متلازمة العمل المدني؛ دعوة للشفاء أم إنكار للواقع

العمل المدني والإنكار المجتمعي

بعيدًا عن التعريفات النظرية وجدلية المصطلحات، يكتنف أي نقاش حول العمل المدني في سوريا إشكال رئيس، وهو التنصل من التعرض إلى موقف الجمهور العام أو المجتمع من العمل المدني، إذ يتم غالبًا التركيز على التوصيف الرسمي أو السياسي لهذا العمل، ويتم تجاهل كل ما عداه، ما أحالنا على واقع خاص يمكن تسميته اصطلاحًا اغتراب العمل المدني في سوريا عن جمهوره الأساسي أي الجمهور المستهدف بالعمل المدني وبمهماته الأصيلة.

ثمة إشكالية أكثر إيلامًا وضياعًا، وهي ترنح العمل المدني ما بين قطبين اتهاميين في عمقهما، وهما الارتزاق أو التخوين، وتهمتا الارتزاق والتخوين تشكل حالة عامة، سياسية ورسمية وجماهيرية، ولا سيَّما أن العمل المدني ما زال باهت الملامح في سوريا، ويُخلط بينه وبين العمل الأهلي، كما أن تعريف بعض الهياكل الحكومية بأنها مدنية مثل النقابات، جعل من توصيف العمل المدني في سوريا ملتبسًا بشدة، فكيف يمكن توصيف نقابات يتكون أعضاؤها من العاملين في الدولة ينتخبون مندوبيهم وفق قوائم حزبية مفروضة ولا يملك كل من هو خارج هذه القوائم فرصة الفوز مطلقًا، وكيف يمكن إقناع الجميع بأن النقابات هي منظمات عمل مدني وفضاؤها هو فضاء مدني؟

بعد عام 2011 برز خلط كبير بين العمل الوظيفي المستحدث والطارئ نتيجة دخول المنظمات الدولية للعمل على الأرض السورية، وبين إرث من العمل المدني، ولا سيَّما النسوي، والذي برز إلى النور وتم ترخيص بعضه، وهو عدد قليل جدًا بعد عام 2000، أي العمل الذي نشأ ونما خارج الأطر الحزبية التقليدية كأحزاب الجبهة، لكنه عمل ذو مساحة ضيقة وقوامه عضوات قليلات العدد، عمل مسكوت عنه أو مجهّل لاعتبارات أمنية أو لضعف النشاط ومحدوديته.

لقد تم وبقرارات رسمية حزبية صارمة رفض كل الدعوات التي أطلقها أعضاء الأحزاب التقليدية أو الرسمية ذاتها للانتقال، ولو جزئيًا، وضمن الهيكل الحزبي ذاته، إلى العمل المدني، لتناول عناوين جديدة مثل العلمانية والجندر والنسوية، وقوبلت بالرفض كل دعوات الانفتاح على منظمات مدنية أخرى، وتم ذلك بسبب تحكم سياسة حزبية أصولية لا تحرم محازبيها من الانتقال إلى العمل المدني فحسب، بل تحاربهم وتعاقبهم وتقصيهم وقد تفصلهم من أحزابهم بتهم خيانة المبادئ والقيم الحزبية والشعارات الوطنية.

إذًا يمكن تلخيص مشهد العمل المدني المترنح في سوريا ما بين الوظائف الجديدة في منظمات لم تسمع بها أغلبية السوريين قبل 2011، لكن ازداد الطلب عليها من قبل الجميع لأنها ذات أجر مرتفع وصلاحيات مفتوحة، وما بين العمل المدني ضئيل الأثر وغير المعروف حتى في مجتمعه، والمقيد في مهده، الذي غادر بعض أعضائه، واختار بعضه الآخر الصمت، فيما تجاوز الباقون الطبيعة المطلبية لمنظماتهم المدنية وطرحوا قضية عامة واحدة ومركزية فرضتها المطالب العامة بالتغيير بعد عام 2011.

وفي المقابل، اشتدَّ تقزيم العمل المدني وتخوينه، وغالبًا بقرارات رسمية. وفي أحسن الأحوال يكون التعامل مع ناشطيه وناشطاته بوصفهم حالمين وحالمات أو خارجين وخارجات على المصفوفة القيمية العامة السائدة. وليس غريبًا أن يتم التأكيد، وبحسم، على ضرورة إلحاق العمل المدني القائم بالجهات الحكومية حصرًا، وأنَّه لم يُرخَّص لأي منظمة مجتمع مدني بعد عام 2012، كما لم يتم إصدار قانون ينظِّم العمل المدني يلبي الحاجة الاجتماعية الموضوعية لدور المنظمات المدنية.

من نافل القول التأكيد على أن رفض بعض القطاعات السورية للعمل المدني، ولا سيَّما تلك التي لم تتعرف إلا على بنى حزبية تقليدية متسلطة، أو تلك التي تنظر إلى الجمعيات الخيرية بوصفها واجهات للنصب والاحتيال على أموال اليتامى والفقراء وذوي الحاجات الخاصة، بحكم التجارب غير المشجعة في هذا المضمار.

ثمة معايير نمطية صارمة وثمة ذاكرة ممتلئة بالتهم تنقض فجأة على رواد العمل المدني، والأكثر خطرا أن غالبية الرافضين/ات يتعاملون مع العمل المدني وكأنه عمل سياسي في جوهره وإن تغير الشكل، عمل مشوش و بلا هدف أو إن صح التعبير لا ترضي أهدافه عامة المجتمع، وغير ضروري أبدا، وفي أحسن الأحوال يتم التعامل معه وكأنه عمل نخبوي لكنه استفزازي للسلطات ولقوى الأمر الواقع وفي الوقت نفسه لا يحظى بأي دعم أو تأييد مجتمعي ،خاصة إذا ما تم التعامل معه على أنه عمل مأجور ومجزٍ ومحتكر من فئة قليلة جدا، ولأن باب التوظيف فيه مغلق للعموم، لذلك من الطبيعي أن يتضامن المجتمع أو يتعاطف ولو بشكل عفوي مع سجين سياسي، لكنه يدين أي متطوع أو ناشط في منظمة عمل مدني، بل ويعتبر أن ذاك الناشط يستحق الردع لأنه مستفز وطوباوي ومنقلب على الواقع وعلى التجارب السياسية التقليدية. وإمعانا في هذا الموقف يتم تحميل ذاك الناشط كل تبعات خروجه عن رضا العقائدية أو الصنمية الحزبية أو الاكتفاء بحالة وظيفية تدر دخلا.

ساهمت الأحزاب السياسية التقليدية بتشويه صورة أعضائها وعضواتها الذين طالبوا مثلًا بتشكيل لجنة أو فرقة خاصة بحقوق الإنسان ضمن منظمات الحزب ذاته، بل ورفضت أي نشاط مواز يخدم هذه الفكرة، وأمعنت في القمع حين اعتبرت كل عضو في الحزب مفصولًا من الحزب إذا ما سمح لنفسه بالمطالبة بذلك.

العمل المدني والكوتا

يُحسب للعمل المدني حرصه على إشراك النساء والشباب في تشكيلاته وبناه التنظيمية، وحتى في تشكيل قياداته، وهنا بالذات تتعالى الأصوات الرافضة لتطبيق الكوتا بذريعة أنه إجراء متلاعب به وغير ديمقراطي، لأنه يسمح بوصول النساء والشباب والمكونات الثقافية المتنوعة بغض النظر عن الأحقية والخبرة ونتائج الانتخابات، لكن إصرار هياكل العمل المدني ولو شكليًا على المضي في اعتماد الكوتا كطريقة لإشراك الفئات المهمشة أو الممنوعة سابقًا من الوصول إلى المراكز القيادية، يُعتبر عاملًا محركًا مهمًا لتثبيت التشاركية وتوسيعها، ولضمان المساواة في نسب التمثيل والعضوية أيضًا، ولكسر آليات التعيين والتوريث في المستويات المتقدمة كما هي سائدة في الهياكل السياسية القديمة.

لقد سمح تطبيق الكوتا في أحايين كثيرة بوصول أشخاص أظهروا تميزًا وأحقية في الوصول والمشاركة في مراكز صنع القرار.

لقد ساهم تطبيق الكوتا في العمل المدني في كسر استحواذ طبقة كثيرًا ما استأثرت بالمراكز وبالقرار حتى تحولت إلى بنية مكتفية بحضورها ومانعة للتجديد أو قبول الآخر تحت ذرائع الجنس والعمر والقومية والثقافة وحتى مكان السكن والولادة. وفي الوجه الآخر لواقع مستجد حدثت حالة عكسية نتيجة اعتماد حالات تم التركيز فيها على أعمار محددة للاختيار والمشاركة والقيادة، والمقصود هنا الأعمار الشابة ما أدى إلى إقصاء أصحاب الخبرة أو الأشخاص المميزين والفاعلين ممن تجاوزوا السن المطلوبة. إن دمقرطة توزيع المسؤوليات والصلاحيات تتطلب من نشطاء العمل المدني كسب الجميع والمزاوجة ما بين الخبرة والحماسة، كي لا تسود قواعد مطلقة تكتفي بمقاييس حصرية وشرطية، تحرم البعض من حقوقهم التشاركية بدعوى التجديد أو التغيير. كما ينبغي ربط تطبيق الكوتا الأمثل بدورات زمنية محددة، تفسح المجال للجميع بالتعريف عن أنفسهم وعن مرونتهم وتمثلهم لقضاياهم، على أن يتم بعد انقضاء تلك المدة الركون إلى نتائج صناديق الانتخابات فقط.

وتجدر الإشارة هنا إلى الفرق الكبير بين الموظف الذي امتهن العمل في منظمة دولية أو أحد فروعها ويتقاضى راتبًا شهريًا وتعويضات تتعلق بالسفر والمهمات المختلفة وغيرها، ولا يحق له التدخل في آليات عمل منظمته ولا في أهدافها أو توجهاتها، وبين الناشط المدني المتطوع والذي يعتبر العمل المدني قضيته النضالية الشخصية التي يؤمن بجدواها وبنفعها العام للجميع، والأهم أنه من صاغ الفكرة والأهداف الأساسية لمنظمته أو نشاطه وبالتوافق مع زملاء يعتبرهم شركاء في التفكير والخيارات والأداء. إن آلية تلبية أوامر وتوجهات المنظمات المُشغلة للموظفين، حتى لو كانت منظمات ذات توجه مدني، ومساحة أعمالها ونشاطها هي مساحة مدنية، قد تحولت فعليًا إلى مجرد علاقة وظيفية بين رئيس ومرؤوس وموظف ومدير، وأدت أيضًا إلى شيوع نمط من العلاقات يقوم على التزلف المبالغ فيه من قبل الموظفين لإرضاء الإدارة، بغض النظر عن حقيقة مواقف الموظفين وانتماءاتهم. وهذا أثر بشكل مباشر على النتائج، وعلى أشكال التطبيق، على الرغم من الانضباط الوظيفي، فضلًا عن التجاوزات المتنوعة التي تسيء إلى جوهر العمل المدني وأهدافه.

القضية الأكثر أهمية هنا هي انتفاء شرطيّ الحرية والمسؤولية انسجامًا مع القاعدة الهرمية في الوظائف المأجورة. قد تقدِّم تلك المنظمات عملًا جيدًا ومثمرًا، لكنها لا تخلق ناشطين مدنيين، بل موظفين ملتزمين بالأوامر للحفاظ على مصادر دخلهم وأجورهم، وطمعًا في ترفيعات وترقيات متجددة، وهذا أحد التجليات الخطيرة لمنظمات عمل مدني توظيفية تفرضها الحاجة أو البرتوكول الخاص بالأزمات، ولم تتأسس بإرادة مجتمعية جمعية وطنية، ولا تنطلق من تفاعل وفاعلية مدنية تشاركية طوعية أساسها الحق في تكوين وفي حرية العمل المدني وحرية الانتظام في تجمعات أو منظمات مدنية تأخذ دور المراقبة وتتعداه إلى دور المشاركة في رسم السياسات العامة.

العمل المدني والنساء

برزت تاريخيًا هياكل خاصة للعمل النسوي انبثقت بقرار حزبي فوقي من قيادات الأحزاب، وذلك لتشميل العمل بين الفئات الأكثر تهميشا بالعمل الحزبي، لكن تلك الهياكل عانت من تبعية تنظيمية مقيتة حرمتها حتى من صوغ توجهاتها وأهدافها بصورة مستقلة، وتلاعبت قيادات الأحزاب وبصورة مسبقة بنتائج انتخابات تلك الهياكل، وقد وصل التناقض الحاد بينهما في بعض الأحزاب السياسية إلى فصل العديد من النساء المعترضات على تلك السياسات من تلك الهياكل المستجدة ومن صفوف الحزب أيضًا. وغالبًا ما لجأت النساء المعترضات على الأصولية التنظيمية وتقييد حرية التجديد والاستقلالية إلى العزوف عن العمل بصورة طوعية أو الاستسلام لتاريخية العلاقة مع الهيكلية الحزبية التقليدية بدافع عاطفي مؤثر، وفي أحسن الأحوال بدافع هوياتي نضالي لا يمكن الفكاك منه، ولا التخلي عنه لأسباب داخلية ونفسية، وأحيانًا بسبب الخوف من هشاشة الأوضاع الجديدة، وتراجع الاعتراف المجتمعي بعد الاستقالة.

تستحق المنظمات او التجمعات النسوية المدنية، ولا سيَّما بعد 2011، وقبله بين عامي 2002 و2005، بحثًا خاصًا مستفيضًا، بحكم أنها ازدادت عددًا وحققت سبقًا لافتًا في الطرح، وفي آليات الهيكلة والعمل، على الرغم من أنها -للأسف- حافظت على تكتلات منبثقة من هياكل سياسية قديمة، وبقيت بعيدة بشكل كبير عن الاستقطاب المجتمعي خارج سوريا وداخلها.

لقد وجدت النساء غير التقليديات فرصًا كبيرة لهن لإطلاق هياكل مدنية تعاملت مع النسوية بشكلها المفاهيمي المباشر خارج التوصيف الحزبي، كما أن تعميم المنظمات الدولية لضرورة التدريب على الجندر وملحقاته، وربما فرضه، قد خلق قاعدة معرفية واسعة لدى جمهور نسائي أوسع، لكن هذا العمل المهم اتسم بغياب القاعدة الحقوقية العريضة لبناء مفاهيم وأسس حقوقية ومعرفية مدنية تلبي حاجات النساء بصورة فعلية واعية، وقادرة على بناء هياكل صالحة للمستقبل وقابلة للاستمرار، بعد رفع يد المنظمات الدولية عنها بسبب انتهاء مهماتها وأعمالها.

يمكن القول، وبثقة، إنه بفضل هذا الفرض الدولي تحت تأثير الواقع الدراماتيكي قد تم نشر وتعميم جذور أو قواعد للعمل المدني النسوي، لكنها مهددة بالانكفاء والتوقف في حال توقف التمويل والمتابعة من قبل المنظمات الدولية، وانتقالها إلى ساحة صراع أخرى، أو ادعائها بانتهاء الحاجة إلى وجودها بذريعة انتهاء الصراع.

السؤال الأهم الذي يفرض نفسه هنا: هل ثمة نسوية مدنية حيوية قادرة على الاستمرار في ظل غياب الدعم الدولي؟ وهل يمكن للجهات الممسكة بالواقع السوري ضخ الأمل، والدفع نحو دعم تشكيل وبناء هياكل نسوية مدنية؟ وبطريقة أخرى أكثر دقة؛ هل ثمة إرادة لفعل ذلك؟

إن الإجابة عن السؤالين السابقين تتطلب بشكل رئيس صوغ قانون يعترف بالعمل المدني، يعرفه، يحدد تخومه ومفاصله الهيكلية ومساحات عمله، والأهم أن يكون صالحًا لضمان حماية الكوادر المدنية بشكل عام والنسوية بشكل خاص!

ما يحز في النفس أن الأغلبية تتعامل مع العمل المدني النسوي وكأنه مجرد (حكي نسوان)، أي وفق الصورة النمطية ذاتها في التعامل مع حاجات النساء ومطالبهن وأزماتهن وقضاياهن، ولذلك يرى بعضهم أن بعض الجمعيات الخيرية أو بعض التجمعات النسائية، وليست النسوية، كافية لتلبية حاجات النساء والتصدي لقضاياهن المحقة والعادلة، وهي قضايا غير إشكالية على الرغم من أحقيتها، وغير مقلقة لأنها تكتفي بالمطالب المباشرة وبصورة ودية جدًا.

والفرق هنا كبير بين النسائية والنسوية؛ فالنسائية تجمعات قوامها التنظيمي والعددي من النساء حصرًا، وقد يتعارض موقف هؤلاء النساء مع النسوية مبدأً ومفهومًا وتوجهًا، أما المنظمات النسوية فيشارك في عدادها نساء ورجال يؤمنون بالنسوية، ويتعاملون معها بوصفها حركة اجتماعية سياسية تطال اهتماماتها قطاعات المجتمع والحياة كلها.

يحتاج العمل المدني في سوريا إلى رؤى عقلانية تستفيد من التجارب السورية والعربية وغيرها، وإلى نضال طويل الأمد، وتراكمي، لبناء المنظومة القانونية التي تشرعن العمل المدني وتحمي ناشطيه وناشطاته.

 

مشاركة: