النضال المدني من الجماعة إلى المجتمع

في كلِّ البلدان التي تحكمها سلطاتٌ مستبدَّةٌ نجد فيها نقابات مهنية واتحادات وفرقًا تطوعيّة، ومن المفترض أن تكون الحقوق مصونةً لأفراد هذا المجتمع، بينما كان الواقع في هذه البلدان عكس ذلك تمامًا، فالسلطة فيها استطاعت السيطرة على مؤسسات المجتمع المدني وحولتها في واقع الحال لمجتمع عسكري وأداة جديدة من أدوات الدولة لتزيد من سيطرتها على المجتمع، لذلك لن يكون موضوع مقالتنا هذا عن تلك المؤسّسات التي يُفترض بها أن تكون تجسيدًا لفكرة المجتمع المدني، وسأتجه للبحث في عمق الفكرة ذاتها لأوضّح بعض المفاهيم الرئيسة لبناء مجتمع مدني حقيقي يكون طرفًا مقابلًا لتغوّل الدولة على المجتمع، فعندما نصل بالوعي المجتمعي إلى عمق معنى المجتمع أولًا بمقابل الجماعة، وإلى عمق معنى مدني ثانيًا بمقابل السلطة أو العسكرة، وإلى عمق معنى النضال ثالثًا بمقابل الخضوع، عند هذا تصبح تلك المؤسسات والنقابات نتيجة منبثقة عن المجتمع المدني وليس العكس.

هذا وقبل الخوض في غمار جدوى النضال المدني أو عدمها في المجتمعات، فلا بدّ لنا من البحث في فلسفة المفاهيم الأساسية، والبنى الفكرية التي بُنيت عليها أنواع النضالات المجتمعية السياسية منها والمدنية، لذلك إذا ما أردنا فهم الواقع السياسي العربي، فنحن بحاجة لمعرفة الأولويات الفكرية التي تمثل الركائز الأساسية لوعي المجتمع العربي، حيث ينطلق الفكر العربي المجتمعي من مفهوم أساسي، فهو يعطي للسياسة الأولوية في بناء حياة المجتمع بنواحيها كافّة، فيعتبر أن جميع مشكلاته متوقفة على التغيير السياسي وقد يكون هذا صحيحًا إلى حدٍّ ما في ظل ما نعيشه من أحادية الفكر الذي ينعكس على مجريات الحياة بكل مناحيها، فمعالجة هذه المشكلة تبدأ من إعادة صوغ المفاهيم الفكرية التي على أساسها بنى الإنسان العربي نظرته للعالم والحياة ككل، ففي عالمنا العربي مازلنا نعتنق فكرة أن العالم كلٌ لا يتجزأ، ونستبعد فكرة أن العالم عبارة عن متعدد ومختلف ومتجدد.

من هذا المنطلق الفكري فنحن نعيد جميع الأشياء لأصل واحد وعلى هذه النظرة الميتافيزيقية بنينا جميع أُطرنا المعرفية الأخرى وخاصة السياسية منها، فتوقفنا عند أفلاطون في عالم المثل الثابت والذي يمثل الحقيقة الثابتة، ورفضنا براغماتية (جيمس) جملةً وتفصيلًا، وعندما ظهرت الفلسفة الجدلية (الديالكتيك) منذ ابن خلدون مرورًا بهيغل وختامًا بماركس، كنا إما هيغليين بجدله الهابط من عالم الروح لعالم المادة أو ماركسيين بجدله الصاعد من عالم المادة لعالم الروح، وبما أننا مجتمعات متدينة فسياقُنا العقائدي بنماذجه وقوالبه الثابتة كان منهجًا لبقية دروب المعارف الأخرى وخاصة السياسة والأخلاق، فوضعنا السياسة والحكم في قمة الهرم، واعتبرنا أن القمة هي التي تصنع القاعدة وتجاهلنا العكس بحسب الإطار الأفلاطوني والجدل الهيغلي.

من هذا المنطلق النظري للفكر العربي، فنحن نتبنى قاعدة “كما يولَّى عليكم تكونون” فالناس على دين ملوكها، ونتجاهل بالمقابل القاعدة المعروفة لدينا على المستوى النظري فقط “كما تكونون يولَّى عليكم”.

ولذلك فقد وجدنا في ثورات الربيع العربي مطالبات سياسية أكثر منها مدنية، وذلك لأن الوعي الشعبي العربي أدرك واقع الحال التي تعيشها البلاد والأطر التي تحكم هذا الواقع وهي مطالب محقة إلى حد كبير تماشيًا مع الواقع الديمقراطي المكبوت في بلادنا العربية، فالإنسان العربي تناول في ثورته رأس النظام السياسي، لأنه مهيمن على كل الحياة بكل تفاصيلها حتى الأسرية منها، فرأس النظام موجود في مسامات جلودنا وفي الهواء داخل الرئتين وفي محاريب دور العبادة وفي غرف نومنا، فكيف لهذا الإنسان إذا ما أراد الخلاص ألاّ يثور على هذا الصنم المتحكم في أدق تفاصيل حياته؟!، هذا من الناحية الشكلية للمشكلة ولكن إذا ما أردنا الغوص في جوهر القضية فعلينا أن نطرح على أنفسنا تساؤلات عديدة منها:

كيف لهذا النظام أن يدخل إلى تفاصيل حياتنا بهذه الطريقة؟

ومن أدخله؟

وما كان دوري كإنسان في هذه المشكلة؟

وعندما نحاول الإجابة عن هذه التساؤلات سندخل في جدلية “النضال وهيمنة السلطة أو تغولها”، وعندها سنضع قدمًا على الطريق الصحيح في مجريات التفكير، وعند ذلك سنطرح سؤالًا جديدًا أكثر تعقيدًا، ألا وهو:

إذا ما أسقطنا رأس هذا النظام السياسي المتغوّل من حياتنا هل ستتغير مسيرة الحياة السياسية والمدنية في بلادنا أم أننا سنعيد صناعة صنم جديد بصيغ مختلفة عما سبق؟

إذًا علينا أن نوضح بعض المفاهيم المتعلقة بهذا الجانب، كمفهوم “الجماعة” ومفهوم “المجتمع”، فكلمة مجتمع غير موجودة بقواميس اللغة العربية لأنها مصطلح حديث النشأة ظهر مع بداية الفكر التنويري في أوروبا عندما ظهرت نظريات العقد الاجتماعي التي أرادت نقل الإنسان من حالته الطبيعية المفترضة في عقول المفكرين أمثال (جان جاك روسو) و(جون لوك) و(توماس هوبز) إلى حالة الحياة الاجتماعية المؤطّرة بقوانين ونظم ومعاملات تهدف لخلق مجتمع مدني يكون فيه الإنسان واعيًا حقوقه وواجباته ويعي ذاته بصفته فردًا مستقلًا وذاتًا عاقلةً مُفَكِّرَةً، وحيث يصبح الانتماء للمجتمع بغض النظر عن التقسيمات الأخرى التي كان عليها في الحالة الطبيعية والتي يمكن لنا القول في الجماعة البشرية حيث الانتماء يكون فيها للتقسيمات الطبيعية من عائلة وعشيرة ومنطقة فمن هذا المنطلق هل نستطيع أن نقول عن الوضع العربي إننا نعيش في مجتمعات عربية، أم في جماعات عربية ؟

ما يعنينا هنا هو فكرة الانتماء ففي حالة الجماعة البشرية تكون فكرة الانتماء حالة طبيعية للعشيرة مثلًا، فهي غير قابلة للنقاش أو التفكير، ولا يكون للفرد فيها معايير يقيس عليها حالة انتمائه، بينما في المجتمعات المدنية، تكون فكرة الانتماء حالة فكرية وليست طبيعية، حيث لها معايير فرديّة تكون فيها الحقوق والواجبات أسسًا لتحقيق صيغة المواطنة في المجتمع، ومن فكرة الانتماء هذه نصير إلى علاقة الفرد بذاته وبالآخرين، ففي الجماعة يكون الفرد جزءًا منها، بينما في حالة المجتمع يكون الفرد ذاتًا يشكل مع أقرانه مجتمعًا يصوغون فيه ذواتهم ليصبغوا فيها المجتمع، فيصبح هنا المجتمع مجموع الذوات وليس العكس كما هو الحال ضمن الجماعة، فالفردانية هي السمة الظاهرة للإنسان في المجتمع المدني فتتجلّى الحرية ومنها تولد روح الاحتجاج في المجتمع على كل من يحاول التغوّل على تلك الذات الحرة، فالرفض في الفلسفة هو أولى مراحل التفكير عند الإنسان، ومن هنا ينشأ النضال المَطلبي في المجتمع والذي يكوّن القاعدة الأولى التي يبنيها للحصول على حريته، تلك التي طالما صُنِّفَتْ ضمن النضالات السياسية والتي يمكن أن نصفها بأنها بنية فوقية ناشئة عن بنية تحتية كانت قد رسّخت البذور الأولى لفكرة الحرية في ذهنية الإنسان المدني الذي لا يقبل بأي شكل من أشكال الظلم القائم عليه، سواء من الدولة أو حتى من غيرها كالقطاع الخاصّ أو حتى من عادات المجتمع نفسه وتقاليده.

فالنضال المدني هو فكر وروح قبل أن يكون أي شيء آخر فلابدَّ من وجود الوعي بالحقوق والواجبات المنبثق عن الوعي بالذات وأنني كإنسان حر ومواطن أنتمي لمجتمع كان لي قسط من تكوين مفاهيمه وقوانينه، وكما ذكرنا فالنضال المدني فكر وروح فالروح هنا تعني تلك الدافعية المنبثقة من داخلنا لرفض الظلم وعدم تقبله وهي ذاك الصوت الذي يؤرق ثباتنا وخنوعنا للدعة والراحة المصاحبة للتقبل بما يُفرض علينا من الآخر، فالوعي وحده لا يكفي بل يحتاج لما يولد فيه طاقة الاحتجاج تلك الطاقة التي تبثها فينا روح الرفض المتولدة في جوارحنا من حالة الحرية التي جبلت بها كينونتنا.

ومما سبق نستطيع أن نقول إنه لا يمكن الفصل بين النضال المدني والنضال السياسي إلا من الناحية النظرية، بينما في الممارسة فالأمر متداخل إلى حَدِّ التماهي فإذا ما فُصِلَ بينهما فعليًّا فسيكون النضال السياسي مخادعة ووسيلة دنيئة لبعض السياسيين لتحقيق غايات مَرَضيّة سلطوية، فعندما تبدأ الوعود بتحقيق الحرية والديمقراطية للناس إذا ما كانوا أدوات لتحقيق غاياتهم في الوصول للسلطة، عندها سيتم قلب المفاهيم والتلاعب بها حيث يجعلون من النضال السياسي ركيزة لبناء حياة مدنية تتسم بالحرية، بينما حقيقة الأمر كما بينا ذلك سابقًا، فالنضال المدني هو من يحرك صيرورة التاريخ لبناء نظام سياسي تمت صياغته من روح المجتمع .

وقد يسأل سائل: هل كانت الثورات السياسية عبر التاريخ هي من أنتجت بعدها حرية وعدالة مجتمعية؟

الأمر هنا في ظاهره قد يبدو كذلك ولكن إذا ما تمَّ النظر لكل حالة منفردة، والإحاطة بكل ظروف الحالة الثورية، كذلك معرفة الحالة الاجتماعية التي رافقت تلك الثورة، فستختلف تلك المقولة وسيتضح لنا أنه ليست كلّ الثورات كانت قد أنتجت حرية وديمقراطية، بل سنعرف أن هناك ثورات كانت قد خلفت ديكتاتوريات أسوأ من النظم التي أسقطتها، فالمجتمع الذي أنتج الديكتاتور الأول سيعيد إنتاج ديكتاتور آخر إن لم تكن الثورة ناتجة عن نضال مجتمعي نابع من فكر ٍحرٍّ عندها فقط لن يسمح هذا المجتمع للأصنام السياسيين بأن يستغلوا ثورته ليعيدوا إنتاج ديكتاتوريات بنكهة ثورية، وهذا ما حصل بالثورة الفرنسية التي خاضت الكثير من التقلبات عبر مراحلها حتى وصلت إلى مبتغاها الأخير وما يُصدِّق كلامَنا وبالتحديد عن حالة الثورة الفرنسية بأنها لم تكن ثورة سياسية بالمطلق بل هي وقبل كل شيء كانت ثورة على مستوى الفكر السائد في أوروبا، …هو أن المجتمع بقي يناضل حتى بعد سقوط حكم الكنيسة ضدّ من استغلوا ثورتهم للوصول للسلطة، ولم يتوقف النضال إلا ببلوغ الغاية المرجوّة، فالأمر لم يكن محصورًا ضد جهة معينة، بل هو ضدّ حالة معينة.

هنا علينا الإجابة عن سؤال في غاية الأهمية والتعقيد، والذي هو (هل الديمقراطية سبب أم نتيجة للنضال المدني؟ بمعنى آخر كيف يمكن أن يكون هناك نضال مدني في بلد محكوم بالقمع ضدّ كل من يقول لا لأبسط الأمور؟ أم أنَّ النضال المدني لا يمكن أن يتم إلا في بلد يتمتع بقدر من الحرية والديمقراطية؟).

في الحقيقة، إن الديمقراطية هي نتاج حراك ونضال مجتمعي مستمر وليس آنيًّا، فهذا النضال يشكل هاجسًا عند الحاكم الذي يريد التفرد بالسلطة والتغول على الشعب.

لا يمكن أن نعتمد على شخصية الحاكم إذا ما كان رجلًا ديمقراطيًّا أو ديكتاتوريًّا فالتخمين في هذا الموضوع ضرب من الغباء الاجتماعي والسياسي، فمن الطبيعي أن الإنسان يميل إلى التفرد وحب السيطرة عندما تسنح له الفرصة، وأما ما نشاهده من زعماء ديموقراطيين في العالم، فذلك ليس لأنهم مجبولون على ذلك، بل لأنهم مضطرون إلى ذلك أمام شعوبهم التي لن ترضى ببقائهم ما لم يكونوا على هذه الحال.

وحتى لا يُفهم من كلامنا إلغاء تأثير الدولة في المجتمع، وأن المجتمع هو الفاعل الرئيس في الممارسة الحضارية، ففي الحقيقة لا يمكن إنكار دور الدولة وتأثيرها حتى في تشكيل الوعي المجتمعي ذاته، وكما يقول حكيم الصين (كونفوشيوس): السياسة هي الاستقامة، فإذا كان الحاكم مستقيمًا فهل سيجرؤ المحكوم على ألا يستقيم؟

وبالمقابل هذه السياسة وهذا الحاكم يعيشان في حالة صراع مع المجتمع المدني الذي هو دائم التأهب للحفاظ على حقوقه، وهذا الصراع هو من يولد الحضارة البشرية، فالبلاد التي لا صراع فيها وتعيش حالة من الركود (الستاتيك) هي بلاد لا روح فيها ولا تقدم ولا حضارة.

إن روح الاحتجاج والرفض التي تولد في وعي المجتمع، تكون بمنزلة المحرك الرئيس في تحريك عجلة التاريخ والحضارة للأمم، وصحيح أن هذه الروح قد تكون متعبة للمجتمع ولكنها ضرورية لتقدمه ولبث الروح فيه، بينما سنجد الراحة والدعة في المجتمعات الخانعة التي لا يطرأ على حياتها أي تغيير قد يعكّر صفو هدوئها ولكنها ستبقى في حالتها البدائية التي لن يغيرها سوى الصراع والجدل الديالكتيكي.

في الخلاصة ليس كما نكون يولّى علينا، وليس أيضًا كما يولّى علينا نكون، بل هما معًا فالمجتمع المدني عندما تتملكه الروح النضالية الرافضة للظلم وللاستبداد والتي تبقى في حالة مطالبة بأبسط حاجاتها وصولًا لأعلاها، عندها سيتمكن هذا المجتمع من إيقاف تغول الدولة عليه ويفرض عليها ما يجب أن تكون عليه هذه الدولة التي هي بدورها أيضًا ستؤثر بتشكيل وعي هذا المجتمع، وستكون صيرورة التاريخ في حالة تشكل مستمر، فالديمقراطية تُفرض على الدولة ولا تُؤخذ منها، وقد يكون النضال المدني باهظ الكلفة على المجتمع في البلاد التي تحكمها سلطات قمعية، لأن المستبد يخشى على سلطته من العمل المدني أكثر من العمل السياسي، فهو يعرف أن السياسي يمكن احتواؤه بأي طريقة بدءًا من المساومات وانتهاءً بالاغتيالات، بينما العمل المجتمعي المدني مرعب للمستبدين لأنهم يدركون أنه ناتج عن عقل جمعي أشبه بالطوفان، فالمجتمع المدني بمؤسساته ونقاباته واتحاداته المنفصلة عن الدولة وغير الخاضعة لها من حيث التبعية الإدارية، يشكل هاجسًا دائمًا للحكام الذين يرغبون بالتفرد بقيادة المجتمع، حتى لو جاء هؤلاء الحكام عن طريق انتخابات ديمقراطية، لأن الانتخابات الديمقراطية ما هي إلا إفراز من إفرازات النضال المدني الذي أَسّس للوصول إلى مرحلة الانتخابات الديمقراطية، أو ما يمكن أن نسميه النضال السياسي عبر الأحزاب، لذلك وبالعود على بدء علينا قبل التفكير في النضال المدني، أن نعيد تصحيح مفاهيمنا عن معنى المجتمع المدني وكيف ننتقل من مرحلة الجماعة البشرية التي ما زالت عالقة في تلافيف الوعي الجمعي، والانتقال لحالة المجتمع والمواطنة وإعادة النظر بمفهوم الانتماء، ومن ثَم َّسنكون وبشكل تلقائي مجتمعًا مدنيًّا ينظم ذاته ليصل لحقوقه بالطرق المشروعة، ويجعل من الدولة جهازًا قائمًا على خدمة المجتمع، وليس جهازًا لترويض المجتمع وقمعه.

مشاركة: