم النخبة السياسية الحاكمة (السلطة التنفيذية) من استخدام جهاز الدولة لسحق الخصوم، دون ضوابط. هذا التقسيم يعرف باسم فصل السلطات (التنفيذية، التشريعية، القضائية). 

ولكن احترام هذا الفصل بين السلطات يحتاج بدوره إلى سلطة تقف في وجه السلطة التنفيذية، بوصفها السلطة الأقوى ماديًا بين السلطات الثلاث المذكورة، وتمنعها من السيطرة على السلطتين الباقيتين وإلحاقهما بها، فنعود مجددًا إلى نقطة الصفر، وهي استبداد سلطة الدولة أو السلطة التنفيذية بباقي السلطات الموجودة داخل الدولة وخارجها. والحق إن السلطة الأهم التي تقف في وجه تعدي السلطة التنفيذية على بقية سلطات الدولة وابتلاعها هي سلطة المجتمع. ولكن هل للمجتمع سلطة؟ نعم، حين يكون المجتمع على دراية راسخة بأهمية تقييد سلطة الدولة، وحين يكون جاهزًا للنضال ضد كسر التوازن بين سلطات الدولة، وجاهزًا للنضال ضد تعديات السلطة على المجال العام وعلى حقوق المواطنين. هكذا فقط يمكن أن تتوازن دائرة القوة، ويمكن أن تعود الدولة إلى وظيفتها العمومية وأن تكون جهازًا مستقلًا عامًا وقابلًا للتداول.

نعتقد أن العلة الرئيسة في بلداننا تكمن في التماهي التاريخي بين السلطة (أهل الحكم) والدولة وما ينجم عن ذلك من خصخصة الدولة وجعلها مملوكة لمصلحة السلطة التي تسيطر عليها. يحدث ذلك بسبب غيابٍ أو خضوع ٍللسلطات الداخلية التي من شأنها أن تحد من سيطرة السلطة على كامل المجتمع، عبر جهاز الدولة. والخطير في الأمر أن في الوعي العام المكرس عبرَ الزمن، قدرًا كبيرًا من التقبل والتسليم بهذا الواقع. ينسجم مع هذه الحال “أبدية” السلطة السياسية، سواء على خط وراثي (الملكيات والجمهوريات الوراثية)، أو على خط حزبي (دول المنظومة الاشتراكية). في كل هذه الحالات، تبقى قوى المجتمع خاضعة ويبقى المجتمع مصلوبًا على خشبة الدولة. غياب سلطات داخلية تحد من سيطرة الدولة على المجتمع، هو ما ولد المفارقة المؤلمة في أن المحكومين في هذه البلدان، يتطلعون إلى تدخل سلطات خارجية كي تلجم سلطة الدولة “الداخلية” عن البطش بالمجتمع.  

أمام هذا الواقع يبدو للوعي أن المشكلة تكمن في السلطة التي تسيطر على الدولة، وأن المخرج يكون بتغيير السلطة، الأمر الذي يقود تلقائيًا إلى إعلاء شأن النضال الحزبي (الذي يريد بلوغ السلطة السياسية) على أي شكل آخر. وهكذا تتشكل الأحزاب وتعيش عمرها كله تحت القمع المباشر، على يد سلطة تمتلك كل سبل البطش والتقييد. والحق أن المشكلة ليست في السلطة الحاكمة نفسها بل في تماهي السلطة مع الدولة، وبالتالي فإن الحل ليس في “تغيير” السلطة، بل في تحرير الدولة من السلطة واستعادة المعنى العام لها. هنا يبدأ معنى النضال المدني الذي ينطلق من أن المشكلة، قبل أن تكون في تغيير السلطة، هي في استعادة عمومية الدولة، أو قل بناء عمومية الدولة.  

تماهي السلطة مع الدولة يحيل القيمة التحررية لتغيير السلطة إلى ما يقارب الصفر. لا بل قد يحمل تغيير السلطة آثارًا سيئة ناجمة عن الفوضى التالية وعن سوء إدارة الدولة على يد نخبة جديدة غير ذات خبرة. 

في الغالب، وبسبب هذا الواقع الاستبدادي، وغياب أشكال النضال المدني الذي لا ينافس السلطة الحاكمة على السلطة بل يسعى لتحرير أكبر قدر ممكن من المجال العام من يدها، وهو ما يساهم في تحرير جهاز الدولة من سلطة الدولة، نقول بسبب ذلك كانت أشكال الاحتجاج الغالبة تتخذ شكلًا سياسيًا حزبيًا يستهدف السلطة المستبدة، فينتهي الحال إما إلى بطش دموي بالمحتجين، أو إلى “نجاح” الاحتجاج في التأسيس لسلطة جديدة، تعيد سيرة السلطة القديمة، جريًا على سنّة ثابتة تسير عليها السلطات، حين يوكل المجتمع أمره للأحزاب السياسية وحدها. 

هناك مساحة واسعة من العمل غير الحزبي، ينبغي إنشاؤها وملؤها، إذا كان لأملنا في العمل الحزبي أن يكون في محله. 

****

كل ما سبق لا يعني التقليل من أهمية النضال السياسي الحزبي، ذلك أن وجود الأحزاب وصراعها يشكل بحد ذاته أحد العناصر التي تحد من تمدد السلطة وسيطرتها. ما يهمنا هنا هو توضيح بعض الفروق وخطوط التمييز فيما يخص النضال المدني.

1). “النضال المدني” ليس عملًا خدميًا يشبه عمل المنظمات غير الحكومية، بل هو فاعلية مضادة للسلطات القائمة، ولا يمكن أن يكون متسقًا مع هذه السلطات أو عاملًا تحت إمرتها. علاقته مع السلطات الحاكمة هي علاقة صراع تهدف إلى الحد من سيطرة السلطات وتجاوزاتها على حساب حقوق المحكومين ومصالحهم.

2). يختلف “النضال المدني” عن النضال الحزبي أنه لا يبتغي الوصول إلى السلطة السياسية. لذلك فإن اهتمامه بمختلف شؤون الناس، لا يهدف إلى جني مردود سياسي يساعده في الوصول إلى السلطة، كما تفعل الأحزاب. غاية “النضال المدني” هي مواجهة ميل السلطة السياسية إلى توسيع السيطرة والتمدد على حساب حقوق الناس. وعليه فالنضال المدني هو نشاط في وجه السلطات الحاكمة على طول الخط وليس في أفقه أن يتحول إلى سلطة حاكمة.

3). يمكن للنضال المدني أن يتصدى لقضايا سياسية مهمة وذات طابع وطني، وهو في هذا ينقل إلى المستوى السياسي، الوزن الذي يشكله القطاع الأوسع من الشعب الذي ينظر إلى الصراع السياسي من موقع غير حزبي، موقع متحرر من الانشغال في تحقيق مكاسب سياسية “فئوية”، ومنشغل في التعبير عما يمكن أن نسميه ضمير المجتمع. على سبيل الافتراض، كان يمكن لهيئات النضال المدني أن تعترض على تعديل الدستور لتمرير قرار التوريث في سورية، ويمكنها أن تعترض على أي اتفاقات تسوية جائرة مع إسرائيل، وعلى بيع قطاعات الاقتصاد السوري لروسيا وإيران … الخ. هذا يستدعي بطبيعة الحال متابعة جيدة ومعرفة واسعة بما يجري وقدرة على التحليل والتوعية.

4). يمكن أن يتجسد النضال المدني بعدد غير محدود من الأشكال يكافئ العدد غير المحدود من الهموم التي يعيشها المحكومون، على صعيد حياتهم المادية أو المعنوية. على سبيل المثال، يمكن أن تتشكل هيئات نضال مدني معنية فقط بمكافحة التعذيب في الفروع الأمنية وفي السجون. حين تتولى هيئات النضال المدني هذا الجانب، فإنها تتولاه مستقلًا عن السياسات الحزبية. بكلام آخر، الأحزاب المعارضة تنتقد ممارسة التعذيب التي تقوم بها السلطة القائمة، وهذا مفيد بلا شك، ولكن، لا نتجاوز على الحقيقة إذا قلنا إن الأحزاب تمارس هذا النقد ليس بدافع معاداة مبدئية للتعذيب، بل بدافع معاداة السلطة التي تمارسه. وعليه فإن رضا الأحزاب لا يتحقق بوقف التعذيب بقدر ما يتحقق بسقوط السلطة القائمة ووصولهم إلى السلطة. هذا ما يبين الفارق بين نضال مدني ضد التعذيب، مستقل بالكامل عن طبيعة السلطة التي تمارسه، وبين النضال الحزبي ضده. 

التطور الكبير في وسائل التواصل، يوفر إمكانية مهمة للوصول إلى المعلومات ونشرها والحشد ضد الممارسات المحددة التي تناهضها هيئات النضال المدني كل حسب الجانب أو الهم الذي تنشغل به.

5). الثورات لحظات نادرة في تاريخ المجتمعات، في هذه اللحظات النادرة تتخلخل السلطة القائمة، ويصبح مصيرها مطروحًا على جدول الأعمال المباشر. في مثل هذه اللحظات، حين يكون الشعب في الشارع بمطالب تغيير السلطة السياسية، تغيب محددات النضال المدني، لأن أهم ما يميزه هو العمل المستمر على تحقيق مكاسب من سلطة راسخة. الحضور الشعبي المباشر في الشارع للمطالبة بالتغيير السياسي، يتجاوز النضال المدني. ولكن ما يحققه النضال المدني في فترات السكون، هو من العناصر التي تحمي المجتمع من تغول أي سلطة، قديمةً كانت أو جديدة، وممَّا يشكل ضمانات للمحكومين من عدم تغول السلطة، مهما كان لونها، على المجتمع.

بناء على ذلك، فإن التنسيقيات التي تشكلت في مستهل الثورة السورية، لا تدخل في مفهوم النضال المدني، كما لا تدخل فيه المجالس المحلية التي تشكلت لملء فراغ انسحاب الأجهزة الخدمية للدولة. ولا تدخل في مفهوم المنظمات الخيرية أو المنظمات المدنية التي تقدم خدمات (تعليم، صحة، نظافة، دفاع مدني … الخ) لتسد تقصير السلطات أو عجزها عن تقديم الخدمات. ذلك أن النضال المدني، كما سبقت الإشارة إليه، هو فعالية مضادة للسلطات غايته حمايةٌ وتوسيعٌ لحقوق المحكومين من ميل السلطات إلى التغول على المجتمع.

6). على هذا يمكن القول إن النضال المدني هو ما يخلق المجتمع المدني الذي هو قوة مواجهة للسلطة، أو لنقل إن هيئات النضال المدني تقوم مقام المجتمع المدني، حين يكون النظام السياسي مغلقًا ويحارب وجود مؤسسات مجتمع مدني يمكن أن تحد من طغيان السلطة واستفرادها بالمجتمع.

إن غياب قوى مدنية تحمي المجال العام، يجعل من هذا الأخير لقمة سائغة لأي سلطة “بديلة”، مهما يكن اسم “الحزب” الجديد أو لونه أو أيديولوجيته.

نعتقد أن العلة الرئيسة في بلداننا تكمن في التماهي التاريخي بين السلطة (أهل الحكم) والدولة وما ينجم عن ذلك من خصخصة الدولة وجعلها مملوكة لمصلحة السلطة التي تسيطر عليها. 

هناك مساحة واسعة من العمل غير الحزبي، ينبغي إنشاؤها وملؤها، إذا كان لأملنا في العمل الحزبي أن يكون في محله. 

النضال المدني هو نشاط في وجه السلطات الحاكمة على طول الخط وليس في أفقه أن يتحول إلى سلطة حاكمة. 

ما يحققه النضال المدني في فترات السكون، هو من العناصر التي تحمي المجتمع من تغول أي سلطة، قديمةً كانت أو جديدة.

  • كاتب سوري يعيش في فرنسا منذ صيف 2014، أمضى في سجون النظام السوري 16 سنة (1983- 1999)، خرج منها مجردًا من حقوقه المدنية، تابع دراسته بعد السجن وحصل على شهادة الماجستير في الطب، صدر له سيرة ذاتية عن مدة السجن بعنوان (ماذا وراء هذه الجدران)، وكتاب يتناول الجانب السياسي من الدعوة المحمدية (دنيا الدين الإسلامي الأول)، وكتاب (قصة حزب العمل الشيوعي في سورية)، له ترجمات عن الإنكليزية، ويكتب في الصحف العربية.

مشاركة: