العلاقة بين النضال المدني و”السياسات المَقْبورة”

(إشكاليَّات وآفاق في عصر التكنولوجيا)

ملخص

تسلط هذه الدراسة الضوء على بعض خيوط العلاقة وجوانبها المعقّدة بين النضال المدني وما يُسمى بـ«السياسات المَقْبورة» Necropolitics أو «سياسات الموت»؛ فلا شك أن العلاقة بين النضال المدني من ناحية والسلطة، وبخاصة السلطة السياسية، من ناحية أخرى، هي علاقة معقّدة ومتشابكة وتلقي بظلالها على علاقات الأفراد داخل المجتمع وخارجه. وفي هذا الصدّد، يحللُ «أشيل مبيمبي» (Achille Mbembe) (1957-…؟)، وهو مفكر كاميروني ومنظر نقدي معاصر، مظاهرَ القوة والسيادة في العالم المعاصر معتبرًا إياها شكلًا من أشكال «السياسات المَقْبورة» وهو مصطلح يشير إلى سلطة الحياة والموت ممثلة في السلطة السياسية والاجتماعية، وأي سلطة أخرى يحكم أصحابها- سواء بصورة علانية أو بصورة ضمنية- على بعض الناس بالحياة بعضهم الآخر بالموت. وفي ضوء هذا تتضح أهمية هذا الموضوع، خاصة وأن السلطة في كثير من المجتمعات المعاصرة تطوّرت فأصبحت الآن شرطًا من شروط ممارسة الموت والحياة: أعني الحكم على بعضهم بالموت، والحكم على الآخر بعدم الموت! والحكم على بعضهم الثالث بإطالة أمد حياتهم!! ومن هذا المنظور أفضت السلطة إلى خلق ما يُسمى «عوالم الموت» التي يسكنها «أحياء ميتون»، وهنا يصبح النضال المدني من ناحية والسلطة والسياسة من ناحية أخرى جانبين متشابكين ومعقّدين بطرق غير محدّدة تقريبًا.

ومن هذا المنطلق، تحاول هذه الدراسة من خلال المنهج التحليلي النقدي أن تجيب عن إشكالية أساسية تتمثل في: ما طبيعة العلاقة التي تُسيّر النضال المدني في ظل «السياسات المَقْبورة»؟ وسنقف أيضًا على بعض الإشكاليات التي ترتبط بهذا الموضوع، وذلك في ضوء ثلاثة محاور أساسية: في المحور الأول نحاول أن نقف على تعريف مبسط وشامل للنضال المدني، وكذلك نلقي الضوء على أبرز صوره، وأهم الإشكاليات المرتبطة به، وفي المحور الثاني نحلل أبعاد تقنيات المراقبة في عصر التكنولوجيا بين قوة التحرر وأزمة الاغتراب، وفي المحور الثالث ندخل إلى مفهوم سلطة الحياة والموت.

مقدمة

كثيرًا ما كان الفلاسفة يحلمون بأن تكون السياسة مجالًا عامًا يمكن للأفراد من خلاله الوصول إلى اتفاقات عقلانية تُشكّل أُطر استقلاليتهم الذاتية، على اعتبار أن السياسة المثالية تتضمن مجموعة أُطر حاكمة ذات حد أدنى تكون مهمتها الشرعية الوحيدة هي حماية حقوق الأفراد، كحقهم في الحياة، والحرية، والملكية الخاصة، وبالتالي تم النظر إليها على أنها فضاء عام يمكن للأفراد من خلالها التعبير عن تطلعاتهم وأهدافهم والوصول إلى اتفاقات حرة عادلة تحدّد مسارات حياتهم. ولعل أفضل نموذج لهذه النظرة للسياسة نجده عند المفكرين الليبراليين المعاصرين، الذين أكدوا- على اختلاف نزعاتهم وتوجهاتهم- حقوقَ الأفراد وحرياتهم في اختيار نوعية الحياة التي تلائمهم دون تدخل من جانب الأفراد الآخرين أو من جانب الدولة. وهذا ما يعبّرون عنه غالبًا بلغة «الحقوق» Rights: فللأشخاص والجماعات حقوق يستخدموها في مجمل أنشطتهم، وتُشكّل بصفة خاصة عملهم الفردي وليس لأي شخص آخر أو أية جهة أن تتدخل فيها. وينبغي أن تكون هذه الحقوق موضع احترام وتأمين من جانب الدولة، وهي الحقوق التي يُقرها الدستور، والتي تضع القيود على أصحاب السلطة التشريعية والتنفيذية كي لا يخرجوا عليها. وهكذا تكون الحقوق عبارة عن دعائم كلية تمد الأفراد بإطار عام يمكن من خلاله أن يختاروا لأنفسهم نوعية الحياة التي تلائمهم من بين التصورات المتنَافَسِ عليها في «الحياة الخيرة».

لكن هذه الرؤية اليوتوبية للسياسة لم تتحقق باستثناء ومضات خاطفة في تاريخ الحضارات الإنسانية، إذ ظل العنف والقهر والتغلب والإكراه وسياسة الكذب والخداع…إلخ، ظل كل هذا هو الحاكم والمسيطر في كثير من الفترات التاريخية، بما في ذلك عصور الحداثة التي شهدت العديد من الصراعات والحروب والعنف والمآسي رغم إعلائها لقيم العقل والعلم والمساواة والحريات الفردية. فهل السبب في هذا يكمن في النظريات الليبرالية الوليدة في ذلك الوقت؟ أم أن السبب يرجع إلى الظروف العامة من ناحية، وطبيعة الأوضاع وسياقها المحدِّدة للمجتمعات من ناحية أخرى؟ الواقع أن هذه المسألة شغلت أذهان العديد من الدارسين، الأمر الذي دفعهم إلى بحث طبيعة السلطة والسيادة، وكذا قضايا النضال المدني من أجل الاستقلال الذاتي للأفراد والجماعات.

ومن هنا تحاول هذه الدراسة تسليط الضوء على بعض خيوط العلاقة المعقّدة بين النضال المدني وما يُسمى بـ«السياسات المَقْبورة» Necropolitics أو «سياسات الموت»؛ فلا شك أن العلاقة بين النضال المدني من ناحية والسلطة، وبخاصة السلطة السياسية، من ناحية أخرى، هي علاقة معقّدة ومتشابكة وتلقي بظلالها على العديد من الجوانب الأخرى لعلاقات الأفراد داخل المجتمع. وهنا يأتي «أشيل مبيمبي» ليحلل مظاهر القوة والسيادة في العالم المعاصر معتبرًا إياها شكلًا من أشكال «السياسات المَقْبورة» وهو مصطلح يشير من خلاله إلى سلطة الحياة والموت ممثلة في السلطة السياسية والاجتماعية، وأي سلطة أخرى يحكم أصحابها- سواء بصورة علانية أو بصورة ضمنية- على بعض الناس بالحياة وبعضهم الآخر بالموت. وفي ضوء هذا فإن السلطة في كثير من المجتمعات المعاصرة تطوّرت حتى أصبحت الآن شرطًا من شروط ممارسة الموت والحياة: أعني الحكم على بعضهم بالموت، والحكم على ا الآخر بعدم الموت، والحكم على بعضهم الثالث بإطالة أمد حياتهم، وهكذا. ومن هذا المنظور تؤدي السلطة إلى خلق «عوالم الموت» التي يسكنها «أحياء ميتون»، وهنا يصبح النضال المدني من ناحية والسلطة والسياسة من ناحية أخرى جانبين متشابكين ومعقّدين بطرق غير محدّدة.

وتنطلق الدراسة من فرضية أساسية مفادها أن «المتغير الذي يتحكّم في طبيعة هذه العلاقة يتمثل في التطوّر التكنولوجي، الذي يساهم في كل عصر بتحرر الأفراد من ناحية، والهيمنة والقهر من ناحية أخرى، وهنا تكمن المفارقة بعينها». وفي إطار هذه الفرضية، أناقش هذا الموضوع في محاولة للإجابة عن ذلك التساؤل الذي يدور حول:” كيف يمكن للحرية والاعتراض والمقاومة أن تنجح في ظل الإكراهات والضغوط والموت السيادي وهيمنة السلطة في المجتمعات المعاصرة”؟

أهمية الدراسة

تتضح الأهمية الحقيقية لهذه الدراسة في جانب منها إذا ما نظرنا إلى أن العصر الذي نعيش فيه الآن هو عصر التكنولوجيا، وعصر الذكاء الاصطناعي بالدرجة الأولى: فقد تطوّرت التقنية في القرن العشرين بشكل لا مثيل له عن أي عصر آخر، وقد صاحبت هذا التطور زيادة التعقيد في حياة الأفراد وسلوكهم وفي محيطهم وعلاقتهم الاجتماعية، بل أفضى الأمر أحيانًا إلى تحكم التقنية في البشر على المستوى الجسدي والعقلي. وفي ضوء هذا ازداد اغتراب الإنسان بسبب خضوعه للتكنولوجيا، ولم تفلح التكنولوجيا ذاتها في حل المشكلات الأساسية للإنسان. وقد تنبّه العديد من الفلاسفة مؤخرًا إلى خطورة هذا الأمر، فاندفع بعضهم إلى دراسة المخاطر الوجودية التي تهدّد الإنسان في ظل التزايد الرهيب للتطور التكنولوجي. وعليه؛ فإن دراسة موضوع هيمنة السلطة في المجتمعات المعاصرة بصفة عامة، ومدى ارتباط هذه الهيمنة بالتكنولوجيا بصفة خاصة، تُعَدُّ ذات أهمية من جوانب عديدة سيتضح بعضها لاحقًا.

منهج الدراسة، وإشكاليتها

نتيجة لهذا، ولأسبابٍ أخرى كثيرة ستتضح في ثَنَايا هذه الدراسة، يصبح البحث في موضوع العلاقة بين النضال المدني و«السياسات المَقْبورة» مطلبًا ضروريًا ومُجديًا إلى حدٍّ كبير. ولهذا، فإننا نسعى من وراء هذه الدراسة اعتمادًا على المنهج التحليلي النقدي، والمنهج المقارن، إلى الإجابة عن مجموعة من التساؤلات التي تدور في ذهن أيّ قارئ معاصر تشغل تفكيره طبيعة السياسة، ومَكْنُوناتُها، ومَآلُها. لكنْ إشكاليةُ الدراسةِ الرئيسية تكمن في محاولة الإجابة عن هذا التساؤل: ما طبيعة العلاقة التي تُسيّر النضال المدني في ظل «السياسات المَقْبورة»؟ ويتفرع عن هذا التساؤل الرئيسي مجموعة من التساؤلات المرتبطة به، ومنها:

1 – ماذا يقصد بالنضال المدني؟

2 – ما المقصود بـ«السياسات المَقْبورة»؟ وما الأهداف التي تسعى إليها؟

3 – ما المقصود بالسلطة التي تؤدي إلى خلق «عوالم الموت»؟ ومَن الشخص المُخَوَّل بتحديد السيادة الشرعية، ومن ثَمَّ يمتلك سلطة الحياة والموت؟ وهل من حدود لسلطته وصلاحياته؟

4 – إلى أيّ مدى تتغلغل سلطة الحياة والموت في عالمنا المعاصر؟

5 – هل يمكن أن تتحقق النظرة اليوتوبية للسياسة المثلى، والتي طالما حلم بها الفلاسفة؟

6 – هل يمكن أن يأتي اليوم الذي تمّحي فيه هيمنة السلطة بين الأفراد من ناحية، والدول والشعوب الإنسانية من ناحية أخرى، ومن ثَمَّ تزول ضرورتها كلية؟

لقد شغلت هذه التساؤلات ذهن المفكرين وفلاسفة السياسة المعاصرين، انطلاقًا من وعيهم بطبيعة الأوضاع المحدّدة للأفراد في المجتمع من ناحية، والمتغيرات والظروف الجديدة التي مرّت وما تزال تمرّ بها المجتمعات المعاصرة من ناحية ثانية.

تقسيم الدراسة

للإجابة عن التساؤلات السابقة، وغيرها، رأينا أن نُقسم هذه الدراسة إلى ثلاثة محاور أساسية على النحو الآتي:

المحور الأول: النضال المدني: مفهومه، صوره، وإشكالياته.

المحور الثاني: تقنيات المراقبة في عصر التكنولوجيا بين قوة التحرر وأزمة الاغتراب.

المحور الثالث: من تقنيات المراقبة إلى سلطة الحياة والموت.

المحور الأول: النضال المدني: مفهومه، صوره، وإشكالياته

(أ) مفهوم السلطة والنضال المدني

إذا نظرنا إلى مصطلح النضال المدني، فسنجده في الحقيقة مفهومًا واسعًا يشمل في طيّاته كل صور الرفض والاعتراض والنقد والاحتجاج الشعبي والقانوني والبرلماني ضد سلطة أو قوة أو نظام أو سياسة قائمة. ولعل أهم ما يميّزه أنه شكل من أشكال المقاومة والعمل السياسي الذي ينطلق من رفض الأفراد والجماعات المدنية واحتجاجهم بأساليب تتراوح بين الاعتراض والرفض والمقاومة السلمية اللاعنفية. وفي ضوء هذا المفهوم العام والواسع للنضال المدني، نجده يرتكز على مطالبات معينة ومجموعة من الإكراهات ضد مصادر قوة الطرف الآخر، وهم أصحاب السلطة في المجتمع بصفة خاصة. لكن ماذا تعني السلطة على وجه التحديد؟

للسلطة Authority العديد من التعريفات، لكننا سنكتفي- هنا- بالقول بأنها تَعْنِي قُدْرَةَ شَخْصٍ ما على التَحَكُمِ في رِدُود فعل شخص آخر، أو القدرة على التأثير في إرادات الآخرين وتوجيه أفعالهم، ومن ثَمَّ فهي تَفْتَرضُ طرفين أو أكثر، يُمَارِسُ أحدهما تأثيرًا على الآخر. وهذا هو المفهوم الذي يقدّمه «روبرت دال» (Robert A. Dahl)، للسلطة حيث يعرفها بأنها قدرة الشخص أو المجموعة (أ) على الشخص أو المجموعة (ب)؛ أي إمكانية (أ) على حمل (ب) على القيام بعمل لم يكن ينوى القيام به لولا تدخل (أ)». وهكذا فإن هذا المفهوم للسلطة يشير إليها على أنها نوع من «القدرة على التحكم في ردود فعل شخص آخر أو مجموعة من الأشخاص»، أي أن السلطة مستندة إلى العامل السيكولوجي من خلال أن تؤثر وأن تتأثر أيضًا [1] .

ووفقًا لهذا المنظور، تتصف السلطة- أو بالأحرى ينبغي أن تتصف- «بالشرعية» Legitimacy، ويقصد «دال» بالشرعية «القدرة التي يعترف بشرعيتها الأشخاص الخاضعين لها، على أساس أنها تُمارس وفق القيم التي يؤمنون بها، وبأساليب يتقبلونها» [2] . وفي هذا الصدّد، يمكن أن نَسْتَعِينَ بتفريق «برتراند دي جوفينيل» (Bertrand de Jouvenel) بين صورتين من صور السلطة، وهما: «سلطة الأمر الواقع» “de facto”، و«السلطة الشرعية» “de jure”، ويُمَيَّزُ بينهما على النحو الآتي:

«سلطة الأمر الواقع هي- وكما يُشِيرُ مَنْطُوُق لفظها- وَضْعٌ متحقق فِعلاً. فعندما يُطِيعُ أناسٌ شخصًا من مُنْطَلَقِ الولاء أو الاقتناع أو الاحترام، وعندما يُبْدون استعدادهم لتنفيذ أمر ما لأنه صادر عنه، فإنهم هنا يَقْبَلُونَ سلطته باعتبارها أمرًا واقعًا. وعندما يَقُوْمُ شخص ما أو جِهَة ما بالاستيلاء على السلطة باستخدام القوة ثُم يُدِينُ له الآخرون بالطاعة من مُنْطَلَقِ الخوف من بَطْشِه وتنكيله، فإننا هنا نجد أنفسنا إزاء صورة من صور سلطة الأمر الواقع. أما عندما يُطِيعُونه ليس من مُنْطَلَقِ الاحترام، أو الولاء الشخصي، أو الخوف، وإنما لأنهم يَقْبَلَونَ إطارًا قائمًا سلفًا من القواعد التي تُحَدِّد كيفية اختيار من سيتبوأ السلطة، وقد أَدَّى تطبيق هذه القواعد إلى تَبَوُّئِهِ السلطة، فإنهم هنا يَقْبَلُون سلطته باعتبارها سلطة شرعية، وما الدولة إلا المُنَظَّمَةُ الوحيدةُ التي يمكن من خلالها ممارسة السلطة الشرعية بمعناها التام، أما سائر التجمعات الأخرى فهي لا تتيح الفرصة إلا لقيام سلطة شبه شرعية [3] .

إنّ هذا المنظور الثنائي في التعامل مع السلطة يؤكده أيضًا «ناصيف نصَّار»، الذي يشير إلى الصورة الأولى من صور السلطة، أَعْنِي سلطة الأمر الواقع، بـ«التسلُّط»، وهو يُمَيَّزُ «السلطة الشرعية» عن «التسلُّط» وغيرها من أشكال القوة الأخرى بأن السلطة الشرعية لها صفة التَّبْرِير أو المشروعية، وكل سلطة مُبَرَّرة إنما هي سُلْطَةٌ في مَيْدانٍ مُعَيّنٍ ومن أجل هدف مُحَدَّدٍ. أما التسلُّط فهو انتحال للحق في الأمر دون تبرير له، أو دون تبرير كاف ومقبول، أو هو تجاوز للنطاق المُحَدَّدِ للحق في الأمر [4] .

وهكذا فإذا كانت السلطة تَعْنِي القدرة على اتخاذ القرارات وتنفيذها، فينبغي أن تتصف بالشرعية وإلا أضحت مرادفة للتسلط والعنف وقوة الإكراه دون سند شرعي يخول لها ممارساتها وصلاحياتها، وهو ما نلاحظه في كثير من الأحيان من أن السلطة في واقع الأمر تُمارَس من خلال وسائل غير مشروعة؛ أعني من دون تبرير أو سند قانوني وشعبي يخول لها إنفاذ صلاحياتها. وهنا يأتي النضال المدني كمحاولة لتحجيم التسلط أو سلطة الإكراه، وتتوقف دوافع حركات المقاومة المدنية للتسلط وتجنب العنف بشكل عام على طبيعة السياق الخاص في المجتمع، بما في ذلك قيم المجتمع وثقافته العامة وخبرات الحرب والعنف التي مر بها.

وعلى أية حال، فإن النضال المدني يشمل كافة حركات الاحتجاج والعصيان، التي تلجأ إليها الفئات الشعبية المحتجة مستخدمة الإضراب والتظاهر السِّلمي وغيرها من أدوات الاعتراض، من أجل الضغط على السلطة القائمة لتحقيق مطالب مُعَيّنَة. والواقع أن كل صور النضال المدني ترتبط بحقوق الإنسان وبالدعوة والمطالبة بالحرية والديمقراطية، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، فبينما يتشابه النضال المدني مع الثورة في أن كليهما تحرك شعبي واسع النطاق لمقاومة الظلم، إلا أنهما يختلفان من زاوية أن النضال المدني يتسم بمحدوديَّة المطالب والأهداف مقارنة بالثورة التي تَرْمِي إلى التغيير الجذري للنظام القائم، وإسقاط الشرعية الدستورية القائمة كليةً، هذا من جانب. ومن جانب آخر يتسم النضال المدني بالطابع السلمي مقارنة بالثورات التي قد يمثل العنف بالنسبة لها ركيزة لا غنى عنها لنجاحها. وبالرغم من هذا، فإن صور النضال المدني ليست مُنْفَصِلة تمامًا عن ظاهرة الثورة، بل هي متداخلة معها في كثير من الأحيان، وقد تؤدي إحداها إلى وقوع ثورة شاملة؛ فقد يكون العصيان المدني مقدمة لثورة شاملة تُطِيحُ بالنظام السياسي بأكمله، مثال ذلك: العصيان الكبير الذي وقع بين صفوف جيش البنغال في الهند في مايو 1857 ضد الحكم البريطاني، والذي تحول فيما بعد إلى ثورة شعبية متكاملة الأبعاد في أبريل 1859، كما أن الكثير مما يُعرف بـ(الثورات الملونة)، التي تستخدم وشاحًا ذا لون مُعَيّنٍ، بدأت على شكل حركات عصيان مدني.

كذلك فقد تُؤَدِّي حركات الاحتجاج المدني في كثير من الأحيان إلى وقوع ثورات اجتماعية، والواقع أن العديد من الانتفاضات الشعبية في العصر الحديث تَطَوّرت فأصبحت ثورات شاملة، فقد تطورت الحركة الاحتجاجية في أمريكا عام 1776 إلى ثورة أسست للحكم الجمهوري. كما أدى تَمَرُّد سجناء (الباستيل) في فرنسا في 14 يوليو 1789 إلى تمرُّد القوات الملكية، وانْتَهَى بانفجار ثورة اجتماعية كبرى أَطَاحَتْ بالملك وأعْلَنَتْ قيام دولة المؤسسات المستقلة. وكذلك بدأت الثورة البلشفية في أكتوبر 1917 على شكل تمرُّد في بادئ الأمر. وفي القرن العشرين أدت بعض حركات التمرُّد إلى إحداث ثورات شعبية. ومن بين الثورات التي بدأت على شكل حركات تمرُّد: الثورة الطلابية في فرنسا في مايو 1968 [5] .

(ب) صور النضال المدني

يُعَدُّ العصيان Rebellion من أبرز صور النضال المدني؛ ويمكن تعريفه بأنه صورة من صور الاحتجاج السِّلمي أو اللاعنيف، والذي لا يصل إلى حد العنف أو التمرُّد المُسلَّح، ويمكن تعريفه كذلك بأنه «حركة مقاومة ضد الدولة أو السلطة صاحبة السيادة، ويتمثل في الامتناع عن القيام بالأعمال أو عدم السماح للسلطات بممارسة دورها ومهماتها كالجباية والأمن والإدارة، وذلك بهدف الحصول على بعض المطالب أو المكاسب من خلال هذه الطريقة السلبية» [6] . وإذا كان العصيان فعلًا سِّلميًّا يستند إلى الاحتجاج على النظام القائم أو أوامر السلطة، ومن ثَمَّ يستهدف إحداث تغيير محدود، إلا أنه لا يصل إلى درجة الثورة في بُعْدِهَا الراديكالي والشمولي، والعنيف أحيانًا، وبعبارة أخرى فإن العصيان أعلى درجة من الإضراب وأدنى درجة من الثورة في سلَّم التحركات الاجتماعية ضد أوضاع سائدة وقوانين قائمة. وللعصيان أشكال متعددة، منها العصيان المدني، والعصيان العسكري، وعصيان العصابات [7] .

ويُعَدُّ «العصيان المدني» (Civil Disobedience) من أهم أشكال العصيان؛ لأنه يصيب معظم مؤسسات الدولة بالشلَّل الكامل ويُوقِف حركة الإنتاج والاقتصاد، ومن مظاهره: الامتناع عن دفع الضرائب أو الالتحاق بالجيش، أو القيام بحملة صيام ومقاطعة شاملة [8] . ومن الأمثلة عليه: تلك الحملة من المسيرات الشعبية التي قادها المهاتما غاندي بهدف تحرير الأراضي المحتلة في الهند من الاستعمار البريطاني وتحقيق السيادة الوطنية.

ومتى نظرنا إلى مبررات العصيان المدني، سنجدها ترجع، وفق ما يرى «جون رولـز» (John Rawls)، إلى وجود تضارب في الواجبات، وهو يعرفه بوصفه «فعلًا سياسيًّا عامًا، غير عنيف، واعيًّا ومخالفًا للقانون، يهدف عادةً إلى إحداث تغيير ما في سياسات الحكومة» [9] . كما ذهب «مايكل وولتـزر» (Michael Walzer) إلى أن العصيان المدني، في أساسه، ليس «حقًا» Right للمواطن يُمكِن أن يستخدمه، متى أراد، لمقاومة الطغيان، وعدم الامتثال للقوانين الظالمة، كما هو شائع في النظرية السياسية الليبرالية الحديثة، وإنما هو «واجب» Duty و«التزام» Obligation على الجميع، أفرادًا وجماعات، لعدم الخضوع لأية قوانين غير عادلة أو أوامر لا أخلاقية [10] . بيد أن المشكلة التي يثيرها العصيان المدني، كما يقول «رولـز»، ليست في وقوعه داخل دولة استبدادية، فالعصيان في هذه الحالة لا يحتاج إلى تبرير، وإنما تكمن في مدى مشروعيته داخل الدول الديمقراطية. وعندئذ فإن السؤال المهم: «عند أية نقطة يتوقف واجب الالتزام بالقوانين التي سنتها الأغلبية التشريعية، أو بالإجراءات التنفيذية التي تدعمها مثل هذه الأغلبية، على ضوء الحق في الدفاع عن حريات المرء وواجب مناهضة الظلم» [11] .

وفي إجابته عن هذا السؤال، يذهب «رولـز» إلى أن العصيان المدني، من حيث طبيعته، هو فعل سياسي ليس فقط بمعنى أنه يخاطب الأغلبية التي تحوز على القوة السياسية، ولكن أيضًا بمعنى أنه فعل تُبَرِّره المبادئ الأساسية للعدالة التي تُنْظِم الدستور والمؤسسات الاجتماعية بوَجْهٍ عام. ومن ثَمَّ لا يمكن تبرير العصيان استنادًا إلى مبادئ تتصل بالأخلاق الشخصية أو إلى عقائد دينية، على الرغم من احتمال تطابقها ودعمها لمطالب المرء، كما لا يمكن تبريره كذلك استنادًا إلى مصلحة شخص ما، أو مجموعة بعينها. إن تبريره يَسْتَنِدُ ن بالأحرى إلى التصور المشترك للعدالة، الذي يرتكز عليه النظام السياسي. فمن المُفْتَرَض في أي حكومة ديمقراطية عادلة على نحو معقول، أن توضح تصورًا عامًا للعدالة ينظم المواطنون من خلاله شُؤونهم والسياسية ويُفَسِرُون طبقًا له مبادئ الدستور. وإن الانتهاك المتعمد للمبادئ الأساسية لهذا التصور على امتداد فترة طويلة من الزمن، وخصوصًا انتهاك الحريات الأساسية المتساوية، يستدعي إما الخضوع، أو المقاومة. ومن خلال الانخراط في العصيان المدني تقوم الأقلية بإجبار الأغلبية على إعادة النظر فيما إذا كانت ترغب في الاستمرار بطريقتها القديمة في انتهاك هذه الحقوق، أو ما إذا كانت ترغب- استنادًا إلى الحس العام بالعدالة- في الاعتراف بالمطالب المشروعة للأقلية وإقرارها [12] .

ومن هذا المُنْطَلَق فإن تبريرات العصيان المدني- وفي الواقع تبرير كل أشكال النضال المدني- إنما تستند إلى مبادئ سياسية وأخلاقية أعلى درجة في سُلم القيم من احترام القوانين التي تَسنها الحكومة، وإلى ذلك الأساس المتمثل بالحق في المقاومة حالَ انتهاكِ مبادئ العدالة والحريات الأساسية المتساوية، أو عدم احترام حقوق الأقليات.

(ج) الإشكاليات التي يطرحها مفهوم النضال المدني

إذا كان النضال المدني قد مرّ بتاريخ طويل وبأشكال مختلفة، وبخاصة في العصور الحديثة، فإنه وفي العالم المعاصر، شهد النضال المدني تطوّرًا كبيرًا، ولم يقتصر فقط على الاحتجاج ضد سياسات الحكام المستبدين والحكومات الشمولية السلطوية، وإنما امتد كذلك إلى الاحتجاج والاعتراض على بعض قرارات الحكومات المنتخبة ديمقراطيًا. وعلى سبيل المثال، في الحالة الأولى، فقد شهدت دول أمريكا اللاتينية، وهي دول معروف عنها أنها سريعة التغيُّر، انفجارات لنضالات اجتماعية ضخمة تطلعت إلى إرساء الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية، وقد دعمتها حركات ثورية بشكل متلاحق، حاولت تحطيم السياسات الفاسدة للبرجوازيات الاقتصادية، والديكتاتوريات العسكرية القمعية [13] . ومن هنا ظهر إعلام «لاهوت التحرير» (Liberation Theology) في أمريكا اللاتينية، أولئك الذين دعوا إلى النضال المدني الممتزج بفهم ثوري تحرري للعقيدة المسيحية؛ من أجل بناء عالم إنساني أكثر عدلًا، ومحاربة الاستعمار والإمبريالية، ومكافحة الأنظمة الرأسمالية الاستغلالية، وتحطيم جميع علاقات التبعية التي تُقيِّد بلدانهم الفقيرة.

ومن بين الإشكاليات التي يطرحها مفهوم النضال المدني مسألة الحالة الثورية في النضال، وتُعرف الحالة الثورية بأنها مُحَصِّلة لاجتماع عاملين أساسيين: عامل موضوعي يَتَمَثَلُ في الواقع القهري القائم، وعامل ذاتي يتمثل في الوعي بالحقوق المَسْلُوبة، وبضرورة التغيير الثوري لهذا الواقع. ولذلك فإن الحالة الثورية «تتطلب استثارة الوعي بحقيقة وجود المَقْهور وحقيقة وجود القاهر؛ أو بمعنى آخر حقيقة وجود أشخاص يمارسون القهر على الآخرين وأشخاص يعانون من ويلات هذا القهر» [14] .

وهذا المكوّن الذي يجمع بين العاملين الذاتي، والموضوعي يعتمد على استثارة الوعي (Conscientization)؛ أو بمعنى آخر بثّ روح المبادرة إلى الفعل الثوري. وهذا ما يسميه أحد أعلام لاهوت التحرير وفيلسوف التربية البرازيلي، «باولو فريري» (Paulo Freire): «ذاتية النضال من أجل التغيير»، ويَعْنِي به الوعي النقدي بظروف القهر، وضرورة تغييرها. بحسب «فريري» فإن الواقع الاجتماعي القهري هو نتيجة حتمية للتناقض القائم بين القاهرين والمَقْهورين، كما أن واقع القهر يبدو أكثر فاعلية، بل ويتحقق بشكل موضوعي حِينَ نضيف إليه اعترافًا بحقيقته، وذلك هو ما يقابل العلاقة الجدلية بين الذاتي والموضوعي، ففي مثل هذه العلاقة يصبح العمل النضالي من أجل الحرية ممكنًا وبغيره لا يمكن حل التناقض القائم في علاقة القاهرين والمَقْهورين. ومن ثَمَّ فمن أجل أن يُحَقِّق المَقْهورون أهدافَهم فإن عليهم أن يواجهوا الواقع بروحٍ قادرة على النقد والفهم الموضوعي له؛ لأن مجرد الإحساس بالواقع القهري من دون القدرة على نقده لا يؤدي إلى التغيير المطلوب لسبب بسيط، هو أن مثل هذا الإحساس لا يكون صادقًا لأنه في حقيقته مجرد رؤية ذاتية تضحي بالحقيقة الموضوعية وتخلق لها بديلًا كاذبًا [15] .

وتأسيسًا على ما سبق، فإن ظهور النضال المدني لا يرتبط فحسب بزيادة الفقر، وتفشي الظلم والمعاناة، وإنما لا بُدَّ من نشوء حالة من الوعي لدى الطبقات الشعبية بأن وضع المعاناة القائم غير مبرَّر، ووعي بقيمة الحقوق المَسْلُوبة وأهميتها، وباختصار، وبأن هذا الوضع القائم ينبغي الخروج عليه وتقويضه من أساسه. كذلك فمن بين الإشكاليات التي ترتبط بحركات النضال المدني تطوّر التكنولوجيا الذي أدى إلى التعقيد الكامن في المجتمعات المعاصرة. والواقع أنه مع ظهور العلم الحديث وتزايد التصنيع بدرجة لا مثيل لها في القرن العشرين، وإذ خلا العالم من بساطته وبدأ يعج بتعقيدات الحياة الحداثية، حلت التقنية محل فردية الإنسان الأصيلة، بعد أن كانت (أي التقنية) مرتبطة ومقرونة في الخيال الشعبي المعاصر بفكرة الحرية. وهو ما تصوّره لنا «فيكي غروت» (Vicky Grut)، حيث تذهب إلى أن «القرن العشرين يقدّم لنا صورة مجازية لذلك الفرد المتمرد الذي يسير بحثًا عن الحرية والمغامرة» [16] .

والواقع أن هذه الإشكاليات وغيرها، ولا سيما الإشكالية المرتبطة بتعقّد النضال المدني في ظل التطور الرهيب للتكنولوجيا، إن هذه الإشكاليات تقودنا إلى الحديث عن طبيعة النضال المدني في عصر التكنولوجيا الحديثة في ظل المجتمعات المعاصرة.

المحور الثاني: تقنيات المراقبة في عصر التكنولوجيا بين قوة التحرر وأزمة الاغتراب

مع التطور الكبير للتكنولوجيا في القرن العشرين، تم خلق مساحات حرة وفضاءات جديدة للأفراد يمكن لهم من خلالها التعبير عن ذواتهم وممارسة حقوقهم وحرياتهم، وإطلاق مشاعرهم المكبوتة والتنفيس عن عواطفهم. وقد مثّل هذا بدايةً لعصر أحلام جديدة، حتى لا نقول يوتوبيات مستحيلة التحقق. لكن من الناحية الأخرى عملت التكنولوجيا على تضييق هذه المساحات الحرة للأفراد، وهذه هي المفارقة بعينها!

(أ) التكنولوجيا ليست مضاهية للحداثة والتحرر

قد يظن بعضهم أن التكنولوجيا بحد ذاتها- بداية من الموبايل مرورًا بالكمبيوتر والمكانس الكهربائية والغسالات والغلايات الكهربائية وغيرها- تمثّل بداية الطريق نحو الحداثة والتحرر. لكن هذه النظرة تبدو ضيقة الأفق، لأن هذه مظاهر للحداثة وليست الحداثة ذاتها، وعلاوة على هذا فإن التكنولوجيا- كما يقول المثل- سلاح ذو حدين. وهذا ما تنبّه إليه العديد من الفلاسفة، مثل «جاك ماريتان» و«رينهولد نيبور» و«كارل مانهايم» وغيرهم، وهم يتحدثون عن «التقدم الفكري والعلمي (وهو ما اُعتبر أكبر مفخرة لما أتاه الإنسان الحديث) على أنه مجرد أحبولة وخداع، وأن عالمنا المعاصر قد أعطى مكانًا مركزيًّا في الحضارة لجزء من الحياة البشرية ليس- على خير ما يمكن أن يُقال عنه- سوى جزء صغير بالنسبة إلى تلك الأجزاء التى تعمل على التقدم الإنساني.. وإن حماسة «كوندرسيه» و«جون ستيوارت مل» للعلم الحديث وإيمانهما بالعقل وأملهما فى المستقبل، بدا الآن كأوهام قوم معرفتهم بالطبيعة البشرية سطحية جدًا، مثل مفهومهم لإمكانات الحياة البشرية ومعضلاتها» [17] .

وفي ضوء هذا يتكشف ضيق هذه النظرة إلى التحرر عن طريق التكنولوجيا، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار مدى الهيمنة والقمع والقهر والعبودية التي لحقت بالإنسان المعاصر، والتحريف الذي لحق بالحقائق في العالم المعاصر من جراء التقدم العلمي والتكنولوجي، كما يتبين في ذات الوقت عدم صحة المزاعم الحديثة حول إمكانية تحرير الإنسان من خلال العلم والتقنية الحديثة، خاصة في ظل الأنظمة الشمولية التي ظهرت في الثلث الأول من القرن العشرين، في كل من إيطاليا في عهد موسوليني (1922-1943)، وروسيا في عهد ستالين (1929-1953)، وألمانيا في عهد هتلر (1933-1945)، والبرتغال في عهد سالازار (1932-1968)، وإسبانيا في عهد فرانكو (1939-1975)، وكذلك في كل من فنلندا، واليونان، وبلغاريا.

من هذا المنطلق، يمكن إعادة النظر في ذلك الرأي الذي يقول بأن استعمال التكنولوجيا بدرجة كبيرة من شأنه أن يكسب الأفراد المزيد من السلطة والنفوذ، والطاقة والحيوية، والطموح، لأن هذه الفرضية- وإن كانت صحيحة بدرجة ما- إلا أنها غير صحيحة على إطلاقها. إذ ترتبط بالتكنولوجيا آثار وتداعيات سلبية تجعل من الإنسان أشبه بآلة صماء لا تحسن التصرف وتدبير الأمور أو اتخاذ القرارات الصحيحة في معظم الأحيان. ومن هنا ازداد اغتراب الإنسان المعاصر وخضوعه لمؤثرات خارجية، ولم تفلح التكنولوجيا في القضاء على مشكلاته بل زادتها وعمقتها وأفرزت لنا أزمة الإنسان، وهي أزمة احتلت مكانة مهمة في نظر العديد من الفلاسفة، الذين اهتموا بوضعية الإنسان في عالمنا المعاصر وافتقاره إلى الإرادة والخيارات الحرة رغم التقدم العلمي والصناعي والتكنولوجي.

وفي هذا الصدد يشير «كارل ياسبرز‏» (Karl Jaspers) إلى أن المشكلة المتعلقة بحالة البشرية ازدادت إلحاحًا منذ منتصف القرن التاسع عشر، وقد سعى كل جيل من الفلاسفة إلى حل هذه المشكلة من منظوره، خاصة مشكلة وجودنا الروحي والعقلي. وقد بدت هذه المشكلة للعيان وواضحة للجميع منذ الحرب العالمية الثانية. فمتى نظرنا إلى الإنسان في الحضارات القديمة سنجده قد اقتصر على محاولة تكييف نفسه مع الحياة كما وجدها، دون أن يرغب في تغييرها جذريًا، ومن ثَمَّ فإن أنشطته وفعالياته اقتصرت على محاولة تحسين وضعه وسط ظروف بيئية اعتُبرت غير قابلة للتغيير إلى حد كبير. وفي ظل هذه الظروف، كان لديه ملاذ آمن، مرتبط بعالم السماء. والعالم الأرضي هو عالمه الخاص، على الرغم من أنه لم يكن له أي اعتبار، لأنه بالنسبة له كان الوجود الحقيقي موجودًا فقط في عالم متعالٍ [18] .

وبالمقارنة بعالمنا المعاصر، فإن الإنسان اليوم قد اِقتُلع من جذوره، بعد أن أدرك أنه موجود في ظل أوضاع متغيرة وغير محددة تاريخيًا. ومن هنا بدا الأمر كما لو أن أسس الوجود قد تحطمت، ولهذا السبب بدت أسس الحياة ترتعش من تحت أقدامنا؛ وهذا هو السبب أننا نعيش في عالم متحرك، متغير، متدفق، وبموجبه تفرض المعرفة المتغيرة تغييرًا في الحياة وبالتالي، فإن تغيير الحياة يفرض تغييرًا في وعي الإنسان العارف. إن هذه الحركة، وهذا التدفق، وهذه العملية غير الثابتة، تكتسحنا في دوامة من الغزو والخلق المتواصل، من الخسارة والربح، حيث ندور بشكل مؤلم، خاضعين بشكل رئيسي لقوة التيار [19] .

وهكذا ازدادت وضعية الإنسان المعاصر سوءًا وتعقيدًا مع الثورات العلمية الحديثة والتطور التكنولوجي السريع في الحقبة المعاصرة، وانعكست الثمار المرّة للتكنولوجيا على شتى جوانب الحياة الإنسانية والاجتماعية. إن هذا يعني أن التطور التكنولوجي الذي شهده القرن العشرون جعل من الآلة سيدًا مطاعًا، وهو ما يُنبئ بتدمير الإنسان ذاته وقدرته على الفعل. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن التكنولوجيا قد بدأت بالفعل تتحول من أداة للتقدم الحضاري والمجتمعي إلي وسيلة لدمار الحضارة والإنسان والبيئة. وهكذا فإن السؤال الذي طرحه «برتراند راسل» (Bertrand Russell) في عام 1963، في ذروة الحرب الباردة والمواجهة النووية يبدو أكثر أهمية من أي وقت مضى، ويتمثل هذا السؤال في: هل هناك مستقبل للإنسان؟ وهل يُعَدُّ الخيار بين الاستدامة والانقراض أساسًا لإطار مستقبلنا المشترك، أم أن هناك خيارات أخرى؟ [20] . وهكذا فبالرغم مما أنتجه التطور التكنولوجي من فضاءات جديدة وتقريب للمسافات بين الأفراد والشعوب، فإنه أتى بنتائج عكسية.

(ب) صورة الفرد المتمرد في المجتمعات المعاصرة

يمكن إيجاز سمات شخصية الإنسان المعاصر في تلك العبارة السالفة التي تقول: إنها «صورة مجازية للفرد المتمرد الذي يبحث دائمًا عن الحرية والمغامرة». فالواقع أن تجربة الحداثة في المجتمعات المعاصرة انطوت على قدر كبير من الاختلاف مع الأسس التي نادى بها أعلامها في عصر التنوير الأوروبي، وبالتالي أنتجت ما يمكن تسميته بـ«مفارقات الحداثة» (Paradoxes of Modernity) في جميع المجالات بما فيها المجال الأخلاقي، الأمر الذي سهل الطريق لظهور الطريق إلى ما بعد الحداثة وهو طريق شهد هو الآخر أزمة كبيرة في عالم القيم والأخلاق. وإنّ الحديث عن مفارقات الحداثة وصولًا إلى أزمة القيم في عصر ما بعد الأخلاق الذي أنتج لنا الإنسان المستباح، حديثٌ طويل ومتفرع، وقد أفاض فيه الفيلسوف الأمريكي «مارشال بيرمان» (Marshall H. Berman)‏ (1940-2013)، الذي ركّز على نقد وعي الإنسان الحداثي ومساءلة الحداثة ومواقفها الثقافية، مؤكدًا أن الحداثة، بدلًا من أن تحرر الإنسان، حوّلته إلى أداتها وموضوعها وأدخلته في حياة من المفارقات والتناقضات؛ فالحداثة التي جلبت معها أدوات قوية ومؤثرة للإنتاج الصناعي والتغيرات الثقافية، جلبت معها الخوف منها ومن هدم المجتمعات بشكلها المألوف وقيمها القديمة، بل وهدم صورة الفرد ببنيتها الآمنة واتساقها.

وقد ارتبط بتطوّر التكنولوجيا تعقيد في الأيديولوجيات التي فرضت هيمنتها في المجتمعات المعاصرة. وهنا يمكن أن نقف على نقد الفيلسوف السلوفيني «سلافوي جيجيك» (Slavoj Zizek) للأيديولوجيا، ومناقشته للحرية المفقودة في ظل تحكم الآلة. يناقش جيجيك ما يسيمه «المتنفس الأيديولوجي»، الذي يُعَدُّ أحد المتطلبات الأساسية للأيديولوجيا؛ حيث يؤدي وظيفة مهمة تتمثل في إفساح المجال أمام الأفراد للتعبير عن تذمرهم شريطة ألا يؤدي ذلك إلى تغيير الوضع القائم جذريًا. ويوضح جيجيك هذا المتطلب بقوله: «إن الطبقة الحاكمة دائمًا توفر مجالًا للطبقات الدنيا للتعبير عن غضبها، بشرط عدم المساس بالمصالح الاقتصادية القائمة، ولهذا فهي تتسامح مع صور معينة من “الحرب الثقافية”، وتنزع إلى توفير المزيد من الحريات الفكرية، وفتح الباب أمام النضال من أجل حقوق المرأة، وحرية الجنس، وتعدد الثقافات، بوصفها مداخل لإبقاء هذه الطبقات تحت السيطرة، وكوسائل للتهرب من مساعدة الفقراء. وهذا يعني أن الحرب الثقافية “حرب طبقية” في حالة إزاحة، وينطبق هذا على أولئك الذين يَدَّعون أننا نعيش في “مجتمعات ما بعد طبقية”» [21] .

يُمثِّل النزوع من الإزاحة للصراع الطبقي إلى مجرد الاختلافات الثقافية صورةً من صور التزييف الكامن في الأيديولوجيا الليبرالية ذاتها، ويبدو كأنه نوعٌ من المساومة، وعلى حدّ تعبير جيجيك: «متنفسٌ للتطابق والانسجام الأيديولوجي» [22] . ومن هنا تصبح «الثقافة» في ظل الأيديولوجيا الليبرالية اسمًا لجميع الأشياء التي نمارسها دون أن نكون مؤمنين بها في قرارة أنفسنا، ودون أن نأخذها على محمل الجد. ويمتدّ ذلك إلى جميع المجالات العامة والخاصة، حتى إلى الدين ذاته؛ حيث لم يَعُدْ الأفراد «يؤمنون على نحو حقيقي»؛ لكنهم ببساطة يؤدّون الطقوس الدينية ويَتبَعون التقاليد كجزء من ثقافتهم واحترامهم «لأسلوب الحياة» الذي يسيطر عليه مجتمعهم [23]).

ويمضي جيجيك في نقده للّيبرالية، وينصبّ نقده على أساس ما يسميه «هربرت ماركيوز» «فائض القمع» [24]  (Surplus-Repression). ويشير هذا التعبير إلى أنه لكي تُسيطر الطبقة الحاكمة على الطبقات الأخرى، فمن الضروري أن تُشبع احتياجاتها الضرورية لها، وأن تجعلها تعتقد أن لديها ما تحتاجه من النواحي الثقافية والسياسية والاجتماعية. وهذا ما تشتغل عليه الأيديولوجيا الليبرالية من حيث أن الحرية فيها تُمارَس في حدود معينة وإلا تعرض المخالفون إلى قمع شديد بطريقة غير مباشرة [25] . ومعنى هذا أن السلطة الحاكمة قد لا تمانع وقوع التغيير، بل بالعكس قد تدعو إليه. لكن ونظرًا لأن التغيير لا يتعدى حدود المظاهر الشكلية، فإن الأوضاع تظل كما هي عليه وتظل الأيديولوجيا الليبرالية مهيمنة. ومن هذا المنطلق، يمكن النظر إلى الأيديولوجيا- كما يقول جيجيك- بوصفها عاملًا «للتسكين الخيالي» (Imaginary Mitigating) لصدمة ما يجري على أرض الواقع [26] .

وتأسيسًا على هذا، يمكن القول إن الأيديولوجيا ذات طابع مرن يكفل لها الاستمرار والبقاء وإعادة نسج خيوطها من جديد. لذلك وكما يوضح جيجيك، فإن قيام الرأسماليين بالأعمال الخيرية، والتبرعات، وإعادة توزيع بعض الثروات، وما إلى ذلك؛ لإشباع بعض الاحتياجات المادية للفئات الواسعة من الفقراء والمحتاجين، وتدعيم مستوى معين من الرفاهية، …هذه الممارسات ليست محض إحساس من جانبهم بأن ذلك واجبٌ عليهم، وإنما لكي يَحولوا دون وقوع تغييرات جذرية للواقع، ولكي يُبقوا على النظام الرأسمالي حيًّا- أو على الأقل لغض النظر عن الأزمة الكامنة في بنيته. ولذلك فإن هذا المتنفس يؤدي إلى حفظ التوازن الاجتماعي، دون وقوف الرأسمالية في طريق مسدود، أو الدخول في حالة من الاستياء العام والتي من شأنها أن تُهدد بإعادة توزيع كلي للثروة على نحو عادل [27] .

وهكذا، فإن الأيديولوجيا تعمل من خلال هذا المستلزم على منع وقوع أي تغيير على أرض الواقع، وبالتالي فهي تؤثر سلبًا على إدراك الأفراد لواقعهم، وذلك عن طريق بعض الإضافات والإصلاحات الخارجية في النظام القائم. ويوضح «جاري أولسن» (Gary Olson) و«لين ورشام» (Lynn Worsham) ذلك بقولهما: «في ظل الأيديولوجيا، يجد الأفراد أنفسهم فاعلين ونشطين، لكن وجودهم الحقيقي يظل خاملًا وسلبيًا» [28] . وبمعنى آخر يقوم الأفراد بأفعال معينة لا تغير شيئًا، ولا تؤدي إلى أي إنجاز ملموس، وإنما لكي تَضمَن الأيديولوجيا المهيمنة من خلال ذلك عدم حصول أي تغيير حقيقي؛ الأمر الذي يجعلهم أمام نوع من الاستسلام والرضا بالأمر الواقع.

وفي ضوء ما سبق، نستنتج أن المتنفس الأيديولوجي يستهدف الحيلولة دون وقوع التغيير؛ لأن الأزمات المتكررة والنابعة من بنية الأيديولوجيا المهيمنة تؤدي في كثير من الأحيان إلى خلق فجوات يتفجَّر من خلالها احتجاجات الفقراء وسخط الطبقات المقهورة ونقمتها . كما نستنتج أن البيئات التكنولوجية المعاصرة وإن كانت تُكسب الإنسان مساحات جديدة للحرية، فإنها تعج بالعديد من المحظورات، من قبيل: افعل، ولا تفعل، حتى ولو جاءت بشكل ضمني. وفي ضوء هذا فإن التكنولوجيا أداة للتحرر من ناحية، وأداة للقهر وكبت الحقوق والحريات من ناحية أخرى. فإذا كانت التكنولوجيا وتقنيات الذكاء الاصطناعي قد أعادت تشكيل حياة الإنسان في وقتنا الراهن موفرة له الرخاء والتنمية وسهولة التواصل وممارسة حقوقه، فمعها أيضًا ازدادت سياسة التحكم والقهر والقمع التي تهدف إلى ضبط سلوك الأفراد على طريقتها الخاصة ووفقًا لأيديولوجيتها الخاصة، وبالتالي أدى ذلك إلى زيادة الغربة (أو الاغتراب إذا استعرنا مصطلح ماركس) التي يعيشها الإنسان المعاصر. وقد لخص الأكاديمي المصري وأستاذ علم الاجتماع، ا. د. أحمد زايد، هذا في ورقته البحثية التي حاول من خلالها البرهنة على تلك الفرضية المتمثلة في «أن عمليات المراقبة والضبط في دولة الاستعمار وما بعده ترتبط بصور التضخم في أجهزة الدولة وخطابها الأيديولوجي وتركيب نخبها السياسية في نمط براني من الحداثة يتشكل في أطراف العالم الرأسمالي» [29] . وهو ما يعني أن مفهوم المراقبة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بحالة الثقافة السائدة في عصر ما وفي حضارة ما وفي مجتمع ما. بيد أن مفهوم المراقبة، خاصة في ظل التطور التكنولوجي، تحوّل إلى ما هو أبعد من ضبط سلوكيات الأفراد والجماعات في العالم المعاصر، أعني أنه تحول إلى سلطة لممارسة الحياة والموت على البشر، أفرادًا وجماعات، وهنا نتساءل: كيف تم الانتقال من مفهوم المراقبة إلى مفهوم سلطة الحياة والموت؟

المحور الثالث: من تقنيات المراقبة إلى سلطة الحياة والموت

(أ) مفهوم «السياسات المقبورة» ونقد مفهوم «السلطة الحيوية»

شهدت الآونة الأخيرة مفهومًا جديدًا ومهمًا طرحه المفكر الكاميروني المعاصر «أشيل مبيمبي» (Achille Mbembe)، ونعني به مفهوم «السياسات المقبورة»، وهو يشير من خلاله إلى أن «الأشكال المعاصرة لإخضاع الحياة لسلطة الموت (السياسات المقبورة) تُعيد تشكيل العلاقات وبطريقة عميقة بين المقاومة والتضحية واللجوء إلى الإرهاب» [30] . ولكي يوضح ما يعنيه بهذا المصطلح، يذهب إلى أنه يمكن التعبير بصفة أساسية عن السيادة إلى حد كبير في ضوء القدرة على فرض الحكم على بعضهم بالحياة، والحكم على الآخر بالموت. وبالتالي فإن قتل جماعة أو السماح بالحياة لأخرى أصبح هو ما يشكِّل حدود السيادة في المجتمعات المعاصرة. فأن يكون المرء صاحب سيادة يعني أن يمارس سلطة على الموت وأن يحدد الحياة على أنها إنفاذ القوة ومظهرها. وهذا يلخص ما قصده «ميشيل فوكو» (Michel Foucault) (1926-1984) «بالسلطة الحيوية» Biopower: «ذلك الحق السيادي القديم في القتل»، أو ذلك المجال من الحياة الذي تفرض السلطة سيطرتها عليه [31] .

غير أن الممارسات الاجتماعية في العصور الحديثة، في نظر «فوكو»، غالبًا ما تنزع إلى تعظيم دور السلطة ومكانتها؛ بحيث تمارس هيمنتها من خلال تطبيع الأفراد وتكييفهم طبقًا لمطالب المؤسسات الاجتماعية والبنى القمعية، وغالبًا ما كان ذلك يتم باستدعاء التقاليد والخطابات التي تقوم على ثقافة التمييز، وخاصة توسيع الفوارق بين الجنسين: الرجل والمرأة [32] . وعليه؛ فإن جذور الظلم الاجتماعي إنما تكمن في التمييز بين الأفراد والمجموعات، وإن العدالة لن تتحقق إلا في ظل الأوضاع التي يتمتع فيها جميع الأفراد بنفس الحقوق، والحماية، وتكافؤ الفرص، ومن هنا وجب التركيز على بنية المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية القائمة.

وفي نقده لعلاقات القوة في المجتمعات المعاصرة، يذهب «فوكو» إلى أن المعرفة في ظل المجتمعات المعاصرة، خاصة المجتمعات الرأسمالية، تستهدف إخضاع الأفراد لعلاقات السلطة البرجوازية؛ وهنا نكون بإزاء عملية من الاستثمار السياسي لحاجات الجسد، وهي عملية ترتبط- وفقًا لعلاقات معقدةٍ ومتبادلةٍ- باستخدام الجسد اقتصاديًا كقوة للإنتاج المادي بحيث تساعد على تنمية الطبقة البرجوازية وخدمتها وحدها. ولذلك فإن علاقات السلطة تعمل في الجسد عملًا مباشرًا؛ فهي توظفه، وتطبعه، وتقوِّمُه، وتعذِّبُه، وتُجبره على أعمال بعينها. ومن هذا المنظور، تكون (الحاجة) أداة سياسية حسنة التنظيم؛ محسوبة بدقة ومستخدمة بعناية. ولهذا لا يصبح الجسد قوة نافعة ومفيدة إلا إذا كان جسدًا مُنتِجًا، وجسدًا مُستعبَدًا في الوقت ذاته، والاستعباد لا يتم بطريق مباشر عن طريق أدوات العنف والقمع؛ وإنما بإخضاع الجسد لقوانين النظام الرأسمالي، وترويضه عليها، وتكييفه مع الأوضاع القائمة؛ بحيث يتقبلها من دون أي رد فعل وكأنها حتمية تاريخية أو قدر إلهي. ولكي تنجح الرأسمالية في ترويض المجتمع وتخضعه لعلاقاتها على هذا النحو، وجب عليها أن تُقيم معرفة بالإنسان في جميع أبعاده. وهذه المعرفة وهذا التحكم يشكلان ما يسميه فوكو «التكنولوجيا السياسية للجسد» [33] .

من ناحية أخرى، نَزَع «ج. ف. ف. هيجل» (G. W. F. Hegel) (1770-1831) إلى تمجيد فكرة الموت، وبالتالي فكرة الحرب لأنها في رأيه دليلٌ على الصحة وسلامة الأخلاق، وعن طريقها تتجسد كل تجلّيات الرّوح في الدولة. فالحرب والصراع بصفة عامة، بالنسبة له، هما مصدر كل الإنجازات، أما السلام فهو حالة طارئة، وقد أكد على هذه الفكرة بقوله: «إنَّ فساد الأمم قد يكون نتيجة لفترة طويلة من السلام، دع عنك السلام الدائم (وهي إشارة من هيجل لمشروع كانط الشهير في كتابه «مشروع للسَّـلام الدائم» الذي ظهر عام 1795)» [34] . ومن هذا المنظور يمضي «مبيمبي» في نظرته للعلاقة بين السياسة والموت، وتأكيده على فكرة «هيجل» عن المواجهة مع الموت، التي يُقذف فيها الإنسان في حركة التاريخ المستمرة. فالذات أو الروح، وفقًا لهيجل، لا تحيا ولا تتجسد إلا من خلال المواجهة مع الموت، وعلى حد تعبيره: «فإن حياة الروح ليست هي الحياة التي تخشى الموت وتتجنب الدمار، ولكنها الحياة التي تفترض الموت وتعيش معه». ولا تصل الروح إلى حقيقتها إلا من خلال العثور على نفسها في حالة قطع أوصال مطلق. وبالتالي فإن السياسة هي موت يحيا حياة بشرية. لكن، ووفق ما يوضح «مبيمبي»، فليس المقصود من ذلك هو قبول المرء أو رضوخه لسياسة الموت، وإنما المقصود بهذا هو أن الروح دائمًا تخاطر بحياتها لمواجهة الموت، وبالتالي ففي الموت، لا يضيع شيء بصفة نهائية. ففي الواقع، إن الموت بالنسبة لهيجل يحمل دلالة عظيمة كوسيلة للوصول إلى الحقيقة. وهكذا حاول هيجل إبقاء الموت ضمن اقتصاد المعرفة المطلقة وضمن مجال المعنى بالنسبة للإنسان [35] .

من هنا يستنتج «مبيمبي» أن السياسة هي عمل من أعمال الموت. ولكن تحت أي ظروف عملية يمكن للمرء أن يمارس سلطة الموت، أو يترك الحياة لبعضهم، أو التعريض للموت؟ ومن هو صاحب هذا الحق؟ وماذا يخبرنا تطبيق مثل هذا الحق عن الشخص الذي يُقتل بهذه الطريقة وعن علاقة العداء الذي يضع مثل هذا الشخص ضد قاتله؟ وهل يمكن لمفهوم السلطة الحيوية أن يفسّر الطرق المعاصرة التي يتخذ فيها السياسي هدفه الأساسي والمطلق لقتل العدو، بفعل ذلك تحت ستار الحرب أو المقاومة أو الحرب على الإرهاب؟ فالحرب، في النهاية، هي وسيلة لتحقيق السيادة بقدر ما هي وسيلة لممارسة الحق في الموت. وعندما تعتبر السياسة شكلًا من أشكال الحرب، يجب طرح السؤال عن المكان الذي تُمنح فيه الحياة والموت. كيف يتم تنظيم هذه الجوانب في نظام السلطة؟ [36] .

ويشير «مبيمبي» إلى أن هذه التساؤلات تجاهلها فوكو إلى حد ما في مناقشته لمفهوم السلطة الحيوية». فسلطة الموت (وهي ليست بالضرورة سلطة الدولة) تشير باستمرار وتلجأ دائمًا إلى حالات الاستثناءات، والطوارئ، واختلاف أفكار خيالية وهمية عن العدو. كما أنها تعمل على إنتاج نفس هذه الاستثناءات وحالات الطوارئ والأعداء الوهميين. وهكذا يصبح السؤال المهم: ما هي العلاقة بين السياسة والموت في تلك الأنظمة التي تعمل فقط من خلال حالة الطوارئ؟ ومن هنا يبدو أن مفهوم السلطة الحيوية، عند فوكو، يعمل من خلال تقسيم الناس إلى أولئك الذين يجب أن يعيشوا وأولئك الذين يجب أن يموتوا. لكن وبينما نجد أن السلطة الحيوية تتقدم على أساس الانقسام بين الأحياء والأموات، فإن هذه السلطة تحدّد نفسها فيما يتعلق بالمجال البيولوجي فقط- الذي تسيطر عليه وتستثمر فيه نفسها. وتفترض هذه السيطرة توزيع الأنواع البشرية في مجموعات، وتقسيمًا نوعيًا للسكان إلى مجموعات فرعية، وإنشاء قيصرية بيولوجية بين هذه المجموعات الفرعية. وهو ما يشير إليه فوكو بمصطلح «العنصرية» Racism الذي يبدو مألوفًا [37] . وفي ضوء هذا، يتضح عدم كفاية تحليل فوكو لممارسة السلطة في المجتمعات المعاصرة، وقد أكد «مبيمبي» على ذلك بقوله: «إنّ مفهوم (السلطة الحيوية) غير كافٍ لتفسير الأشكال المعاصرة لإخضاع الحياة لسلطة الموت» [38] .

وإذا كان «مبيمبي» ينتقد فكرة السياسة الحيوية عند فوكو، فما الذي يدفعنا إلى قبول مفهومه هو عن السلطة؟

يبرر «مبيمبي» طرحه لمفهوم «السياسات المقبورة» Necropolitics، أو «السلطة المقبورة» Necropower بأن هذا المفهوم من شأنه أن «يفسّر الطرق المختلفة التي يتم بها، في عالمنا المعاصر، استخدام الأسلحة من أجل تدمير أكبر عدد من الأشخاص وخلق عوالم الموت Deathworlds، أي أشكال جديدة وفريدة من نوعها للوجود الاجتماعي تخضع فيها أعداد كبيرة من السكان لظروف معيشية تمنحهم وضع الموتى الأحياء Living dead» [39] . وفي ضوء هذا، ينتقد «مبيمبي» الحداثة الأوروبية، ففي رأيه إن الروابط بين الحداثة والإرهاب تنبع من مصادر مختلفة. ويمكن العثور على بعضها في الممارسات السياسية للأنظمة الحاكمة القديمة، ويضرب مثالًا على ذلك بأنه في فرنسا، يمثل ظهور المقصلة مرحلة جديدة في «إضفاء الطابع الديمقراطي» على وسائل التخلص من أعداء الدولة. ومن هنا فإن هذا الشكل من أشكال الإعدام، الذي كان في يوم من الأيام من صلاحيات النبلاء والأمراء واختصاصاتهم وحدهم، امتد إلى جميع المواطنين [40] . ويستنتج «مبيمبي» من هذا أن «أشكال السياسات المقبورة اليوم تطمس الخطوط الفاصلة بين المقاومة والانتحار، والتضحية والفداء، والاستشهاد والحرية» [41] .

(ب) تغلغل «السلطة المقبورة» في عالمنا المعاصر

تبدو فكرة «السلطة المقبورة» وثيقة الصلة بالتفسيرات المعاصرة المختلفة لمعسكرات الموت على وجه الخصوص. ومن هنا يرى «مبيمبي» أن معسكرات الموت هي الاستعارة المركزية للعنف السيادي والمدمّر وكعلامة نهائية للسلطة المطلقة لكل ما هو سلبي [42] . ومن هذه بين التفسيرات المختلفة لمعسكرات الموت ذلك الذي طرحته «حنا أرندت» Hannah Arendt (1906-1975) في نقدها للأنظمة الشمولية Totalitarianism، كالنازية والفاشية والستالينية وغيرها، التي سخّرت مؤسسات الإعلام، والتعليم الأساسي والعالي، للترويج لأفكارها السلطوية وتبريرها وتغذيتها في أذهان الأطفال والشباب، وبالتالي لخدمة أهدافها الأيديولوجية والعنصرية، بل وحتى السلطة القضائية وكل المؤسسات الرقابية الأخرى كانت في ظل هذه الأنظمة مجرد تروس في يد الدولة، تحركها أينما كانت مصالحها. وفي ضوء هذا وفي ظل امتلاكها لسلطة الحياة والموت، تستعين الأنظمة الشمولية بأدوات العنف والإرهاب. ذلك أن «الإرهاب لا يمكن أن يسودَ الناس مطلقًا، إلا في حال كونهم معزولين بعضهم عن بعض، وبالتالي فإن أول اهتمامات هذه الأنظمة هي إحداث هذه العزلة. ولذا يمكن أن تكون العزلة بداية الإرهاب؛ إنها بالأحرى الأرضُ الخصبة التي ينمو فيها الإرهاب، ويكون ثمرتها على الدوام. وبهذا المعنى تكون العزلة سابقة لإحلال الشمولية؛ وقد تكون العزلة منطبعة بطابع العجز، بمقدار ما تنشأ السلطة دائمًا عن أناس يتحرّكون معًا، ويعملون متوافقين» [43] .

إنّ سلطة الحياة والموت في ظل الأنظمة الشمولية تحوّل الفعل الإنساني إلى مجرد كدّ، ومن هنا تهدف السلطة الشمولية إلى تدمير الفعل الإنساني، وبالتالي تحويل الإنسان من فاعل سياسي إلى كادح يسعى لإشباع حاجاته البيولوجية فقط. وهي بذلك تلغي الحرية وكل سبل النضال المدني، بل تميل إلى القضاء على كل ظاهرة عفوية بشرية بصفة عامة. ومن الوجهة التقنية، فإن ما يميز النظام الشمولي هو غياب كل سلطة أو تراتبية من شأنها أن تعيّن حدود نظام الحكم؛ وهو ما يتجلى بصفة خاصة في غياب المستويات الوسيطة المؤولة بين السلطة العليا (الزعيم) أو (الفوهرر) وبين المحكومين، والتي من شأنها أن تمنح كلّا منهما نصيبه من السلطة والخضوع [44] .

وفي ضوء هذا تكون السلطة العليا الوحيدة في الأنظمة الشمولية هي سلطة الزعيم، التي لا تعترف بمبدأ الفصل بين السلطات (التشريعية والتنفيذية والقضائية)، وهو بذلك يمتلك السيطرة التامة على وسائل الإعلام ومؤسسات التعليم والاقتصاد والتربية، وإذابة جميع الأفراد والطبقات الاجتماعية في وحدة واحدة تسمى «الدولة» أو «الأمة». كما يعتمد الزعيم على الأيديولوجيا كمبدأ أساسي، والإرهاب والعنف كوسائل لا غنى عنها لتحقيق أهدافه الشمولية. وبالتالي فإن السمة التي تميز هذه الأنظمة الشمولية، بصرف النظر عن الأنظمة الاستبدادية والديكتاتورية الأخرى، هي على وجه التحديد الانتصار المذهل للكذب على حساب الحقيقة الثابتة واليقينية، وفهي أنظمة تؤسس لـ«النظام العالمي للكذب».

وهنا نلاحظ أن تركيز أرندت ينصب على نقد سياسة الأنظمة الشمولية بصورة حصرية، بما في ذلك سلطة الحياة والموت. لكن يبدو لنا أن الربط الجوهري بين صعود النازية والستالينية على الخصوص إلى سدة الحكم وبين سلطة الحياة والموت في العالم المعاصر، وعلى نحو أدق الربط بين صعود هذين النظامين وانتشار السلطة المقبورة بصورة كلية،…هذا الربط ليس صحيحًا على إطلاقه. وهنا يبدو وجه تميّز «مبيمبي» في تحليله لسلطة الحياة والموت عن تحليلات أرندت للأنظمة الشمولية. فسلطة الحياة والموت لا يمكن حصرها في الأنظمة الشمولية وحدها، بل تتعداها إلى كل الأنظمة السياسية الأخرى، سواء كانت ديمقراطية أو استبدادية، ليبرالية أو شمولية، تقدمية أو رجعية. وإذا كان من الصحيح كما تقول أرندت أن كل الأنظمة السياسية تُمارس سلطة الحياة والموت بدرجات متفاوتة وفي ظروف مختلفة، فإن التاريخ يشهد على أن بعض الأنظمة الديمقراطية قد مارست أنواعًا خطيرة من هذه السلطة، وعلى سبيل المثال، فقد مارست الولايات المتحدة الأمريكية سلطة الحياة والموت ليس فقط على أفراد بعينهم بل على شعوب بأكملها، ولنا في العراق وأفغانستان أبرز دليل على هذا، ومن هنا كانت سلطوية بعض القادة الأمريكيين واستعمالهم للكذب السياسي مسألة خطيرة تقليديًا وساخنة للغاية. وتعد فضيحة أوراق البنتاجون المتعلقة بحرب الولايات المتحدة على فيتنام الشمالية، وكذلك الاستراتيجية التي تمت بِناءً على غزو الولايات المتحدة للعراق، وغيرهما أمثلة صارخة للكذب الممنهج الذي يُستخدم لتفعيل سلطة الحياة والموت، وهي السلطة التي نجحت لسنوات عديدة، وحتى لعقود، قبل أن يتم افتضاح أمرها.

وهكذا يبدو أن سلطة الحياة والموت تمتد لتشمل الأنظمة الديمقراطية أيضًا. وإذا كانت النازية قد اندحرت مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وإذا كان كثير من الأنظمة الشمولية الأخرى قد سقطت، فإن كثيرًا من الممارسات الشمولية ذاتها لسلطة الحياة والموت ما تزال قائمة في عصر الديمقراطية والليبرالية التي تحكم معظم بلدان العالم الغربي حاليًّا. وقد سبق للفيلسوف الفرنسي «جاك دريدا» أن لاحظ مرارًا أن ممارسات الكذب لا تزال قائمة في عصر الأنظمة الديمقراطية الليبرالية الراهنة، وفي ظل هيمنة الرأسمالية التقنية- الإعلامية [45] . كما لاحظ «موريس دوفرجيه» أن نظام الإعلام الرأسمالي في عالم اليوم يؤدي في الغالب إلى ما يمكن أن نسميه «تبليه» الجمهور، فهو يسجن الناس في عالم صبياني ذي مستوى عقلي منخفض شديد الانخفاض. وهو يستعين في ذلك بأساليب عديدة منها تشجيع «الصحافة الغرامية»، وكذلك تشجيع السينما ومغامرات الرياضة وغير ذلك. ومن خلال هذه الوسائل المختلفة يتم إغراق الجمهور، بشكل مقصود أو غير مقصود، في بيئة لا واقعية، مصطنعة، تملؤها التهاويل، وبذلك يتم صرفه عن المشكلات الحقيقية التي تهمه، ذلك أن المهم فيها هو الربح والوصول إلى أكبر عدد من المستهلكين [46] .

وهكذا فإن سلطة الحياة والموت لا تقتصر على الأنظمة الشمولية فحسب، بل تمتد أيضًا إلى كل الأنظمة السياسية والاجتماعية الأخرى. ولكن انتشار سلطة الحياة والموت في العالم المعاصر بدرجة كبيرة يرجع في المقام الأول إلى وصول الأنظمة الشمولية إلى السلطة، وبسبب أهدافها العنصرية التي أرادت أن تحققها. ومن هنا تجيء أهمية تحليلات أرندت لدور الخيال في الكذب، وصنع الصور في السياسة الحديثة، وهو تحليل يرتبط في المقام الأول بنقدها لأصول الأنظمة الشمولية. «فعندما يتم إنكار الحقائق الواقعية، وعندما تفتقد الحقائق العقلية جميع أشكال التحقق أو الصحة ويبدأ القسر في اجتياح المجال السياسي، فعند ذلك يحل الخيال محل الواقع، والأيديولوجية محل الفكر، والإرهاب محل الفعل. وتمثل الشمولية هذه التجربة الفاصلة بامتياز، حيث يتم تدمير السياسة والعالم معًا. وفي مثل هذه الحالة يتم نزع «الفكر» و«الفعل» معًا من فعاليتهما الخاصة، ويتم تجريفهما بعيدًا عن طريق «قانون الحركة الآلية» الذي يطمس كل وجهات النظر ويُحول المجال العام إلى أرض قاحلة أو صحراء جرداء لا زرع بها ولا ماء» [47] .

(ج) بين رمزية الأيديولوجيا والهيمنة ومآلات «السياسات المقبورة»

على خطى ماركس، ناقش «أنطونيو جرامشي» (Antonio Gramsci) (1891-1937) مفاهيم المجتمع المدني والسلطة الرمزية للهيمنة الأيديولوجية، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، تعامل «جرامشي» مع الأيديولوجيا كنظام رمزي، لكن نقطة تميّزه تتمثل في نظرته للمجتمع المدني بوصفه فضاءً للهيمنة والسلطة الرمزية. ولهذا وفي تحليله لظاهرة (الهيمنة)، يميز جرامشي بين مفهوم «السيطرة» Dominance المرادف لسلطة «الإكراه» عن طريق القوة أو التهديد بالقوة، ومفهوم «الهيمنة» Hegemony المرادف لسلطة «الإقناع» عن طريق تحكم الطبقة الحاكمة من خلال صناعة الأيديولوجيا والرموز، لفرض معاييرها التي تبرر الوضع الاجتماعي القائم. وفي ضوء هذا يفرق بين السلطة السياسية للدولة من ناحية، والسلطة الرمزية للمجتمع المدني من ناحية أخرى؛ فإذا كانت سلطة الدولة تنصب على استعمال القسر وقوة الإكراه المادي أو التهديد بالقوة، فإن سلطة المجتمع المدني ينبغي أن تُفهم بمعنى قوة الهيمنة الأيديولوجية لجماعة أو طبقة ما على المجتمع كله، باعتبارها المضمون الأخلاقي للدولة. وبالتالي فإذا كان المجتمع السياسي (الدولة) يمثل فضاءً للسيطرة واستخدام العنف المادي بواسطة سلطة الدولة، فإن المجتمع المدني يمثل فضاءً رمزيًا للهيمنة الأيديولوجية والعنف الرمزي والصراع الثقافي [48] .

ويمضي جرامشي حيث يذهب إلى أن الدولة تمارس هيمنتها بطريقة رمزية عن طريق احتضان كل مؤسسات المجتمع المدني وتنظيماته الأخرى واحتوائها. ففي ضوء البنية الاقتصادية للمجتمع، والدولة بتشريعاتها وقهرها، ينتصب المجتمع المدني كإطار للهيمنة الأيديولوجية والعنف الرمزي، وتصبح الدولة بذلك أداةَ تكييفِ المجتمع المدني ليلائم البنية الاقتصادية [49] .

ومن هنا فإن نقطة انطلاق جرامشي بالنسبة لمفهوم الهيمنة هي أن الطبقة الحاكمة وممثليها يمارسون السلطة على الطبقات الخاضعة عن طريق الجمع بين قوة «الإكراه المادي» Coercion وقوة «الإقناع» Consent معًا. ولذلك فإن جرامشي، في ملاحظاته على كتاب الأمير لمكيافيلي، يستعيد أسطورة «السنتور» [50]  كرمز لهذا «المنظور المزدوج» في السياسة- حيث تكون هناك مستويات مختلفة تتكون من قوة الإكراه وقوة الإقناع: من طريقة السيطرة المادية إلى طريقة الهيمنة الرمزية، ومن أسلوب العنف المادي إلى أسلوب العنف الحضاري، وهكذا. ومن هذه الزاوية تمثل الهيمنة «علاقة» Relation؛ ليست بمعنى أنها سلطة إكراه عن طريق القوة والقسر، وإنما علاقة موافقة ورضا وإقناع بواسطة القيادة أو الهيمنة السياسية والأيديولوجية، وهي بذلك تعمل على تنظيم هذه الموافقة [51] .

وهكذا فقد يكون المجتمع المدني سلطةً أيديولوجيةً وفضاءً رمزيًا للهيمنة والقهر، ومن هنا نزع جرامشي إلى تغيير التصور النظري والدلالة الهيجلية والماركسية للمجتمع المدني بوصفه امتدادًا للصراع الطبقي وفضاءً للتنافس الاقتصادي، ليصبح بدلًا من ذلك مجالًا للهيمنة الرمزية والأيديولوجية. وتُقاس وظيفة الهيمنة (أو القيادة) بتطور الحياة الداخلية للمجتمع ذاته، فإذا كانت الدولة تمثل قوة القهر المادي والعقاب اللازمة للانضباط القانوني بطريقة مباشرة، فإن المجتمع المدني يعمل في اتجاه تعزيز هذا الخضوع والانضباط من تلقاء نفسه باعتباره نمطًا من الحياة الاجتماعية [52] ؛ أي أنه يعمل على تكييف الواقع القهري بطريقة رمزية جماعية. ومن هنا كانت وظيفة المجتمع المدني ذات طبيعة توجيهية للسلطة الرمزية التي تُمارَس بواسطة التنظيمات والمؤسسات التي تدعي أنها ذات طبيعة خاصة ومحايدة مثل النقابات والمدارس ودور العبادة والهيئات الثقافية المختلفة، وما إلى ذلك [53] .

على هذا النحو ينبغي التركيز على أبعاد الهيمنة الأيديولوجية التي يعمل من خلالها المجتمع المدني، عبر تنظيماته المختلفة، كأداة للتعمية على طبيعة الصراع الطبقي وتمرير مصالح الطبقة الحاكمة. فالأيديولوجيا ترتكز على بنى الهيمنة، وتشتغل من خلال الأنماط القانونية والسياسية والجمالية السائدة، ولهذا تستخدم الطبقة الحاكمة كل المؤسّسات الاجتماعية والثقافية كأدوات للهيمنة الرمزية الأيديولوجية، وإضفاء المشروعية على الاستغلال والقمع اللذين تمارسهما على الطبقات الأخرى، الأمر الذي يجعل من هذه الطبقات أكثر خضوعًا وتبعية للطبقة المسيطرة اقتصاديًّا [54] . وتأسيسًا على هذا فإن الأيديولوجيا تمثل شبكة أو منظومة رمزية تُستخدم تغطيةً وتسويغًا للممارسات القسرية للدولة ([55]). ومن هنا فإن وجه تميُّز جرامشي يتمثل في رؤيته للأيديولوجيا بوصفها فضاءً رمزيًا يتمثل في تحليله للاستقلالية النسبية للأيديولوجيا، وهي الاستقلالية الكامنة في أبعاد الهيمنة الثقافية المفترضة حيث لا يُرجعها إلى حالة السيطرة المباشرة لسلطة الدولة المادية، ولكنه يراها كامنة في فضاء المجتمع المدني وتنظيماته المتجانسة، وبذلك تكون الهيمنة الأيديولوجية والعنف الرمزي أكثر تحكمًا وخطورة من قوة الإكراه أو العنف المادي الذي يتسنى للأفراد مواجهته بطريق الصدام المباشر.

ومتى انتقلنا إلى مآلات «السياسات المقبورة» في ظل النضال المدني، سنجد أن هذه المسألة قد شغلت بعض المُنظّرين. ففي مقاله المعنون «الانْقِيَاد للموت» (2023)، يستكشف الكاتب «عمر لطيف مِسجر» طريقة ممارسة الموت كسياسة وكقوة إلهاميّة كاشفة، ويتساءل: كيف يجب أن نتعامل مع خطورة هذه الحَرَكِيَّات للنضال المدني المشحونة بالموت والسلطة والسياسة؟ ويجيب في ضوء مناقشته لأشكال «سياسات الموت» Necropolitics عند «مبيمبي»، بأن الأفراد قد يندفعون في النضال المدني إلى تحطِيم هذا الشكل من سياسات الموت، عن طريق الانتحار، أو بالأحرى الاستشهاد، فيبادرون بالتضحية بذواتهم من أجل القضية التي يدافعون عنها. ويمضي «عمر لطيف مِسجر» حيث يذهب إلى أن الغاية السياسية النفعية، “إن وجدت”، التي يقوم بها متخذ القرار بالموت، لاسيما في سياقات الحكم غير الشعبي، والتمرد المسلح، والموت السيادي في ظل هيمنة سياسات الموت السيادية، إن الغاية السياسية النفعية التي يقوم بها متخذ القرار بالموت يمكن أن تتضح من إجابة «هيجل» التي يصف من خلالها المواجهات الطوعية مع الموت على أنها غير عدمية. ففي رأي «هيجل»، إن هذه الأفعال تشكل عنصرًا أساسيًا في تكوين الذات. وبعبارة أخرى إن مواجهة الموت والانقياد له، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، يؤدي حتمًا إلى تغيير الخبرة الذاتية للأَحياء أو الذين تخلفوا عن الركب. غير أن تيري إيجلتون، المُنظِّر الأدبي والناقد الماركسي والمفكر العام، يقدِّم لنا إجابة أخرى. ففي أطروحته عن الشَهَادَة بعنوان، «التضحية الراديكالية» (Radical Sacrifice) (2020)، يكشف إيجلتون عن الطرق التي يمكنُ من خلالها لاتخاذ القرار الطوعي بالموت التغلبُ على «الإكراهات والضغوط الوسواسية» لحركة الموت الفرويدية وتحويل ما يبدو أنه ضرورة إلى ممارسة الحرية. وعندما تتحرك الحياة اليومية بشكل واسع في أجواء من الأشكال القمعية من الموت القسري، فهل يمكن للموت نفسه أن يتم الاستئثار به وتحويله إلى عمل من أعمال المقاومة والحرية؟ [56] .

ويمضي «عمر لطيف مِسجر» حيث يقرر أن إيجلتون ليس هو المُنظّر الوحيد الذي ينظر إلى الموت على أنه فعل للحرية. ففي كتابها بعنوان «جَوّع وضحِّ: سياسة الأسلحة البشرية» (Starve and Immolate: The Politics of Human Weapons) (2014)، تواصل المُنظِّرة السياسية بنو بارجو Banu Bargu هذا المسار من خلال تقديم بديل لسياسات الموت السيادية، وتعني به «مقاومة الموت[57]*)» Necroresistance. واللافت في كتاب بارجو هو الطريقة التي يتداخل بها هذا الشكل من المقاومة مع فعل الاستشهاد باعتباره «قيمة أخلاقية سياسية كبرى»، وبالتالي يجعل الأفراد من الموت وسيلة «للازدهار الأيديولوجي والثقافي» في بلدانهم. ومن هنا يمكن أن تصبح المقاومةُ، عند النظر إليها على أنها معارضة لسياسات الموت، قوةً مؤثرةً في التعبير السياسي الشعبي. وعلى سبيل المثال، بالنسبة لـ«فرانز فانون» (1925-1961)، فإن الموت هو الشكل الملائم للتعبير السياسي للأشخاص المُضطَهَدين والمقيدين بأغلال ممتدة عبر الزمن. وهذا الأمر يمثّل «شبكة شاملة من العنف ثلاثي الأبعاد». وقد يشمل إنهاءَ ما يبدو أنه نظام أبدي وزمني لا نهاية له، بأي وسيلة ضرورية، وأقرب وسيلة محتملة لهذا الموت. ومن هنا لا يمكن اعتبار هذا الشكل من أشكال الموت مجرد سلوك يائس وعديم الجدوى. وبالنسبة للمُنظِّرة السياسية بنو بارجو، فإن هذا الأمر ليس خاصًا بفانون وحده، بل يمتد إلى كل من يصبح استشهادهم تعبيرًا عن سياسات معارضة، فبالنسبة لهم، ولغيرهم، قد لا يكون الموت منطقيًا فحسب، بل قد يكون قوة إلهاميّة كاشفة أيضًا [58] .

خاتمة

تناولنا في هذه الدراسة العلاقة بين النضال المدني و«السياسات المَقْبورة»، وقد وقفنا عند بعض المحاولات التي قدّمها مفكرون ومنظّرون، مثل «جرامشي» و«بنو بارجو» التي حاولت تقديم بديل لسياسات الموت السيادية، وهو البديل الذي أسمته بارجو «مقاومة الموت» Necroresistance وهو شكل من أشكال الرفض ضد هيمنة السلطة، ويعمل انطلاقًا من محاولته انتزاع سلطة الحياة والموت بعيدًا عن أجهزة الدولة الحديثة، وصولًا إلى أن تصبح سياسة «مقاومة الموت» قوة مؤثرة في الوعي الجمعي وفي التعبير السياسي الشعبي.

ومن ناحية أخرى، كشفت الدراسة عن الآثار السلبية للتكنولوجيا في حركة النضال المدني. فالواقع أنه إذا كان العلم الحديث قد حمل للإنسان طوق النجاة من الخرافات والاستبداد والتبعية، فإن التكنولوجيا (التي هي تطبيقات العلم) في الحقبة المعاصرة تكاد تُودي به في غيابة الجب. ومنذ بزوغ الثورة العلمية في العصر الحديث ومع تزايد الاكتشافات التي حملتها، وتطبيقاتها المعاصرة التي أثمرتها لنا التكنولوجيا، واجه الإنسان الحديث مسائل وقضايا جديدة، ومن بينها تقنيات المراقبة وتحجيم دور النضال المدني. وعلى هذا النحو بدأت التساؤلات تظهر مثل: هل يمكن النظر إلى الثورة العلمية وتطبيقاتها باعتبارها طوق نجاة بشكل مطلق أم أنها ستثمر عن مخاطر وسلبيات لا يمكن تجاهلها؟ وما انعكاس ذلك، سلبًا أو إيجابًا، على مسار التقدم ومستقبل الحضارة؟ وفيما يبدو لي، فإن التكنولوجيا الرقمية السائدة حاليًا في المجالات السياسية والاجتماعية وتقنيات الذكاء الاصطناعي، ومعها سياسات الضبط والقهر والقمع والتحكم، أدت ولا تزال تؤدي إلى غربة الإنسان المعاصر عن نفسه وذاته الأصيلة من ناحية وعن مجتمعه من ناحية أخرى. وهنا يكمن عميق الأزمة التي يعيشها الإنسان المعاصر.

أما بالنسبة لمدى إمكانية تحقق النظرة اليوتوبية للسياسة المثلى، والتي طالما حلم بها الفلاسفة عبر التاريخ، فيمكن القول بصعوبة، تحقيق هذه النظرة إن لم يكن استحالتها، لأننا في مجتمع بشري تسوده كل أنواع الشرور، وما ظهور القوانين المنظمة والأطر الحاكمة للأفراد والجماعات إلا دليل على عدم الانسياق وراء الهاوية. وعليه، فمن الصعوبة كذلك أن نكون في يوم من الأيام أمام عدم هيمنة السلطة على الأفراد والشعوب الإنسانية.

وهنا نود أن نؤكد على أن التحرر من انشغالاتنا التافهة كقضاء أوقات طويلة في التسوق، والتقليل من الواجبات الاجتماعية الملقاة على كاهلنا، والحدّ من الأعباء المنزلية العبثية وغيرها، …التحرر من كل هذا يساعد الإنسان على حماية ذلك المجال الخاص بحريته من أجل الإبداع والسلام والحياة المطمئنة. وهذا يفسر الإحجام الجمعي عن النزعة الاستهلاكية الشعواء التي كان عصر ما بعد الحداثة هو السبب الرئيس فيها، إن الإحجام عن هذه النزعة الاستهلاكية الشعواء إنما هو شكل من أشكال المقاومة في حدّ ذاته. وبعد أن تناولنا بالتفصيل النسبي ملامحَ العلاقة بين النضال المدني و«السياسات المَقْبورة»، فإننا نتساءل:

هل يمكن النظر إلى السياسة باعتبارها قيمة في حد ذاتها؟

هل من الممكن للساسة أن يُقوِّضوا أُطُر عوالمهم الاستبدادية، ويعودوا بها إلى الواقع السياسي الذي يهتم بالإنسان كقيمة في ذاته؟

هل يأتي ذلك اليوم الذي لا يتم النظر فيه إلى السياسة بوصفها سلعة تُباع وتُشترى؟ أم أن عجلة السياسة ستبقى تدور وتدور، لتسحق إلى الأبد، ولنظل في صراع دائم مع طواحين الهواء؟

أخيرًا، لماذا سطع نجم «هنتنجتون»، و«فوكوياما»، ومَنْ هم على شاكلتهما، وتوارى فكر «ماكفرسون» (Crawford MacPherson) (1911-1987)، ومَنْ سار على دَربه

 

المراجع

أولا: المصادر والمراجع العربية والمترجمة إلى العربية.

1 – أحمد زايد: من البصاصة إلى الصراع والعنف: آليات المراقبة في الدولة المصرية الحديثة، مجلة «عُمران» للعلوم الاجتماعية، العدد 6، نوفمبر 2013.

2 – إريش فروم: عن العصيان ومقالات أخرى، ترجمة: يوسف نبيل، القاهرة: روافد للنشر والتوزيع، 2016.

3 – أنطونى دى كرسبني وكينيث مينوج (المحرران): من فلاسفة السياسة في القرن العشرين، ترجمة: نصَّار عبد الله، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2012.

4 – أنطونيو جرامشي: كراسات السجن، ترجمة: عادل غنيم، القاهرة: دار المستقبل العربي، 1994.

5 – باولو فرايري: تعليم المقهورين، ترجمة: يوسف نور عوض، بيروت: دار القلم، 1980.

6 – تشارلز فرنكل: أزمة الإنسان الحديث، ترجمة: نقولا زيادة، مراجعة: عبد الحميد ياسين، بيروت: مؤسسة فرنكلين للطباعة والنشر، 1959.

7 – جاك دريدا: تاريخ الكذب، ترجمة وتقديم: رشيد بازي، بيروت: المركز الثقافي العربي، 2016.

8 – ج. ف. هيجل: أصول فلسفة الحقّ، م. 1، ج. 3، ترجمة: إمام عبد الفتاح إمام، القاهرة: مكتبة مدبولي، 1996.

9 – حنـة أرنـدت: أسس التوتاليتارية، ترجمـة: انطوان أبو زيد، بيروت: دار الساقي، 1992.

10 – حمدي الشريف: الدولة المُحايدة.. قراءة في الفكر الليبرالي المعاصر، منشورات مؤسسة مؤمنون بلا حدود، مارس 2016.

11 – حمدي الشريف: الدولة المُحايدة.. قراءة في الفكر الليبرالي المعاصر، منشورات مؤسسة مؤمنون بلا حدود، مارس 2016.

12 – _________: الدين والثورة بين لاهوت التحرير المسيحي واليسار الإسلامي المعاصر، ط. 2، الإسكندرية: دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، 2022.

13 – _________: مستقبل الإنسان والحضارة في عصر التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، منصة معنى الثقافية، 22 يناير 2023.

14 – روزي بريدوتي: ما بعد الإنسان، ترجمة: حنان عبد المحسن مظفر، سلسلة عالم المعرفة، العدد 488، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، نوفمبر 2021.

15 – عبد الوهاب الكيالي وآخرون: موسوعة السياسة، ج. 4، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1994.

16 – مجموعة من المختصين: قاموس الفكر السياسي، ج. 1، ترجمة: أنطون حمصي، دمشق: وزارة الثقافة، 1994.

17 – موريس دوفرجيه: مدخل إلى علم السياسة، ترجمة: جمال الأتاسي وسامي الدروبي، بيروت: المركز الثقافي العربي، 2009.

18 – ميشيل فوكو: المراقبة والمعاقبة: ولاة السّجن، ترجمة: د/ علي مقلد، مراجعة: مطاوع صفدي، بيروت: مركز الإنماء القومي، 1990.

19 – ناصيف نصَّار: منطق السلطة: مدخل إلى فلسفة الأمر، بيروت: دار أمواج للطباعة والنشر والتوزيع، ط. 2، 2001.

20 – هربرت ماركيوز: فلسفات النفي: دراسات في النظرية النقدية، ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد، القاهرة: دار الكلمة للنشر والتوزيع، ط. 1، 2012.

ثانيًا: المصادر والمراجع الإنجليزية.

1 – Achille Mbembe: Necropolitics, trans. Steve Corcoran, Durham, NC: Duke Univ. Press, 2019.

2 – Antonio Gramsci: Selections from Political Writings (1921-1926), trans.: Quintin Hoare, London: Lawrence and Wishart, 1978.

3 – Corinne Enaudeau and Dorothée Bonnigal-Katz: Hannah Arendt: Politics, Opinion, Truth, Social Research, Vol. 74, No. 4 (Winter 2007).

4 – Gary A. Olson & Lynn Worsham: Slavoj Žižek: Philosopher, Cultural Critic, and Cyber-Communist, JAC: A Journal of Composition Theory, Vol. 21, No. 2 (Spring 2001).

5 – Iris M. Young: Punishment, Treatment, Empowerment: Three Approaches to Policy for Pregnant Addicts, Feminist Studies, Vol. 20, No. 1, 1994.

6 – John Schwarzmantel: Ideology and Politics, London: SAGE Publications Ltd, 2008.

7 – John Rawls: A Theory of Justice, Cambridge, Mass: Harvard Univ. Press, 1971.

8 – Karl Jaspers: Man in the Modern Age, Trans.: Eden and Cedar Paul, Garden City, N.Y.: Doubleday, 1957.

9 – Michael Walzer: Obligations: Essays on Disobedience, War and Citizenship, Cambridge, Mass.: Harvard Univ. Press, 1970.

10 – Robert A. Dahl: The Concept of Power, Behavioral Science, Vol. 2, No. 3 (Jul. 1957), PP. 202-203.

11 – Simon, Roger: Gramsci’s Political Thought, London: Lawrence & Wishart, 1999.

12 – Slavoj Žižek: Looking Awry: An Introduction to Jacques Lacan through Popular Culture, Cambridge, Massachusetts: The MIT Press, 1991.

13 – Slavoj Žižek: The Parallax View, Cambridge: MIT Press, 2006.

14 – Slavoj Žižek: The Puppet and the Dwarf: The Perverse Core of Christianity, Cambridge, MA: MIT Press, 2003.

15 – Slavoj Žižek: The Universal Exception: Selected Writings, edited by: Rex Butler and Scott Stephens, London & New York: Continuum, 2006.

16 -Slavoj Žižek: The Year of Dreaming Dangerously, London & New York: Verso, 2012.

17 – Slavoj Žižek: Violence: Six Sideways Reflections, New York: Profile Books Ltd, 2008.

18 – Vicky Grut: Why not driving is my own form of resistance, Psyche, 8 June 2023.

متاح على:

https://psyche.co/ideas/why-not-driving-is-my-own-form-of-resistance

1 – Umar Lateef Misgar: Wielding Death, Aeon, 24 February 2023.

متاح على:

https://aeon.co/essays/can-a-martyrs-death-be-an-act-of-true-resistance-and-freedom

1 – Robert A. Dahl: The Concept of Power, Behavioral Science, Vol. 2, No. 3 (Jul. 1957), PP. 202-203.

2 – Ibid.

3 – كارل سيلفن: «برتراند دي جوفينيل: الكفاءة واليسر»، ضمن: من فلاسفة السياسة في القرن العشرين، تحرير: أنطونى دى كرسبني وكينيث مينوج ، ترجمة: نصَّار عبد الله، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2012، ص. 159.

4 – ناصيف نصَّار: منطق السلطة: مدخل إلى فلسفة الأمر، بيروت: دار أمواج للطباعة والنشر والتوزيع، ط. 2، 2001، ص. 8.

5 – راجع في هذا بالتفصيل: حمدي الشريف: الدين والثورة بين لاهوت التحرير المسيحي واليسار الإسلامي المعاصر، ط. 2، الإسكندرية: دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، 2022، ص ص. 53-55.

6 – عبد الوهاب الكيالي وآخرون: موسوعة السياسة، ج. 4، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1994، ص. 122.

7 – المرجع المذكور، الصفحة نفسها.

8 – يُعَدُّ المفكر الأمريكي «هنري ديڤيد ثورو» Henry David Thoreau (1817-1862) مؤسِّس نظرية العصيان المدني، وأول من حرّض على القيام بعصيان مدني شامل. وهو يشرح، في مقاله عام 1849، لماذا امتنع عن دفع الضرائب لولاية «ماساتشوستس» الأمريكية. فقد كان يريد الاحتجاج على وجهين لسياسة الولايات المتحدة: أولهما بقاء قانون الرق في الجنوب، والآخر الحرب ضد المكسيك. وقد تمثلت فكرته الأصلية في أنه إذا كان المرء لا يقدر على مقاومة الحكومة الظالمة، فإن عليه ألا يدعمها في أي شيء وألا يستفيد من دعمها له في أي شيء. وبعد حوالي قرن من الزمان، اتخذ «المهاتما غاندي» (1869-1948) فكرة العصيان المدني، في إطار فلسفته العامة، كوسيلة للنضال الاجتماعي والمقاومة السِّلمية ضد الاستعمار البريطاني في الهند. وقد أكد «غاندي» أنه يجب على الذين يستخدمون العصيان المدني أن يفعلوا ذلك بطريقة غير عنيفة دائمًا، وأن عليهم قبول العقوبات التي يتعرض لها المرء عندما يخرق القانون. كما أكد كذلك على عدم اللجوء إلى العصيان المدني إلا بعد استنفاذ كافة وسائل الإقناع والالتماس والصور الدستورية للعمل السياسي أولاً. (مجموعة من المختصين: قاموس الفكر السياسي، ج. 1، ترجمة: أنطون حمصي، دمشق: وزارة الثقافة، 1994، ص. ص. 474، 475).

9 John Rawls: A Theory of Justice, Cambridge, Mass: Harvard Univ. Press, 1971, P. 364.

10 –  Michael Walzer: The Obligation To Disobey, in Idem: Obligations: Essays on Disobedience, War and Citizenship, Cambridge, Mass.: Harvard Univ. Press, 1970, P. 3.

11 John Rawls: A Theory of Justice, op. cit., P. 363.

12 Ibid, PP. 365-366.

13 حمدي الشريف: الدين والثورة، مرجع سابق، ص. 169.

14 –  باولو فرايري: تعليم المقهورين، ترجمة: يوسف نور عوض، بيروت: دار القلم، 1980، ص. 36.

15 –  المصدر المذكور، ص ص. 33-34.

16 –  Vicky Grut: Why not driving is my own form of resistance, Psyche, 8 June 2023.متاح على:https://psyche.co/ideas/why-not-driving-is-my-own-form-of-resistance

17 –  تشارلز فرنكل: أزمة الإنسان الحديث، ترجمة: نقولا زيادة، مراجعة: عبد الحميد ياسين، بيروت: مؤسسة فرنكلين للطباعة والنشر، 1959، ص. ص. 152، 153.

18 –  Karl Jaspers: Man in the Modern Age, Trans.: Eden and Cedar Paul, Garden City, N.Y.: Doubleday, 1957, P. 1.

19 –  Ibid. P. 2.

20 روزي بريدوتي: ما بعد الإنسان، ترجمة: حنان عبد المحسن مظفر، سلسلة عالم المعرفة، العدد 488، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب،ـ نوفمبر 2021، ص ص. 19-20.

21 –  Slavoj Žižek: The Parallax View, Cambridge: MIT Press, 2006,, P. 360; Slavoj Žižek: The Year of Dreaming Dangerously, London & New York: Verso, 2012, P. 31.

22 –  Slavoj Žižek: Looking Awry: An Introduction to Jacques Lacan through Popular Culture, Cambridge, Massachusetts: The MIT Press, 1991, P. 17.

23 –  Slavoj Žižek:: The Year of Dreaming Dangerously, op. cit., P. 31.

24 يقصد ماركيوز بهذا التعبير؛ القمع الذي تقتضيه المصلحة المستثمرة في التمسك بالمجتمع القائم، والتي تؤدي إلى تبرير الاستغلال والسيطرة المنظمين. ومن هنا تنزع السلطة إلى الاستفادة من «فائض القمع» في ترسيخ النظام القائم وإضفاء المشروعية عليه. فإذا كان «القمع» من شأنه أن يخلق نزاعات وضغوطًا على الأفراد، فإنه عادة ما يجري استخدام «فائض القمع» في تعزيز القهر والتكيف والخضوع (على سبيل المثال، الخوف من فقدان العمل أو المكانة، أو تهميشهم في المجتمع). (انظر، هربرت ماركيوز: فلسفات النفي: دراسات في النظرية النقدية، ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد، القاهرة: دار الكلمة للنشر والتوزيع، ط. 1، 2012، ص. 252).

25 Slavoj Žižek: The Universal Exception: Selected Writings, edited by: Rex Butler and Scott Stephens, London & New York: Continuum, 2006, P. P. 162, 294.

26 Slavoj Žižek: The Puppet and the Dwarf: The Perverse Core of Christianity, Cambridge, MA: MIT Press, 2003, P. 111.

27 Slavoj Žižek: Violence: Six Sideways Reflections, New York: Profile Books Ltd, 2008, P. 23.

28 Gary A. Olson & Lynn Worsham: Slavoj Žižek: Philosopher, Cultural Critic, and Cyber-Communist, JAC: A Journal of Composition Theory, Vol. 21, No. 2 (Spring 2001), P. 253.

29 أحمد زايد: من البصاصة إلى الصراع والعنف: آليات المراقبة في الدولة المصرية الحديثة، مجلة «عُمران» للعلوم الاجتماعية، العدد 6، نوفمبر 2013، ص ص. 13 وما بعدها.

30 Achille Mbembe: Necropolitics, trans. Steve Corcoran, Durham, NC: Duke Univ. Press, 2019, P. 92.

31 Ibid, P. 66.

32 Iris M. Young: Punishment, Treatment, Empowerment: Three Approaches to Policy for Pregnant Addicts, Feminist Studies, Vol. 20, No. 1, 1994, P. 48.

33 –  ميشيل فوكو: المراقبة والمعاقبة: ولاة السّجن، ترجمة: د/ علي مقلد، مراجعة: مطاوع صفدي، بيروت: مركز الإنماء القومي، 1990، ص. 67.

34 –  ج. ف. هيجل: أصول فلسفة الحقّ، م. 1، ج. 3، ترجمة: إمام عبد الفتاح إمام، القاهرة: مكتبة مدبولي، 1996، ص. 590.

35 –  Achille Mbembe: Necropolitics, op. cit., PP. 68-69.

36 –  Ibid, P. 66.

37 –  Ibid, PP. 70-71.

38 –  Ibid, P. 92.

39 –  Ibid, P. 92.

40 –  Ibid, PP. 72-73.

41 –  Ibid, P. 92.

42 –  Ibid, P. 67.

43 –  حنـة أرنـدت: أسس التوتاليتارية، ترجمـة: انطوان أبو زيد، بيروت: دار الساقي، 1992، ص. 269.

44 –  المصدر السابق، ص. 160.

45 –  جاك دريدا: تاريخ الكذب، ترجمة وتقديم: رشيد بازي، بيروت: المركز الثقافي العربي، 2016، ص ص. 88-89.

46 –  موريس دوفرجيه: مدخل إلى علم السياسة، ترجمة: جمال الأتاسي وسامي الدروبي، بيروت: المركز الثقافي العربي، 2009، ص. 157.

47 –  Corinne Enaudeau and Dorothée Bonnigal-Katz: Hannah Arendt: Politics, Opinion, Truth, Social Research, Vol. 74, No. 4 (Winter 2007), P. 1040.

48 –  أنطونيو جرامشي: كراسات السجن، ترجمة: عادل غنيم، القاهرة: دار المستقبل العربي، 1994، ص. 227.

49 –  المصدر السابق، ص. ص. 227، 228.

50 –  «السنتور» Centaur: مخلوق في الأساطير اليونانية نصف جسده إنسان، والنصف الآخر على هيئة حيوان.

51 –  Simon, Roger: Gramsci’s Political Thought, London: Lawrence & Wishart, 1999, P. 24.

52 –  جرامشي، أنطونيو: كراسات السجن، مصدر سابق، ص ص. 278-279.

53 –  المصدر السابق، ص. 258.

54 –  John Schwarzmantel: Ideology and Politics, London: SAGE Publications Ltd, 2008, P. P. 11, 27.

55 –  Antonio Gramsci: Selections from Political Writings (1921-1926), trans.: Quintin Hoare, London: Lawrence and Wishart, 1978, P. 39.

56 –  Umar Lateef Misgar: Wielding Death, Aeon, 24 February 2023.متاح على:https://aeon.co/essays/can-a-martyrs-death-be-an-act-of-true-resistance-and-freedom

57 – (*) «مقاومة الموت» Necroresistance: تمثل شكلًا من أشكال الرفض ضد الهيمنة الفردية والشاملة في آن واحد، والتي تعمل من خلال انتزاع سلطة الحياة والموت بعيدًا عن أجهزة الدولة الحديثة. (المترجم).

58 –  Umar Lateef Misgar, loc. Cit.

مشاركة: