عن الكتابة كنضال مدني؛ في ضرورة توسيع أفق النضال المدني

حين قرأتُ تفاصيلَ ملفِ “النضال المدني”، لم يستغرق الأمر منّي أكثرَ من دقيقتين لأقررَ الحديث عن أحدِ أشكالِ النضالِ المدنيّ غير المُمأسس، وحتى ولو كان النضالُ بمفهومهِ ينطوي على الثورة والغضب، لكنني في الحقيقة لم أمارسهُ أو حتى أريد أن أُقاربه من مٌنطلق ثوريّ، بل كان نتاجًا للمرحلة، وضرورةً لها، وهو الكتابة. تستندُ بعضُ الأفكارِ المطروحةِ هنا إلى معايشتي الذاتيّة كلاجئة سوريّة في لبنان منذ تسعِ سنواتٍ تقريبًا، وستكون حجرًا أساسيًّا أُقيم عليها رؤيتي.

ما وجدتهُ لزامًا أن أبدأ به هو المجتمع المدني في لبنان، وهنا أتحدثُ عن المجتمع المدني الفاعل في قضايا اللجوء السوري في لبنان وحسب. من غير المقبول ولا العادل أن نقفز فوقه أو نتجاوزه، كذلك هو مهمٌ في السياق الذي أنوي نقاشه.

ماذا تبقى من مجتمع اللجوء غير المُعبّر عنه سياسيًّا؟ من يُمثله؟ وماهي أشكال النضال المدني المُتاحة للدفاع عنه؟

بدأت مأسسة تلك المنظمات في الفترة التي تلت توافد أعداد مهولة من السوريين القادمين من سوريا والفارين إما من ملاحقات أمنية أو سعيًا نحو حياة أقلّ إيلامًا، متأملين أن تتوافر فيها بعض شروط النجاة. وقتها أصبحت منظمات المجتمع المدنيّ في لبنان أحد أبرز الأجسام التي انشغلت في الكشف عن أوجه هشاشةِ مجتمع اللاجئين، والسعي إلى توفير متطلباتهم الحياتيّة، بعد ما اتبعت السلطاتُ اللبنانيّة سياسة الإهمالِ في ممارسة دورها كحكومة يتوجّب عليها تنظيم شؤونهم، وسُرعان ما بدأ يتكشّف عن رغبة الأخيرة في التخلص من هؤلاء اللاجئين، ولو تمّ تحقيق هذا عبر فرض قوانين تحد من طاقاتهم، ثمّ تقلص من حقوقهم، وصولًا إلى ترحيلهم بشكل قسريّ إلى سوريا.

يُقدَّر عدد اللاجئين السوريين في لبنان بحسب مُعرّفات مفوضية شؤون اللاجئين في آخر تحديث لها نحو 795 ألف لاجئـ/ة.

على الرغم من الدور المهم الذي يمكن أن تقوم به المنظمات غير الحكوميّة في البلاد إلى جانب الحكوميّة، لكن في حالة لبنان مثلًا، توجهت سلطاتُه إلى تشديد قبضتها على المنظمات التي تستهدف اللاجئين، بل راحت أبعد من ذلك نحو المضايقات والملاحقات الأمنيّة للعاملين والنشطاء المدنيين، وبالأخص الفاعلين في قضايا المناصرة، خوفًا من التأثير في سياسات لبنان التي وجدت في عودة اللاجئين إلى سوريا مهمتها المثلى، مُسخرة طاقاتها في ذلك.

كان لتحييد المجتمع المدنيّ عن السياسة عاملًا مهمًا في ازدياد معدلات العنف والانتهاكات ضد اللاجئين.

وعلى ذلك، قوّض الكثير من أساسيّات عملها، نُزع عن بعضها دورها السياسيّ وتراجعت قدرتها التأثيرية إلى مساحاتٍ صغيرة وفي بعض الأحيان هامشيّة، فيما نزعت أخرى عن نفسها دورها السياسي إذعانًا لرغبة السلطات، ومن أجل ضمان استمراريّة عملها ولو اقتصر على الجانب الإغاثي فحسب.

كلامي أعلاه لا ينفي حقيقة وجودِ مشكلات في أداء عمل الكثير من هذه المنظمات، كالإشكاليات المُتعلقة بالتمثيل، وتكريس الصورة النمطيّة للاجئين، ما أدى في نهاية المطاف إلى تحويلهم إلى مجتمع سلبي ومتلق فحسب، ماعدا عدم إشراكهم في خلق مشاريعهم وبرامجهم التي تستهدف اللاجئين، وتحييد هؤلاء “المستفيدين” عن دورهم اللازم للمساهمة في تحديدها وتقييمها.

في السياق ذاته، نجدُ أنّ نسبةً كبيرةً من هذه البرامج تُراعي أجندات الدول المانحة، لكنها لا تراعي الاحتياجات الأساسية للاجئين ضمن سياقاتهم الحياتية والاجتماعية، وبذلك غدت أهداف تلك المشاريع هي إتمامها دون إحداث أيّ تغيير حقيقي يُحّسن من ظروف اللاجئين مختلفي الاحتياجات والقدرات.

عبر سؤال توجهتُ به إلى العشرات من اللاجئين السوريين في لبنان للتعبير عن رأيهم بأداء تلك المنظمات. كان هناك شبه إجماع بعدم الرضا عن أدائهم، لكن على المقلب الآخر لم يتناسى أحدٌ ما أن يذكر مساهماتهم في تسهيل بعض شؤونهم القانونيّة في البلاد، والاستجابة إلى بعض احتياجاتهم وتقديم بعض الخدمات الطبية والإغاثية. تقول رابعة القادري وهي ناشطة مجتمعيّة في منطقة البقاع شمال لبنان: “فتحت بعض المنظمات أفقًا لزيادة الوعي السياسيّ لبعض السيدات، لا أعتقد أن هذا سيكون ممكنًا في وضع آخر، أصبحت بعض النساء يدركن مسؤوليتهن في قضايا إنسانيّة، أنا كَمُدرّسة سابقة، قدمت لي بعض المنظمات فرصًا لصقل مهاراتي في التدريب في أكثر من مجال، وهذا لا يعني الصورة المثالية للمنظمات، كثيرًا ما رأينا الفساد والتمييز، أنا مع ألا نغفل الجانب المضيء الذي ذَكرتُه”.

كي نحررَ النضالَ المدني من الارتهان إلى فعاليّة منظمات المجتمع المدني، وبغية عدم اختزال هذا النضال باختلاف أدواته ومساراته وطرقه بالتَشكّل والظهور بمنظمات المجتمع المدني فقط، -وإن تكن أهم آلياته على الإطلاق- أتحدث هنا عن توسيعِ أفقِ هذا النضال ليشمل أيّ فرد، حركة، فئة تعمل على التفكير أو الاشتغال للتأثيرِ في المجتمعات ضد هياكل السلطات القمعيّة، وضد الاستبداد والعنف بشتى أشكاله.

هذا النمط من النضال لا يعني بالضرورة تحدي أشكال التنظيمات الفاعلة مدنيًا وأقصد المُمَأسسة، بل يمكن أن يعملا معًا، ومن جهةٍ أخرى، يمكن أن يتخذ موقفًا نقديًّا منهم.

وجدتُ في الممارسات الفردية غير المؤسساتية النازعة نحو الدفاع عن حقوق اللاجئين، سحرًا نضاليًا مدنيًا من نوعٍ آخر، أكثر قربًا من المجتمع وأكثر إصغاءً له، دون أن أدعي مدى فعاليته، لكنني أستطيع أن أقرّ بجدّيته في العمل واستمراريته، وبتحقيق تواصل إنسانيّ جيد.

نحن لا نمتلك الحريّة، وأقصد بالحريّة هنا أن نكون أحرارًا في ممارسة حياتنا التي نشتهي، أو بلغة منظمات الأمم المتحدة: حقوقنا، حقوق الإنسان الأساسيّة. كأن نتنقّل في البلاد بسهولة، ونتعلّم من دون التفنّن في خلق عقبات بيروقراطيّة، وأن ندرس في الجامعات التي نريدها، وأن نعلّم أطفالنا في المدارس التي يرونها مناسبة من دون الفصل بينهم على أساس الجنسيّة، وأن نعمل في المهن التي نشقُّ طريقًا إليها، وليس العكس. لكننا نستطيع أن نتخيل شكل الحريّة ونفكر فيها ثم ندافع عن حقنا في امتلاكها وفي ممارستها، وبعدها لكل منا طريقته في تطويرها.

وجدتُ هذا أثناء عملي في مقابلاتي مع أشخاص كثر، وإن لم يتلفظوا ب مفردة “حرية”، لكنهم كانوا أحرارًا في التعبير عن أنفسهم وأحلامهم ومخاوفهم أيضًا، وبالنسبة لي كان هذا شيئًا ذا معنى وسط هذه الفوضى، معنى نضالي، فنحن محاطون ببيئة عنيفة ومُعنِّفة ومعجونة بالخوف، العنف الممتد من سوريا بمختلف أشكاله ومستوياته، وعنف بعض السلطات اللبنانيّة ضدنا والذي يظهر على شكل سياسات لا تعترف باللاجئ، ثم تجاهر في كراهيته و نبذه وإفقاره وصولًا إلى إذلاله، بالإضافة إلى عنف واستبداد فردي وجمعي أحيانًا، للأسباب ذاتها التي وجهتم السلطات إليها.

أؤمن بأن الطريق طويل، وقد لا يكون على قدر التوقعات، فمعاش السوريين في لبنان هو مُعاش هزيل وأليم، وأيّ نضالات حاليّة هي تحديات مرهقة، وربما مجازفة حقيقية وسط سياسات العرقلة والملاحقة الأمنية والترحيل. وجدتُ مثلًا في الكتابة نضالًا ملتزمًا، في ظلّ أنظمة تطبق أسنانها بشراسة على أي تحرك قد يخلخل مساعيها. هل تكفي الصحافة لمواجهة القمع والوحشية؟ بالطبع لا ولا يجب عليها أن تكون ذلك.

ربما رأيتُ فيها هروبًا ونأيًا بالنفس عن الانخراط بتكتلٍ أو أي شكل ثان حالي، أو بديلًا مؤقتًا، وربما الثلاثة معًا، لا حدود للاحتمالات، شأنها شأن النضال حر دائمًا.

 

مشاركة: