القضية السورية وإشكالية النضال المدني

ما هو النضال المدني؟

نُعرِّف النضال المدني إجرائيًا بأنه “العمل السلمي لتحسين شروط الحياة العامة للمجتمع”. ونقول أولًا إنه “عمل” لأن النضال المدني له قيمة وإنتاج وفائض إنتاج مثل أي عمل بالعموم، ونقول ثانيًا إنه سلمي لأنه لا يعتمد الوسائل العسكرية في تحقيق التغيير الاجتماعي أو تحسين حياة المجتمع، وهذه النقطة حاسمة في موضوعنا حيث يكفي أن يكون النضال غير مسلح لكي يكون نضالًا مدنيًا. ونقول أخيرًا إن هدفه هو تحسين شروط الحياة العامة للمجتمع لأنه في كل مجتمع هناك قوى سلطة سياسية أو دينية أو أيديولوجية تعمل على تضييق مساحات الحرية والحقوق العمومية للناس لصالح أجندات سياسية مخصوصة، أو لصالح فئاتٍ ومراكز قوى امتيازية وتعيش على الامتيازات. في الواقع ليس هناك سلطة عبر التاريخ أعطت حقوقًا للناس حُبيًّا، بل إن الحقوق والحريات المدنية هي دائمًا استخراج ٌمن السلطات بالقوة (العنفية أو اللاعنفية) وليست عطاء ومكرُمة منها.

عدة مُحددات أخرى يجب إبرازها هنا أيضًا، الأول هو أن النضال المدني لا يرتبط حصرًا بالمدينة رغم أنه احتاج تاريخيًا إلى وجود مدينة؛ وبالتالي وجود أفراد أو فرديّات، لكي يترعرع. أما في يومنا هذا فيمكن أن يحصل في الريف أو المدينة أو حتى في الصحراء لا فرق، ويمكن أن يحصل باليد أو الحنجرة أو الكلمة المكتوبة، وهذه الأدوات جميعها لم تعد ترتبط بالمدينة فقط، وجميعها تترك أثرها في المجتمع بمختلف فئاته.

والتحديد الثاني هو أن النضال المدني لا ينتمي بالكامل إلى المدنيّة المعاصرة، لأنه عبر تاريخ كل الشعوب كان هناك دائمًا من يناضل بوسائل مدنية غير عسكرية لتحصيل التغيير الاجتماعي. فسقراط الذي تحدّى قوانين أثينا لم يتحدّها عسكريًا بل تحدّاها مدنيًا وفلسفيًا ومنطقيًا، وجعل من مسألة الحكم على إنسان بالموت نتيجة أفكاره “تلويث عقول الشباب فيما يخص سقراط” مسألة مكروهة وبعيدة عن العدالة، بالأحرى فكرة مُدانة وغير مقبولة في أي مجتمع حر، وذلك على الرغم من أن سقراط خضع هو نفسه للقوانين التي حكمت عليه بالموت.

ثالثًا، يرتبط النضال المدني بالمجتمع المدني بالتأكيد، على ألا نقصر مفهوم المجتمع المدني على المنظمات والهيئات والنقابات والمؤسسات المدنية غير الحكومية، فالمجتمع المدني هو مجتمع وسيط بين المجتمع الأهلي والمجتمع السياسي، والوسيط هو عادة ما يربط بين حدّين بالقدر الذي يفصل بينهما في الوقت ذاته. واختزال مفهوم المجتمع المدني في المنظمات غير الحكومية سيجعل منه مفهومًا غير موجود في الدول المحكومة بأنظمة ديكتاتورية على اعتبار أنه لا شيء مستقل تحت حكم تلك الأنظمة، لكن الواقع هو أن المجتمع المدني موجود والنضال المدني ممكن تحت حكم الديكتاتوريات، إلا أنه أضعف بما لا يقاس بالمقارنة مع الأنظمة الديمقراطية. فإذا كان صحيحًا أن الأنظمة الديكتاتورية قد تمارس قمعًا شديدًا ضد الأفراد والمنظمات المدنية المستقلة وتحاول تقييد نشاط أو حتى حظر تلك المنظمات تمامًا، وإذا كان صحيحًا أن ما قد يواجهه أفراد المجتمع المدني المناضلون في تلك الأنظمة من تهديدات واضطهاد وعقاب واعتقال بسبب نشاطهم.. هو كبير أيضًا، إلا أن إمكانية النشاط المدني المستقل تبقى موجودة، فالنشاط المدني للأفراد لا يختفي، وفي بعض الحالات قد تعمل منظمات المجتمع المدني تحت الأرض أو في السر لحماية نشاطها وأعضائها من الاضطهاد الحكومي، وقد تركز هذه المنظمات على تعزيز حقوق الإنسان، والتعليم، والصحة، والبيئة، وغيرها من القضايا الاجتماعية، وقد تلعب دورًا مهمًّا في توعية المجتمع والدفاع عن الحقوق الأساسية وتوثيق الانتهاكات والظلم وتعزيز التضامن الاجتماعي والمقاومة المدنية، حتى وإن كانت فاعليتها لا ترقى إطلاقًا إلى فاعلية المنظمات المدنية في المجتمعات الديمقراطية.

النضال المدني والسياسة

هناك بُعد سياسي أصيل في كل نضال مدني إذا أخذنا السياسة بمعناها العريض Politics، أي باعتبارها “المشاركة الفعّالة في الشأن العام” فكل مشتغل بالشأن العام؛ سواء كان هذا الشأن سياسيًّا أو دينيًّا أو مدنيًّا أو أهليًّا، هو فاعل سياسي، وطالما أن النضال المدني موجه نحو توسيع الحريات السياسية وحقوق الإنسان في مجتمع معين، فهو إذًا ذو بعد سياسي لا يمكن الفكاك منه. لكن على الرغم من ذلك التقارب، يبقى النضال المدني مختلفًا عن النضال السياسي في مسألتين أساسيتين على الأقل:

الأولى هي أن النضال السياسي قد يتحوّل إلى العمل المسلّح دون أن يفقد من شرعيته السياسية شيئًا في بعض الظروف. ونعرف من تاريخنا وتاريخ غيرنا أنه لطالما تحولت الأحزاب السياسية نحو العمل المسلح، بل إن كثيرًا من الأحزاب كانت قد وصلت إلى السلطة عبر القوة المسلحة وبقيت مالكة للشرعية السياسية. أما النضال المدني فيفقد شرعيته المدنية مباشرة إن تحول نحو السلاح؛ مع شرط أن نميز بين العنف والسلاح، فليس بالضرورة أن يكون النضال المدني غير عنفي، المهم ألا يكون مسلحًا، فالمظاهرات والاحتجاجات الشعبية قد تكون عنيفة، وقد تحرق مقرات وممتلكات عامة وأحيانًا خاصة، لكن ذلك لا يقلل من مدنيتها ولا شرعيتها.

والمسألة الثانية هي أن النضال المدني ليس لديه وعود، بل مطالبات، ولا يهدف للوصول إلى السلطة بل للدفاع عن المجتمع. وعندما يتنظم النضال المدني يتحول إلى حركات مجتمع مدني، أما النضال السياسي فعندما ينتظم يتحول إلى أحزاب وحركات، ويقدم وعودًا تقوم على برامج سياسية، ويهدف بالضروة للوصول إلى السلطة أو المشاركة في السلطة دون أن يخلّ ذلك بمقتضياته.

لكن مرة أخرى، على الرغم من إجراءات الفصل والتمييز الضرورية السابقة، إلا أن البعد السياسي في النضال المدني لا يمكن التخلّي عنه، ولا حاجة أصلًا للتخلّي عنه كما يفعل أحيانًا “موظفو ” المنظّمات المدنية أو “نشطاء” المجتمع المدني، لأنه في الواقع، ترتبط بالقضايا إ الاجتماعية والحقوقية التي يُعنى بها النضال المدني بشكل كبير بالقضايا السياسية. فمثلًا تشمل قضية “حقوق الإنسان” جميع الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المجتمع، وتندرج تحت هذه الفئة حقوق المرأة وحقوق الأقليات وحقوق العمال وقضية المعتقلين وحقوق اللاجئين وحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة…الخ، كما تشمل قضية “العدالة الاجتماعية” التي هي في صلب النضال المدني، السعيَ لتحقيق توزيع عادل للثروة والفرص في المجتمع ومعالجة الفقر والتمييز والظلم إ الاجتماعي، وبالتالي فالعدالة إ الاجتماعية هي مسألة سياسية على قدر ما هي مدنية، وأخيرًا نجد أن مسألة الديمقراطية والمشاركة المجتمعية بالمجمل تقوم فعليًا على تعزيز المشاركة السياسية للمواطنين وتمكينهم من اتخاذ القرارات المؤثرة في حياتهم ومجتمعهم. وكل القضايا السابقة هي دلائل واضحة على تراكب المجال المدني وتداخله مع السياسي.

القضية السورية والنضال المدني

لم يكن ممكنًا إيقاف تحول الثورة السورية إلى ثورة مسلّحة ولا كان ممكنًا إيقاف انتقال السوريين من الاحتجاجات المدنية إلى السلاح، فالنظام الذي كان يقتل السوريين “كالجراثيم” وأعلن الحرب عليهم منذ اللحظة الأولى، ومنذ الخطاب الأول لرئيس النظام “إذا أردتم المعركة فأهلًا وسهلًا”.. لم يترك خيارًا آخر للسوريين العاديين إلا حمل السلاح. ومع ذلك، فإن كل رعاة السلام وعاشقي السلميّة، مع كل النظريات المثالية المحلية والدولية، لم تكن لتقنع بتدمير بيت إنسان فوق رؤوس أطفاله أو بفقده قريبًا أو حبيبًا، إن السلاح لن ينقذنا أكثر مما سيورّطنا. لكن كما يعلم بعض القرّاء الأعزاء، نحن لا نعيش في عالم المثاليات الأفلاطونية ولا في جمهوريته الفاضلة، وليس التسلّح في الحالة السورية غير طبيعي فقط، بل إن عدم التسلح هو غير الطبيعي، والمطالبة بعدم التسلح أمام البراميل المتفجّرة هي الانفصال عن الطبيعي والواقعي معًا، بل بدت وكأنها مطالبة الملحدين للمؤمنين بأن يكونوا “آلهة” وأن يترفّعوا عن “صغائر” القتل والتهجير والكيماوي.

لكن بعد دزّينة من السنوات العِجاف ع، وبعد تحوّل الثورة السورية إلى حرب أهلية وحرب دولية بالوكالة، وبعد انتصار السلاح على السلاح وبقاء المسلحين وحدهم سادةً على الخراب السوري، نظن أنه بات واضحًا للجميع أنه لم يعد هناك أمل في التغيير عبر القوة المسلّحة، أو أن التغيير الذي يأتي بقوة السلاح لن يكون أبدًا تغييرًا إلى الأفضل. وبكلام آخر، إن التغيير الذي تجلبه “البنادق والخنادق” لن يجلب معه إلا الديكتاتورية، بغض النظر عن حاملها إن كان ذا لحية أو ربطة عنق.

هذا الواقع الذي وصلت إليه القضية السورية هو ما يرفع من أهمية النضال المدني، ويجعله من أهم أنواع النضال الممكنة أمام السوريين في المرحلة الحالية والمستقبلية. فالنضال المدني للأفراد والمجموعات والمنظمات والمؤسسات والحركات على تنوعاتها واختلافاتها، هو ما يجب أن يأخذ مزيدًا من الانتباه والتركيز والاهتمام في المرحلة المقبلة، وهو ما قد يفتح باب السياسة المغلق أمام النخب القديمة وبسببها، وما قد يعبّد طرق الخروج من الجحيم السوري المليء بالنيات الطيّبة والأفعال الشائنة، وهو ما قد يمثّل بديلًا مجتمعيًا وحقوقيًا وديمقراطيًا عن معارك “كسر العظم” حتى آخر سوري، القائمة منذ أكثر من عقد.

وتكمن أهمية النضال المدني السوري الممكن في عدة نقاط، نذكر منها:

أولًا، إنه النضال الوحيد المقبول والقابل للدعم المجتمعي والسياسي الدولي أمام الاستعصاء العسكري والنتائج الصفرية للمواجهات العسكرية وحرب الوكالة الأهلية/الدولية القائمة على أرض سوريا.

ثانيًا، هو النشاط الوحيد القابل لاستقطاب التعاطف المجتمعي، سواء على صعيد المجتمع السوري الذي بات يملؤه اليأس والقرف من جميع الأطراف السياسية والعسكرية السورية العاملة، أو على صعيد المجتمعات المضيفة للسوريين في الدول المجاورة أو في شتى أنحاء العالم.

ثالثًا، هو النشاط الأكثر قابلية بذاته للتنوع والاستقلال والفاعلية، سواء على صعيد الوسائل والأدوات، أو صعيد النتائج والغايات، أو صعيد الأفراد والجماعات. فكل كلمة مكتوبة في كتاب أو مقال أو رواية، وكل عمل فنّي بصري أو سمعي أو يدوي وبدني، وكل نشاط فردي مؤثر أو تنظيم جماعي مؤسساتي “سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أو ثقافي أو إعلامي أو حقوقي”.. هو مساهمة في النضال المدني. وفي بعض الشروط الاستثنائية سيكون حتى “مجرّد حفاظ المرء على حياته” كما قال أحد الناجين من الحرب العالمية الثانية، هو نوع من المقاومة والنضال المدني.

أخيرًا، بعد النكبة الفلسطينية ظهر هناك ميل لدى الشعوب العربية إلى أن الخلاص الأمثل سيأتي عبر القوة العسكرية، وأن التحرير لن يأتي إلا عبر الجيوش والحروب والمقاومة المسلحة، ولذلك وُضِعت جميع المشكلات الاجتماعية والسياسية والتنموية والثقافية والمدنية في الدرجة الثانية، وباتت عسكرة المجتمعات والدول هي الأولوية، مع حاضن اجتماعي وسياسي وأخلاقي قوي لتلك الأولوية. أما بعد النكبة السورية التي باتت رمزًا عربيًا جديدًا للأنظمة والشعوب معًا، فيمكننا أن نلحظ على العكس، يأس الشعوب العربية من كل أشكال التغيير المسلّح. فلا إسقاط الأنظمة عبر القوة العسكرية والتدخل الخارجي كما حدث في العراق كان ناجعًا، ولا إسقاطها من الداخل عبر الثورة المسلحة كان ناجحًا، ولا تحرير فلسطين ذاتها عبر الجيوش العربية والنظامية وغير النظامية كلها كان ممكنًا، بل إن مقاومة المجتمع المدني والأهلي الفلسطيني كانت أجدى وأكثر فائدة للقضية الفلسطينية من كل الجيوش العربية مجتمعة. وتلك النتائج، هي ما تبدو في أفق العلاقة بين الأنظمة العربية وشعوبها، وتعطينا فكرة عن أهمية النضال المدني أمام تغوّل الدول والأنظمة، فكذبة التحرير والتحرر بالقوة العسكرية لم تعد تنطلي على الشعوب التي ذاقت مرارة أنظمتها العسكرية، وقد رأينا في المثال السوري كيف تحولت المناطق المحررة نتيجةً لحكم العسكر إلى مناطق محتلة، ولم تعد مقارنة إسرائيل وحماس وفتح بالنظام والجولاني وقسد بعيدة عن الواقع والمنطق، فجميع السُلَط التي تم ذكرها معادية لحرية واستقلال المجتمعات واستقلالها ومتبادلة للمنافع رغم عدائها الشكلي، وليس هناك مخرج متوافق مع طبيعة الحياة المعاصرة أفضل من المقاومة المدنية التعددية والنضال المدني المتنوع.

ليس خيار النضال المدني أفضل للقضية السورية لأنه مقدّس، بل فقط لأنه أكثر جدوى لمستقبلنا على تلك الأرض المحكومة بالمقدسات.

 

مشاركة: