دور الوعي السياسي في توليد النضال المدني

(قراءة في ضوء نظرية الفرصة السياسية)

 

مقدمة

إنّ الوعي السياسي له أهمية كبيرة في إحداث التنمية في كافة المجتمعات، وإن أهميته تنبثق أساسًا من كونه يؤدي إلى زيادة مستويات المعرفة السياسية لدى المواطنين في أي مجتمع، وهو الأمر الذي يؤدي إلى زيادة فهمهم لمختلف القضايا والظواهر السياسية التي تحدث في دولهم ومجتمعاتهم، ويدفع بهم نحو النضال المدني من أجل تحسين أوضاعهم، والمطالبة بحقوقهم، والمناداة بتحقيق الديمقراطية العدالة والمساواة في الأنظمة السياسية التي تحكم دولهم وتُنظّم حركة مجتمعاتهم[1].

إنّ العلاقة بين الوعي السياسي والنضال المدني تتّخذ أشكالًا تبادلية طردية، فازدياد الوعي السياسي لدى مختلف الشرائح في أي مجتمع، يؤدي إلى زيادة مستويات التعبئة الثقافية والسياسية لديهم، ويؤدي إلى امتلاكهم رؤية واضحة لقضايا دولهم ومجتمعاتهم، ويقود نحو اتّساع مشاركتهم في الحياة السياسية، والنضالات المدنية، وعملية صنع القرار السياسي بشكل عام[2].

وفي مقابل ذلك، فإنّ انخفاض الوعي السياسي لدى مختلف الشرائح في أي مجتمع، يؤدي إلى انخفاض مستويات التعبئة الثقافية والسياسية لديهم، ويؤدي إلى تذبذب أفكارهم وتناقضها حول قضايا مجتمعاتهم ودولهم، وهو ما يجعلهم مغتربين عن مجتمعاتهم، ويقود نحو ضآلة مشاركتهم في الحياة السياسية، والنضالات المدنية، وعملية صنع القرار السياسي بشكل عام[3].

إنّ زيادة الوعي السياسي لدى مختلف الشرائح في أي مجتمع، يُشكّل فرصة سياسية مناسبة، يُمكن لقادة حركات النضال المدني استغلالها، من أجل تعبئة حركاتهم بالموارد البشرية، بما يُساهِم في تحقيق مطالبهم، ويؤدي إلى خلق فرصة سياسية أخرى غير تلك التي قاموا باستغلالها.

ومن هنا، كانت هذه المقالة البحثية التي سنحاول فيها تسليط الضوء على دور الوعي السياسي في خلْق فرصة سياسية ملائمة، لتوليد النضال المدني، ولرفده بالموارد البشرية اللازمة لتحقيق أهدافه.

أولًا: الوعي السياسي والنضال المدني: تبادلية التأثّر والتأثير

تتعدد وتختلف تعريفات الباحثين والدارسين بشأن مفهوم الوعي السياسي، ويجيء كلّ واحد منها ي منسجمًا مع التوجّهات الفكرية للمعرّفين من حيث التركيز على البعد القومي أو الاقتصادي وغيرها من الأبعاد الأخرى التي تنضوي عليها توجّهاتهم الفكرية والمعرفية[4].

هناك فئة من الباحثين والدارسين تُعرّف الوعي السياسي بالتركيز على وضع الأفراد في الطبقة التي ينتمون إليها، حيثُ يُعرّف على أنّه: “نمط الأفكار والقيم والاتجاهات التي تتحدّد من خلالها الأوضاع القائمة، ويتجلى معها الشعور بالوجود الاجتماعي لطبقة أو حركة اجتماعية متميزة، ومدى مواكبة موقفها السياسي لمقتضيات التغيير وتلبية أهدافها في السيطرة على المجتمع”.

وهناك فئة أخرى تعرّفه بالتركيز على مكوناته وطرق اكتسابه، حيثُ يعرّف على أنّه: “مجموع الأفكار والمعلومات المختلفة التي تُكتسَب من خلال الثقافة السياسية، التي تنتقل للفرد عبر عملية التنشئة السياسية بواسطة المؤسسات الاجتماعية المختلفة”.

ويُعرّف –كذلك- على انّه: “إدراك الشخص العادي بأنّه عضو في المجتمع، ويُمكن أن يكون له دور فعال، ويَعرف أن له حقوقًا وعليه واجبات، وبهذا فإن الوعي السياسي يُعدّ جزءًا من الثقافة السياسية التي تعني (معارف- اتجاهات- قيم- مشاعر- ممارسات)[5].

وبالتدقيق في هذه التعريفات الثلاثة، يُمكن استنباط أنّها جميعها تشترك بالتركيز على مسألة أهمية الوعي السياسي الذي يكتسبه الفرد أو تكتسبه الطبقة أو الحركة الاجتماعية من خلال عملية التنشئة السياسية، في زيادة فهم هذه الفئات وإدراكهم لحقوقهم المدنية والسياسية وواجباتهم، وما يجري حولهم من أحداث ووقائع على الصعيدين المحلي والدولي[6].

كل ذلك يؤدي إلى نشوء ظرف تاريخي قد تشعر ضمنه أغلبية من أفراد المجتمع بأنّها متضررة من ممارسات السلطة السياسية التي تحكمها، وترى في الوقت ذاته بأنّ القيام بتحدي هذه السلطة أو السعي من أجل إسقاطها أو استبدالها، هو هدف يستحقّ العمل من أجله وبذل التضحيات[7].

إنّ نشوء هذا الظرف التاريخي قد يؤدي إلى انخراط تلك الأغلبية في شكل من أشكال المقاومة المدنية للسلطة، والتي يُمكن الإشارة إليها بالنضال المدني، الذي يُعرّف باعتباره: “أسلوب نضالي، يعتمد على انخراط جماهيري واسع، ويستخدم تكتيكات العمل الجماهيري، وتقنياته، ويسعى إلى تحقيق هدف معين، أو مجموعة أهداف معينة، تُشكّل الإطار العام الذي يُوحّد مختلف الفئات الاجتماعية المنخرطة في نشاط المقاومة أو المستفيدة من قيامها”[8].

إنّ النضال المدني وفقًا للتعريف السابق، هو شكل من أشكال السلوك اللاعنفي، الذي يوجّه ضدّ قوة أو سلطة معينة، ويكون متضمنًا سلسلةً من الإجراءات التي تتّسم بالتنظيم والاستمرارية، فهو مقاومة يُمكن نعتها بالمدنية نظرًا لارتباطها بالمواطنين والمجتمع، وبسبب طبيعتها السلمية الحضارية غير العسكرية واللاعنفية[9].

وتبعًا لذلك، فإنّ تبادلية التأثّر والتأثير بين الوعي السياسي والنضال المدني تظهر بشكل واضح، في ما يُحدثه الوعي السياسي في إدراك عقول أفراد أي مجتمع وأنفسهم، من حيث أنّه يَعمل على زيادة إدراكهم لحقيقة الأوضاع الاجتماعية والسياسية التي يعيشون فيها، كما يؤدي إلى زيادة معرفتهم بحقوقهم السياسية والمدنية، وهو الأمر الذي يؤدي إلى انخراطهم في النضال المدني، ذلك الفِعل الإيجابي الذي يتطلّب مثابرة وتخطيطًا دقيقًا، وقدرًا من الشجاعة وقدرة على التحمّل وإصرارًا على الاستمرار[10].

وكما أنّ الوعي السياسي يؤثّر في النضال المدني ويؤدي إلى توليده وانبثاقه كحركة جماهيرية إلى العلن، فإنّ استمرار حركة النضال المدني في العمل والنشاط حتى تحقيق هدفها، يرفع من معدلات الوعي السياسي لدى الأفراد المنخرطين فيها، ويُعيد تشكيل هذا الوعي بناءً على معارفهم الجديدة -المتعلّقة بزيادة خبراتهم في طرق الاحتجاج وتنظيم الحركات السلمية- التي اكتسبوها عبر انخراطهم في هذا النضال، وعبر تفاعلهم مع ظروفه وإشكالاته.

ثانيًا: دور الوعي السياسي في توليد النضال المدني: قراءة في ضوء نظرية الفرصة السياسية

إنّ مفهوم الفرصة السياسية هو مفهوم يقوم ضدّ كل الأطر المؤسسية والحزبية الرسمية في أي دولة، فهو مفهوم يؤكد على أنّه في ظلّ توق الكثير من القوى المجتمعية والمدنية في أي مجتمع للتغيير، وانغلاق الأطر المؤسسية والحزبية أمامها، فإنّ البديل الوحيد المتاح لها هو البحث عن أدوات أخرى تُمكّنها من تحقيق التغيير المنشود.

إنّ المفهوم السابق يرى بأنّ الحركات الاجتماعية والجماهيرية تأتي في مقابل الأطر المؤسسية الرسمية التقليدية في الدولة (جماعات المصالح الرسمية والأحزاب السياسية)، وأنّ الوظيفة الأساسية لهذه الحركات هو السلوك الاحتجاجي الذي يأتي في مقابل وظيفتي التمثيل النيابي والمنافسة السياسية التي تضطلع بهما الأحزاب السياسية وجماعات المصالح[11].

إنّ الفرصة السياسية تعرّف على أنّها “قدرة الحركة الاجتماعية على تعبئة مواردها واستغلال إمكانيتها من أجل التغيير الاجتماعي والسياسي، وذلك من خلال استغلال الظروف المجتمعية التي توفّر في لحظة ما فرصة كبيرة للتغيير، وبالتالي تتمكن الحركة من استغلال هذه الفرصة من أجل تحقيق مطالب الحركة والدفاع عن مصالح أعضائها، الأمر الذي يُمكنها من خلق فرصة سياسية أُخرى غير تلك التي استغلتها”[12].

وإن ديتر روخت (Dieter Rucht) يُناقش مفهوم الفرصة السياسية، ويرى أنّ هذه الفرصة ترتبط بشكل أو بآخر بالبيئة الاجتماعية المحيطة فيها، وبرأيه فإنّ هناك العديد من العوامل الاجتماعية التي تَؤثّر على الحركات الاجتماعية والجماهيرية، وتزيد من قدرتها أو تحدّها أمام القيام بأنشطتها الاحتجاجية[13].

إنّ مفهوم الفرصة السياسية يرتبط بمفهوم آخر اقترحه بيتر إيسنغر (Peter Eisinger) وهو مفهوم بنية الفرصة السياسية، حيثُ توصّل إلى أنّ تمكّن الحركات الاجتماعية والجماهيرية من تنظيم أنشطتها الاحتجاجية محكوم بطبيعة بنية الفرصة السياسية للبيئة الاجتماعية التي تحدث فيها تلك الأنشطة.

إنّ الفرصة السياسية وبنيتها تُشكلان المفهومين الأساسين في نظرية الفرصة السياسية، وهي النظرية التي تقوم على فرضية مفادها أنّ طبيعة عمل الحركات الاجتماعية والجماهيرية محكومة بالظرف التاريخي الملائم والبنى السياسية المحيطة، فالظرف التاريخي إما أن يُساهم في تطوير تعبئة هذه الحركات أو يُساهم في تقييدها، والبنى السياسية السائدة إما أن تُساهم في تطوير تعبئة هذه الحركات، أو تحدّ من قدرتها على الانطلاق[14].

وتبعًا لذلك، يُمكن القول بأنّ توفّر الوعي السياسي عند أفراد مجتمع ما يُشكّل فرصة سياسية ملائمة لانخراطهم في نضال مدني يتخذ شكل حركة جماهيرية لاعنفية، فاستشعار بعض الأفراد في مجتمع ما ممن لديهم الجرأة والرغبة في إطلاق حركة جماهيرية مدنية لتحقيق هدف معين؛ استشعارهم بوجود الوعي السياسي لدى الغالبية من أفراد المجتمع الذي يعيشون فيه، يؤدي بهم إلى الإقرار بتوفّر ظرف تاريخي ملائم من أجل الانطلاق بحركتهم، الأمر الذي يقودهم إلى المبادرة بالدعوة إلى هذه الحركة، وإلى تحديد تطلعاتها والأهداف التي ترغب في تحقيقها[15].

إنّ توفّر الوعي السياسي لدى غالبية أفراد المجتمع يشكّل فرصة سياسية ملائمة يُمكن لقادة حركة النضال المدني استغلالها من أجل تحقيق ما يلي:

1 – تخطيط النشاطات التي يُمكن لأفراد الحركة القيام بها، وتحديد مجالاتها، بشكل يتمّ عبره تلافي هدر الجهود وتشتيت الطاقات، بما يضمن الوصول إلى أكبر مردود تقوم به الحركة، وبما يضمن استمرارها واستمرار التزام الجمهور بها، ويقود نحو تحاشي استخدام أساليب ووسائل لا تتماشى مع صالحها العام.

2 – توفير الاستعدادات التعبوية للحركة، لتحشيد الجمهور وتسهيل تقبله لها، وانخراطه فيها.

3 – الحفاظ على قوة الدفع لدى الحركة، وضمان استمراريتها واستمرار التزام الجمهور بها، والتأكيد على مصداقيتها باعتبارها حركة تُمثّل مصالح غالبية أفراد المجتمع، وتعكس طموحاتهم[16].

ومما سبق، يُمكن قراءة العلاقة بين الوعي السياسي والنضال المدني في ضوء نظرية الفرصة السياسية وما يرتبط بها من مفاهيم أخرى كالبنية السياسية، بالقول والتأكيد على تبادلية العلاقة بينهما، فالوعي السياسي إذا ما توفّر عند أفراد مجتمع ما يبقى بحاجة إلى حركة نضال مدني لكي تستغله وتخلق من وجوده فرصة سياسية سانحة للتغيير السياسي والمجتمعي، وحركة النضال المدني بحاجة إلى وجود الوعي السياسي عند أفراد المجتمع لتنطلق بدءًا، ومن ثَمَّ لتفتح لها طرق النمو والاستمرارية ولتضمن دوام التأثير والفاعلية والقدرة على تحقيق الأهداف.

خاتمة

إنّ الوعيْ السياسي له عدة تعريفات، تشترك جميعًا في التأكيد على مسألة أهميته في زيادة فهم أفراد المجتمعات وإدراكهم لحقوقهم المدنية والسياسية وواجباتهم، وما يجري حولهم من أحداث ووقائع على الصعيدين المحلي والدولي. وإنّ زيادة فهم أفراد المجتمعات وإدراكهم لتلك الحقوق والواجبات، وبالظروف المحيطة بهم، يؤدي إلى نشوء ظرف تاريخي قد تشعر ضمنه أغلبيتهم بالضرر الذي يلحق بها من ممارسات السلطة السياسية التي تحكمها، وترى في الوقت ذاته بأنّ القيام بتحدي هذه السلطة أو السعي من أجل إسقاطها أو استبدالها، هو هدف يستحقّ العمل من أجله وبذل التضحيات.

وإنّ نشوء هذا الظرف التاريخي يُعتبر فرصة سياسية يُمكن للراغبين في الانطلاق بحركة النضال المدني استغلالها، من أجل الدعوة لحركتهم، والانطلاق بها، وتخطيط نشاطاتها وتحديد مجالاتها، وتوفير استعداداتها التعبوية، وحشد الجمهور لها، والحفاظ على قوة دفعها، كلّ ذلك بما يضمن استمراريتها، واستمرار التزام الجمهور بها، بوصفها حركة تُمثّل مصالحه، وتعكس طموحاته.

إنّ العلاقة بين الوعي السياسي والنضال المدني في ضوء نظرية الفرصة السياسية هي علاقة تظهَر وتتأكّد من خلال ملاحظة ما يُحدثه الوعي السياسي إذا ما توفّر عند أفراد مجتمع ما، حيثُ يشكّل فرصة سياسية مناسبة، يُمكن لقادة حركة النضال المدني استغلالها، من أجل تعبئة حركتهم بالموارد البشرية، بما يُساهِم في تحقيق مطالبهم، ويؤدي إلى خلق فرصة سياسية أخرى غير تلك التي قاموا باستغلالها، حيثُ يُفتح لهم الطريق من أجل النمو بحركتهم وضمان استمراريتها، وفاعليتها، وزيادة قدرتها على تحقيق أهدافها.

 

المراجع

خلف، عبد الهادي. المقاومة المدنية، ط1، (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1988).

عرفات، إسراء. “الحركات الاحتجاجية ودورها في مخرجات التغيير السياسي العربي- دراسة مقارنة بين مصر وتونس والبحرين”، (رسالة ماجستير، غير منشورة، جامعة النجاح الوطنية، 2017).

المجدلاوي، محمد نجيب. “أثر الوعي السياسي للشباب الفلسطيني في قطاع غزة: دراسة ميدانية”، (رسالة ماجستير، غير منشورة، جامعة الأزهر، 2016).

المهر، محمود صلاح عبد الحفيظ. “الحركات الاجتماعية والفرصة السياسية”، المجلة العربية للعلوم السياسية، العدد27 (2010).

 


 

1 – محمد نجيب المجدلاوي، “أثر الوعي السياسي للشباب الفلسطيني في قطاع غزة: دراسة ميدانية”، (رسالة ماجستير، غير منشورة، جامعة الأزهر، 2016)، ص18.

2 – المرجع السابق، ص18.

3 – المرجع السابق، ص18.

4 – المرجع السابق، ص16.

5 – المرجع السابق، ص16-17.

6 – المرجع السابق، ص17.

7 – عبد الهادي خلف، المقاومة المدنية، ط1، (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1988)، ص96.

8 – المرجع السابق، ص94.

9 – المرجع السابق، ص91.

10 – المرجع السابق، ص94.

11 – إسراء عرفات، “الحركات الاحتجاجية ودورها في مخرجات التغيير السياسي العربي- دراسة مقارنة بين مصر وتونس والبحرين”، (رسالة ماجستير، غير منشورة، جامعة النجاح الوطنية، 2017)، ص25.

12 – محمود صلاح عبد الحفيظ المهر، “الحركات الاجتماعية والفرصة السياسية”، المجلة العربية للعلوم السياسية، العدد27 (2010)، ص160-161.

13 – إسراء عرفات، ص25.

14 – المرجع السابق، ص26.

15 – عبد الهادي خلف، ص97.

16 – المرجع السابق، ص98-99.

 

مشاركة: