الحفر في صخرة الشمولية

ممكنات العمل المدني في ظل الأنظمة المتسلطة

ركزت أبحاث ودراسات فكرية وسياسية، في السنوات الماضية، على دراسة الأنظمة السلطوية والديكتاتورية والشمولية، من أجل تبيان طبيعتها، وفهم تركيبة كل منها، وكيفية عملها، والفروق بينها، وسوى ذلك، فيما حاولت دراسات وبحوث أخرى، فهم كيفية إحداث التغيير السياسي داخل المجتمعات الخاضعة لهذه الأنظمة، دون اللجوء إلى وسائل عنفية، أي بوسائل وطرق سلمية، وتحديدًا عبر العمل المدني، الذي تنهض به مجموعات أو بالأحرى حركات اجتماعية. وقد أظهرت التجارب في مختلف دول العالم المعاصر، أن النضال المدني للحركات الاجتماعية، ينهض على تبني آليات سلمية في تأثيره على السلطة الحاكمة، وفي سعيه لتحقيق أهدافه، من خلال الابتعاد عن التصادم المباشر مع السلطة، وتفادي أي استخدام للقوة الصلبة، وهذا ما يستدعي الاستثمار في القنوات والهوامش المتاحة التي يُقرها القانون، وهو ما يُوفر نمطًا جزئيًا في التغيير السياسي.

غير أن أسئلة عديدة تتبادر إلى الذهن في هذا المجال، تخص ممكنات العمل المدني في المجتمعات المحكومة من طرف أنظمة تتسلّط عليها، مثل نظام الأسد في سوريا بشكل خاص، وتطاول الهوامش والفسحات المتوفرة، وماهية الأدوات والوسائل التي يمكن استخدامها واللجوء إليها من طرف القوى المدنية الاجتماعية، لتحرير حيزّ من المجال العام، فضلًا عن استعراض تجارب النضال المدني السوري، والنظر في نجاحاتها وإخفاقاتها، واستخلاص الدروس المستفادة منها.

ووفق ما سبق، فإن ما يمكن وصفه إشكالية البحث المطروحة، يتمحور حول تحديات العمل المدني وممكناته في ظل نظام الأسد، وكيفية إيجاد السبل الرامية إلى قيام القوى المدنية بدور سياسي ضاغط، من أجل الدفع نحو التغيير الديمقراطي.

الهدف

يهدف البحث إلى تبيان الاختلافات والتقاطعات بين النظم المستبدة والتسلطية بمختلف تنويعاتها الديكتاتورية والشمولية، من خلال تناول أهم مرتكزات الحكم والسلطة فيها، وعرض أبرز الأفكار والأطروحات النظرية التي ميّزت بينها، وذلك بغية التعرف على طبيعة نظام الأسد في سوريا، بنسختيه، الأب والابن، وتبيان تركيبته التسلطية، وآليات الإخضاع والسيطرة على المجالين السياسي والاجتماعي، التي اتبعها النظام الأسدي فيها، من أجل الوقوف على دور العمل المدني في تفعيل التغيير السياسي أو توجيهه، في ظل هذا النظام المتحكم في المجتمع السوري منذ بداية سبعينيات القرن العشرين المنصرم.

المنهج

ينهض البحث على منهج تحليلي نقدي، يتناول أبرز المقولات المتعلقة بنظرية الحكم والسلطة، وأبرز تعريفاتها في الفلسفة السياسية، والتقليد السياسي الحديث، والإشكاليات المتعلقة بالعمل المدني، والوسائل التي تتبناها قوى التغيير الاجتماعي، ومنظمات المجتمع المدني في نظم الاستبداد، وطرق العمل المدني وأشكاله لتحرير الفضاء العام، إضافة إلى سبل حماية النسيج الاجتماعي من التفكك والتحلل، ومواجهة الأزمات المتعددة، حيث يقتضي سبر ممكنات العمل المدني في ظل الأنظمة التسلطية والديكتاتورية والشمولية، البحث في طبيعة هذه الأنظمة، وتبيان آليات اشتغالها ودينامياتها، ومركزات هيمنتها، والنشاطات والفعاليات، التي تقوم بها حركات اجتماعية، بوسائل سلمية، بهدف إحداث تغيير سياسي فيه، وعبر قنوات وأدوات غير سياسية. …هذا البحث يقود أيضًا إلى البحث في مفهوم السلطة، بالمعنى السياسي، وتجسيداتها في الحكم والمحكومية، وما يتفرع عنها من نظم سلطوية أو تسلطية واستبدادية.

الشمولية والاستبداد

ميزّت الفلسفة السياسية، القديمة والتقليدية، بين أشكال الحكم في إطار الحكم والمحكومية، والقانون والسلطة، حيث اعتمدت على توزيع السلطة، بين تمركزها في رجل واحد، أو في مجموعة من الأشخاص، أو في الشعب بشكل عام، من أجل التمييز بين أشكال الحكم المختلفة [1] . وفي العصر الحديث قسم مونتسكيو السلطة إلى أفرعها الثلاثة: التشريعية والتنفيذية والقضائية، التي تهتم بصياغة القوانين، وتنفيذها، والأحكام المقررة التي ترافق الاثنين، وميّز بين ثلاثة أنواع من الحكم:

1- الحكم الجمهوري الدستوري، الذي يتمتع فيه الشعب بسلطة مطلقة.

2- الحكم الملكي، الذي يتمتع فيه شخص واحد بسلطة مطلقة، ويحكم وفق قوانين ثابتة.

3- الحكم الاستبدادي غير الشرعي، الذي تتمركز السلطة فيه بيد شخص واحد، يستخدمها بشكل تعسفي، ووفقًا لإرادته  [2] .

غير أن القرن العشرين المنصرم، شهد تنويعات جديدة من الأنظمة الاستبدادية والديكتاتورية، وخاصة في ألمانيا إبان حكم هتلر، والاتحاد السوفيتي السابق إبان فترة ستالين، تجسدت في أنماط من أنظمة شمولية، فاشية وشيوعية، قامت على حكم الحزب الواحد، لكنها اختلفت من حيث البنية الدستورية، ونوع التنظيم والمحتوى السياسي، عن الأنظمة السلطوية الأخرى.

برزت نظم الهيمنة الشمولية بشكل مختلف عن أشكال الحكم الاستبدادي والديكتاتوري القديمة، على الرغم من اعتمادها جميعًا على السيطرة المطلقة على الدولة والمجتمع، الأمر الذي تطلب من المفكرين والباحثين فحص الأدوات المفاهيمية المستمدة من نماذج تجارب الحكم الحديثة المتعينة، وتبيان الاختلافات بين نظم الاستبداد والسلطوية، سواء على مستوى الحكم أم الجسم السياسي، والبنية والهيكلية. ولم يعدم الأمر بروز اتجاهات في الفكر السياسي، تميل إلى المماثلة بين الاستبداد والسلطوية، وبين الشمولية والسلطوية، على الرغم من أن المماثلة بين الشمولية والسلطوية، يكمن خلفها خلط بين السلطة والاستبداد، وبين السلطة والعنف، فيما تتمثل أهم الاختلافات بين الاستبداد والسلطوية في إغفال الفروق المبدئية بين:

1- تقييد الحرية في الأنظمة السلطوية.

2- إلغاء الحرية السياسية في الأنظمة الاستبدادية والديكتاتورية.

3- إلغاء تام للعفوية، أي للتجلي الأكثر عمومية وأساسية للحرية الإنسانية، والذي تنفرد فيه الأنظمة الشمولية” [3] .

أما من حيث الحكم، فإن الحاكم المستبد، أو بالأحرى الطاغية، يحكم تبعًا لإرادته ومصالحه الشخصية، فيما يخضع الحكم السلطوي للقوانين الطبيعية التي حلّت محل القانون الوضعي بشكل أو بآخر. إضافة إلى أن النظام الاستبدادي ينهض على المساواة، فالطاغية هو الحاكم الذي يحكم شعبه، بصفته واحدًا مقابل الجميع، وبالتالي فإن جميع الخاضعين له متساوون، أي لا يتمتعون بأي سلطة كانت [4] .

تمتد الاختلافات بين النظم الشمولية والسلطوية إلى بنيتها وتركيبتها، حيث تقترح أرندت بنية البصلة للنظام الشمولي، التي يتمركز القائد في مركزها الأشبه بالفضاء الفارغ، حيث تترابط كل أجزاء النظام المتعددة، بحيث يشكل كل منها الواجهة من جهة والمركز من جهة أخرى. أما بنية النظام السلطوي، فتأخذ، لدى أرندت، شكل الهرم، حيث يقع مركز السلطة في قمة الهرم، فيما تتم فلترة السلطة إلى القاعدة في الأسفل بطريقة تتمتع فيها كل طبقة متعاقبة بقدر أقل من السلطة التي تتمتع بها سابقتها [5] . كما يختلف جوهر النظام الشمولي عن غيره من النظم المتسلطة والاستبدادية، في هدفه الرامي إلى خلق مؤسسات سياسية جديدة كليًا، تنشأ من خلال تدمير التقاليد الاجتماعية والقانونية والسياسية للدولة، أي تحطيم كل ما هو إيديولوجي، فالنظام ّالشمولي يحول طبقات المجتمع أو الجماهير ويستبدل بها نظام الحزب الواحد [6] ، كي يحتكر جميع السلطات، بحيث لا يتسامح مع أي معارضة، مما يستدعي تحشيد جميع المواطنين في كتلة واحدة خلف النظام، الذي يدعي أنه يدير الحياة العامة للجماهير، والحياة الخاصة للأفراد، ويعمل على تحويل الطبقات إلى جماهير، كي يهيمن عليها هيمنة كاملة وغير محدودة، لذلك لا يكتفي بتقليص الحرية، بل يسعى إلى القضاء على كل ظاهرة عفوية بشرية بشكل عام  [7] ، بغية إحداث تغيير عميق، ليس في المجتمع فقط، ولكن في الأفراد أيضًا، باستخدام جميع الوسائل الممكنة.

الدولة والنظام

هناك خلط كبير في المجال السياسي العربي ما بين الدولة والنظام، بقصد أو بغير قصد، ويعتبر مفهوم الدولة من أكثر المفاهيم إشكالية في الفكر السياسي العربي الحديث، حيث لم تجر عملية أقلمته في التربة العربية، إلا وفق تعيّنات تخلطه بمفاهيم أخرى، كالنظام والسلطة والحكومة وما شابهها، وبقي ملتبسًا وملحقًا في الخطاب العربي المعاصر، الذي أنتج مفاهيم هجينة وممسوخة، فيما تمادى خطاب بعض الأنظمة الحاكمة في البلدان العربية إلى إلحاق الدولة باسم حزبها، أو حاكمها المستبد، مثل “دولة البعث”، التي أطلقت على سوريا بعد انقلاب 1963، ثم تحولت إلى “سوريا الأسد” بعد انقلاب حافظ الأسد عام 1970.

تتجسد الدولة في مؤسسات سياسية وقانونية في إقليم معين، يقطنه مجموعة من الناس بصفة دائمة، ويخضعون لهيئة حاكمة عليا تمارس سيادتها عليه، لكنها وظيفيًا، متعددة الوظائف، مثل حفظ الأمن وإدارة الشؤون الاجتماعيّة والاقتصاديّة. ولعل التعارض الأساسي بين الدولة والنظام السياسي، يكمن في أن الدولة باقية، فيما يتغير النظام السياسي وفقًا لتغير القوى السياسية التي تحكم الدولة، فالنظام الأسدي سيزول آجلًا أم عاجلًا، مثلما زالت أنظمة كثيرة من قبله، بينما ستبقى سوريا.

أما مفهوم النظام، فقد استخدم للإشارة إلى شكــل السلطات وتوزيعها، ونوع الحكم، ويتجسد في مجموعة من البنى السياسية، والقواعــد القانونيــة، والأسس الدستوريـة، التي تتجلى من خلالها إرادة أي سلطــة. واستخدم في المجال السياسي العربي للإشارة إلى النّظام الاقتصادي، كالرأسمالي والاشتراكي، أو إلى طبيعة النظام السياسي، مثل النّظام الدّيمقراطي، أو إلى النظام البرلماني أو الرئاسي.

السلطة والتسلط

يمّيز الفكر السياسي الحديث بين مفهومي السلطة والتسلط، لإزالة الخلط الحاصل بينهما، الذي يأخذ على الدوام طابع إشكالية معرفية لها أهميتها وخصوصيتها، الأمر الذي دفع بالعديد من الفلاسفة والمفكرين إلى تحليلها وتبيان ماهيتها، وذلك على خلفية الكشف عن الاختلاف بين المفهومين، وتبيان الحد الفاصل بينهما.

تشير السلطة بمعناها الواسع، إلى كونها شكلًا من أشكال القوة، وبوصفها وسيلة يحاول شخص، من خلالها، فرض ما يمكن أن يؤثر به على سلوك شخص آخر، لكن القوة تتميز عن السلطة، بالنظر إلى اختلاف الوسائل المتبعة لتحقيق الإخضاع أو الطاعة، إذ يمكن القول إنها تمثل القدرة على التأثير في سلوك الآخرين، فيما تمثل السلطة بادعاء حقها في القيام بذلك، وبالتالي فإن القوة تحقق الإخضاع من خلال القدرة على الإقناع، بواسطة الضغط، أو التهديد، أو الإكراه بالعنف، أما السلطة فهي تعتمد على ادعاء مدرك ومفهوم للحق في الحكم. ويحدث الإذعان، أو الخضوع، من خلال التزام اخلاقي ومعنوي من طرف المحكوم، بأن يطيع الحاكم في الأنظمة الديمقراطية، التي تقوم على التعاقد الاجتماعي.

قاد الاشتغال الفكري السياسي المعاصر إلى البحث عن سلطة لا تتحول إلى تسلط، وعن كيفية إيجاد نظم سياسية تتحقق فيها العدالة، ولا تجنح نحو العبودية والاستبداد، عبر تحقيق التوازن بين حرية الإنسان وسلطة الدولة أو النظام، وعلى هذا الأساس تمحورت جهود فلاسفة ومفكرين كثر خلال مختلف مراحل التاريخ البشري، وتكللت بأعمال كثيرة، من بينها مؤلفات الفيلسوف السياسي جان جاك روسو (1712 – 1778)، الذي اجترح العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم “Du Contrat Social”  [8] ، وأعمال فلاسفة آخرين وضعوا تصورات حاولت إيجاد توازن ديمقراطي ممكن بين حرية الفرد وسلطة الدولة.

تشير السلطة في المجال التداولي العربي إلى القدرة والملك [9] ، كما أنها تحيل إلى التسلط، والتغلب، والقهر [10] ، وخاصة من جهة الفعل منها، لكن مفهوم السلطة لم يجر الاشتغال الفكري الكافي عليه، ولا على أقلمته فكريًا وفلسفيًا، واقتصرت مركباته على المعاني والدلالات المترجمة عن لغات أجنبية، وخاصة اللغتين الفرنسية والإنكليزية، فيما ينطوي معنى السلطة في المجال التداولي العربي على معنى القوة والسطوة، وأيضًا على دلالة سياسية أو قانونية معينة، فيقال مثلًا سلطة النظام، وسلطة الدولة، والسلطة السياسية، أو السلطة الفردية، والسلطة التشريعية والتنفيذية.. إلخ. وبنفس الوقت، يجري الخلط بين السلطة والتسلط، ومشتقاتها المجسدة في التسلطية والسلطوية، والأمر ينسحب إلى مفاهيم الاستبداد والديكتاتورية والشمولية وغيرها.

يرى بيير داكو أن ثمة فرقًا كبيرًا بين مفهومي السلطة والتسلط، فالسلطة وسيلة تسعى إلى تحقيق هدف واقعي، وتحترم الأشخاص الذين تحكمهم كليًا، وهي القيادة الديمقراطية في صورته النقية. أما التسلط فهو على العكس من ذلك تمامًا، إذ توظف ممارسات التسلط قوة السلطة كغاية بحد ذاتها، حيث تنتفي في هذه الصورة إمكانيات الحوار مع الآخرين، ويكون صاحب السلطة هو المستبد المطلق، والطاغوت المنفرد بالسلطة والقوة في مختلف الحالات، وللسلطة تجاوزات قد تصل إلى حد الاستبداد [11] .

الدولة تسلطية أم النظام؟

تعتبر إريكا فرانتز أن النظام هو “مجموعة من القواعد الرئيسة، الرسمية وغير الرسمية، التي تحدد من له أن يؤثر في خيارات الحكام والسياسات، بما في ذلك القواعد التي تحدد الدائرة التي يُختار منها الحكام” [12] . ويكون النظام سلطويًا إذا:

1- انتزع الذراع التنفيذي فيه السلطة بطرائق غير ديمقراطية، أي بطرق غير الانتخابات الحرّة والنزيهة (مثل كوبا في عهد الأخوين كاسترو أو سورية في عهد الأسدين، الأب والابن).

2- إن وصل الذراع التنفيذي بانتخابات حرّة ونزيهة، ولكن بعد ذلك قام بتغيير القواعد بما يفرض قيودًا على أي منافسات انتخابية آتية، سواء تشريعية أم تنفيذية (مثلما حصل في كل من كينيا في عام 1963، وزامبيا عام 1996، وتركيا بعد وصول حزب العدالة والتنمية عام 2002). وعليه، فإنها تضع الانتخابات الحرة والنزيهة معيارًا أساسيًا تتمايز فيه الأنظمة السلطوية عن الأنظمة غير السلطوية، كونه يحدد مسار وصول الحكومة إلى السلطة وكيفيته” [13] .

من جهته، اجترح خلدون النقيب مفهوم الدولة التسلطية، وذلك في أطار دراسته للسلطة السياسية الحديثة في المشرق العربي، معتبرًا أنها أعلى أشكال الاستبداد، وسليلة الدولة البيروقراطية الحديثة. إضافة إلى أنها تمثل الشكل الحديث والمعاصر للدولة المستبدة القديمة، وتمتلك ناصية الاستبداد من خلال الاحتكار الفعال لمصادر القوة والسلطة في المجتمع [14] لصالح النخبة الحاكمة.

توصيف النقيب للدولة التسلطية، هو توظيف يخص النظام السياسي، ولا يخص الدولة إلا بشكل إجرائي، أو بالأحرى مجازي، أي بعد أن تمسخها الأنظمة التسلطية وتجعلها على صورتها، وأفضل هنا استخدام مفهوم الأنظمة المتسلطة. فسلطات الأنظمة السياسية في المشرق العربي التي درسها النقيب سيطرت على كل مفاصل الدولة، ومسختها على صورة النظام القائم، وبات من الصعب التفريق بين النظام والدولة، وهذا ما فعلته –وما تزال– الأنظمة المتسلطة بالدولة والمجتمع في معظم بلداننا العربية، وخاصة في سوريا والعراق وسواهما.

ما يهمنا أكثر هو الجانب الهام، الذي التفت إليه النقيب، ويخص أن النظام التسلطي، أو المتسلط، يسعى إلى تحقيق احتكار السلطة بواسطة اختراقه للمجتمع المدني، وتحويل مؤسساته إلى تنظيمات تضامنية، تعمل بوصفها امتدادًا لأجهزة النظام، حيث يُبنى الحكم الاستبدادي على تسيد الدولة البيروقراطية، من خلال توسيع قدرتها على تنسيق البنى التحتية، بحيث تخترق المجتمع المدني بالكامل، وتجعله امتدادًا لسلطتها، وتحقق بذلك الاحتكار الفعال لمصادر القوة والسلطة في المجتمع [15] . بالمقابل، يتيح النظام التسلطي المجال لعودة مختلف التنظيمات والتشكيلات ما قبل المدنية، كالقبلية والطائفية [16] .

 

نظام الأسد

تكمن الإشكالية في توصيف أنظمة الحكم العربية، وما يعنينا هنا، النظام في سوريا، الذي أفضّلُ تسميته النظام الأسدي، بنسختيه الأب والابن. هل هو نظام شمولي أم ديكتاتوري واستبدادي، أم نظام سلطوي أم نظام تسلطي، يقوده حاكم متسلط؟

قبل كل شيء، نشير إلى قصور توصيف مفهوم الشمولية أو الاستبداد والديكتاتورية على نظام الأسد، على الرغم من أن المقدمة النظرية لهذا البحث تشي بأن مفهوم النظام الشمولي يمكن أن نوصّف به نظام الأسد، من حيث أن هذا النظام أقام سلطته، في عهد حافظ الأسد، على خليط من الضباط والمدنيين، الذين شاركوا بانقلاب 16 تشرين الأول/ أكتوبر 1970، واعتمد على الجيش، الذي حوله إلى جيش عقائدي، وله أذرع أمنية، وأجهزة أمنية واستخباراتية، تحولت فيما بعد إلى الركيزة الأساسية للنظام، كما اعتمد على حزب وحيد هو حزب البعث، وتفرعاته التابعة له، كالطلائع وشبيبة الثورة والاتحادات المهنية والجندرية والنقابات والجمعيات، ووظفها جميعًا كوسيلة للهيمنة على المجتمع، بإشراف أجهزة الأمن المتعددة وتنفيذها، وأجهزة أخرى، استخدمها من أجل ضبط حركة المجتمع ومراقبة حراكه، وتدجينه، ومن أجل التسلط على كل قوى المجتمع السوري، ومكوناته المدنية والأهلية الإثنية والطائفية، باستخدام مركبات التسلط القائمة على الإكراه والقمع والملاحقة والإرهاب والعدوان، بوصفها أدوات فرعية أو بديلة على الأقل في حال غياب التسلط المباشر، حيث تدخل وسائل القمع والقهر والعدوان والإرهاب والاعتداء في بنية مفهوم التسلط وتركيبته الذي نهض عليه نظام الأسد بنسختيه، الأب والابن، بواسطة ممارسة البطش والقوة والقمع والإكراه والإرهاب والعدوان، وكافة أشكال العنف العاري أو المستتر، وذلك في ظل حالة الطوارئ، التي فرضها عسكر حزب البعث، الذين نفذوا انقلاب 8 آذار/ مارس 1963، وأعلنوا الأحكام العرفية بالأمر العسكري رقم 2، وعاش في ظلها السوريون عقودًا عديدة، حيث لم يتم إنهاء حالة الطوارئ إلا في 21 نيسان/ أبريل 2011، على إثر اندلاع الثورة السورية.

لقد جمع نظام الأسد، وفق نسخة الأب المؤسس، حافظ الأسد، بين الشمولية والديكتاتورية والاستبدادية، وأسس نظامًا تسلطيًا هجينًا، جرت عملية هندسته وفق منطق وتركيبة النظام المتسلط على الدولة والمجتمع. وتمكن من إطباق سيطرته على كل مناحي الحياة، خاصة بعد الأحداث الدموية في ثمانينيات القرن العشرين المنصرم. واستند النظام في نسختيه إلى العصبية والزبائنية في حمايته، وفي تأمين حاضنته الاجتماعية، ولعب العصب الطائفي، ممثلًا بالعلوية، الدور الرئيس في تثبيت مفاصل الحكم وحمايته، حيث أصبح مركز السلطة علويًا، فيما احتل دوائر البصلة المركزية، التي اجترحتها أرندت للنظام الشمولي، علويون موالون ومقربون من الأسد وعائلته، كما تولى ضباط علويون أهم المناصب في الجيش العقائدي وأجهزة الأمن، واتخذ النظام الطائفة العلوية كرهينة بين يديه.

جرى التعامل مع السلطة في نظام الأسد التسلطي بوصفها غاية بحد ذاتها، فصاحب السلطة هو الأسد، المستبد المطلق، والطاغوت المنفرد بها وبالقوة في مختلف المراحل والحالات التي عرفتها سورية. واستخدمت السلطة من أجل فرض السيطرة التامة على الدولة والمجتمع، ومصادرة الحريات العامة. واختصر نظام الأسد الدولة السورية بشخص حافظ الأسد، ثم بشار الأسد، بعد توريثه السلطة. كما اختصر الشعب السوري إلى حفنة من المريدين أو بالأحرى المنحبكجية، والشبيحة، والخانعين، وجرى إلغاء وجود الآخرين، واتهامهم بالخيانة والعمالة واللا وطنية.

بالمقابل، لجأ النظام إلى الادعاء بأنه بنى دولة رعاية اجتماعية في مجالات التعليم والصحة والخدمات، واتخذ مؤسسات الدولة كمرافق لتحقيق سيطرته المطلقة والانصياع التام للجماهير، وكان العنف إحدى الأدوات الرئيسة، والأكثر فعالية، لتحقيق الانصياع الجماهيري، من خلال النظام الأمني والاستخباراتي، وليس عبثًا أنه أنشأ أكثر من 16 فرعًا للأجهزة الأمنية الاستخباراتية، وأذرعها السرية والعلنية.

سعى نظام الأسد إلى مصادرة الفضاء العام، ولم يترك أي منظمة أو تنظيم مؤسس على المصالح المشتركة للسوريين، إلا وهيمن عليه، أو أفرغه من محتواه، أو صادره، وشمل ذلك وسائل الإعلام، والأحزاب السياسية، والمجالس البلدية، ومجالس الأحياء، والجمعيات الأهلية والمدنية، والمنظمات المهنية، أو النقابية، والخيرية، وسوى ذلك. وحوّل السوريين إلى رعاة في البراري، أو جماهير ضائعة، ليس لها مصالح خاصة أو محدّدة، ولم تعد تملك أي نقطة واضحة، أو أي مشروع مشترك يهدفون إلى تحقيقه، وأفضى كل ذلك إلى تفتيت النسيج الاجتماعي، وانهيار البنية المجتمعية الداخلية للسوريين، وانقطاعهم بعضهم عن بعض، ففي أنظمة الاستبداد والشمولية، تنقطع الصلات السياسية بين الناس، ويحال دون الاستعدادات البشرية للعمل والسلطة، غير أنه لا يمكن أن يقضي على كل الصلات بينهم، وما كان ليحطم كل “الاستعدادات البشرية” [17] . ومن الطبيعي أن يُدفع الناس إلى العزلة، بعد تدمير حياتهم المدنية والسياسية ومصادرتها، لتصبح العزلة ذلك الطريق المسدود، الذي تريد الأنظمة المتسلطة إسكانهم فيه.

على الرغم من العزلة والتدجين ونشر الرعب، إلا أن المشاركة الجماهيرية في الطقوس المنظمة كاملة على الدوام، مع أن النظام الأسدي كان يجبر الجميع على الانخراط فيها، وخاصة في المسيرات “الحاشدة” المؤيدة له، وفي التجمعات الخطابية، وذلك في إطار سعيه إلى تحويلهم لرعاع أو بالأحرى شبيحة، يمكن الاعتماد عليهم للانخراط في تكتلات وتنظيمات جماهيرية، تضم إليها أفرادًا مبعثرين ومعزولين، وتصبح الحالة الجماهيرية “النتيجة المنطقية والتاريخية لتدمير البنى الاجتماعية وإعادة تنسيقها، وإدماج مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في مجال واحد هو مجال السلطة الشمولية التي لم يكن بوسعها أن تكون كذلك لولا سيطرتها المحكمة على جميع مفاصل الإنتاج الاجتماعي” [18] .

اختراق المدني

عمل نظام الأسد، منذ البداية، على تطويع جميع منظمات المجتمع المدني، وقام باختراقها والتدخل في تفاصيل عملها وتركيبتها وفعالياتها. وكانت البداية من النقابات المهنية، حيث أخضع نقابات العمال واتحاد الفلاحين واتحاد الطلبة والاتحاد النسائي وألحقها جميعًا بأجهزة السلطة، مثلها مثل حزب البعث، الذي تحول إلى مجرد تابع، وليس حزبًا حاكمًا. واعتمد النظام على رجاله في عمليات الاختراق، أو على آخرين استمالهم إليه، وأصبحوا من أتباعه أو عملائه داخل النقابات والجمعيات، التي فقدت استقلاليتها تدريجيًا حتى انعدمت، وفقدت معها القدرة على حماية مصالح أعضائها أو تمثيلها، ولم يعد لها أي نشاط خارج ما تفرضه أجهزة النظام عليها، وبات لها دورٌ إذعانيٌّ كما لم يعد ينطبق عليها توصيف منظمات مجتمع مدني، لأنها أضحت امتدادًا لأجهزة الدولة في كل شيء، وذلك بعد أن جرى إخضاعها، وتغيير مواثيقها وبرامجها، بموجب قرارات عديدة، أصدرها نظام الأسد، وخاصة بعد أحداث عام 1980 [19] .

جرى خلال عقدي ثمانينيات القرن العشرين المنصرم وتسعينياته ممارسةُ تضييق شديد على كل المبادرات والمحاولات للقيام بعمل مدني، ووصل الأمر إلى حظر الأنشطة الرياضية والبيئية والكشفية، “وتعرض المشاركون فيها للاستجواب والمساءلة، بموجب قانون الطوارئ.. وإكمال تأطير تلامذة المدارس وطالب الجامعات في منظمات طلائع البعث واتحاد شبيبة الثورة والاتحاد الوطني لطلبة سورية، كمنظمات رديفة لحزب البعث. كما تم إنشاء منظمات واتحادات لتضم الفئات المدنية والمهنية الأخرى، وتمت السيطرة التامة على ما كان موجودًا من قبل،” كاتحاد الصحفيين واتحاد الكتاب والاتحاد الرياضي واتحاد العمال واتحاد الفلاحين ومنظمة الاتحاد النسائي والجمعيات الحرفية” [20] .

محاولة الإحياء

مع نهاية حكم حافظ الأسد، ثم وفاته (10 حزيران/ يونيو 2000)، وتوريث ابنه بشار مقاليد السلطة، تنادى مثقفون وناشطون من أجل إحياء المجتمع المدني السوري، واستفادوا من عدة عوامل، أبرزها:

1- المتغيرات الدولية التي حملها سقوط جدار برلين في 9 كانون أول/ نوفمبر 1989، وانهيار الاتحاد السوفييتي السابق مع نهاية كانون الثاني/ ديسمبر 1991، ومعه دول المنظومة الاشتراكية.

2- التحول نحو الديمقراطية والثورات التي اجتاحت معظم دول المنظومة الاشتراكية السابقة.

3- إشاعة جوّ من الانفتاح، خلال عمليات ترتيب انتقال السلطة من الأب إلى الابن.

4- التخفيف من الإجراءات الأمنية، وإرخاء القبضة الجديدة، بالتزامن مع وعود الإصلاح التي حملها خطاب القسم الذي ألقاه بشار الأسد [21] .

تشكلت “جمعية أصدقاء المجتمع المدني”، التي قام بتأسيسها عدد من المثقفين السوريين بعد عقدهم عدة لقاءات سريّة، وصياغتهم لورقة تأسيسية، جاء فيها “إن المجتمع المدني كما نراه هو مجموع التنظيمات المجتمعية غير الحكومية من جمعيات ونقابات وهيئات ومنظمات وأحزاب ووسائل إعلام حرَّة ومتعددة ونواد ومؤسسات، وجوهره الخيار الديمقراطي، ولا يمكن للديمقراطية أن تتجسَّد إلا عبر نهوض المجتمع المدني بأنظمته ومؤسساته، وخلق حالة حوار نَقدي بين المجتمع والدولة من أجل مصلحة الوطن، كما أن تفعيل مؤسسات المجتمع المدني يُعتبر السبيل الوحيد لبناء دولة للجميع وتحقيق حراك اجتماعي فاعل وصولًا إلى الدعوة إلى تأسيس جمعية أصدقاء المجتمع المدني في سوريا علَّنا نقدم جهدًا يُسهِم في بناء مجتمع ديمقراطي متطور” [22] .

بدأت جهود إحياء المجتمع المدني ومحاولاته، بوصفها مدخلًا لإحياء السياسة في المجتمع السوري التي حرمها منه النظام، وعنى ذلك أن الثقافي كان مدخلًا للمدني، الذي شكل بدوره مدخلًا للسياسي، على أن نفهم السياسية ليس بمعناها الحزبي المباشر. وأغلب من ساهموا في حركة الإحياء كانوا معتقلين سياسيين، خرجوا بعد سنوات مديدة من سجون أجهزة النظام وزنازينها، إضافة إلى مثقفين، وحقوقيين، وناشطين، من خلفيات فكرية وسياسية متنوعة، وبعض الصناعيين ورجال الأعمال.

لاقت دعوات الإحياء أصداء واسعة، وقبولًا كبيرًا في الوسطين المدني والسياسي، خاصة بعد أن أصدر مثقفون وناشطون سياسيون بيان الـ 99 [23]  في27 أيلول/ سبتمبر 2000، ووثيقة الألف [24]  في 10 يناير/ كانون الثاني 2001، ثم أعلن عن تأسيس “لجان إحياء المجتمع المدني” في 14 أبريل/ نيسان 2001، وبالتزامن مع هذا الحراك عاد النشاط إلى بعض المنظمات الحقوقية، ونشأت منظمات جديدة، مثل “جمعية حقوق الإنسان في سوريا”، التي تأسست في 02 تموز/ يوليو 2001، ومنظمة حقوق الإنسان في سورية (ماف)، التي تأسست في 2004. كما نشأت منتديات حوارية عديدة، تناولت قضايا فكرية وسياسية، وأطلق على هذا الحراك المدني والسياسي اسم “ربيع دمشق” [25] ، الذي سرعان ما دمرته سلطات نظام الأسد الابن، واعتقلت أغلب الناشطين فيه، وحكمت عليهم بالسجن سنوات عديدة.

المدني والسياسي

ترددت مقولة “الحرية تُؤخذ ولا تُعطى”، على لسان العديد من المفكرين والفلاسفة، ووفقها تحرك نشطاء “ربيع دمشق”، ودفعوا ثمنه. وكان من الصعب فصل العمل المدني عن العمل السياسي، في ظل نظام التسلط الأسدي في سوريا، لأن تحرير المجال العام، وحتى فسحات صغيرة منه، غير ممكن دون فكّ الهيمنة الشاملة، التي فرضها النظام على المجتمع، ذلك أن المجال العام أو الفضاء العمومي يفهم على أنه الحيّز أو المساحة، التي يتواصل ويتناقش من خلالها الأفراد والجماعات المجتمعية، ويتجادلون فيه حول مختلف القضايا والاهتمامات العامة. واعتبره هابرماس بأنه “المجال الفاصل بين الدولة والمجتمع، وينبثق من المجال الخاص، لذلك يجب التمييز بين المجال العام والخاص، فالمجال العام يتكون من مجموعة من الأفراد الخصوصيين” [26] ، بالنظر إلى التعارض بين الفضاء العمومي والدّولة، وخاصة إذا هيمن عليها نظام تسلطي، كونها تسعى إلى ضبط العمل المدني ومراقبته ، وتطوير وسائل الهيمنة والسّيطرة على الرأي العام وتوجيهه نحو أهدافها، موظفة كل سلطتها القانونية، وكل وسائلها الدعائية، في حين أن الفضاء العمومي مضاد للسلطة الاستبدادية، ويقتصر دوره أساسًا على نقد آليات السيطرة والهيمنة، ويسعى إلى بناء رأي عام قادر على لعب دور الوساطة، حيث “يلعب الرأي العام دور الوساطة بين حاجات المجتمع والدّولة” [27] .

 

حراك جديد

ما يسجل على محاولات إحياء المجتمع المدني في سوريا، ليس شجاعة حاملي المشروع من المثقفين والناشطين السياسيين والمدنيين الذين دفعوا ثمنًا باهظًا، بل توظيفهم العمل المدني في سياق مطلبي وسياسي، وبالتالي كان السياسي محمولًا على المدني والثقافي، ولم يكن النضال المدني مستقلًا بأدواته أو بمضامينه أو توجهاته، حيث إن لجان المجتمع المدني على الرغم من تأكيدها أنها لا تشكل مرجعية أو بديلًا أيديولوجيًا أو منافسًا سياسيًا، إلا أنها لم تخفِ مطالبها المتمثلة في “وقف العمل بقانون الطوارئ، وإطلاق الحريّات، بما فيها إصدار قانون لتنظيم عمل الأحزاب والجمعيات والنوادي والمنظمات غير الحكومية، واستقلال القضاء، ومنح المواطن الحقوق الاقتصاديّة المنصوص عليها بالدستور”([28])، وكذلك دعا بيان الـ 99 إلى “إلغاء حالة الطوارئ والأحكام العُرفية المطبَّقة في سوريا من عام 1963، وإصدار عفو عام عن كافة المعتقلين السياسيين، والسماح بعودة المنفِيِّين، وإرساء دولة القانون وإطلاق الحريات العامة والاعتراف بالتعدُّدية السياسية والفِكرية وحرية الاجتماع والصحافة والتعبير عن الرأي” [29] .

لا شك أن الناشطين السياسيين الذين اجترحوا فكرة الإحياء كانوا على دراية، بأن ممكنات العمل المدني في ظل نظام الأسد محدودة جدًا إن لم نقل معدومة، حيث ذهب، أكرم البني، إلى القول إن “من غير الممكن الحديث عن مجتمع مدني حي في إطار دولة تسلطية” [30] ، ثم وضع أربعة شروط لنجاح عملية الإحياء:

1- نقد المناخ السياسي السائد وتغييره.

2- توفير شرط جديد، يزيح بعبع الخوف والرعب، ويفتح شهية الناس إلى المشاركة في الشأن العام.

3- نشر ثقافة الديمقراطية وتربية النفس والآخرين على التسامح، واحترام ظواهر التعددية وحق الاختلاف وتخفيف حدة الاستقطابات والتوترات المجتمعية ونوازع التطرف والمغالاة [31] .

كل هذه الشروط لم تتوفر في الفترة التي عرفت باسم ربيع دمشق، وبالتالي في ظل نظام تسلطي كنظام الأسد، كان من شبه المستحيل نجاح مشروع إحياء المجتمع المدني، الأمر الذي يثير شكوكًا حول توفر ممكنات العمل المدني في المجتمعات المسيطر عليها من طرف أنظمة متسلطة بشكل عام، ذلك أن المجتمع المدني المستقل لا يجد متنفسًا في إطار دولة تسلطية، كون العمل المدني بشكل عام يتطلب فسحة من الحريات العامة، وانتفاء مظاهر الخوف والرعب من الملاحقة والاعتقال والتصفية، وبالتالي فإن تحرير حيزّ من الفضاء العام يتطلب كثيرًا من الجهد المحفوف بالمخاطر والمعوقات في ظل النظام الأسدي المتسلط على الدولة والمجتمع، والذي لا يتسامح مع محاولات نشر ثقافة الديمقراطية والمواطنة والتعددية وحق الاختلاف والشراكة في الوطن، وتعزيز الحوار بين مكونات المجتمع وأفراده، حسبما كان يطمح إليه نشاط ربيع دمشق.

شكل حراك ربيع دمشق بمختلف مُنتدياته ولجانه وجمعياته، قفزةً نوعية في تاريخ عمل الحركات الاجتماعية في سوريا وأسلوبه، وفي طرق النضال المدني ضد سلطة الاستبداد والتسلطية، عبر تبنيّه التنوير والتثقيف الفكري والسياسي، واتباعه الأسلوب السلمي والحواري في الدفع نحو التغيير الديمقراطي، والدفاع عن حقوق الإنسان وحريته وبيئته، ومُناهضة نهب خيرات سوريا، بالابتعاد عن الأساليب العنفية في التغيير. وقد تميز الحراك الاجتماعي السوري في مطلع الألفية الثالثة بالميزات التالية:

1- عدم حصره في إطار طبقة أو فئة مُعينة، بل انخرط فيه ناشطون سوريون من هويات مُتنوعة عابرة للطبقات وللطوائف والإثنيات.

2- اعتمدت مجموعاته على التنظيم والتشبيك غير المقيد.

3- تركزت الأهداف على القضايا الاجتماعية والثقافية بالمقام الأول، ولم تكن سياسية بشكل مباشر، إضافة إلى تميز مجموعاته بمستوى وعي مرتفع.

4- لم تسع إلى الوصول للسلطة السياسية، بل إلى تفعيل دور المجتمع المدني وزيادة مساحة استقلاليته، وتحرير الفضاء العمومي.

5- اتجهت إلى المشاركة السياسية المباشرة بواسطة طرق غير تقليدية، تجسدت في إصدار البيانات المطلبية، والمشاركة أو تنظيم اعتصامات ووقفات احتجاجية، وتكوين حركات اجتماعية جديدة لإحياء المبادئ الدستورية، والعودة إلى الممارسات الديمقراطية في سوريا قبل وصول حزب البعث إلى السلطة.

إذًا، اتخذت حركة إحياء المجتمع المدني موقعًا جديدًا، تجسد في الدفع نحو التغيير الديمقراطي، ونحو التغيير السياسي، وذلك بالنظر إلى ضعف الأحزاب السياسية وعجزهاعن أداء أدوراها في ظل النظام المتسلط، الذي عمد جاهدًا إلى إغلاق الفضاء العام، وألغى الممارسة السياسية خارج دائرته، عبر مُمارسات قمعية تسلطية.

عودة المدني

اللافت هو أن الثورة السورية التي اندلعت في 15 آذار/ مارس، كان حراكها الاحتجاجي السلمي محمولًا على عمل مدني لقوى المجتمع المدنية، التي عادت إلى الظهور في تشكيلات وشبكات عديدة، واجترح شبابها أشكالًا جديدة للعمل والتنظيم، تجسدت في التنسيقيات واللجان والشبكات، التي كانت بمثابة فرق عمل ذات طابع مستقل وتطوعي، وليس لها أي انتماء حزبي سياسي أو عسكري، بل قامت بتنظيم مظاهر الاحتجاج في مختلف مناطق سوريا، والمطالبة باستعادة الحقوق المدنية والسياسية التي صادرها نظام الأسد التسلطي طوال أكثر من أربعة عقود من الزمن. “ولم تكن التنسيقيات هي الكيان الوحيد الذي عاد المجتمعُ المدني للحضور من خلاله، فقد شهد عام 2011 تأسيس تجمعات مدنية تطوعية وتضامنية، غايتها مساعدة طبقات المجتمع الفقيرة والمحتاجة أو المتضررين من سياسات العنف التي اتبعها النظام السوري، وحمايتهم من المؤسسات التي يسيطر عليها، مثل المراكز الصحيّة، الخدمية، الأمنية، وغيرها [32] .

مثلت التنسيقيات واللجان شبكات تنظيمية مدنية تطوعية، غايتها تعبئة طاقات المحتجين وتوجيهها نحو ميادين التظاهر والاعتصامات والوقفات وسواها، وتعاون فيها الناشطون بوصفهم أفرادًا، لا يمثلون أحزابًا سياسية، وتوزعوا الأدوار والمهام والتنسيق العقلاني للأنشطة والفعاليات الاحتجاجية والإعلامية والخدمية، وأخذ التشبيك في داخل التنسيقيات وخارجها أشكالًا مختلفة من أجل التعاون، بغية تحقيق الأهداف المشتركة للحراك الاحتجاجي. بالمقابل، لجأت سلطات النظام إلى القمع والقتل وملاحقة أغلب الناشطين المدنيين، في التنسيقيات واعتقالهم، وتمكنت من تصفية معظمهم، فيما اضطر الناجون منهم إلى الهرب خارج مناطق نظام الأسد.

الخاتمة

تظهر تجارب المجتمعات الحديثة، أن العمل المدني بمختلف أشكاله، لا يمكن أن ينمو ويزدهر، إلا في ظل أنظمة ديمقراطية، أو على الأقل أنظمة تترك هوامش له، لكنه يختنق تحت نير أنظمة الحكم الشمولية والديكتاتورية، ويكون أشبه بالحفر في صخور صلبة وقاسية.

وفي الحالة السورية، تركز العمل المدني حول كيفية إنعاش المجتمع، ورفع الظلم الواقع على إفراده وتكويناته، والتخفيف من وطأة الواقع القهرية، التي لا تطاق. واصطدم بكون مؤسسات المجتمع المدني مستولى عليها من طرف السلطات والأجهزة، وكانت تعمل وفق الحدود والضوابط التي يسمح بها النظام الشمولي الأسدي، ولا تتواجه معه، بل تقوم بادعاء احتكار العمل المدني، وتمثيل قوى المجتمع، وذلك كي تمنع الساعين بالفعل إلى تحرير المجال العمومي وتسكتهم، وإلى التصدي للظلم والقمع، لذلك فإن ما يزيد من صعوبة الحفر في صخرة الشمولية الأسدية، أن الجمعيات والمؤسسات التي تصنف تحت تسمية المجتمع المدني لا تتوافق مع معنى، المجتمع المدني أو دوره الساعي إلى كسر هيمنة النظام التسلطي الشمولي، وتحرير الفضاء العام، فبعضها متواطئ مع النظام بشكل كامل، وبعضها الآخر انساق نحو مصالح ومطامع قيادتها الضيقة، وأسهمت في إعادة إنتاج الظلم والقمع، وتهميش أصوات المجتمع المدني الحقيقية وإسكاتها، وعملت بتكاتف وتناغم مع ما تريده سلطات النظام القمعية. وكانت تلك المؤسسات محدودة السقف، وتقوم باحتكار الفسحات والهوامش المدنية، وتدعي تمثيل قوى المجتمع المدني، حيث النقابات المهنية، كنقابات العمال مثلًا، تدعي تمثيل العمال، والدفاع عن مصالحهم، والجمعيات الحقوقية تدعي الدفاع عن حقوق الإنسان، وتنفي وجود أي انتهاكات لها، فيما كانت في الواقع تتماهى مع أجهزة المنظومة التسلطية، عبر خدمتها بشكل مباشر وغير مباشر،

هناك أصوات تجادل بأنه في الحالة السورية، “من المهم للغاية لقوى المجتمع المدني فرض صوتها السياسي والمُسيّس على من يحاول تحييده، والعمل نحو كسر الثنائية التي خُلِقت ما بين المدني والسياسي، إذ لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر ” [33] . لكن إذا كان من المهم عدم التخلي عن الدور السياسي للقوى المدنية، فإن ذلك لا يعني إزالة الحدود، والتماهي بين المدني والسياسي، كونهما ينتميان إلى مجالين مختلفين. كما أن سعي قوى المجتمع المدني نحو تحرير الفضاء العام، والقيام بدور الوساطة، وتحقيق العدالة… انعكس على قيامها بأنشطة سياسية، لكنها لم تقم بكل ذلك وفق منطق العمل السياسي المباشر، وكان على الأحزاب السياسية أن تقوم بذلك.

ومع هذا كله، يبقى السؤال قائمًا حول ممكنات العمل المدني، وسبل استثمار الهوامش القليلة، التي تتاح للقوى المدنية، وتأتي في حالات ضعف القبضة التسلطية الشمولية، أو حين تحدث عمليات انتقال للسلطة، أو بتأثير ضغوط دولية. ولا شك في أن السوريين قادرون على اكتشاف طرق مبتكرة للتنظيم المدني، وطرق عمله، سواء في أماكن اللجوء، أو في مجتمعاتهم، التي تتقاذفها قوى الأمر الواقع الثلاث، النظام، وقوى الشمال الغربي، وقوى الشمال الشرقي، خاصة بعد أن تعرض النسيج المجتمعي السوري إلى التفكك والتبعثر، وفي ظل وجود قوى تعمل على قتل ما تبقى من مظاهر مدنية حيّة فيه.

 

المراجع

 

إريكا فرانتز، السلطوية.. ما يجب أن نعرفه، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ترجمة حمزة عامر، 2022.

بيير داكو، الانتصارات المذهلة لعلم النفس الحديث، ترجمة وجيه أسعد، الشركة المتحدة للتوزيع، دمشق، ط2، 1986.

جاد الكريم الجباعي، المجتمع المدني: هوية الاختلاف، ترقا للطباعة والنشر والتوزيع، دير الزور، ط1، 2003.

حسن سعيد الكرمي، الهادي، قاموس عربي-عربي، دار لبنان للطباعة والنشر، ج2، بيروت، 1992.

حنة أرندت، التفكير الحر، ترجمة مالك سلمان، دار الساقي، بيروت، 2022.

حنة أرندت، أسس التوتاليتارية، ترجمة أنطوان أبو زيد، دار الساقي، بيروت، ط2، 2016.

خلدون حسن النقيب، الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط2، 1996.

رياض سيف، سيرة ذاتية وشهادة للتاريخ، تحرير أكرم البني وأسامة عاشور، مؤسسة دار الجديد، بيروت، 2020.

Jürgin Habermas, l’espace public: Critique de la   politique, Trad: Marc.B.de Launay, Payot, Paris, 1978 Paris.

Jürgin Habermas, Droit et démocratie. Entre faits et normes, trad: R. Rochlitz et C. Bouchindhomme, Paris, Gallimard, 1997.

Montesquieu, De l’esprit des lois, Édition établie par Laurent Versini, Paris, Éditions Gallimard, 1995. P 26.

Du contrat social ou Principes du droit politique, Jean-Jacques Rousseau, publié en 1762.

 


 

1 – حنة أرندت، التفكير الحر، ترجمة مالك سلمان، دار الساقي، بيروت، 2022، ص 71.

2 – Montesquieu, De l’esprit des lois, Édition établie par Laurent Versini, Paris, Éditions Gallimard, 1995. P 26.

3 – حنة أرندت، التفكير الحر، مرجع سابق ص 100.

4 – المصدر السابق.

5 – المصدر السابق، ص 106.

6حنة أرندت، أسس التوتاليتارية، ترجمة أنطوان أبو زيد، دار الساقي، بيروت، ط2، 2016، ص 57.

7 – المصدر السابق، ص 160.

8 – Du contrat social ou Principes du droit politique, Jean-Jacques Rousseau, publié en 1762.

9 – حسن سعيد الكرمي، الهادي، قاموس عربي – عربي، دار لبنان للطباعة والنشر، ج2، بيروت، 1992، ص 272.

10 -المرجع السابق، ص 273.

11 – بيير داكو، الانتصارات المذهلة لعلم النفس الحديث، ترجمة وجيه أسعد، الشركة المتحدة للتوزيع، دمشق، ط2، 1986، ص 197.

12 – إريكا فرانتز، السلطوية.. ما يجب أن نعرفه، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ترجمة حمزة عامر، 2022، ص 17.

13 – المصدر السابق، ص 18.

14 – خلدون حسن النقيب، الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط2، 1996، ص 23 و24.

15 – المصدر السابق، ص 21.

16 – المصدر نفسه، ص 173.

17 – حنة أرندت، أسس التوتاليتارية، ترجمة أنطوان أبو زيد، دار الساقي، بيروت، ط2، 2016، ص 269.

18 – جاد الكريم الجباعي، المجتمع المدني: هوية الاختلاف، ترقا للطباعة والنشر والتوزيع، دير الزور، ط1، 2003، ص 33.

19 – القانون رقم 26 تاريخ 13/7/1981 لتنظيم مهنة الهندسة، والقانون رقم 39 تاريخ 21/8/1981 لتنظيم مهنة المحاماة، والقانون رقم 31 تاريخ 16/8/1981 لتنظيم مهنة الطب البشري، وغيرها من قوانين النقابات المهنية. انظر: جهاد مسوتي، العمل النقابي في سورية: قراءة عامة في الأنظمة الداخلية للنقابات”، مجلة المشكاة، العدد الأوّل، آذار/ مارس 2008. 

20 – منذر الشيخ، المجتمع المدني السوري قبل 2011، مركز حرمون للدراسات المعاصرة: 19 نيسان/ أبريل 2021، ص 19، انظر: https://www.harmoon.org/researches

21 – خطاب القسم الذي ألقاه بشار الأسد أمام مجلس الشعب، يوتيوب، 10/07/ 2013:

22 –  https://cutt.us/gpA42 

23 – رياض سيف، سيرة ذاتية وشهادة للتاريخ، تحرير أكرم البني وأسامة عاشور، مؤسسة دار الجديد، بيروت، 2020، ص 96.

24 –  https://bit.ly/2E7woyW

25https://bit.ly/3ckk62V

26 – أطلق اسم “ربيع دمشق”، على فترة من النشاط المدني والسياسي في سوريا، التي أعقبت وفاة حافظ الأسد في 10 يونيو/ حزيران 2000، ولم يتأخر نظام الأسد في إيقافها، واعتقال أغلب ناشطيها، ورمى بعضهم في سجونه.

27 – Jürgin Habermas, l’espace public: Critique de la   politique, Trad: Marc.B.de Launay, Payot, Paris, 1978 Paris, p 246-247.

28 – Jürgin Habermas, Droit et démocratie. Entre faits et normes, trad: R. Rochlitz et C. Bouchindhomme, Paris, Gallimard, 1997.p 56.

29https://arabiansforum.net/archives/5822

30https://bit.ly/2E7woyW

31https://www.aljazeera.net/opinions/2004/12/30

32 – المصدر السابق.

33 – تجربة المجتمع المدني السوري، مركز جسور، 15 سبتمبر/ أيلول، 2020.

34 – انظر: https://jusoor.co/ar

35 – نور أبو عصب، المجتمع المدني كأداة مقاومة: مركزة الفرد في التغيير الاجتماعي، الجمهورية، 15 تشرين أول/ أكتوبر، 2020. أنظر: https://aljumhuriya.net/ar/2020/10/15

مشاركة: