النِّضالُ مِنَ الدَّاخل: المجتمعُ المدنيّ وإرهاصاتُ الصّمود

تمهيد

تعرضُ هذهِ المقالة للحالة المدنيّةِ العربيّة، ومدَى قدرةِ النِّضالِ المدنِيّ على الصُّمودِ في مواجهةِ السُّلطات، في ظلِّ غيابِ مقوّماتِ التَّوافقِ الفكرِيّ بينَ مؤسَّساتِ النِّضال المدنيّ، وحضور قوّة السُّلطة لوأدِ فكرةِ النِّضال. كما تقدّم هذه المقالَة فلسفةَ الحضورِ الفكرِيّ لمنظرِي المُجتمعِ المدنيّ في الوطنِ العربي، ومدى فاعليّة التنظير الفكريّ في تأسيس ركيزةٍ لنضالٍ مستمر حيث جاءَ الحديث عن المفكّرَيْن: جاد الكريم الجباعي، وعزمي بشارة. إضافة إلى تقديم تجارب النِّضال المدنيّ في الدّول العربيّة وفق سيناريوهات الاستمرار والفشل. تقوم المقالة على ثلاثة عناوين: الأول، النضالُ المدنيّ في الوطنِ العربيّ توحّدُ الفكرةِ وغيابُ التنسيق. الثاني، المفكّرُ العربيّ والنضالُ المدنيّ: التنظيرُ والتغييبُ. الثالث، تجربةُ النضالِ المدنيّ العربيّ بينَ الصّمودِ والفشل.

أوّلًا: النِّضالُ المدنِيّ في الوطنِ العربِيّ: توحّدُ الفكرةِ وغيابُ التَّنسيق

تنوّعت تعريفات المجتمع المدنِيّ بين التَّكوينِ الاجتماعِيّ والتَّكوين السِّياسِيّ، حتَّى وصل التّعريفُ بالمجتمع المدنيّ إلى حالة فلسفيّة، وأبسط تعريفٍ للمجتمعِ المدنِيّ: هو ذلك الحيّزُ الإنسانِيّ الّذي تجتمع فيه مجموعة أفكارٍ لتحقيقِ هدفٍ دون سُلْطة، أو قوانين. وإذا تحقّق ذلك الهدف يمكن تسميّة تلك الحالة حالة مجتمعيّة مدنيّة، وبالتّالِي يُقسَّمُ التّعريفُ إلى جزأين: اجتماعُ الأشخاصِ لتخليصِ أفكارٍ من أجل هدف معيّن (حالة اجتماعيّة)، وتحقيق ذلك الهدف (حالة سياسيّة). وقد يكون ذلك الهدف المحقَّق إمّا إبعادُ مظلمةٍ جمعيّة، أو تخفيفُ وطأةِ سُلطةٍ وَفْق قيم إنسانيّة سامية، وهنا يسمّى المجتمع المدنِيّ مجتمعًا نِضاليّا. ولكن، كيف يكون لكلمةِ “نِضَال” حيّز في قاموس المجتمع المدنِيّ العربِيّ، والحالةُ العربيّةُ جُعِـلَت -بسبب السّلطات- وكأنّها مجتمعاتُ صَيْدٍ وجمعِ الطّعام؛ فغاب المشروع المدنِيّ من أجل هدف تغييب النّضال المدنِيّ، في ظلّ حكوماتِ بَـشـرٍ لا حكوماتِ قوانين.

تمتازُ الدّول العربيّة بتشابهاتٍ متنوّعة، أهمّها، أنّ الدولَ العربيّة حديثةُ النشأة، وهي كذلك دولُ نُخبة وليست دولُ مجتمع[1]، بالإضافة إلى أنّ الدّول العربيّة مستقلّة عن المجتمعِ مرتبطةٌ بالخارجِ، لذلك عند الحديثِ عن النِّضالِ المدنِيّ وجب البحثُ عن مصطلحِ ” دَوْلَة ” قبلَ البحثِ عن مسألة ديمقراطيّة وما ينتمي تحتها من حريّات وغيرها.

فِي المَعْنى اللُّغوي لكلمة (دَوْلَــة) نجد معناها: الدّولة والكرّة تدولُ سِجالًا بينَ النّاسَ؛ جاء في جمهرة خطب العرب:” أيّهَا النّاسُ: الحِلْمُ شَرَفٌ، والصَّبْرُ ظَفَرٌ، والمَعْروفُ كَنْزٌ، والجُوْدُ سُؤدُدٌ، والجَهْلُ سَفَهٌ، والأيّامُ دُوَلٌ، والدَّهْرُ غِيَرٌ”[2]. والمَعنى الآخر لكلمةِ (دَوْلة): الحُكم والولاية، وهذا المَعنى الثّانِي هو المصطلح السَّائِد للوصولِ إلى معنى كلمةِ “دولة” في الحالة الاصطلاحيّة. لعلّ اللغة أنصفت مفهوم الدّولة وهي الكرّة والسِّجال بينَ الناس، لذلك يمكن ربط المفهومين في تكوين واحد وهو الكَرّة والسّجال بين النّاسِ للوصولِ إلى حُكْمٍ وولاية، وهنا يكون المعنى اللغوي قائمًا على فكرة تداول السلطات داخل الولاية أو الحكم، ذلك وفق حقيقة واحدة هي التغيير، وهذا التغييرُ قائمٌ على حقيقتين، هما: التغييرُ الإلهيّ أي القدريّة في انتهاء الحكم، أو التغيير القائم على مفهوم الديمقراطيّة.

تكمن حالة التساؤل في الوطنِ العربِيّ في البحث عن مفهوم “دَوْلة” قبل البحث عن فرضيّات الحريّة، وحالات النضالِ المجتمعيّ المدنيّ؛ فكما الخلْطُ في المعنَى اللّغويّ لمصطلح “دَولة” هنالِكَ خَلْطٌ في مسألة تكوين الدّول في المجتمعاتِ الحديثة، وهُنا يمكنُ الحديثُ عَن ثلاثِ تشاكلات مكانيّة لنشأةِ الدّول: أوروبَا، أميركا، والدّول العربيّة بوصفها دولًا للعالمِ الثَّالث. نَشأت الدّولُ فِي أوروبَا نشأة داخليّة قائمة على توزيعِ المَصالح، وتوزيع الثَّروة، وتقسيمِ العملِ ودورةِ الإنتاج. وفي هذا الإطار وُجِدَت السُّلطة في تكوينٍ لا يتجاوزَ الدّينِي والدّنيوَيّ، بل تقومُ على احترامِهِ وتجديدهِ وفْق اختباراتٍ جمعيّة، وبذلك تصبحُ الدّولة منتميةً إلى المجتمعِ وفق التّطورِ التَّاريخِيّ. وفي حالة الولايات المتحدّة الأميركية تشابهت في النشأة الأوروبيّة لكن وفق اختلافات وروابط متنوّعة، وهنا أصبحَ المجتمعُ هو الّذي ينتمي إلى الدَّولة وهو نتاجُ تطوّرٍ سياسِيّ[3].

أمّا الدّولُ العربيّة فَقدْ خالفت في قيامِها جدليّاتِ قيامِ الدّولة بالمعنى المجتمعِيّ المدنِيّ؛ فمعظمُ الدّول العربيّة قامَت على تكوينٍ مدنِيّ متهالك بعد سقوط الخلافة العثمانيّة، وبدأ نشوء حيزومات الدّول العربيّة، وفي تلك الحالة فإنّ المواطن (الفرد) أصبح ينتمي وجوديًّا إلى دوْلتين، واحدةٌ قائمةٌ ولا تاريخيّةِ، والأخرى غير قائمة وتاريخيّة[4]. وهُنا يمكن تحديدُ عُمرِ الدّولة العربيّة بمفهومِها الحديث بما يقرب المئة عام باستثناء بعض دول الخليج. وهذه الفترة كافية لتشكيل حالة مدنيّة في مشابهة للدّولة في أوروبا: توازن مصالح، توزيع ثروة، تقسيم العمل ودورة الإنتاج، لكنّ الحاصل أنّ المئة عام توزعت بين إرهاص بناء دولة قائم على أطماع وأفكار استعماريّة استمرت حوالي الثلاثين عامًا؛ فبعدَ جلاء المستعمر ظهرت فترةُ الانقلابات العسكريةّ في حدود ثلاثين عامًا حصلت عشرات الانقلابات في الدّول العربيّة، وبعد فترة الانقلابات ساد الهدوء على المستوى العسكريّ فبعد فترة السبعينيات أصبحت الانقلابات محدودة. ومن هذه الحصيلة البسيطة في نشأة الدّولة العربيّة يمكن الحديث عن ثلاثِ مدارِس، أو مقاربات للانتقال إلى الديمقراطية المدنيّة: مدرسة التَّحديث، والمدرسة البنيويّة، ومدرسة الانتقال.

التَّكوين القائم على جدليّة سُلطة ومجتمع ارتبط في جدليّات عقيمة، وكانت الفترة الأنسب لتكوين مجتمعٍ مدنِيّ هي فترة الاستعمار باعتبارها مرحلة تكوين لمدرسة التَّحديث، وللأسف في تلك الفترة غاب الحسّ الثقافِيّ المدنِيّ؛ فعقليةُ شيخ القبيلة والمختار، وانشغال النُّخب في رسْمِ معالمِ الدَّولة اقتصاديًّا وتعليميًّا ما زالت مستمرّة مِمّا جعلَ فكرةَ المجتمع المدنِيّ مفقودة حتَّى في المجالات الإنسانيّة، بالإضافة إلى أنّ الحالةَ الثَّقافيّة انشغلت في الدّهشةِ للرجوع إلى الحالة الثقافيّة القديمة أي الاندهاش من حالة ثقافيّة حدثت وانتهت، والفترة الثانيّة هي فترة الانقلابات وهذه الفترة أبشع لحظاتِ موتِ المدنيّة؛ فالجّيوشُ الّتي تشكّلت هي جيوش سُلطة لا جيوش دولة. والجَّيش في تلك الحالة مجرد أداة في يد النّظام السياسِيّ يُستعْمَلُ لهدفين: قمع المجتمع وقوى المعارضة عند الحاجة، والحفاظ على ديمومة سيطرة النخبة الحاكمة[5]. لعلّ المدرسة البنيويّة لم تأخذ نصيبَها فكما ذُكرَ انشغلت القوى المدنيّة في تكوين جدليّة مع قوى الجيش. أمّا في ما بعدَ فترةِ الانقلاب فقد كانت الفرصة مهيِّئة لظهور مجتمعاتٍ مدنيّة وذلك في حدود التحوّلات الدوليّة، وظهور إرهاصات ما بعد الحداثة لتظهر لدينا الواجهة المدنيّة بما يسمّى فكرة الحزبِ الواحد، وهي أحزاب مدنيّة بغطاء الجّيش والحالة المخابراتية ليكون المجتمع المدنِيّ تحت مظلّة الحزبِ الشمولِيّ، وهذه الفترة شهدت صعود تيّاراتِ الإسلام الحزبِيّ، والّتي احتضنت في مفهومها العامّ بعض مقوّمات المجتمع المدنِيّ الأساسية وهي : الفعل الإرادِيّ الحرّ أو التطوعِيّ، الوجود في شكلِ منظّمات، قبولُ التنوّع والاختلاف بين الذّات والآخرين، عدم السّعي للوصول للسّلطة.

إنّ مدرسةَ الانتقال الّتي سيطرت على الحالة العربيّة في فترة الحزب الشّموليّ وهدأةِ الانقلابات جعلت من مفاهيميّة المجتمعِ المدنِيّ تتمحّرُ نَحو المفهوم الآتِي: المجتمعُ المدنِيّ هو المؤسّسات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافية التي تعمل في ميادينها المختلفة مستقلةً عن سلطة الدولة لتحقيق أغراض متعددة منها سياسية، كالمشاركة في صنع القرار على المستوى الوطنيّ والقوميّ، ومثال ذلك الأحزاب السياسيّة باتجاهاتها المتنوّعة، ومنها أغراض نقابيّة كالدفاع عن مصالح أعضائها، ومنها أغراض ثقافية كما في اتحاد الكتاب والمثقفين، والجمعيات الثقافية التي تهدف إلى نشر الوعي الثقافي.

إذًا الدّول العربيّة في حالة مشابهة أقرب إلى المشابهة الكليّة في مسألة تكوينِ النِّضال المدنِيّ والسّعي نحو مدنيّة عربيّة موحّدة في مواجهةِ السّلطة، والسّعي نحو الدّيمقراطيّة والحريّات. لكن، وبعيدًا عن التّنظير نجد بعض المؤسّسات المدنيّة والّتي تجمعها صبغة القوميّات العربيّة ترضخ وراء فكرة عداء الشّعب وتفضيل بعض مصالحها الشخصيّة على تكوين محدّد، فنأخذ على سبيل المثال اتحّاد الكتاب العرب كنموذج للحالة العشوائيّة في عدم فهم النّضال المدنيّ، بل وأده أيضا؛ فبعد ثورة مجيدةٍ للشّعبِ السّوريّ يأتي هذا الاتّحاد واضعًا إكليلَ نصرٍ على تاج الدكتاتورية (في عدّة زيارات قام بها أعضاءُ رابطةِ الكتّاب العرب لدِمشق ومقابلة بشّار الأسد). إنّ هذه الحالة تزيدُ من تحدّيات توحيد جهود المجتمعِ المدنيّ نحو النّضال الإنسانيّ، إذا أرادت المجتمعات المدنيّة ذلك، وإذا فهمت في الوقت نفسه ما تحدّثنا عنه أي في معرفة مصطلح دولة وشعب وديمقراطيّة.

ثانيًا: المفكّرُ العربيّ والنضالُ المدنيّ: التنظيرُ والتغييبُ

إذا تكلّمنا عن فكرة التنظير في المجتمعات المدنيّة للوصول إلى نضال مدنيّ متوافق مع الحالة الثوريّة نجد العشرات من الباحثين العرب نظّروا وعبر سنوات متنوّعة لحالات المجتمع المدنِيّ، وتأصيل فكرةِ النّضال وفق الصَّبغة المدنيّة، لكن مع تحوّلات مشهد التغيير في العديد من الدول العربيّة وُجِدَتْ الحالةُ العربيّة الثوريّة وكأنّها أعشاشُ نَحلٍ في ربيع لم يبق من رونقه إلّا أشواك أزهاره. لعلّ أنساق التحوّل في الحالة العربيّة الثوريّة جاءت في بيئة ماديّة فجاء الربيع العربيّ ليبيّن نقطة التحوّل بين التنظير والتّطبيق، وبالرغم من ذلك اما زال المفكر ينبشُ في أسسِ المدنيّة الحديثة والنضالِ من أجل بناءِ دولة حضاريّة. وهنا يمكن اختيار نموذجين للحديث عن مدى قدرة التَّنظير في فَهْمِ الحالة المدنيّة وبالتالي الوصول إلى مفهوم دولة متناسق، الأوّل: المفكّر السّوري، جاد الكريم الجباعي. والثاني المفكّر الفلسطيني، عزمي بشارة.

جاد الكريم الجباعِي: النضال المدنيّ المتأخر المهزوم

كثيرة هي الدّراسات الّتي قدّمها الجباعي في فكرة التنظير للمجتمع المدنيّ وما يحوم عنه من مصطلحات ومفاهيم، وملّخص تلك الدّراسات البحث عن حالة دستورية، أو حالة تعاقديّة تستمد شرعيّتها من الشعب للوصول إلى التّشارك الحرّ في الحياة العامّة، وهذه النظريّة تقود إلى انعتاق الفرد من التبعيّة والتحرر والخوف.

يمتاز الجباعي في دراساته بالبحث العميق في حُبك الحالة المجتمعيّة، والبحث عن حلول لتلك الحُبك من خلال التنظير للحالة التي أنتجت الفكرة على الصعيدين السياسيّ والمجتمعيّ، كما أنّ الجباعي تميّز في دراسة بيئة المفكّر الذي يحاول خلق حُبك معرفيّة تساعد في خلق الوعي الإنسانيّ للحياة المدنيّة؛ نجد ذلك في دراسته لهشام شرابي، وياسين الحافظ، وإلياس مرقص. ومثل هذه الدراسات والمقاربات هي قيمة فلسفة المفكر العربيّ؛ إذ يعتمد المفكّر العربيّ على تجلية أفكار الآخرين في حدود فهمه العام، خصوصا فيما يتعلّق بمفهوم المدنيّة وحاجة الأمّة العربيّة لها. لكن الجباعي في الوقت نفسه يرى أنّ النِّضال المدنيّ يعاني تحديات صعبة ويحار القارئ إزاء حالة النضال المدنيّ العربيّ متسائلًا: هل هي متأخرة، أم مهزومة؟ وهنا يمكن الحديث وفق تنظيرات الجباعي عن انتصار أصحاب عقدة الحكم وضابط الاجتماع البشريّ اللذين تأسّسا على مبدأ الغلبة والقهر، وأكبر مثال لذلك انتصار النظام في التجربة الثوريّة للشعب السوريّ، حيث يقول الجباعيّ: انتصار النظام السوريّ المحتمل على الشعب السوريّ، صورة واضحة لهذه العقيدة المقوّاة بعقيدة دينية تسوّغ مواقف القوى المحافظة وعقيدتها السياسيّة[6].

إنّ فكرة الجباعي في مسألة النّضال المدنيّ تنتقل وفق حيّز المتأخر المهزوم، فقد آمن الجباعي بلاءات تشكيل المجتمع المدنيّ: (لا) يتشكّل مجتمعٌ مدنِيّ في حالةِ حرب، (لا) يتشكّلُ مجتمعٌ مدنيّ في حالة طوارِئ، (لا) يتشكّلُ مجتمعٌ مدنيّ في ظلّ الاستبداد والتسلّط. وفي تشريح تلك اللّاءات فإنّ الدّعوة إلى إلغاء حالة الحرب، أو الطوارئ، أو الظّلم تعني انتقال حالة الخطاب من مفهوم مجتمع مدنيّ إلى مفهوم نضال مدنيّ، وذلك أنّ النضال يعني إزالة مسبّبات غياب المجتمع المدنيّ. والنضالُ المدنِيّ في رأي الجباعيّ هو مسألة إصلاح قبل أن يكون مسألة ثورة، ولكن الإصلاح يكون في معادلة الآخر فالشّعب ينتظر من السلطة الإصلاح، والسّلطة تتخوّف من الشّعب “الثورة،” وبين الانتظار والتخوّف يكون هناك هوامش تساعد في فرض المعرفة والتّقارب ما بينَ السّلطة والشّعب على أقل تقدير في المسألة العربيّة، وعادة ما تكون هذه المعادلة منطقيّة مشروطة، فوجود إصلاح يعني عدم وجود ثورة، ووجود ثورة يعني عدم وجود إصلاح. ومن هذه المعادلة نتوقف عند مفهوم القانون الذي فسره الجباعي في وظائف الدولة عبر وظيفتين أساسيتين: الأولى تمثيلها مكوّنات الشّعب كافة أي الوصول إلى صفة العموميّة. أمّا الوظيفة الثانية: تجسيدها لسيادة القانون، فالدّولة هي مملكة القانون. أمّا الوظيفة الأولى التي تحدّث عنها الجباعي فهي قائمة على اجترار لا يصلح في التجربة العربيّة فبعض الدول العربيّة والتي من المفروض أن تعطي إيجابية في مفهوم الدّولة فقد جاءت بأسماء عائلات محددة: المملكة العربية السعوديّة، المملكة الأردنيّة الهاشميّة، مع أنّ هذه المسميّات تصبح فرضًا على المثقف العربيّ أو صاحب الأيدولوجيا. وعلى الصّعيد النظري كذلك نجد العديد من منظري الحالة اليساريّة العربيّة يقتنع بالفكر الموجّه الموروث لنجد في دفاعه عن النّظام السوريّ يردّد: نحن مع سوريا الدّولة، وللأسف هذه الحالة انتقلت للجماعات الإسلاميّة مثل حماس فعندما أعلنت تقاربها مع النظام كان شعارها: نحن مع سوريا الأسد. إذن قرن الدولة بهوية واحدة دون تعددية يعني غياب ما يسمّى دولة القانون التي تؤسس لمجتمع إصلاحي متكامل.

يتخوّف الجباعي من “المجتمع المدنيّ الموازي” والّذي يقوم على مفهوم الحياة المدنيّة الذي تقدّره السّلطة، وفي هذه الحالة أي وجود مجتمع موازٍ يعني غياب فكرة النّضال بذاته، وهذا التخوّف شبيه بتخوّف عالم الاجتماع الألمانيّ يورغن هابرماس Habermas أي انحسار السّلطة في أنساق مغلقة تمثّل أجهزة فوقيّة متشيّئة، وهذا يعني فقدان الرأي العام للوظيفة النقديّة والاستقلاليّة في ظل أنظمةٍ شموليّة سيطرت على الفضاء العموميّ وعلى السياسة[7]، ومن هنا لخّص الجباعي فرضيّات تأخّر وجود المجتمع المدنيّ المثاليّ من خلال صراعات متنوّعة، تقوم على مواجهة السّلطة في اتّجاه، وتقوم أيضًا على مواجهةِ المجتمع المدنيّ الموازي في اتجاه آخر، أي هدم مرجعيّات المجتمع الموازي للوصولِ إلى حالةٍ سياسيّة.

وفي تشريح عقدة المجتمع الموازي مثّل الجباعي على الحالة الاقتصاديّة العربيّة، أي هيمنة الدّولة العلنيّة على الحالة الاقتصاديّة والذي يفسّره الجباعي بأنه اقتصاد سُلطة واقتصاد حرب. إذًا، وجب الجمع في فكرة النضال المدنيّ ما بين الحالة الفكريّة، والحالَة الاقتصاديّة للوصول إلى نتائج معرفيّة تُدرَك في فَيء التّوافق المدنيّ فالجيوش العربيّة حالة لاقتصاد دولة، وليست حالة أمنيّة فقط، فوجود الهيمنة الاقتصاديّة في مشاريع عديدة قائمة على الجيش والأجهزة الأمنيّة يشكّل تحديّا في فرضيات خلق حالة مدنيّة اقتصاديّة، وبالتّالي يكون المجتمع الموازي الذي يشرّحه الجباعي مجتمع سلطة لا غير.

عزمي بشارة المصطلح والنظريّة

يعدّ المفكّر عزمي بشارة من روّاد التفكير الدالّ لتأسيس مجتمع حضارِيّ قائِم على فكرة التّجانس في معرفة الدّوال الفكريّة للمفاهيم والمصطلحات المدنيّة والّتي تساعِد الباحثين والدّارسين على تجلية الخطاب المتأزّم في فهم المادة التنظيريّة. شكّل كتاب (المجتمع المدنيّ: دراسة نقديّة) مادّة علميّة في تعرية المصطلحات الفكرية وربطها بعوامل النِضال المدنيّ، وقبل الخوض في ممارسات النِضال المدنيّ والّتي رسَمها بشارة من خلال نظرته العميقة نحو الإنتاج الغربِيّ في مجال المجتمع المدنِيّ وجب التأكيد على أنّ النَّظرة الشمولية للحالة الثوريّة العربيّة ظلّت تتبع الحالة الانهزامية، أي فشل المشروع المدنِيّ الرّيادي في النّضال، لعلّ بشارة ظلّ مثقلًا بالهمّ الفكرِي للوصول إلى تطويع المصطلحات نحو فكرة ثورية نضاليّة وبالتالي الوصول إلى مدنيّة إصلاحيّة ؛ فنجده يخلق هيمنات متنوعة في أتون الحركة الانقلابية، أو التطوّرات على السَّاحة السياسيّة في الوطنِ العربِيّ؛ فيقسّم تكوين المجتمع السياسيّ العربيّ وفقَ ثلاثة أنظمة: ثوريّة، تقليديّة، شبه ليبرالية، وهذا التقسيم تنوّعت من خلاله سُبل الوصول إلى نواة لتأصيل الحالة المدنيّة في وجهها النضاليّ. في الأنظمة الثوريّة اعتمد البقاء على إبراز مفاهيم الثّورة والرّاديكاليّة والقوميّة، وفي الأنظمة التقليديّة اعتمد البقاء على القربى والعشائرية، وشبه الليبرالية مثل الأنظمة الملكيّة اعتمد قيامها على هامش حريّات بسيط.[8]

لكن، يكمن السؤال في مدى نجاعة مثل هذه التقسيمات في مواجهة المدّ التسلّطي للأنظمة الحاكِمة، ومدى قدرة الخطاب المدنيّ العام على تشكيل نضالٍ يواجه تحدّيات الحالات الثلاث: الثوريّة، والتقليديّة، والليبرالية. والغريب أنّ بشارة يبحث عن هذه التعرية ليس في أتون البحث عن مجتمع مدنيّ أو دولة مدنيّة، مع الفرق بينهما، لكنّ بشارة يؤرّخ نحو فكرة النّضال للوصول إلى حالة ثوريّة وفق منهجيّة البحث التّاريخيّ، إذ أعلن بشارة أنّ الحالة الخطابية لأفكاره تنطلق من المعرفة بتاريخ الفضاء المباشر، ومن هذا المنطلق جعل بشارة فارقًا معرفيًّا بينَ النّظام والدّولة وذلك في حدود الفشل؛ ففشل النّظام لا يعني فشل الدّولة، وكذلك فشل الدولة لا يعني فشل النظام، فاستمرارية المواطنة على الرغم من تبدّل نظام الحكم هي عنصر أساسي للدولة، والمواطنة هي التي تحدد الفارق بين النظام والدولة. بالإضافة إلى أنّ بشارة كرّر الحديث عن السّمات المشتركة في أنظمة الحكم العربيّة وهي القوّة الأمنية والتي تسيطر على الحالة السياسية والحالة الاقتصاديّة.

يطلق عزمي بشار مفهوم الزّبونية، وفي بساطة هذا المفهوم يخرج فكرة النضال من التشكل الاقتصاديّ، فمعنى الزبونية أنّ هنالك علاقة وطيدة بين الأنظمة الأمنية وبعض أصحاب المال وهذه مصالح مشتركة في بقاء الولاءات من قبل الطبقة إن صح تسميتها الطبقة البرجوازية وبذلك يكون تغييب الممول الأوّل للنضال المدنيّ وفكرة البحث عن حالة نضالية في أروقة الاقتصاد البرجوازي أمورًا صعبة جدًّا. ذلك أنّ الزبونيّة هي عقد اقتصادي منفعيّ بين السلطة والتكوين المدنيّ، ذلك التكوين الذي يبحث عن مصالحه الفرديّة فتكون علاقته وفق ما يسمّى قانون هيرودس[9] “احصل عليهم قبل أن يحصلوا عليك”.

ثالثًا: تجربةُ النّضالِ المدنيّ العربيّ بينَ الصّمودِ والفشل

تنتظمُ لفظةُ (نِضال) في مفردتها مع دلالات متنوّعة. وفق المعجميّة العربيّة فإنّ كلمة نِضال مصدر من الفعل (نَضَل) تعني: المُحارَبة بالسهام ونحوها، وتعني كذلك: المسابقة في الرميّ، وتعني كذلك: التنافس والمفاخرة في المجد. وهذه المعاني جاءت بدلالاتها الّتي ذُكرت وفق الفعل (نَضَل) إذن لفظة نِضال مشتركة في حالة الحرب، وفي ذلك تكون لفظة نضال في مقاربتها لمسميّات مثل النضال المدنيّ، أو النضال السلميّ، مقترنة في المواجهة والمنافسة.

إذًا لا بدّ من الحديثِ عن فرضيّات الصّمود والفشل في المواجهة وفق معجميّة كلمة نضال، ما يعني أن مرجعيّة النِّضال اللّغوية هي الضديّة، وإضافة كلمة مدنيّ يعني أنّ السلميّة هي حصيلة نتائج ذلك النّضال وبالتّالي الوصول إلى مواجهة من أجل تحقيق أهداف، ومن هنا فإنّ اقترانَ كلمةِ نضال بالمدنيّة يُخرج المصطلح من مفهوميّة القتال والسّلاح، ليكونَ مفهوم النّضال المدنِيّ: المواجهة المباشرة مع حالات الظّلم من أجل الوصولِ إلى راحةٍ وطمأنينة للفردِ المدنِيّ يصل من خلال هذه الرّاحة إلى الاستقرار النّفسِيّ الّذي يقودُ للإبداع. وبالتّالِي الوصول إلى حياة كريمةٍ في المستوى الاقتصادِيّ والاجتماعِيّ.

وفي تاريخ المواجهات مع السّلطة نجد مفهوم المدنيّة مغيّبًا عن خطابات الكثير من الاتجاهات السياسيّة، فكما تكلّمنا عن قيام الدول العربيّة وفق أيدولوجيا محددة تُعنى بالمواجهة العسكريّة عن طريق الانقلابات، أو الوصول إلى السلطة عن طريق الدافع الدينيّ، لا غير. إنّ الأنظمة الدكتاتوريّة كما قلنا تعي مسألة الفرديّة المجتمعيّة لذلك يمكن تلخيص أسباب الصمود للنّضال المدنِيّ وفق الأسس الآتية، أوّلًا: البحث عن نواة لتكوين النّضال المدنِيّ، وذلك من خلال إحساس الفرد بالمسؤولية المجتمعيّة التامّة وخلق روح التآلف الفكريّ، وبذلك يكون تغييب ما يسمّى المناطقية أو العشائريّة في مؤسسات المجتمع المدنيّ مثل الجمعيات والأنديّة، وإن كان لا بد فخلق روح التكاتف بين تلك المسميّات. ثانيًا: خلق روح المسؤوليّة المجتمعيّة وذلك من خلال أعمال تتعلق بروح الإنسانيّة بعيدًا عن كلّ ما يتعلّق بتكوين الدّين أو العقيدة، ذلك لأنّ الدين أصلًا قائم على تلك الروح والمسؤوليّة، ولكنْ خَلْقُها في تجمع إنساني تكون أشد ثباتًا. ثالثًا: وضع ثوابت لأسس النّضال المدنيّ وفق الفرديّة المطلقة نحو الجماعيّة المطلقة. رابعًا: التأسيس لحالة إعلاميّة نضاليّة وذلك في حدود الإعلام المرئي من خلال خلق مؤثرِين يحملون وعي الأمّة وأحقيّة نهوضها، ودعم مثل هذه الحالات من أجل خلق حالة دفاع للمأسسة المدنيّة الحديثة.

ومع أنّ تجربة النِّضال المدنيّ لا يمكن وضعها في فرضيات الفشل، لكن وجب القول: إنّ استمرارية الصمود تعني نجاح الحالة النضاليّة المدنيّة، وليس المقصود بالصمود فرض أسس للنضال المدنيّ، لكن يمكن الحديث عن فرضيات عدم الصمود وفق أسس معرفيّة تشكل لحالة نضال مدنيّ سلميّ، ومن فرضيات عدم الصّمود في الحالة النضالية المدنيّة: أوّلا: الحسّ القيادي غير المسؤول والبحث عن كاريزما الغياب، ومعنى ذلك أنّ العديد من قيادات النضال المدنيّ تشكّلت نتيجة ثنائية الهامش والمركز، فتخلي السلطة أو الحزب عن ذلك القيادي جعل لنفسه البحث عن مركز جديد يتشكّل في أسس نضاليّة مهزومة وبالتالي يمكن الحكم على تلك الحالة النضاليّة بالفشل. ثانيا: الشعبويّة اللحظية، ونقصد بها تلك الشعبويّة التي تظهر نتيجة الحماس الجماهريّ في لحظة من اللحظات، وفي قضيّة من القضايا فيعتلي تلك الحالة الجماهريّة شخصيّات شعبويّة تؤمن بحالة الحدث ولا تؤمن بتفاصيله، وبالتالي يُكتب على الحالة النّضاليّة المدنيّة بالفشل. ثالثا: أدلجة النّضال المدنِيّ وفق أسس عقائديّة متوترة. وهنا يمكن ربط النضال المدنيّ بالمجتمع المدنيّ أي أنّ الحالة النضاليّة لا تحتاج إلى أيدولوجيا دين أو عقيدة أو سياسة لأنّ أساس النضال المدنيّ التشاركيّة في الهموم وفي نتائج النضال. رابعا: النضال المدنيّ الموازي، وهذه الفرضيّة تعني وجود حالات لنضال مدنيّ وفق أهداف ومطامع خارجيّة، وتعدّ هذه الفرضيّة من أهم أسباب فشل النضال المدنيّ؛ لأنّها تجمع بين فرضيّة الحسّ القيادِيّ غير المسؤول، والشعبويّة اللّحظيّة والأدلجة، وفق صور من النجاحات لكنّها تنتظر الوقت لتفشل، وفي هذه الحالة يكون للسلطة دورٌ كبير في خلق مثل هذه النضالات المزيّفة.

 

قائِمةُ المراجع 

 

بشارة، عزمي، المُجتمعُ المدنِيّ: دراسةٌ نقديّةٌ، ط6 (الدوحة: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات: 2012).

بلقزيز، عبد الإله، الدَّولةُ والسُّلطةُ والشّرعيّةُ، ط1 (بيروت: مُنتدى المَعَارِفِ، 2013).

الجباعي، جاد الكريم، الثَّورةُ القَوميّةُ الديمقراطيَّةُ: دَلالاتها وقيَمُها في فكرِ ياسين الحافظ (قلمون، المجلة السوريّة للعلوم الإنسانيّة، ع: 3، 2017).

العياري، محمد العربي، الفضاءُ العموميّ وسؤالُ الحريّةِ جدلُ هابرماس وهونز وفريز (مجلّة تبيّن، المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، ع:44، مج:11، 2023).

نويهض، وليد، مَصائِرُ الدّولةِ العَرَبيّة المعاصِرةِ(1) إشكاليّةُ الدّولةِ العربيّةِ المعاصِرة، الانفصالُ عَن المجتمعِ ( الجَزائر: دارُ الاجتهاد للأبحاث، مج: 4، ع: 14، 1992) .


 

1 – وليد نُويهِض، مَصائِرُ الدّولةِ العَرَبيّة المعاصِرةِ(1) إشكاليّةُ الدّولةِ العربيّةِ المعاصِرة، الانفصالُ عَن المجتمعِ ( الجَزائر: دارُ الاجتهاد للأبحاث، مج: 4، ع: 14، 1992) ص205 بتصرّف.

2 – مُعجَمُ الدَّوحةِ التَّاريخِيَ، مَادّةُ (د و ل).

3 – وليد نُويهض، مَصائِرُ الدَّوْلَةِ العَرَبيّةِ، مَرجِعٌ سابق، ص208.

4 – المَرْجِعُ نفسه، ص209.

5 – عبدُ الإلهِ بلْقزيز، الدَّولةُ والسُّلطةُ والشّرعيّةُ، ط1 (بيروت: مُنتدى المَعَارِفِ، 2013) ص 34 بتصرّف.

6 – جاد الكريم الجباعي، الثَّورةُ القَوميّةُ الديمقراطيَّةُ: دَلالاتها وقيَمُها في فكرِ ياسين الحافظ (قلمون، المجلة السوريّة للعلوم الإنسانيّة، ع: 3، 2017) ص56 بتصرّف.

7محمد العربي العياري، الفضاءُ العموميّ وسؤالُ الحريّةِ جدلُ هابرماس وهونز وفريز (مجلّة تبيّن، المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، ع:44، مج:11، 2023) ص39 بتصرّف.

8 – عزمي بشارة، المُجتمعُ المدنِيّ: دراسةٌ نقديّةٌ، ط6 (الدوحة: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات: 2012) ص325 بتصرّف.

9 – يشير قانون هيرودس إلى الملك العبراني هيرودس إذ نفّذ مذبحة الأبرياء بقتل أطفال بيت لحم بعد تصوّر كهني أنّ المسيح سيخرج من تلك المنطقة، وقد استخدم قانون هيرودس في فلم مكسيكي يصف الحالة الثورية والنزاع السياسي في المكسيك في أربعينيات القرن الماضي.

مشاركة: