المجتمع المدني من منظور الانتماء الجذري للجماعة الإنسانية

كتب الراحل إلياس مرقص، منذ أزيد من أربعين عامًا: “لقد وصلت البشرية الآن، في هذه اللحظة المنطقية والتاريخية، إلى أكبر مفترق في تاريخها الطويل. إما أن تكونَ نهاية تقدم وثورة تأسيس لتقدم آخر أو تكونَ نهاية النوع البشري. هذه القضية تخصنا بالتمام”[1].

نعم، البشرية، الآن، وأكثر من أي وقت مضى، تقف أمام هذا المفترق الخطير، خاصة بعد الحرب الأوكرانية وما رافقها من استقطاب في مستوى العلاقات الدولية، وما نجم عنها من أزمات عالمية الطابع كأزمة الغذاء وأزمة الوقود وأزمة الطاقة وارتفاع معدلات البطالة وارتفاع تكاليف المعيشة في كل بلدان العالم، والأدهى من ذلك، والأشد كارثية، هو عودة أوروبا إلى مناخات التسلح، وإلى التفكير في الاستعداد للحروب، بعد ما ظن الأوروبيون ومعهم جميع الذين ينتمون إلى التيارات المدنية الديمقراطية في العالم، أن أوروبا طلّقت الحروب إلى غير رجعة.

هذا إضافة إلى عودة التعصب القومي الشوفيني، وعودة فكرة بعث الماضي الإمبراطوري، وما يرتبط بها من استقطابات وصراعات وحروب هي أساسًا ضد تاريخ البشرية المدني ونكوص إلى تاريخها الحيواني، وهي تبديد لممكنات التنمية والتقدم على هذا الكوكب.

وفي سياق هذا السعار العالمي المحموم لانبعاث أشباح الماضي القومية والدينية، يأتي إعلان بوتين على سبيل المثال، وفق منطق كلبي ميكافيلي، أنه من وراء حرب أوكرانيا وتدميرها، يريد “بعث” ماضي روسيا القيصري الإمبراطوري. ويعلن الإمبراطور الخامنئي بذات الكلبية الميكيافلية الصفيقة، أنه على حطام المشرق العربي، وبمشاركة ملحقاته الميليشياوية، يبعث الماضي الإمبراطوري الفارسي. وفي السياق نفسه تطلق، مليشيات الإسلام السياسي السني وأحزابه وحركاته، العنان لبعث الماضي الإمبراطوري ” لدولة الخلافة”. وعلى مسار السعار العنصري، القومي، الديني، المذهبي، ذاته، يطل نتنياهو متحالفًا مع الأحزاب الدينية الإسرائيلية لتغليب أرجحية فكرة “الدولة” اليهودية.

وبهذه الحال، نتيجة هذا الرقص المسعور حول هويّات شبحية لا علاقة لها بمستقبل البشرية الواحد، وبفكرة الإنسان ككائن كلي غير مستنفذ بانتماءاته العرقية والدينية والإيديولوجية… تنمو التيارات اليمينية المتطرفة في الدول الغربية المتقدمة، وتتقدم فكرة “أمريكا أولًا” وعلى وقعها ترتفع وتيرة التيارات الشعبوية داخل الدولة قائدة النظام الدولي.

وفي الحصيلة، يتقدم منطق الحروب، وتتراجع التنمية عالميًا، ويهتز الأمن الغذائي والأمن المائي والأمن الشخصي للبشر، تتصحر الأرض، وتنفذ الثروات وتتلوث الطبيعة، ويقبع البشر تحت تهديد الأسلحة النووية، ونتائج الاحتباس الحراري وثقب الأوزون. ويزاد تركّز الثروة في أيادي أوليغارشية عالمية، وتسقط شعوب بأكملها تحت خط الفقر، ومع فقرها يتفاقم جهلها وغربتها عن الحياة المعاصرة، في الوقت الذي تعربد فيه لوبيات المال والسلاح والنفط وتزدهر، على حساب قضايا الحرية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان. وعلى التوازي مع ذلك، تتحول أغلبية البشر إلى وقود مجاني للنزعات الإمبراطورية المدمرة تحت يافطة ضرورة “بناء عالم متعدد الأقطاب”.

لقد جربت البشرية عالم القطبية الثنائية في الحرب الباردة، فلم تحصد إلا الخيبات والحروب والعقائد المتحجرة والشعارات الفارغة، وجربت نظام القطبية الواحدة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، فلم تكن الخيبات والانكسارات والحروب وانتهاك حقوق البشر، أقل مما كانت عليه في مرحلة الحرب الباردة.

لذا، فإن أهم تحد يواجه البشرية اليوم، هو تلك الأيديولوجيات والحركات والتيارات واللوبيات ومراكز القوى و”الدول” الإمبراطورية، التي تحاول إعادة البشر، موضوعيًا، إلى تاريخهم الحيواني والهمجي الذي ما يزال راسخًا في بعض ثنايا الحياة المعاصرة، حيث يقدر المتخصصون بعلوم السلالات البشرية، أن عمر الإنسان على الأرض يعود إلى حوالي مليوني سنة، بينما يعود عمر الإنسان العاقل إلى حوالي عشرة آلاف سنة، فيما تاريخ البشرية المدني يقدر بمئات السنين فقط، وهو مرتبط بنشوء الحداثة في أوروبا وبالثورات التي غيرت رؤى البشر وتصوراتهم وعلاقاتهم وطريقة حياتهم ومستوى معيشتهم، وبالتالي نقلتهم من نمط مجتمعي تقليدي إلى نمط مجتمعي حديث. ومن هذه الثورات: الثورة الكسمولوجية التي دشنها كوبرنيك بتغيير رؤية البشر الدينية التقليدية للنظام الكوني، وإزاحته لمفهوم مركزية الأرض، والثورة الصناعية المستمرة منذ قرون والتي آلت إلى الثورة العلمية-التكنولوجية وثورة الاتصالات والثورات الرقمية المختلفة.

ويقع في متن هذه الثورات الكبرى، ثورة “نشوء المجتمع المدني”، كأهم الثورات التي أنتجتها الحداثة الغربية. فبحسب إلياس مرقص أيضًا، “يمكن اختصار التصور الجدلي للتاريخ في ما يلي: ثورة أولى هي ظهور الإنسان-النوع انتهاء إلى (الثورة النيوليتية) أي الزراعية التي قامت في القرى الأولى في بلاد الشام، وثورة منشودة وراهنة، (لم تقم بعد)، تختزل (وأحيانًا تبتذل) في الثورة (الاشتراكية) أو (الشيوعية) مع فيض من تمييزات وتنظيرات باتت أدلجات بعيدة عن الواقع. وليس بين الثورتين من مهمة إيجابية للتاريخ سوى إنجاب (المجتمع المدني). وهو المطلوب تجاوزه اليوم (أو تحقيقه وتجاوزه)، بحسب الحالات. علينا نحن العرب تحقيقه وتجاوزه.

أما القفز من فوقه، أو التحول عنه نحو أشباح الماضي المرفوعة إلى هوية وذات وأصالة الخ. فحكاية واقعية قبيحة وقاتلة”[2].

على هذا المسار التاريخي الطويل، افتتح كوبرنيك الثورة الكسمولوجية التي غيرت زاوية رؤية البشر إلى الكون والطبيعة والإنسان، وتبعتها الثورة العلمية التي حررت العلم من اللاهوت وسيطرة رجال الكنيسة، بالتظافر مع ثورة الاصلاح الديني، التي قادها مارتن لوثر، وبذلك تم وضع الأسس اللازمة لانبثاق الثورة الصناعية، والثورة التكنولوجية لاحقًا، التي ما زالت تتناسل جيلًا تكنولوجيًّا بعد جيل، نشأت وتطورت ثورتان كبيرتان: الأولى،ثورة الاجتماع البشري الحديث”، والثانية “ظهور المجتمع المدني” و”المجتمع السياسي”، اللذين تبلورا بصيغة المجتمع البورجوازي المعاصر والدولة الوطنية المعاصرة. وهاتان الثورتان من نتاج تطور أشكال الإنتاج وتطور “المعرفة-العمل” و”العمل- المعرفة”، مع كل ما يلزم هذا التطور من علاقات اجتماعية واقتصادية وثقافية، ومؤسسات وقوانين وتشريعات وصولًا إلى مؤسسة الدولة. مع الثورة البورجوازية ومنطوياتها ومضامينها الحديثة، تبلورت بوضوح سيرورة “إنتاج المجتمع للمجتمع”، خاصة في الدول البورجوزية الغربية، التي كانت مركز هذه الثورات، وشهدت تلك الدول ظهور ذروتين تاريخيتين هما عصر النهضة وعصر التنوير، وهاتان الذروتان شكلتا السياق التاريخي اللازم ثقافيًا ومعرفيًا لانطلاق الثورات العلمية والصناعية والتكنولوجية.

نعم هنا يجب تنضيد “ثورة المجتمع المدني”، بوصفها مفصلًا حاسمًا بين تاريخ البشرية الهمجي، وبين “الثورة المطلوبة والراهنة” التي ينتظرها النوع الإنساني قاطبة، لتحقيق مستويات أكبر من العدالة والمساواة والحرية، بخاصة بعد فشل “الثورات” التي سُميت اشتراكية في أكثر من بلد في العالم وإفصاحها عن توحش وهمجية ونكوص إلى ما قبل التاريخ المدني للبشر، إذ يمكن القول إن هذه “الثورات” التي كان يسميها ياسين الحافظ “تأخراكيات”، إضافة لتيارات العقائد الدينية والقومية والأيديولوجية، المتحالفة مع مراكز احتكار الثروات والسلطات والجيوش والأسلحة وأجهزة الاستخبارات، وكل ما ينتمي إلى مصفوفة الحرب والاحتكار والهيمنة، ينتمي إلى ماضي البشرية ما قبل المدني.

وفق هذا التنضيد يكون المجتمع المدني “نهاية تقدم” بوصفه جزءًا من ثورات كبرى حصلت في تاريخ الإنسان العاقل، وهو في الوقت نفسه تأسيس لازم ” لتقدم آخر” مطلوب وراهن، في ظل تنامي استلابات الإنسان وتهديد شروط وجوده الطبيعية والاجتماعية والاقتصادية.

والثورة الكبرى التي تنتظرها البشرية، والتي يقع في مركزها، الانتقال من “المجتمع المدني” إلى “المجتمع المؤنسن”. أو تحقيق “المجتمع المدني” والانتقال منه إلى المجتمع “المؤنسن”، تقبع الحاجة التاريخية لنفي عوامل الحروب، المؤسسة على المصالح القومية والدينية والطبقية وعلى أي مصلحة خاصة أخرى، وتقع ضرورة تسوية الصراعات والتناقضات القائمة في “المجتمع المدني” سلميًا وديمقراطيًا وقانونيًا، وتقليص التفاوت وعدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية، والانتصار لقيم العدالة والحرية والإنسية.

وكذلك، يفرض علينا هذا التنضيد للمجتمع المدني، تخطي السجالات التقليدية حول مفهوم المجتمع المدني، مثل اختزاله بالجمعيات والمنظمات المستقلة عن السلطات. أو بسجال “هل يشمل الأحزاب السياسية والتيارات الفكرية أم أنه يقتصر على تلك الجمعيات المستقلة عن السياسة؟” أو هل يجوز أن تكون تلك المنظمات مدعومة من الخارج أم معتمدة على تمويلها الذاتي فقط؟ أو ما هو الخط الفاصل بين ما هو سياسي وما هو خدمي أو اجتماعي في عمل تلك المنظمات؟ وأيضًا ما هي الحدود الفاصلة بين ما هو أهلي وما هو مدني؟ إلى غير ذلك من السجالات التي لم تقدم ولم تؤخر شيئًا.

وهذا التخطي للسجالات التقليدية أولًا، والنظر إلى قضية المجتمع المدني من منظور إنسي ثانيًا، والنظر إليه كثورة في سياق الثورات الكبرى التي تحققت في كثير من بلدان العالم المتقدم ومطلوب تجاوزها، ولم تتحقق في المجتمعات المتأخرة، فتقف تلك المجتمعات أمام مهمات تحقيقها وتجاوزها ثالثًا، والنظر إليه على أنه مدخل تاريخي كبير ولازم للانتقال الممكن إلى ” المجتمع المؤنسن” رابعًا. وأن لا حلول ممكنة لتقليص اغتراب الإنسان واستلابه، إلا بجعل أفق المجتمع المدني أفقًا إنسانيًا خامسًا.

استنادًا إلى ما سبق، فإن مقاربة مفهوم المجتمع المدني وتجلياته وواقعه الحالي وممكناته المستقبلية، تدعونا للنظر في المداخل التالية له:

أولًا: المجتمع المدني بوصفه قضية عالمية

المجتمع المدني مفهومًا ونظرية وواقعًا هو قضية عالمية، وليس شأنًا محليًا أوروبيًا أو غير أوروبي، إنه مرحلة مهمة من التطور البشري، وتحققه في المجتمعات المتقدمة هو دليل على إمكانية تحققه في أي مجتمع آخر انطلاقًا من وحدة التاريخ البشري. كما لم يتحقق في المجتمعات التي تحقق فيها بفعل “النضال” السياسي أو غير السياسي، أو بفعل الإرادات الذاتية لنخبٍ أو طلائعَ ثورية، بل تحقق بفعل سيرورة موضوعية طويلة ومعقدة مضمونها انتصار التمدن على الحياة الريفية وانتصار الذهنية المدنية على الذهنيتين الفلاحية والإقطاعية، والانتقال الجذري من النمط التقليدي في الحياة إلى النمط المعاصر لها. كذلك ارتبط أساسًا بنشوء سيرورة الحداثة ونموها، فلا يمكن الحديث عن مجتمع مدني من دون الحديث عن علاقته العضوية بالحداثة. وهذه العلاقة العضوية مع الحداثة ومسائلها التي هي مسائل كونية وإنسانية عامة، لا تتعلق بهذا العرق أو تلك القومية، وهذا يفسر ظاهرة تكون ” جنين المجتمع المدني” في البلدان المتأخرة لدى احتكاكها مع الغرب فقط، في سياق ما عرف بـ “صدمة الحداثة”.

في سورية على سبيل المثال لم يكن ممكنًا نشوء “جنين المجتمع المدني” في الحقبتين الكولونيالية والاستقلالية لولا “التأثيرات الليبرالية”، على تواضعها، التي أحدثتها تلك الصدمة في الحياة السورية التقليدية، مثلما ارتبط تصفية “جنين المجتمع المدني” لاحقًا بعد الانقلابات الثورية ومعه تصفية “جنين الدولة الوطنية”، مع تصفية تلك “التأثيرات الليبرالية” التي “تسللت إلى مجتمعاتنا على ظهور الدساتير الكولونيالية” كما كان يقول ياسين الحافظ.

عندما تراجعت سيرورة الحداثة عالميًا، تراجعت معها سيرورة نمو الحياة المدنية وبالتالي نشوء ترسيمات ونماذج لمجتمعات مدنية في المجتمعات المتأخرة.

وعوامل هذا التراجع للسيرورتين عديدة، سأذكر منها الأهم:

1- لم يصل النظام الرأسمالي العالمي إلى مستوى “تجنيس” العالم أي (جعله متجانسًا)، كما كان يحلم ويتوقع ماركس، بأن الرأسمالية ستقوم بتجنيس العالم، صحيح أن الرأسمالية وحَّدت العالم لكن هذا التوحيد ظل توحيدًا تناقضيًا، فمن جهة غدا موحدًا أمام حركة الأموال والرساميل والبضائع والمواد والمنتجات الاستهلاكية والخدمية…إلخ. لكن ذلك لم يترافق مع وحدة على صعيد العلاقات الثقافية والاجتماعية ونمط الحياة، فاستمر نمط الحياة التقليدي مهيمنًا على سوسيولوجيا البلدان المتأخرة، على الرغم من صدمة الحداثة، التي جعلتها تستفيق استفاقة ذعر. لا بل أكثر من هذا، فالبراعم الليبرالية التي أحدثها الغرب في البنية التقليدية للمجتمعات المتأخرة، لم تمنع الغرب ذاته من الاستثمار في تأخر هذه المجتمعات، على قاعدة مصالح الدول القومية، ألم تستثمر أمريكيًّا في الظاهرية الجهادية الإسلامية في أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي، أثناء المواجهة مع الاتحاد السوفيتي أثناء الحرب الباردة؟ كذلك، ألم يدعم الغرب عودة الخميني إلى إيران نهاية السبعينيات ولم يدعم بقاء الشاه؟ حيث كان هذان الموقفان للدول الغربية من أبرز العوامل التي أطلقت ما عرف بظاهرة “الصحوة الإسلامية” في المنطقة العربية، التي ساهمت إسهامًا محوريًا في تدمير مقومات “المجتمع المدني” في منطقتنا ومرتكزاته.

2- جذور نشوء المجتمع المدني الحديث تمتد إلى عصري النهضة والتنوير الأوروبيين، بوصفهما ذروتين في نمو الكلي، أي ذروتين في نمو العمومية، بعكس أوروبا الوضعية في القرن التاسع عشر، التي تقلصت عن أوروبا الليبرالية، أوروبا القرنين السابع عشر والثامن عشر متقدمة فكريًا وتنويريًا وأخلاقيًا وإنسانيًا على أوروبا الوضعية. المجتمعات المتأخرة وفي مقدمتها العربية عرفت أوروبا الوضعية وأوروبا المستعمرة، ولم تر أوروبا الليبرالية، وهذا أحدث أثرًا كبيرًا في تشويه تبنّي تلك المجتمعات للحداثة ومسائلها، ومنها بالطبع مسألة المجتمع المدني.

يقول إلياس مرقص أيضًا: ” المناخ الذي عاش ويعيش فيه الفكر العربي هو المذهب الإيجابي أو الوضعي، مذهب أوغست كونت وآخرين. أو لنقل: هو المناخ الوضعوي والعلموي…. أوروبا المتقدمة، أوروبا الصناعة والتقنيات والعلوم، بهرت أنظار رجال عصر النهضة العرب. هذا بوجه عام، وسواء أرادوا الحديث وحده أو الحديث مع القديم. سواء أرادوا العلم الأوروبي خالصًا أو أرادوه مع (التراث). فقلما عادوا إلى ما قبل أوروبا القرن التاسع عشر، وقلما تساءلوا عن أساسات هذا التقدم. لقد ركضوا إلى النتائج، هذه النتائج ليس فيها فلسفة. الفلسفة، الميتافيزياء، اللاهوت الخ، هذا من الماضي الذي خلّفته أوروبا وراءها. وعلى العرب أن ينتقلوا إلى اللحظة الايجابية، أي لحظة أوغست كونت”[3].

3– بعد أوروبا الوضعية التي قلّصت أوروبا الليبرالية، تبعتها المرحلة الثورية عالميًا، التي دشنتها البلشفية وانتصارها في روسيا عام 1917، والتي حذا حذوها أكثر من نصف البشرية، لقد قطعت اللينينية مسار الحداثة العالمي، بجرها أكثر من نصف البشرية نحو أطروحة “حرق المراحل” هذه الأطروحة التي طالما صفق لها اليسار العالمي، وبالطبع من ضمن هذا اليسار، القوميون واليساريون العرب على اختلاف تياراتهم.

كانت استراتيجية “حرق المراحل”، تعني إسقاط مضامين الثورة البورجوازية الغربية ومهماتها، ومنها قضية المجتمع المدني وملحقاته بوصفه منتجًا بورجوازيًا غربيًا “لعينًا”، وبدلًا عنه، تتولى “الطليعة الثورية” تنفيذ مهمات الانتقال إلى الاشتراكية مباشرة من دون تحقيق المهمات البورجوازية، التي أصبحت معيقة لعملية التحول الاشتراكي المظفرة.

وأيضًا كانت سياسة “حرق المراحل” تعني تأويل ماركس تأويلًا استبداديًا، ماركس الذي هاجر إلى روسيا الفلاحية ونصف الإقطاعية، ولم يحمل معه ديكارت وسبينوزا وفولتير ومونتسكيو وجان جاك رسو، هاجر إلى روسيا من دون عمقه الليبرالي، فلم يأخذوا منه إلا أفكارًا مثل: زوال الدولة، الصراع الطبقي محرك التاريخ، حتمية انتصار البروليتاريا…الخ. وعندما وفدت الأفكار الماركسية والقومية واليسارية إلى بلاد العرب وفدت من خلال الستالينية والشوفينية والنازية وهذه المنظومات هي من ماهية واحدة معادية للحداثة وللمدنية وللإنسان.

من دون فهم هذه القطيعة التي أحدثتها اللينينية في مسار الحداثة العالمي، لا يمكن فهم الانقلاب السهل الذي تم في سورية والعراق وغيرهما على “جنين المجتمع المدني” و”جنين الدولة الوطنية”، لأن البعثيين واليساريين قادوا عملية “التحول الاشتراكي” أو “التطبيق الاشتراكي” في مواجهة الحداثة والمدنية والقيم المعاصرة، في حقبة عالمية كان شعارها الميمون: “سمة العصر” أي “عصر الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية”.

وبالتالي، فإن جميع التجارب “الثورية”، التي حدثت في العالم القرنَ المنصرم، واستندت إلى تلك المصفوفة “النضالية” وملاحقها النظرية والعملية، من التجربة اللينينية- الستالينية، في الاتحاد السوفياتي السابق، مرورًا بالتجارب الاشتراكية في دول أوروبا الشرقية، وصولًا إلى تجارب الاشتراكيات المتأخرة في العالم العربي، كانت كلها خارج خط التقدم، وألحقت أضرارًا كبيرة بمستويات بالمعرفة والعمل والثقافة والاجتماع والاقتصاد والتواصل العالمي والإنساني، وما الطغمُ “المافيوية” التي خرجت من أرحام تلك التجارب، وما زالت تتحكم بأكثر من بلد في العالم، وتشكل تهديدًا للحياة المدنية والإنسانية، إلا خيرُ الأدلة على مساراتها الانحدارية.

4– إلى جانب أيديولوجيا “حرق المراحل”، التي عمل بموجبها القوميون واليساريون العرب وغير العرب، عمل هؤلاء جميعًا، أيضًا، على هدي شعار ” فك الارتباط ” بالنظام الرأسمالي العالمي، والتركيز على تجاوز عالم الأطراف المتأخر للمراكز الرأسمالية العالمية، من طريق الثورة الاشتراكية، وفقًا لشعار “سمة العصر الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية”. وبالتالي، قادت سياسات فك الارتباط بالرأسمالية إلى فك الارتباط ليس مع الرأسمالية ومصالحها في ما كان يُعرف ” بالعالم الثالث” فبحسب، بل إلى فك الارتباط مع الحداثة والتمدن، وعدم إدراك أهمية ثورة “المجتمع المدني” في مسار التقدم البشري، حيث كان الحاضنة المجتمعية لكل القفزات التي حققتها الشعوب المتقدمة علمياُ وثقافيًا وتكنولوجيًا وسياسيًا.

5– ظهور الاتجاه النقدي للحداثة بعد حربين عالميتين مدمرتين، واستناده إلى نقد مركزية الإنسان، ومركزية العقل، ومركزية الذات، وكل المركزيات الأخرى، ومن ثَمَّ تطور هذا الاتجاه النقدي إلى تيارات ما بعد الحداثة، التي اهتمت بالشؤون المحلية الأوروبية، وضمُر فيها البعد العمومي الإنساني، وضمُر فيها الاهتمام بالشأن الكوني ومصائر الإنسان ككائن كلي. هذا الاتجاه ما بعد الحداثي في الغرب، عزّز موضوعيا وذاتيًا، اتجاهات ما قبل الحداثة في المجتمعات المتأخرة المعبرة عن مسائل الهويّة القومية والدينية والخصوصيات المحلية، فكانت المعادل الموضوعي لتيارات ما بعد الحداثة غربيًا.

نعم، لقد كانت ثنائية ما بعد الحداثة/ ما قبل الحداثة، تتضافر موضوعيًا، ومرة أخرى، معها يصبح المستهدف التراث الليبرالي وقضاياه ومسائله، وبالطبع منها قضية المجتمع المدني وأفقه الإنساني. لذا، فإن نقد مركزية الإنسان في الغرب يساوي من حيث النتيجة استنفاذ الإنسان في بعد ديني أو عرقي في نظر تيارات الهويّة ما قبل الحداثية.

وعليه، فإن النظر لقضية المجتمع المدني كقضية إنسانية عمومية، تحققت في التاريخ ولن تتوقف عن النمو والتقدم، وهي لا تخص شعبًا بعينه أو أمة بعينها، إنما هو سيرورة موضوعية وثورة كبرى على سلم التاريخ، وإنه الإطار المجتمعي الأرقى الذي ابتكرته البشرية لحل مشكلات الإنسان المعاصر سلميًا من دون اللجوء للعنف وللحروب.

وكما أن المجتمع المدني واجب في كل دولة على حدة وكل مجتمع، فهو واجب على المستوى العالمي أيضًا، لأن الطابع الكوني للإشكاليات المعاصرة، يقتضي مواجهتها بمجهود وتحالف عالميين قوامه حركات مدنية ديمقراطية خارج التصنيفات الهووية الكلاسيكية.

على هذا الأساس، فإن الإسرائيليين الذين يواجهون تحالف نتنياهو مع الأحزاب الدينية، أي الذين يواجهون فكرة “الدولة” الدينية في إسرائيل هم على نفس الضفة مع الإيرانيين الذين يواجهون “الدولة” الدينية في إيران ومع الفلسطينيين الذين يواجهون سلطة حماس الدينية، وعلى نفس الضفة مع الروس الذين يواجهون نزوع بوتين الإمبراطوري، ومع الأوروبيين الذي يواجهون الحركات والأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا.. الخ. في ذات الوقت الذي تقف فيه كل الطغم الدينية والإمبراطورية والحركات الظلامية واليمينية في العالم على الضفة المواجهة. لهذا يتوقف تقدم المجتمع المدني عالميًا نحو أفقه الإنساني، على تعميق علاقات الضفة الأولى وتوسيعها، وطرد الانقسامات والصراعات الوهمية المدمرة لمستقبل الجماعة الإنسانية، كالصراعات: إسرائيلي/ عربي، يهودي/إسلامي، شيعي/سني، غرب/شرق، مركز/أطراف، وكل صراعات الماضي التي قضت على مستقبل أجيال وأجيال غابرة، واستلبتهم استلابًا مطلقًا. وكي لا يظل الأموات يمسكون بتلابيب الأحياء، ويظل الأحياء يفكرون بعقول الأموات، وكي لا تظل أحزاب وحركات الحاضر وحركاته هي امتدادًا لحروب الماضي وضغائنه، فإن إحدى أهم مهمات المجتمع المدني على المستوى العالمي، هي الخروج من انقسامات الماضي القريب والبعيد، والتأسيس الجذري لانقسام ذي معنى على المستوى الإنساني بين حركات مدنية ديمقراطية تنشد السلم والتنمية والحرية والعدالة والمساواة في العالم، ونفي كل شروط استلاب البشر، ونفي أسباب الحروب وتدمير الطبيعة، وبين قوى احتكار الثروة والدين والقومية والأيديولوجية الحصرية. وهذا يضع في الاعتبار إعادة بناء الحداثة بشكل عام بوصفها “مشروعًا لم يكتمل بعد” بتعبيرات الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، ولكون الحداثة هي الإطار التاريخي الاجتماعي- الاقتصادي، الثقافي –السياسي والأخلاقي الذي نشأ فيه المجتمع المدني وتطور، مثلما أن الوقوف في وجه الحداثة: يعني إعادة الاعتبار للبنى والتشكيلات ما قبل المدنية، وإعادة الاعتبار للمجتمع البطريركي ذي الترتيب الهرمي القائم على الامتيازات وعلى الغلبة وعلى مكاسرة الإرادات.

كما أن أهمية المجتمع المدني على المستوى العالمي لا تأتي من ارتباطه بالحداثة والتقدم فقط، بل بكونه الإطار الممكن كونيًا لنشوء نخبة عالمية وازنة قادرة على التأثير في الرأي العام العالمي فيما يتعلق بقضايا كوكبية، كالحروب والنزاعات وتلوث البيئة والتصحر والانفجار الديموغرافي والتطرف الديني والقومي…إلخ. وكذلك تطوير سياسات على مستوى العالم لبناء مؤسسات دولية فاعلة قادرة على فرض القوانين الدولية في كل أنحاء المعمورة، وغير تابعة لمراكز القوى العالمية، إنما تكون محكومة فقط بعنصر العمومية الإنساني، وبالقانون الدولي، هذا أحد الخيارات الممكنة في سياق صعود حركة مدنية ديمقراطية كونية، في إطار مجتمع مدني عالمي، يتجاوز أوهام الخصوصيات المحلية وأوهام “الأمم العظيمة” التي لا تموت لأنها صاحبة “رسالة خالدة”، وأوهام التفوق العرقي، وأحلام التمدد الإمبراطوري.

ثانيًا: مبادئ نظرية تأسيسية في سيرورة تشكل المجتمع المدني

المجتمع المدني عصيٌّ عن التنميط في براديم محدد، وترسيمة نظرية صرفة، فهو تحقق في أغلبية البلدان المتقدمة في العالم، من خلال انتقال تلك المجتمعات عبر مسار تاريخي طويل، من الأزمنة الوسطوية إلى الأزمنة الحديثة، حيث لم يكن انتقالًا كرونولوجيًا أو انسيابيًا مع الزمن، بل كان انتقالًا من نمط سوسيولوجي تقليدي وسطوي إلى نمط سوسيولوجي حديث، قائم على مبدأ الاجتماع- المدني، والذي يتسم بسمات مغايرة جذريًا لسمات المجتمع البطريركي، من أبرزها: أنه وليد الثورات العلمية والتكنولوجية والثورة الديمقراطية العلمانية، وله جذور ليبرالية راسخة، ومحكوم بالعلاقات الاجتماعية الأفقية التي أفرزتها عملية الإنتاج وتقسيم العمل الاجتماعي واستدعتها، وفيه الأفراد أحرارًا ومستقلين (ذكورًا وأناثًا)، تدفعهم الروابط والعلاقات، التي تتمخض عنها عملية الإنتاج الاجتماعي المادي والروحي، إلى إقامة تشكيلات وتنظيمات وجمعيات حرة وطوعية، والانضواء في نقابات مهنية وأحزاب سياسية، وتيارات متعددة فكريًا وسياسيًا. وهو أساسًا مجتمع التعدد والاختلاف ومجتمع “وحدة الاختلاف” في الوقت نفسه، وهذا عنوان كتاب للأستاذ جاد الكريم الجباعي “المجتمع المدني هوية الاختلاف”.

إن المتشابهين لا يصنعون وحدة، وحدة المتشابهين، التي تقوم على التجانس، هي وحدة هشة سرعان ما ينفرط عقدها عند أي اختبار حقيقي، وخير دليل على ذلك الأحزاب الأيديولوجية التي كثيرًا ما تغنت بالطبيعة الصخرية لوحدتها القائمة على المبادئ العقائدية وعلى الروح النضالية، وهي رمز للتجانس وطرد المختلفين، وعلى الرغم من ذلك تعرضت للانشقاقات بشكل دائم ومستمر وصولًا إلى الاقتتال بين الأجنحة المنشقة وغير المنشقة.

ومن ميزات المجتمع المدني المهمة: أنه يضع قضايا مثل الفردية، الحرية، المساواة، العدالة، السلطة، المعارضة، الدين، الملكية الخاصة، الأمة، الدولة، الشعب، الوطن، الوطنية، المواطن، في سياق تاريخي من النمو والترابط والجدل واختلاف الدلالات جذريًا عما هو متعارف عليه في التراثين اليساري والقومي- الاشتراكي وبعكس ما هو متواضع عليه في المجتمعات التقليدية أو الأهلية ذات البنية البطريركية. ومن أجل تسليط الضوء على العلاقات القائمة بين هذه المفاهيم في متن المجتمع المدني وبنيته، سمحت لنفسي أن أقتبس من مخطوط كتاب موجود لدي، لم ينشر بعد، للمفكر السوري الأستاذ جاد الكريم الجباعي، تحت عنوان المجتمع المدني اليوم[4].

1- توطئة عن النظريات الكلاسيكية حول المجتمع المدني

يمكن التطرق إلى أربع نظريات مهمة حول المجتمع المدني في التاريخ الأوروبي الحديث، منذ أن وضع توماس هوبز عام 1651 كتابه “اللوياثان”، وأكد فيه الطابع الدنيوي والصنعي للدولة، وانبثاقه من المجتمع المدني:

أ- نظرية فلاسفة العقد الاجتماعي، وفي مقدمهم جان جاك رسو، الذين افترضوا بناء التعاقد المدني على الطبيعة البشرية الخيرة، بعكس ما ذهب إليه هوبز حول رؤيته أن الإنسان هو ذئب الإنسان، إذ تفترض هذه الذئبية وجود سلطة العاهل المطلقة، التي لا حدود لحضورها في حياة البشر. فيما قاد افتراض الوجود القبلي الخيّر للطبيعة البشرية، من قبل فلاسفة العقد الاجتماعي، إلى تصور بناء الدولة من طريق التعاقد على طريقة الشراكات الكبرى، التي يتنازل فيها الجميع ويكسب فيها الجميع، ولا سيما في موضوع الحرية، فالعقد الاجتماعي يتنازل فيه الإنسان عن جزء من حريته الذاتية في سبيل الحرية الموضوعية التي يعبر عنها القانون العام.

ب– الرؤية الكانطية للمجتمع المدني (I724 –I804): المجتمع المدني هو مجتمع الغايات، وسعي البشر إلى تحقيق غاياتهم، تتأسس الرؤية الكانطية للمجتمع المدني، بشكل رئيسي، على فلسفته الأخلاقية القائمة على الواجب الأخلاقي، فالحياة الأخلاقية يمكن أن تنمو فقط في مجتمع مدني قائم على مبادئ الحق والخير والجمال، لأنها هذه القيم مغروزة في طبيعة البشر، وأن الإنسان ككائن أخلاقي لا يحتاج إلى سلطة خارجية أو وصاية خارجية لتعلمه الواجب الأخلاقي، (الإنسان كائن أخلاقي، لا يحتاج إلى علم أو فلسفة لكي يصير فاضلًا أو حكيمًا).

بهذا المعنى فإن المجتمع المدني وفقًا للرؤية الكانطية، هو مجتمع الغايات الأخلاقية المشتركة، حيث يقوم كل فرد فيه بالتوفيق بين غاياته الذاتية وبين المبادئ الأخلاقية العامة. وتحيل هذه الرؤية على اليوتوبيا في المجتمع أكثر من اهتمامها بالتعارضات الاجتماعية وما ينشأ عنها في الثقافة والسياسة.

ج– التصور الهيغلي عن المجتمع المدني (1770-1881): اعتبر هيغل المجتمع المدني ميدانَ تحقيق الرغبات وتلبية حاجات الإنسان المختلفة، بخلاف كانط الذي بنى رؤيته السياسية على المبادئ الأخلاقية، بنى هيغل رؤيته للمجتمع المدني على الاحتياج المتبادل بين أفراد وجماعات وفئات مختلفة، واعتبر المجتمع المدني حلقة وسيطة ما بين الأسرة الطبيعية والدولة التي تمثل العقل الكلي.

د- المجتمع المدني في الرؤية الماركسية: أقام ماركس تطابقًا ما بين حدود المجتمع المدني وحدود المجتمع البورجوازي المعاصر، وهو المجتمع القائم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وعلى التنافس والاحتياج والتبادل، تبادل السلع والمنتجات والخدمات، كذلك هو ميدان الصراعات ولا سيما الصراع الطبقي وميدان التسويات أيضًا، وهو المجتمع الذي تتمظهر فيه العلاقات السلعية وتنوب العلاقات بين السلع عن العلاقات بين البشر، ويصبح الاغتراب في السلعة والاغتراب عامة هو إحدى سمات هذا المجتمع. لذا عارض ماركس المجتمع المدني القائم بصراعاته المختلفة وانقساماته الخطيرة واستلاباته الواقعية، بفكرة “المجتمع المؤنسن”، كما عارض الدولة الديمقراطية الناتجة من المجتمع المدني بمفهوم الدولة المادية.

في كتاب “المجتمع المدني اليوم”، يقترح الأستاذ جاد الكريم الجباعي علينا: مبدأً مؤسِّسًا للمجتمع المدني، هو “مبدأ تحسن الإنسان الذاتي” المبني على إمكانية تحسن البشر الدائم وتحسين واقعهم مع عملية تحسنهم الذاتية.

لدى التفكير في ما ذهب إليه فلاسفة النهضة والتنوير الأوروبيون عمومًا وفلاسفة العقد الاجتماعي منهم على وجه الخصوص، يبدو لنا أنه من قبيل المغامرة تأسيس نظرية المجتمع المدني على افتراض خيرية الطبيعة البشرية أو لا خيريتها، (عدم خيريتها)، إذ الطبيعة البشرية لا تستنفذ، ولا تسبر أغوارها، ولا يجوز التأسيس على افتراض، أن البناء ينهار كله إذا لم تثبت صحة إنشائه. فلعل تأسيس نظرية المجتمع المدني على تلبية الحاجات (هيغل) وتحقيق الغايات (كنت)، هو تأسيسها على أساس هش أيضًا، لأن تلبية الحاجات والسعي إلى إشباعها قسمة مشتركة بين الإنسان والحيوان، بل بين الإنسان وسائر الكائنات الحية، لذلك لا نرى في مبدأ تلبية الحاجات أساسًا خاصًا بالاجتماع البشري، فضلًا عن الاجتماع المدني- السياسي والأخلاقي. وإلى ذلك فإن الغايات التي يسعى الأفراد إلى تحقيقها مختلفة ومتباينة إلى أبعد الحدود، فلا يكفي مبدأ تحقيق الغايات ” المعترف به والواجب احترامه” وحده لتأسيس النظرية، فمعايير الاعتراف والاحترام يمكن أن تتغير، وثمة دومًا غايات لا يُعترف بها، ولا تحظى بالاحترام، ثم تصير مقبولة معترفًا بها. إن هشاشة الأسس، التي بنيت عليها نظريات المجتمع المدني الكلاسيكية، تكمن في أمرين أساسيين أولهما أنها بنيت على افتراضات، يمكن نقضها، والثاني أن سيرورة الانتقال من حالة الطبيعة إلى الحالة المدنية، أو من حالة الفوضى والاضطراب إلى حالة النظام والسلم، ومن حالة اللاعقل إلى حالة العقل، تجعل من الافتراضات الأولية المشار إليها غير ذات معنى، لأن عملية الانتقال قد تحققت بالفعل، بغض النظر عن تلك الافتراضات. هذه السيرورة ليست ناتجة من خيرية الطبيعة البشرية أو لا خيريتها، ولا تستنفذ في تلبية الحاجات أو تحقيق الغايات.

لذلك اقترحنا مبدًا أوليًا عامًا وبسيطًا، وخاصًا بالإنسان، في الوقت نفسه، هو مبدأ التحسن الذاتي، الناتج من القدرة على تحسين العالم وتغيير أشكال الطبيعة، وهذان، أي التحسن الذاتي وتحسين العالم، أمران متلازمان كوجهي العملة، لا ينفك أحدهما عن الآخر”[5].

نعم في المجتمع المدني الحديث، لا تدافع فيه البشر عن عقائد وهويّات وماضويات، بل تدافع عن حقوقها في حياة حرة كريمة، وتدافع عن مستوى حياتها الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والصحية، وتدافع عن تقدم ومنافعها المشتركة ونموها، لذا يصلح “مبدأ التحسن الذاتي” وتحسن البيئة المحيطة معه، أن يكوِّنا مبدًا عموميًا تبنى عليه أطروحة المجتمع المدني.

“ما يجعل تاريخ الاجتماع البشري لا يتوقف هو ملكة التحسن الذاتي، التي يتوفر عليها جميع أفراد النوع البشري بالتساوي، وميل جميع أفراد النوع إلى تحسين عالمهم وتحسين سويته، ومن ثَمَّ، تكون إمكانات التحسن الذاتي مشروطة بإمكانات تحسين العالم: تحسين البيئة وتحسين المجتمع، وتحسين الدولة، تحسين الحياة الاجتماعية، المادية والروحية، تحسين حياة الأفراد وحياة الجماعات، والارتقاء بها إلى حياة إنسانية لائقة أكثر فأكثر. ملكة التحسن الذاتي، التي يمتاز بها الإنسان من سائر الكائنات الحية، والتي يمكن إدراك مظاهرها لدى أي فرد، هي محرك التاريخ البشري، إذا جاز التعبير، وإن المجتمع المدني، اليوم، هو لحظة في سيرورة التحسن الذاتي وتحسين العالم، التي لا تتوقف[6].

2-المجتمع المدني والتعارضات الاجتماعية

من أهم ميزات المجتمع المدني المبني على “وحدة الاختلاف”، أنه يطرد الحرب الداخلية خارج أسواره، وذلك لأن التعارضات الاجتماعية في المجتمع المدني لا تنتقل مباشرة وبشكل أتوماتيكي إلى الحيّز السياسي، أو إلى المجال العام- كما هو الحال في التجربتين اللبنانية والعراقية، حيث تنتقل الانقسامات الطائفية والمذهبية والإثنية إلى مجال “الدولة”، بالتالي تصبح “الدولة” دولة محاصة طائفية ومذهبية، وليست دولة-الأمة، وسرعان ما تنفجر الحرب الأهلية عندما ” تتخربط” التوازنات الهشة والقلقة بين الطوائف والمذاهب نتيجة أية عوامل داخلية أو خارجية- في المجتمع المدني تنتقل التعارضات الاجتماعية إلى المجال السياسي موسّطة بالثقافة أولًا، وتضمن السياسة بصفتها العمومية حل هذه التعارضات في الإطار السلمي- الديمقراطي ثانيًا، إضافة إلى عمق العلاقات الاجتماعية الأفقية وكثافتها القائمة على المصالح والمنافع المتبادلة بين الأفراد المختلفين والجماعات والفئات الاجتماعية المختلفة، والملازمة لأنماط الإنتاج المادي والرمزي، وتعبيراتها التنظيمية مثل النقابات والاتحادات والجمعيات، التي تشكل جميعها صمامات أمان في سحب العنف وطرده وتسوية التعارضات الاجتماعية سلميًا.

“التعارضات الاجتماعية الملازمة للوجود الاجتماعي، تكون، في المستوى الاجتماعي الخالص، تعارضات مباشرة مشحونة بإمكانات العنف، الثقافة تحول هذه التعارضات إلى أنساق فكرية وتمثلات أيديولوجية، وإبداعات فنية وفلسفية، فتحد من إمكانات العنف المحمولة عليها أو المضمنة فيها، وتهيئ إمكان تحويلها إلى تعارضات سياسية، تخلو أو تكاد تخلو من العنف. السياسة هي، التي تترجم التعارضات الاجتماعية إلى منظومات أخلاقية، هي تجريد أخير للبطانة الأخلاقية الملازمة للعلاقات الاجتماعية والتمثيلات الثقافية والتعارضات السياسية. الفارق النوعي بين المستوى الاجتماعي الخالص وبين المستويين الثقافي والسياسي، يكمن في كون التعارضات الاجتماعية تعارضات مباشرة في المستوى الأول، وتعارضات موسّطة أو غير مباشرة في المستويين الثاني والثالث. النظم التسلطية، التي شهدتها بلادنا، والتي تجمع حكم الطغمة إلى حكم العشيرة والطائفة والجماعة الإثنية إلى حكم الحزب الواحد أو الحزب القائد، تلغي الحياة السياسية للشعب وتعطل الحياة الثقافية، وتستثمر في التعارضات الاجتماعية المباشرة بين الأفراد والجماعات، وذلكم هو المعنى الحقيقي لمبدأ (فرق تسد) المبدأ الذي يجعل من السياسة حربًا”[7].

3- مفهوم السياسة في المجتمع المدني

لا يمكن الحديث عن سياسة خارج المجتمع المدني، “السياسة” في “المجتمعات” التي لم تدخل في طور الحداثة بعد، هي مكاسرة إرادات وموازين قوى وغلبة ومغلوبية، لأنها مبنية أساسًا على فكرة الانتصار، و”المجتمعات” التي لا تزال تخوض معارك الانتصار هي خارج تاريخ البشرية المدني وخارج التمدن. درجنا في سورية في الثمانينيات والتسعينيات على ترداد تعبير “نزع السياسة من المجتمع”، وكان ذلك صحيحًا، لأن الفترة الوحيدة في تاريخ سورية التي عرفت فيها السياسة بمعناها الحديث، هي الفترة الكولونيالية والاستقلالية، أي بالضبط، هي الفترة التي تشكل فيها “جنين مجتمع مدني” و”جنين دولة وطنية”.

بعد الانقلاب على “جنين المجتمع المدني” و”جنين الدولة الوطنية”، لم يعد بوسعنا الحديث عن سياسة مرتبطة بالأخلاق، وعن كونها أرقى أشكال الوجود الاجتماعي. بل عدنا إلى منطق الصراع والحسم والمغالبة، وإلى لحظتنا الراهنة ما تزال الأحزاب في سورية أحزابًا غير سياسية، والسلطات سلطات غير سياسية، والمعارضات معارضات غير سياسية.

في كتاب “المجتمع المدني اليوم” يسلط الأستاذ الجباعي النقد على ثلاث رؤى سياسة، لا تستقيم مع روابط الاجتماع المدني وعلاقاته:

أ– الرؤية الماركسية الكلاسيكية التي تعتبر “الصراع الطبقي” محرك التاريخ، وهي رؤية عدمية لا تنتهي إلا بهزيمة أحد الطرفين المتصارعين هزيمة مطلقة ونهائية، البشر لم يتقدموا بالصراع والحروب، بل تقدموا بفعل الاجتماع البشري، (الذي اعتبره إلياس مرقص أكبر ثورة في تاريخ البشرية). الاجتماع- المدني المعاصر هو أرقى تنويعة -حتى الآن- على تاريخ الاجتماع البشري.

ب– مقولة كلازوفيتس الأثيرة على قلوب المشتغلين في الأحزاب الأيديولوجية الدينية واليسارية، وهي: “الحرب امتداد للسياسة بوسائل أخرى”.

مفهوم السياسة في المجتمع المدني متخارج مع مفهوم الحرب، السياسة تنتمي إلى سيرورة التمدن والاجتماع، بينما الحرب تنتمي إلى الهمجية والتوحش.

ج– تصور ميشيل فوكو الذي عكس مقولة كلازوفيتس حيث أصبحت “السياسة هي امتداد للحرب بوسائل أخرى” عند فوكو. وقد ساوى بين السياسة والسلطة، حين عرف السلطة بأنها: “علاقات قوة مبثوثة في الجسد الاجتماعي”.

في المجتمع المدني لا يجوز النظر إلى سلطة الدولة على أنها أداة قمع طبقي، كما في العرف اللينيني الشهير، ولا على أنها أداة حرب على المجتمع، السلطة والمعارضة في المجتمع المدني طرفان في منظومة جدلية واحدة، إذْ لا يمكن الحديث عن وجود معارضة ديمقراطية، من دون وجود سلطة دولة، السلطة تتحول إلى معارضة والمعارضة تتحول إلى سلطة وهكذا دواليك. من دون مجتمع مدني لا وجود لدولة وطنية ولا وجود لسلطة دولة ولا وجود لمعارضة لهذه السلطة، وبالتالي لا وجود للسياسية.

وكما أن سلطة الدولة في المجتمع المدني شرط لازم لنشوء معارضة وطنية ديمقراطية، فهي شرط لازم أيضًا لوجود الحرية وفق جدلية الحرية والضرورة: ” فما دامت العلاقات الاجتماعية والإنسانية وعلاقات الإنتاج تنتج كلًا من الثروة والمعرفة والثقافة والأخلاق، وفق جدل الحرية والضرورة، وتنتج السلطة في الوقت نفسه، فلا يمكن استبعاد جدل الحرية والضرورة، أو الضرورة والحرية، من السلطة ذاتها. فالسلطة هي الضرورة التي تعينها الحرية، وتنفيها، في الوقت نفسه، أو هي الحرية متعينةٌ وحاملةٌ نفيَها في داخلها. وإذ تختلف السلطة الناتجة عن العلاقات البطريركية، الشاقولية… عن السلطة الناتجة من العلاقات الديمقراطية الأفقية الشبكية اختلافًا جذريًا.

فإن فهم المجتمع المدني اليوم هو فهم مبادئ إنتاج السلطة، في الشروط المعطاة، بالتلازم مع إنتاج الثروة والمعرفة والثقافة والأخلاق لا بمعزل عنها”[8].

إذًا، فالسياسة في المجتمع المدني هي في تعارض مطلق مع الحرب، ومع أفكار الصراع، ومن أولى مهماتها هي نفي عناصر الحرب من العلاقات الاجتماعية، بتوسط الثقافة، وضبط التعارضات المجتمعية في الإطار السلمي الديمقراطي.

فالمجتمع المدني في أحد تعريفاته الأساسية: “هو مجتمع التعارضات الاجتماعية الموسطة بالثقافة والسياسة والأخلاق[9].

4– مفاهيم، الفردية، الحرية، المساواة، العدالة، في المجتمع المدني

تشترك هذه المفاهيم بشكل مترابط في صياغة روح منظومة المجتمع المدني، إذ لا يمكن فصل أحدها عن المفاهيم المتبقية، فلا يستقيم الحديث عن المجتمع المدني بإسقاط أي مفهوم من هذه المفاهيم، كذلك فإن أفق المجتمع المدني وتطوره الإنسي، يتوقف إلى حدود كبيرة على تطور العلاقات الرابطة بين هذه المفاهيم.

فالفرد الطبيعي بكل ما يحمل من محمولات ذاتية لها طابع الخصوصية هو الوحدة الأولية المؤسسة في المجتمع المدني، بعكس المجتمع الأهلي الذي عادة ما تكون أحد التشكيلات البطريركية هي الوحدة الأولية فيه، كالعائلة الممتدة أو القبيلة… إلخ.

وبما أن الجذور الليبرالية للمجتمع المدني راسخة، كذلك هي الفردية بوصفها أحد أهم انجازات الليبرالية، أيضًا، وبما أن المجتمع المدني هو “فضاء من الحرية” فهو حريص على حماية الفردية وتنميتها بوصفها صنْوَ الحرية، إذ لا حرية من دون فردية ولا فردية من دون حرية. والفردية في أهم تعبيراتها هي الذاتية والاستقلال في مواجهة محاولات تذويب استقلالية الفرد في متحدات جماعية خاضعة لسلطة الرأي العام، كالدين والمذهب والحزب الأيديولوجي والجماعات العقائدية، وهي كذلك حرية الوجدان والضمير ورفع الوصاية عنهما أيًّا تكن هذه الوصاية.

“هذا كله مدعاة لتأسيس فكرة المجتمع المدني المعاصر ونظرية المجتمع المدني المعاصر، وشرط إمكانه في بلادنا، على مفهومي الفرد والفردية، وميل الأفراد الأصيل إلى تحسين عالمهم وتحسين ذواتهم، وجعل العالم مرايا الذوات الفردية والذوات الفردية مرايا العالم. إنه جدل التماثل والاختلاف، (مختلف- مؤتلف)، أعني تماثل الأفراد، ذكورًا وإناثًا، في الإنسانية، وفي عضوية المجتمع المدني والدولة الوطنية، أي في المواطنة. وتساويهم في الحريات الأساسية والحقوق المدنية، واختلافهم النسبي في كل شيء عدا ذلك. وأخيرًا لا يُدْرَك معنى الفردية إلا في ضوء ما نسميه تذويت الطبيعة وأنسنة الذات، أي في ضوء علاقات الفرد بالبيئة وعلاقاته بأخريات وآخرين. فلا فردية خارج الحياة الاجتماعية أو خارج المجتمع والدولة”[10].

فالاجتماع المدني الحديث هو أحد ممكنات الفردية، لأن العقد الاجتماعي أساسًا هو بين أفراد أحرار مستقلين، “يبدو أن الاجتماع المدني الحديث هو شرط إمكان الفردية، بمعنى الاستقلال الكياني، الحرية- المسؤولية، ولا سيما استقلال الوجدان وحرية الضمير، وحرية التعبير، وحرية التفكير، ووعي الذات، والثقة بالنفس، والجدارة والاستحقاق، هذا لأن الاجتماع المدني الحديث أسبق من الفردية في الوجود، بصفته أحد ممكنات الفردية. ويبدو بالمقابل، أن الفردية، بالمعاني المشار إليها، هي شرط إمكان الاجتماع المدني الحديث، لأنها أسبق من المجتمع المدني في الكينونة”[11].

كذلك، لا يمكن التفكير في الفردية دون التفكير في الحرية والمساواة، أو جدل الحرية والمساواة، فالعلاقة بين الحرية والمساواة هي علاقة بين حدّين في جملة ديالكتيكية واحدة: “لقد مر حين من الدهر لم نفكر في العلاقة الضرورية بين الحرية والمساواة، بصفتها علاقةَ تضايفٍ أولًا، وتحديدٍ متبادل ٍثانيًا، وعلاقة جدلية، ديالكتيكية أساسًا. فلم نفكر في أن محاولة (إلغاء) التعارضات الاجتماعية (الطبقية)، هي محاولة لإلغاء إمكان الحرية، وإمكان المساواة، وهو محاولة عبثية لوقف النمو والتطور، قد تنجح إلى حين، لكنها تنتهي بتفجير النظام الاجتماعي والنظام السياسي، مثلما إلغاء الملكية الخاصة هو إلغاء العمل والإنتاج الاجتماعي،… المساواة والحرية معًا، بتضايفهما وتعارضهما الجدلي مقترنتان بالفردية، اقترانًا وجوديًا، لا تنفكان عنها، ومؤسستان عليها، بل هما قوام الفردية وعمادها ونصابها…الحرية المتعينة في الاختلاف هي شرط إمكان المساواة، وهي نفي إيجابي للمساواة، في الوقت ذاته (نحن متساوون وغير متساوين)، فمن جهة أولى، لا تكون مساواة بلا اختلاف، ولا تكون بنا حاجة إلى المساواة أساسًا. ومن جهة ثانية مقابلة، كل اختلاف ينفي المساواة مهما يكن طفيفًا، ولما كان الاختلاف تعينًا للحرية فإن الحرية نتفي المساواة نفيًا إيجابيًا بالطبع… والمساواة بما هي نفي إيجابي للاختلاف، هي نفي إيجابي للحرية المتعينة في الاختلاف، وهي، في الوقت نفسه شرط إمكان المواطنة، التي قوامها الحرية والمساواة وحقوق الإنسان”[12].

أما فيما يتعلق بالعدالة، فإن أولى درجات العدالة قد تحققت في المجتمع المدني، من طريق تساوي جميع المواطنين والمواطنات أمام القانون في الحقوق السياسية والمدنية، لكن العدالة في توزيع الثروة ما تزال على جدول أعمال البشرية المتمدنة، فبعد أن تحققت الديمقراطية السياسية في أكثر من بلد متقدم في العالم ما تزال الديمقراطية الاجتماعية تنتظر تقليص الفوارق في الثروة بين الأفراد والشعوب والأمم، والناجمة من انهيار حدود التبادل على المستويات الوطنية/القومية، وعلى المستوى العالمي.

تلك الفوارق الطبقية التي لا يمكن إلغاؤها والسيطرة عليها، على النحو الذي جرى في الدول التوتاليتارية، أو ما عرف بتجارب الاشتراكية المحققة، وكانت النتائج الكارثية التي أصبحت معروفة للجميع.

إن مسار الديمقراطية الاجتماعية، أو مسار العدالة، من الصعب أن ينطلق من مرحلة ما قبل المجتمع المدني، لأنه حتمًا سيُقاد، في هذه الحالة، من قبل طليعة ثورية في مجتمع متأخر، ستعيد فرض توزيع الثروة والسلطة، بحيث تستولي على الحصة الرئيسة من الاقتصاد، كما حدث في الاتحاد السوفياتي السابق والدول الأخرى التي طبّقت الاشتراكية، حيث أصبح الاقتصاد الكلي في هذه الدول جميعًا في أيدي أوليغارشيات مالية هي نفسها قيادات الأحزاب العقائدية ومخابراتها وجيوشها. لذا، فإن قاعدة انطلاق الديمقراطية الاجتماعية، تتمثل في ذلك المستوى من الحرية والمساواة الذي تحقق في المجتمع المدني العالمي، وإن مسار هذه العدالة الاجتماعية ينسجم مع مبدأي: عدم إلغاء الفوارق الطبقية والسيطرة عليها من جهة، ومن جهة ثانية مع مبدأ تحسين الحياة الإنسانية وحصول الإنسان على ما يحفظ كرامته واستقلاله وعيشه الرغيد.

والحال، فإن التفاوت والفرق الطبقي والاختلاف هي من سمات المجتمع المدني الرئيسة، وهي في الوقت نفسه من عوامل وعي ضرورة تقليص التفاوت وتحقيق أكبر قدر ممكن من العدالة الاجتماعية، يقول إلياس مرقص في هذا الموضوع: “لا تاريخ لولا التفاوت. لولا التفاوت بين البشر لما كان هناك أي تاريخ، أي تقدم، أي نمو للإنسان”.

“إن المجتمع البشري هو مجتمع الاختلاف والتفاوت، مجتمع الطبقات بالمعنى الواسع، الملكية وأضدادها. هكذا التاريخ. أساسه وقوامه إنتاج البشر لوجودهم اجتماعيًا. المجتمع ليس بدهية أصلية. التاريخ ليس شخصًا يتقدم أمامنا في الشارع. الحيوانات لا تنتج وجودها… المجتمع المدني هو مجتمع الشغل وتقسيم الشغل، مجتمع الأعمال، التفاوت، الملكية الخاصة…. 1– كل الأشياء مختلفة، 2– لا تغيّر بلا اختلاف، 3- لا تاريخ ولا تقدم بلا تفاوت”[13].

ومما لا شك فيه، فإن تقليص مستويات التفاوت، ومعالجة قضايا احتكار الثروات وانهيار حدود التبادل، إن كان على الصعد الوطنية أو على الصعيد العالمي هي أبرز المهمات المستقبلية للحركات الديمقراطية وحركات السلم العالمي، وحركات تعميق الحياة المدنية والإنسانية عالميًا.

5– المجتمع المدني والملكية الخاصة والتقسيم الاجتماعي للعمل واقتصاد السوق

الملكية الخاصة عمومًا والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج هي من العلل المؤسسة للمجتمع المدني، فبوصف هذا الأخير فضاءً للحرية، فإن حرية تصرف الأفراد فيما يملكون هو أهم مظاهر الحرية، وإن الحفاظ على الأملاك الخاصة هو أبرز مهمات القانون العام بوصف الحفاظ عليها هو حفاظ على سبب نشوء مبدأ الحق وسائر الحقوق الأخرى، لأن إلغاء مبدأ الملكية الخاصة يعني إلغاء مبدأ الحق وإلغاء مبادئ الحرية والمساواة والعدالة، مثلما حدث في الدول الاشتراكية السابقة، بعد إجراءات التأميم ومصادرة الملكية، التي نفذتها العديد من الحكومات القومية/ الاشتراكية، في الخمسينيات والستينيات، حيث تعطل الإنتاج الاقتصادي، وتعطل معه الإنتاج الثقافي والمعرفي وإنتاج الحياة الاجتماعية، (إنتاج المجتمع)، أي تعطلت آلية الشغل البشري، الذي يقبع في خلفية التقدم. فارتدت تلك ” المجتمعات” إلى عصبياتها الأولية والنسلية وأعادت إنتاجها، على حساب العلاقات المدنية والحياة المنتجة.

“المساواتية عدمية. المساواتية تقيم الاستبداد. دولة السلطان فوق السواد… إن مجتمع الاستبداد الشرقي هو مجتمع العامة المتساوية”[14].

الملكية الخاصة هي الأساس التي ينبني عليها نظام العمل والإنتاج وكذلك التقسيم الاجتماعي للعمل، وتنبني علية عمليات التبادل المختلفة بين الأفراد والفئات والجماعات والشعوب المختلفة، وعلاقات الإنتاج والتبادل بدورها هي التي تنتج العلاقات الأفقية والشبكية والتنظيمات الوسيطة التي تتوسط بين الفرد والدولة وتشكل نسيج المجتمع المدني، إن نمو الإنتاج والإنتاجية مرتبط ارتباطًا وثيقًا بنمو الملكية الخاصة وحمايتها، والملكية الخاصة هي المعبر إلى شكل أعلى وأرقى من الملكية، ألا وهو تملك العالم، وشعور البشر أن هذا العالم هو ملكهم وهو عالمهم، وهو من إنتاجهم، وهم من إنتاجه. “فالملكية الخاصة نتاج تموضع الخصائص الإنسانية في العالمين: الفيزيائي والأخلاقي، بتوسط العمل والإنتاج الاجتماعي، والفاعلية-الانفعالية، الاجتماعية والثقافية والسياسية والأخلاقية، إذ (كل إنتاج هو تملك) بحسب كارل ماركس. فالملكية الخاصة، بهذا المعنى هي أول اغتراب موضوعي للذات الإنسانية، في العالم المعيش، وهو اغتراب متجدد على الدوام، وضروري على الدوام، لا سبيل إلى حذفه إلا بحذف العمل والإنتاج الاجتماعي، الاغتراب هو البذرة التي تحمل شجرة الديالكتيك، وترجمته العملية هي تذويت الطبيعة وأنسنة الذات، أو هي أنسنة العالم”[15].

وغني عن القول: إن مستويات المدنية المتقدمة التي بلغها معظم شعوب الأرض، ناتجة أساسًا من المستويات المتطورة التي بلغها التقسيم الاجتماعي للعمل، وليس بفعل اشتغال النخب الفكرية والثقافية، فبفضل تقسيم العمل تلاشى المثقف الموسوعي الكلي لصالح أصحاب التخصصات الجزئية في المجالات العلمية والثقافية والاقتصادية. كذلك فإن تقسيم العمل يقف خلف النمو المتسارع في قوى الإنتاج، وفي خلفية العلاقات الشبكية الحديثة، التي أسهمت في الحفاظ على وحدة هذه المجتمعات وتماسكها، واضمحلال هويّاتها الموروثة والبطريركية. وهو الأساس الموضوعي لعملية التبنين الاجتماعي إلى فئات وطبقات حديثة، وكذلك هو أساس فصل السلطات (تشريعية وتنفيذية وقضائية)، وبالتالي نمو الحرية والفردية في تلك المجتمعات. وتقسيم العمل الاجتماعي والتخصصات المرافقة له هي مدخل نشوء الأسواق الوطنية/ القومية وتكونها، ونشوء الأسواق العالمية في إطار الوحدة التي فرضها النظام الرأسمالي العالمي على العالم. فالأسواق في المجتمعات المدنية الحديثة ليست مجرد فضاءات لتبادل السلع والمنتجات فقط، بل هي فضاء للتواصل والتبادل والتوزيع والتذاوُتِ وتبادل الثقافات ونشوء علاقات على المستوى العالمي، بذلك يكون تشكل المجتمع المدني وثيق الصلة ليس بتقسيم العمل الاجتماعي فقط بل بنشوء السوق.

ولا بد من القول: فيما يتعلق بالملكية الخاصة وما نتج عنها في المجتمعات المدنية الحديثة، إنه بمقدار حرص المجتمع المدني وتشكيلاته وعلاقاته على نمو الملكية الخاصة وحمايتها قانونيًا، واعتبارها مجالًا من مجالات ممارسة الحرية ونمو الفردية، بمقدار ما كان حريصًا على إلغاء النتائج السياسية الناجمه عنها. بكلام آخر في المجتمعات الحديثة يحق الانتخاب بالتساوي ومن دون أي تمييز يذكر بين المالكين وغير المالكين، وهم متساوون في الحقوق المدنية والسياسية أمام عمومية القانون. هذا الإلغاء لنتائج الملكية الخاصة السياسية هو أحد منجزات المجتمع المدني المهمة.

6– الدين والأيديولوجيات الجزئية في المجتمع المدني

إن وضع الدين ووضع مختلف الأيديولوجيات الجزئية في المجتمع المدني يتحدد بالمبادئ التالية:

أ– المجتمع المدني لا يصادر ولا يمارس التضييق على محمولات الأفراد الطبيعيين فيه لأية أفكار أو أيديولوجيات لها طبيعة ذاتية غير عمومية.

ب– ما دام الدين، في المجتمع المدني، مفصولًا عن السياسة وعن المدرسة وعن المناهج التربوية والتعليمية فهو يتطور وفق قوانينه الخاصة، لا وفقًا لإرادة أي سلطة دينية أو غير دينية.

ج– الدين والأيديولوجيات الحصرية في المجتمع المدني، تخضع لتمايز مجالات الحياة الاجتماعية وانفصالها، المستندة إلى عملية تقسيم العمل الاجتماعي. فلا يجوز خلط مجالات الحياة المتمايزة والمنفصلة في المجتمع المدني بأي أيديولوجية خاصة دينية أو غير دينية.

د– جميع الأديان والعقائد والمذاهب والتيارات في المجتمع المدني متكافئة ومتساوية في القيم المعنوية والرمزية والأخلاقية، بصرف النظر عن عدد أتباعها ومواليها، فمسألة العدد لا تضيف ولا تنقص من قيمة أي مذهب أو انتماء ديني أو غير ديني.

ه– ما دام المجتمع المدني هو مجتمع التعدد والاختلاف وهو فضاء الحرية المغروزة في الاختلاف أساسًا، فالدين وأي أيديولوجية أخرى محكومتان جميعًا بهذا الموقف الراسخ والأصيل من التعدد والاختلاف.

و– الموقف من الدين في المجتمع المدني، عبر عنه خير تعبير ماركس في نقده لباور حول رؤية هذا الأخير للمسألة اليهودية في ألمانيا، حيث اعتبر ماركس أن إشكالية اليهود في ألمانيا ليست إشكالية لاهوتية إنما هي إشكالية اجتماعية- سياسية، يجب أن تعالج معالجة سياسية، في إطار ما يعرف بثنائية: المجتمع المدني/ دولة–أمة، فالدولة يجب ألا تكون مسيحية أو إسلامية أو شيوعية أو بعثية… إلخ. أي بمقدار ما هو المجتمع المدني هو ميدان التعدد والاختلاف والحرية، فإن الدولة هي ميدان الوحدة والحرية الموضوعية، أي أن الدين الذي ينتعش ويتطور في المجتمع المدني وفق قوانينه الخاصة، يتم إعدامه في المجال العام، أي في مجال الدولة، تمامًا كالملكية الخاصة التي لا ينجم عنها أي نتائج سياسية، كذلك الأمر بالنسبة للدين لا نتائج سياسية تذكر، تنتج عن كثرة أتباع هذا الدين أو ذاك المذهب أو قلتها.

7المجتمع المدني والتنظيمات الوسيطة

إن التنظيمات الوسيطة للمجتمع المدني في البلدان المتقدمة التي تحققت فيها، لم تتأتَّ من نضال سياسي أو أفعال ذاتية إرادوية، بل تشكلت أساسا انطلاقًا من مستوى التقدم والنمو الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي في تلك المجتمعات، بفعل الثورات الصناعية والعلمية والتكنولوجية، ونمو الإنتاج والتقسيم الاجتماعي للعمل، وكذلك نمو العلاقات الأفقية والشبكية، التي حجبت العلاقات التقليدية، وأدت إلى ضمور الثقافات والهويات الموروثة واضمحلالها، فالتنظيمات الوسيطة كالجمعيات والنقابات والنوادي والشركات الخاصة والأحزاب السياسية وغيرها، هي جميعها بنت العلاقات الشبكية والأفقية الناشئة في المجتمع الحديث على أنقاض التقليد والفكر الوسطوي، وهي التي تقوم بعملية التوسط بين الفرد والدولة، وفيها يتم إعداد قادة الرأي العام، وتدريب الكوادر على الانخراط في الحياة السياسية العامة، وكذلك تشكل حائط الصد الذي يمنع تغول سلطة الدولة وتجاوزها حدود المجتمع، فهي تشكل إلى جانب السلطة الرابعة أي الصحافة، أحد أهم أُطر تشكيل الرأي العام في مواجهة مراكز الضغط السلطوية.

لذا، يحدد ويعين هذا التاريخ الموضوعي والتدرجي والثوري لتشكل المنظمات الوسيطة في المجتمعات المتقدمة، فوارق نوعية، عن تشكل منظمات المجتمع المدني في البلدان المتأخرة، تتجلى هذه الفوارق بما يأتي:

أ– إن منظمات المجتمع المدني في البلدان المتأخرة، تأسست إرادويًا بقرارات ذاتية على نمط تأسيس الأحزاب الأيديولوجية، من دون هذا العمق المجتمعي التاريخي الذي تم ذكره لنشوء المنظمات الوسيطة في العالم المتقدم.

ب– ولأن هذه المنظمات تأسست على نمط الأحزاب الأيديولوجية في مجتمع مقطوع الجذور عن التراث الليبرالي، فقد تمفصلت مع التشكيلات الاجتماعية ما قبل الرأسمالية، ضمن سياق اجتماعي–ثقافي، كان يسميه الراحل ياسين الحافظ: “تقلدة الحداثة” أو “تحديث التقليد”، فقادت إلى أنماط هجينة على مستوى الوعي والممارسة.

ج– ولأن الشبكات الأفقية ناتجة من الإنتاج والعمل الاجتماعي والتبادل، ولا يمكن خلقها بقرارات ونضالات أيديولوجية، يصبح مفهومًا عملية تعثر هذه المنظمات في مجتمع تقليدي، تتسيَّد فيه البنى التقليدية والأيديولوجيات الماضوية.

د- تسود في أوساط النخب والسياسيين والمثقفين رؤى متضاربة حول وظيفة هذه المنظمات ودورها، وجميع هذه الرؤى مبنية على تصورات ذاتية وجهل في تاريخ المجتمع المدني، فمنهم من يعتبر هذه المنظمات ” عميلة ” للخارج، ومنهم من يعتبرها مخرجًا للهروب من العمل السياسي، وترى فيها سلطة الرأي العام تمردًا على الهويّة والتراث… إلخ. كل ذلك يبقي فكرة المجتمع المدني وتاريخها وجوهرها خارج التداول.

ه– إن البدوة النظرية لبناء تصورات ورؤى في مجتمعاتنا عن المجتمع المدني، تبدأ بـتأسيس سيرورة نقد وتفنيد حاسمة نظرية، لإجراءات تأميم الملكيات الخاصة التي حدثت في مصر وسورية والعراق وليبيا واليمن في ستينيات القرن الماضي، حيث ألغت عملية الإنتاج وسيطرت على التعارضات الاجتماعية بالقوة، وأعادت إنتاج التقليد في إيهاب أطر حديثة نقاباتٍ وأحزابًا شكليةً، مما أفضى إلى القضاء على إمكانات تشكل علاقات شبكية وأفقية خلال السبعين سنة الماضية، وبالتالي انتفاء حاضنة المنظمات الوسيطة.

8– المجتمع المدني والمجتمع السياسي

لا يمكن الحديث عن مجتمع سياسي أو “دولة-أمة” أو دولة وطنية خارج وجود مجتمع مدني، فالمجتمع المدني فقط هو الذي ينتج الدولة الوطنية، بعكس المجتمعات الأهلية في بلادنا، التي لم تنتج إلا دولًا سلطانية محدثة، فالمجتمع المدني والدولة هما قطبان رئيسان في منظومة جدلية واحدة، وانتفاء أحدهما يؤدي إلى انتفاء الآخر، وهذا الذي يفسر عدم نشوء نظرية حول الدولة حتى الآن عند المشتغلين في الحقل السياسي في “المجتمعات المتأخرة”، حيث ما يزال مفهوم الدولة ملتبسًا بمفهوم السلطة السياسية، وما يزال الطابع العمومي المحايد للدولة غير مدرك من قبل الكثيرين من هؤلاء المشتغلين في الحقل العام، وذلك بسبب عدم إدراك العلاقة الديالكتيكية بين المجتمع المدني والدولة- الأمة.

المجتمع المدني بوصفه مجتمع الاختلاف والتعدد، ومجتمع الحرية والمساواة والفردية، لا يقيم أي قسر أو تقييد على التعارضات الاجتماعية أو الاختلافات الإثنية والمذهبية والخصوصيات الجهوية، بل على العكس تنتعش هذه الأيديولوجيات الخاصة في رحاب المجتمع المدني وفقًا لقوانينها الذاتية، تحت سقف القانون العام. لكن عند الانتقال من حالة التعدد والاختلاف هذه إلى المجال العام، أي مجال الدولة، الذي هو مجال الوحدة ومجال الحرية الموضوعية المحددة بالقانون العام… لا يتم انتقال هذه التعارضات الاجتماعية والثقافية إلى المجال السياسي العمومي، بشكل آلي ومباشر، بل تنتقل من حيز التعدد إلى حيز الوحدة موسطة بالثقافة والسياسة، فالأحزاب السياسية التي تتموضع على الخط الفاصل بين المجتمعين المدني والسياسي، هي التي تقوم بتحويل هذه التعارضات إلى تعارضات سياسية يتم حلها سلميًا تحت سقف القانون العام.

بكلام آخر، الفرد الطبيعي هو الوحدة الأولية في المجتمع المدني، يكون هذا الفرد محملًا بكل حمولاته الذاتية الخاصة، وليس مطلوبًا منه أن يتخلى عنها، لكن عند الصعود إلى مجال الدولة أو المجال السياسي، فإنه لا يصعد كفرد محملًا بكل هذه الحمولات الذاتية، بل يصعد كمواطن عاريًا ومجردًا من كل هذه الحمولات، فكما أن الفرد هو الوحدة الأولية في المجتمع المدني، فإن المواطن هو محور الدولة، هذا هو التركيب الجدلي الفريد بين المجتمعين المدني والسياسي، يعبر عنه التركيب الجدلي الفريد بين صيغة الفرد الطبيعي في المجتمع المدني وصيغة المواطن في المجتمع السياسي.

وهذا يقودنا إلى الاستنتاج: أن ممارسة السياسة على أرضيات انتصار أحزاب العقائد والأيديولوجيات، بالتخارج مع هذا المنهج الذي يربط بشكل وثيق مابين المجتمعين المدني والسياسي، هي ضروب من العبث، وعمليًا هي تؤسس مجتمعيًا لحروب وصراعات لا تنتهي، وما جرى خلال ثورات الربيع العربي يؤكد ذلك، لأن فكرةَ المجتمع المدني وحضوره في هذه الثورات كانت ضامرةً، خلف تصدر الإسلام السياسي وملحقاته المليشياوية لقيادة الحراك الجماهيري، وهو الذي لا يقيم وزنًا للدولة الوطنية أو للمجتمع المدني.

كما أن هذه العلاقة الجدلية بين المجتمعين المدني والسياسي، يجب أن تقودنا أيضًا إلى نقد تلك الادعاءات الأيديولوجية الذاتوية الموتورة ودحضها، أما عن وجود “مجتمع إسلامي”، أو “مجتمع عربي”، أو “مجتمع عربي اشتراكي موحد”، فتلك الادعاءات تحاول إيهام الجمهور بوجود وحدة قسرية أيديولوجية الطابع، بصرف النظر عن الاختلافات الفعلية القائمة والتي لا يمكن السيطرة عليها بالقوة دون تعريض النظام الاجتماعي برمته للانفجار. وفي مقابل إضفاء هذه الوحدة الوهمية- القسرية على المجتمع المعني، يتم إضفاؤها أيضًا على “الدولة”، فتوصف بأنها “دولة” إسلامية أو “دولة” عربية… إلخ. وهذا كله يأتي في سيرورة تسييس الدين وتسييس العروبة، وهما صفتان ذاتيتان، لا يجوز تسييسهما ونقلهما إلى مجال الدولة، الذي هو مجال عمومي، تنعدم فيه الصفات الحصرية والجزئية.

9– الاندماج الوطني والمجتمع المدني

لم تحتل مسألة الاندماج الوطني أي اهتمام يذكر من قبل التيارات القومية واليسارية والإسلامية، وذلك بسبب إضفاء الصفة الدينية أو الإثنية أو الطبقية على المجتمع، فـ “المجتمع العربي” في نظر الأيديولوجية القومية متجانس قوميًا، و”المجتمع الإسلامي” في نظر الأيديولوجية الإسلامية متجانس دينيًا كالبنيان المرصوص، وفي نظر الأيديولوجية الشيوعية، يجب على البروليتاريا أن تهزم البورجوازية، وتجعل المجتمع متجانسًا طبقيًا. أمام هذه الأوهام عن التجانس الذي لن يتحقق، لم يكن هناك حاجة للنظر في كيفية معالجة ظواهر الانقسامات المذهبية والإثنية والطبقية، وبالتالي ظلت مسألة الاندماج الوطني غير مفكر فيها.

إلى أن جاء ياسين الحافظ، وتناول مسألة التكسير المجتمعي، وبخاصة بعد الحرب الطائفية اللبنانية، التي انفجرت عام 1975 من القرن الماضي، وفند دعاوى اليساريين والقوميين وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية حول هذه الحرب الطائفية القذرة. حيث سماها الشيوعيون بأنها حرب طبقية ضد ذوي امتيازات، وسماها القوميون بأنها حرب ضد الانعزالية المارونية، وسمتها قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، بأنها حرب ضد الحل السلمي التصفوي للقضية الفلسطينية. هذه التسميات الزائفة تكشف مدى عمق البؤس في منسوب الوعي بإشكالية الانقسامات المجتمعية.

ومع أن ياسين الحافظ تقدم في اكتشاف أهمية الاندماج القومي، ومعالجة الانقسامات العمودية، لكنه أبقى مسألة الاندماج الوطني/ القومي في إطار العلاقة بين طوائف ومذاهب وإثنيات، وكان يعول على وعي النخب في تجاوز حالة الانقسام، والقضاء على الأيديولوجيات الطائفية والمذهبية والعرقية والنزعات المحلية، فمثلًا كان يعول على إحساس “القوم الأكثري” أي السنة بالمسؤولية التاريخية عن مصير الأمة العربية، وهذا الإحساس بالمسؤولية التاريخية يجعل السنة مركز جذب وتكتل لباقي الطوائف والمذاهب، وكذلك كان يعتبر أن المثقف القادم من بيئة أكثرية يحمل وعيًا ديمقراطيًّا، والمثقف القادم من بيئة أقلوية يحمل وعيًا علمانيًّا، فيجب على النموذجين التكتل لإنتاج نخبة علمانية ديمقراطية من أبرز مهماتها تجاوز الإشكالية الطائفية والمذهبية والإثنية.

في ضوء ما تقدم من مسائل نظرية حول المجتمع المدني، وحول علاقته بالدولة الوطنية، يتضح بأن مسألة الاندماج الوطني/القومي، ليست مسألة علاقة بين طوائف ومذاهب وإثنيات، وكذلك لا ترتبط بوعي النخب فقط، بل هي أساسًا تنتج من درجة تمدن المجتمع ومن مدى تحقق “ثورة المجتمع المدني” فيه، فالعلاقات الشبكية والأفقية، التي تتولد من المجتمع المدني هي التي تستقدم الاندماج الوطني وفقًا للآليات التالية:

أ– الطوائف والمذاهب والإثنيات في المجتمع المدني، تبقى كما هي تتطور وفق منطقها الخاص، فهي لا تندمج ولا يمكن أن تندمج، لكن المجتمع المدني ينطوي على مبدأ فصل المجالات، فالمجال السياسي هو مجال الوحدة، لا ينتقل إليه الانقسام المجتمعي بشكل ميكانيكي، كما في التجربتين اللبنانية والعراقية، لأن هذا الانتقال هو وصفة مثالية للحرب الأهلية الباردة أو الحامية، بل يتم إعدام الأيديولوجيات الجزئية والحصرية في المجال السياسي، على النحو الذي وضحه ماركس حول المسألة اليهودية، بوصفها مسألة سياسية وليست مسألة لاهوتية.

ب- العلاقات الأفقية والشبكية ذات المضمون الإنساني، التي تحكم المجتمعات المدنية في الغرب، تحققت بفعل نمو الإنتاج والحاجة إلى التبادل وبناء علاقات من نمط جديد، حيث مع تبادل السلع والمنتجات يتم تبادل القيم والثقافات، وتكون المسألة الإنسانية حاكمة على جوهر هذا التبادل، ولم تنتج علاقات التبادل والتذاوت من الدعوات الأيديولوجية، ومن أفعال النخب، بل من ضرورات موضوعية فرضها تطور الإنتاج الرأسمالي وتقسيم العمل الاجتماعي وضرورات التبادل.

ج– الثورات السياسية في المجتمعات المتأخرة لا تولد اندماجًا وطنيًا، بل أثبتت التجربة التاريخية وآخرها تجارب ثورات الربيع العربي، أن الثورات السياسية تركب على الانقسامات المجتمعية وتعمقها، وتتمفصل مع البنى التقليدية بغياب وجود المجتمع المدني وتعبيراته. وبالتالي إضافة إلى أهمية توليد آليات الإنتاج المادي والمعنوي وتفعيلها، هذه المجتمعات المتأخرة هي بحاجة إلى سياسات إصلاحية جذرية طويلة الأمد، تشكل ” تغييرًا أكبر من ثورة”، وهذا يقع في متن المجتمع المدني الذي هو مجتمع التدرج في تحقيق التقدم.

د– تشتمل سياسات الإصلاح الجذرية عملية إصلاح الأنظمة التربوية والتعليمية في تلك المجتمعات المتأخرة، بحيث تذهب باتجاه فصل الدين عن الجامعة والمدرسة، وإلغاء تدريس مادة التربية الدينية واستبدال مادة الأخلاق بها، إضافة إلى تدريس مواد التاريخ وفق منظورات إنسية وابتعادها عن أفق التعصب القومي والديني، وتهيئة مناخات علمية فعلية لنشوء نخب علمية وإدارية واقتصادية قادرة على تأسيس مقدمات لعملية إنتاجية، تزحزح هذه المجتمعات من تخثرها الثقافي وركودها التقليدي.

ه- الاندماج الوطني يتطلب مغادرة أطروحات الأقلية والأكثرية المذهبيتين أو القوميتين، باتجاه تثبيت فكرة الأقلية والأكثرية السياسية، وبالتالي فإن المجتمع المدني القائم على مفهوم تكافؤ القيم والمعاني، غير معني إطلاقًا بما هو متعارف عليه في المجتمعات التقليدية، بأن تكون ثقافة الأكثرية الدينية أو القومية هي الثقافة المعيارية السائدة، وعلى الثقافات الأخرى أن تنصهر في بوتقة هذه الثقافة المعيارية، إن ذلك أبرز روافع الانقسامات العمودية والضغائن العرقية والمذهبية. ففي المجتمع المدني لا ينتج من قلة العدد أو كثرته أي نتائج سياسية، ما دام الجميع هم مواطنون أحرار بنظر الدولة الوطنية.

و– الاندماج الوطني يستوجب نفي الصفات العرقية والدينية عن المجتمع والدولة، فالمجتمع المدني بالتعريف هو “وحدة الاختلاف” لا وجود فيه لهيمنة أو سيادة عرقية أو دينية، كذلك الدولة الوطنية التي ينتجها المجتمع المدني هي دولة من دون صفات، لأن الصفة هي تقليص لعمومية الدولة وطابعها الأخلاقي.

ز- الحاجة إلى تطوير سياسات ورؤى وخطابات إنسانوية، فالإنسية هي التي تحد من غلواء الأيديولوجيات المذهبية والطائفية والإثنية، وتفتح أفق المجتمعات التقليدية على الحياة المعاصرة، فالإنسية رافعة من روافع الاندماج الوطني.

ح– الأحزاب الأيديولوجية والعقائدية، التي تنسب نفسها إلى النخبة أو الطليعة في المجتمعات المتأخرة هي أحد عوامل التشظي المجتمعي، وهي أحزاب حرب وصراعات ونزاعات دائمة، وبهذه الطبيعة القتالية فهي منفية في المجتمع المدني، لصالح المنظمات الوسيطة التي يقوم الاندماج الوطني على التماسك الاجتماعي الناشئ بفعل تقسيم العمل، وبفعل علاقات هذه المنظمات وارتباطاتها ونفوذها، التي هي أهم معالم المجتمع المدني.

10- العلاقة بين المجتمع المدني والمجتمع الأهلي

المجتمع المدني لا يشكل حالة نفي للمجتمع الأهلي بالمعنى الفيزيائي، إنما ينفي أيديولوجياته ومحلويته وعلاقاته البطريركية، وانقساماته العمودية، وهياكله التراتبية القائمة على معايير غير إنسانية، وفق المحددات التالية:

أ– المجتمع المدني في المآل الأخير هو عبارة عن سيرورة نمو وتقدم، تحدث في بنى المجتمع الأهلي، بفعل عوامل متعددة، وليست بمعزل عنه، تنتهي بتشكيل علاقات شبكية حاكمة على الاقتصاد والاجتماع والثقافة والسياسة والأخلاق.

ب– يعيد المجتمع المدني ترتيب العلاقات بين مكونات المجتمع الأهلي، بحيث يلغي تراتبيتها التقليدية، ويؤسس لعلاقة قائمة على الاحترام المتبادل في ما بينها، بصرف النظر عن الأعداد وقوة العصبية والشوكة، وينفي الصفة المعيارية لأي ثقافة فئوية، فكل الفئات متكافئة في القيم، ولا ينجم عن مسألة عددها أي نتائج سياسية، وبالتالي فإن إعادة ترتيب العلاقات تلك، يقود إلى ثنائية مجتمع مدني متعدد تنتعش فيه جميع تلك المكونات، ودولة وطنية هي مجال الوحدة لا مجال فيها لفكرة المكونات، بل جميع المواطنين هم متساوون أمام القانون، وقد جردتهم الدولة الوطنية من جميع انتماءاتهم الأهلية في المجال السياسي.

ج– العلاقات الأفقية والشبكية والمنظمات الوسيطة التي تشكلت في المجتمع المدني، هي التي تتوسط بين الدولة والفرد، إضافة إلى الأحزاب السياسية التي تتموضع على الخط الفاصل بين المجتمعين المدني والسياسي، وبالتالي فإن الفاعلية العامة للمجتمع وعلاقاته تقوم في أُطر المجتمع المدني وتعبيراته، وتتحول المكونات الأهلية إلى مجرد فلكور، يضفي طابع الألفة والمحبة الأهليين على العلاقات المدنية الناشئة.

د– المجتمع الأهلي بمفرده وبمعزل عن المجتمع المدني، لا يستطيع إنتاج دولة وطنية، بل ينتج فقط دولة استبدادية، أو “دولة سلطانية” محدثة، على نحو الذي جرى في بلادنا في العقود الماضية، فالمجتمع المدني وقوته هو ضرورة للمجتمع الأهلي من أجل إنتاج حقل سياسي عام.

و- إن ضعف المجتمع المدني، وضعف تشكيلاته ومؤسساته ومنظماته الوسيطة، يفضي إلى تغول السلطة الاستبدادية من جهة، وإلى تغول المجتمع الأهلي من جهة أخرى وتوحشه، والذي جرى في ثورات الربيع العربي يضيء على هذه الإشكالية، حيث حملت نويات المجتمع المدني في هذه الثورات من مثقفين وإعلاميين وناشطين سياسيين مدنيين شعارات الديمقراطية والتغيير السلمي، فيما أنتج المجتمع الأهلي الفصائل الإسلامية والمليشيات المسلحة، واستطاع أن يطرد تلك النويات التي حملت مشروعًا ديمقراطيًا بالقوة إلى خارج الحقل العام. وبالتالي انهرست تلك النويات بين مطرقة السلطة وسندان المجتمع الأهلي. وهذا يلقي ضوءًا على ضعف بنى المجتمع المدني في مجتمعاتنا من جهة، وتوحش بنى المجتمعات الأهلية عندما يتعلق الأمر بموضوع السلطة.

ثالثًا: المجتمع المدني كحركة عالمية الطابع

هذا المحور يحتاج إلى بحث خاص ومطول نظرًا لأهميته، لكني سأكتفي هنا بتلخيص بعض الأفكار.

في ظل الترابط والتداخل الذي يحكم العلاقات في عالمنا المعاصر، نتيجة الوحدة التي فرضها النظام الرأسمالي العالمي، ونتيجة الثورات الصناعية والعلمية- التكنولوجية، والثورة الرقمية وصولًا إلى ثورة الذكاء الصناعي، لم يعد ممكنًا الحديث عن تحديات وإشكاليات ذات طابع محلي خالص، كل الإشكاليات المحلية لها بعد عالمي. وبالتالي لا بد من الحديث عن ضرورة نشوءٍ وتكونٍ لحركات مدنية ديمقراطية موحدة على المستوى الكوني، تكون بمثابة معارضة عالمية لمراكز القوى العالمية ولوبياتها القائمة على الاحتكار والسيطرة والتحكم بمصير ملايين البشر، مثل لوبيات المال ولوبيات السلاح والبترول، ولوبيات الإعلام…إلخ.

من مهمات المجتمع المدني كحركة عالمية الطابع:

1- التصدي لقوى الاحتكار العالمية، احتكار الثروة العالمية واحتكار المعرفة والعلوم والتكنولوجيا وكل ما يتصل بذلك، لتجسير الهوة ما بين النخبة المالية ونخب العلم والتكنولوجيا، وبين سائر الفئات الاجتماعية الأخرى.

2- تشكيل رأي عام عالمي وازن وفاعل يأخذ على عاتقه تبني قضايا وضع القيود والحدود على مصانع السلاح وعلى المصانع التي لا تتقيد بشروط البيئة وتسهم في مفاقمة ظاهرة الاحتباس الحراري، وتلوث البيئة، ويضع في جدول أعماله على المديين المتوسط والبعيد قضية نزع الأسلحة الكيميائية والجرثومية والنووية من العالم، بوصفها تشكل تهديدًا للنوع البشري.

3- التصدي لحالة تراخي الأمم المتحدة ومجلس الأمن، من حيث تعاملهما مع القضايا الساخنة في العالم من منظور مصلحة الدول القومية المهيمنة على مجلس الأمن الدولي.

4– مواجهة النزعات الإمبراطورية في العالم وكل نزعات التطرف الديني والعرقي، التي تقف خلف الحروب والصراعات الماضية والحاضرة، وذلك من أجل الحفاظ على السلم العالمي، فسلم العالم واحد واضطرابه يصيب الجميع.

5– تعميق وترسيخ النزعة الإنسية على المستوى العالمي، فالإنسية هي الكفيلة بانتشال البشر من الغرق في انتماءاتهم الهووية، وبالتالي فالإنسية هي أفق الحركات المدنية الديمقراطية عالميًا.

6– من الطبيعي أن يكون مركز المجتمع المدني كحركة عالمية هو البلدان المتقدمة، وبالتالي من مهماتها مواجهة منهجية سياسات دولها القومية في التعامل البراغماتي مع قضايا الشعوب المتأخرة، من منطلقات المصلحة القومية العارية.

7– إعادة بناء الحداثة ” كمشروع عالمي لم يكتمل بعد”، فلم ينتج التاريخ حتى الآن أفضل من الحداثة كإطار تاريخي وانقلاب في تاريخ البشر لمعالجة قضايا الإنسان، على الرغم من الوجه القبيح للتقدم الذي كان أحد نتائج الحداثة إلى جانب وجهها التنويري، فإن الأمل معقود على انتصار الجانب التنويري والثوري للحداثة، مع إعادة بنائها على أسس تأخذ في الحسبان تقليص اغتراب الإنسان على المستوى العالمي.

 

المراجع

1 – إلياس مرقص، في إشكالية المنهج تحديث أم تأسيس؟، مجلة الوحدة، العدد واحد، 1984.

2 – إلياس مرقص، التاريخ والتقدم، مجلة الوحدة، العدد 22/23، 1986.

3 – جاد الكريم الجباعي، مخطوط كتاب (المجتمع المدني اليوم)، قيد النشر، مؤسسة ميسلون للثقافة والترجمة والنشر.

4 – إلياس مرقص، نقد العقلانية العربية، دار الحصاد، 1997.

5 – المجتمع المدني هوية الاختلاف، جاد الكريم الجباعي.

6 – الهزيمة والأيديولوجية المهزومة، ياسين الحافظ، دار الطليعة بيروت.

7 – في المسألة القومية الديمقراطية، ياسين الحافظ، دار الطليعة بيروت.

 


 

1 – إلياس مرقص، في إشكالية المنهج تحديث أم تأسيس؟، مجلة الوحدة، العدد واحد، 1984.

2 – إلياس مرقص، التاريخ والتقدم، مجلة الوحدة، العدد 22/23، 1986.

3 – إلياس مرقص، في إشكالية المنهج تحديث أم تأسيس، مرجع سابق.

4 – طبعًا بعد أن أخذت الإذن من الأستاذ جاد بنشر هذه الاقتباسات قبل صدور الكتاب، نظرًا إلى الأهمية الفائقة لتلك الأفكار الواردة في هذا المخطوط.

5 – جاد الكريم الجباعي، مخطوط كتاب (المجتمع المدني اليوم)، قيد النشر، ميسلون للثقافة والترجمة والنشر، ص 63.

6 – المرجع السابق، ص 74.

7 – المرجع السابق، ص 18.

8 – المرجع السابق، ص 27.

9 – المرجع السابق، ص 46.

10 – المرجع السابق، ص 59.

11 – المرجع السابق، ص 49.

12 – المرجع السابق، ص 44.

13 – إلياس مرقص، نقد العقلانية العربية، دار الحصاد، 1997، ص 40-41.

14 – المرجع السابق، ص 41.

15 – جاد الكريم الجباعي، مخطوط كتاب (المجتمع المدني اليوم)، مرجع سابق، ص 22.

 

مشاركة: