حكاية 12 عامًا من حياة الفضاء المدني السوري بعد الثورة

أولاً: مقدمة

عندما طُلب مني عرضٌ سرديٌّ مختصرٌ عن تطور الفضاء المدني السوري منذ انطلاق الثورة السورية في 2011 ولغاية اليوم، أحوله إلى مقالة، ظهر لدي نوع من التخوف والشك في قدرة انطباعاتي وذاكرتي أن تعكس صورة منصفة عما حدث خلال 12 عامًا، بحكم أن الاعتماد سيكون على الذاكرة والقدرة على ترتيب ما اختزنته من أفكار، ونظرًا إلى عدم قدرتي على التفرغ لكتابة مقال كهذا في الوقت الزمني المحدد. فقد شجعني نقاش مع صديق حول كون هذا المقال سيرفد دراسة أو يحفز أعمالًا بحثية موسعة وجدية لما أعدُّه شخصيًا جانبًا شائقًا وحيويُّا ومهمًا جدًا من تداعيات الثورة السورية التي فتحت باب تطور متناهي السرعة للفضاء المدني السوري؛ وما ساندها من فرص، وما واجهها من ظروف وتحديات، بما فيها قمع النظام نفسه. ولا بد من الإشارة هنا إلى ما ولدته هذه السرعة بحد ذاتها من فرص وتحديات، عوضت في عقد ونيف عن عقود من العقم المفروض من قبل الهيمنة الأمنية المطلقة لنظام الأسد على أوجه الحياة العامة كافة في سورية.

اسمحوا لي إذًا أن أبدأ هذا المقال بالتأكيد على أنه لا يمثل عملًا بحثيًا مطلقًا نظرًا لكونه لم يبن على تقص ٍّ دؤوب للمعلومات أو على تحليل علمي عالي المنهجية ولكنه شهادة، حاولت تسهيل قراءتها للمهتمين، من جهة، وتيسير البناء عليها للباحثين، من جهة أخرى، وذلك عن طريق ترتيبها بشكل منهجي. هي شهادة منبثقة عن تجربة ذاتية منخرطة لحد ما، قمت بصقل قراءات من خلالها وكذلك من خلال عدد كبير من النقاشات الجمعية والمساءلات الذاتية خلال 10 سنوات من الانتماء لفريق أتيح له العمل في عدة مناطق داخل سورية، تعاونَ فيها مع ما يزيد على 60 مجلسًا محليُّا و70 منظمة/فريقًا/مبادرة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وكان كذلك منخرطًا في الفضاء المدني السوري خارح سورية ومساهمًا مؤسسًا في عدد من المبادرات الجمعية والشبكات المدنية.

كما أرجو من قراء هذا المقال الابتعاد عما سعيت لتجنبه، وهو التعميم المطلق أو حتى النسبي. إن الفضاء المدني السوري منذ 2011 تضمن عشرات النقابات والاتحادات والتجمعات المهنية والمطلبية، مئات المجالس المحلية المدنية، وعدة آلاف من المنظمات والفرق والمبادرات، عملت كلها في سياقات محلية وزمنية شديدة الاختلاف ولذلك لا يمكن، في أي حال ولأي كان، إطلاق قواعد تعميمية عليها. ما حاولت نقله هنا هي ظواهر رأيت أنها منتشرة إلى حد كاف لعدم عدِّها بحد ذاتها حالات استثنائية ولكن ينقصها التحري الإحصائي اللازم لمعرفة مدى انتشارها وحجمها وأغلبيتها إن وجدت أغلبية كهذه لها.

توضيح أخير حول كون هذا المقال يتحدث عن تطور الفضاء المدني منذ انطلاق الثورة السورية وهو لا يتطرق لوضعه قبل الثورة ولا يعني أبدًا عدم وجوده قبلها. من المهم برأيي البحث حول تطور الفضاء المدني قبل الثورة ودراسة تداعيات هذا التطور على مرحلة ما بعد انطلاق الثورة.

كما يجدر التنويه إلى أن المقال سيركز بشكل أساسي على أهم ثلاثة “تمظهرات” للفضاء المدني السوري منذ انطلاق الثورة السورية: التنسيقيات أولًا ومن ثَمَّ المجالس المحلية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام (التي نشأت كفاعليات عمل مدني قبل تحولها لدورها الحقيقي كأدوات حكم محلي) وأخيرًا المنظمات/الفرق المدنية.

ثانيًا: الفضاء المدني السوري خلال 12 عامًا منذ اندلاع الثورة

تسمح قراءة الفضاء المدني منذ انطلاق الثورة السورية في 2011 بملاحظة ترابط تطوره مع تطور الثورة نفسها بما أحدثته من زلازل في المجتمع السوري وفي النظام الحاكم، وما أنتجته القوى المختلفة الأخرى المتدخلة في الوضع السوري.

يمكننا لتبسيط التوصيف، تقسيم الـ 12 عامًا من تطور الفضاء المدني السوري إلى مراحل، ليست متساوية في المدة الزمنية، تحمل كل منها ملامح وتطورات أساسية في هذا الفضاء المدني كنتيجة لعوامل مؤثرة بدرجات مختلفة ساهمت في كل مرحلة بصقل هذه التطورات:

– مرحلة الحراك الشعبي الممتدة تقريبا لنهاية عام 2011،

– مرحلة التحول الإغاثي الممتدة لمنتصف عام 2013،

– مرحلة المأسسة والانتقال الجزئي أو تثبيت لقسم من القيادات خارج سورية بمقابل ازدهار المجالس المحلية داخلها والتي امتدت لعام 2015،

– مرحلة النمو والتجمع العددي وبداية التباعد النوعي أو القطاعي التي استمرت لغاية عام 2017،

– مرحلة بداية الانحسار الكمي والجغرافي مع بداية نوع من “الصحوة” التي استمرت من 2017 لغاية 2019،

مرحلة هيمنة سلطات الأمر الواقع المستمرة للآن والتي يتضح فيها خلال آخر عامين بحث عن مقاربات لحماية الفضاء المدني من الاضمحلال المتسارع عن طريق إعادة تقاربه البيني وردم الفجوات التباعدية بينه وبين المجتمعات المحلية.

1– مرحلة الحراك الشعبي (من انطلاق الثورة إلى نهاية عام 2011)

لعل من أهم تمايزات الثورة السورية عن مثيلاتها في الربيع العربي هو ظهور عمل التنسيقيات المحلية وانتشارها وتطورها كتعبير أو كانعكاس مدني عن الحراك الشعبي، وقد ساهم لاحقًا في استمراره وتأقلمه مع استراتيجيات قمع النظام (وتأقلمها هي أيضًا) ولكن ليس كمحرك أساسي للحراك في بداياته. فبينما كانت انطلاقات الثورات العربية كافة مبنية بشكل أساسي على انخراط شعبي واسع النطاق، ظهر في تونس تأثير للمجتمع المدني الموجود أصلًا من خلال النقابات والمنظمات الحقوقية ذات الوزن في تبني هذا الحراك ومساندته منذ أيامه الأولى، وكذلك في مصر حيث كان من جهة الانفتاح النسبي للنظام المصري على المجتمع الدولي، وتلقيه لحجم لا يستهان به من المساعدات الدولية، أثر في تكون تراكم عمل مدني من منظمات غير حكومية شابة قبل الثورة المصرية تلاقى مع بعض الأحزاب السياسية التي كان النظام المصري قد سمح لها بممارسة بعض الأنشطة ومع منظمات خيرية، منها قسم أساسي مرتبطة بتيار الإخوان المسلمين، وساهم هذا التلاقي في “تنظيم” الحراك الشعبي أو تقويته منذ أيامه الاولى. وكذلك كان في اليمن تراكم مدني مهم قبل الثورة ساهم ليس فقط في تنظيم الحراك ولكن في استمراره كحراك سلمي لمدة طويلة وعدم تحوله لحمل السلاح كما حصل في سورية (الثورة الليبية انتقلت للحالة المسلحة بسرعة كبيرة لم تترك مجالًا لأي تعبير مدني حقيقي).

في الحالة السورية، ومع غياب لحالة مدنية حقيقية كبيرة الانتشار في بداية الـ 2011، كان مع ذلك هناك عناصر مهمة أثرت ليس في تنظيم الحراك بشكل مباشر ولكن في تنظيم الحالة المدنية التي انبثقت عنه وساهمت في استمراره وتطوره: التنسيقيات المحلية.

انبثقت التنسيقيات كحالة عفوية في الأيام الاولى من الثورة لتجمع مجموعات من الشابات والشباب الأكثر اندفاعًا وانخراطًا في الحراك الشعبي ضمن مجموعات عمل (تنسيقيات) على مستوى الأحياء في المدن الكبرى وعلى مستوى البلدات والمدن الصغرى (تنسيقية واحدة للبلدة أو المدينة) إضافة إلىبعض التنسيقيات “المهنية” العابرة للمناطق (الطلاب، المحامين، الأطباء). تشكلت هذه التنسيقيات كاستجابة لاحتياجات الهاجس الأمني والضرورات اللوجستية والتنظيمية وبسرعات متفاوتة بين الأحياء والمناطق. وسرعان ًا ما بدأت تظهر الحاجة لتنسيق العمل بينها لزيادة الفاعلية اللوجستية والأمنية أولًا ًا وبهدف زيادة الفاعلية ا الإعلامية حيث كان المخرج الإعلامي أحد أهم ما نجحت التنسيقيات المحلية في القيام به وكان العمل وقتها يشمل توثيق الانتهاكات (كان التوثيق وقتها يهدف لنشر هذه الانتهاكات وتعرية النظام أمام مناصريه داخل سورية وخارجها، أكثر من هدف التوثيق الحقوقي).

بسرعة كبيرة نسبيًا (خلال الشهر الأول من الثورة)، وبجهود عدد قليل من الفاعلين في المنظمات الحقوقية المستقلة الموجودة في سورية وقتها ومن بعض الحركات اللاعنفية التي وجدت (والتي كانت تعد على الأصابع) وكذلك من مجموعة من المنخرطين السابقين في المحاولة المدنية/السياسية التي ظهرت في سورية مباشرة بعد استلام بشار الأسد للسلطة (لجان احياء المجتمع المدني والتي أوصلت تداعياتها إلى إعلان دمشق)، ظهرت تنظيمات جامعة للتنسيقيات المتعددة وكان أهمها لجان التنسيق المحلية والهيئة العامة للثورة السورية (وإلى حد ما اتحاد تنسيقيات الثورة السورية).

كانت التنسيقيات المحلية منخرطة بشكل كبير مع مجتمعاتها المحلية ومع الحراك الشعبي والذي أضاف للانخراط المباشر في التظاهرات دورًا بتقديم الدعم المادي لهذه التنسيقيات، مما أمن لها موارد مهمة ساعدتها، من جهة، لتنويع أدواتها في النضال اللاعنفي (مكبرات الصوت المخفية والموقوتة، إسقاطات ضوئية، صباغات مختلفة)، ومن جهة ثانية، في تأمين الحماية عمومًا ومن خلال التوثيق الإعلامي خصوصًا (كاميرات مخفية، أجهزة اتصال وتواصل).

يمكن هنا لحظ تأثير مهم للحراك الشعبي في هذه المرحلة ناتج عن ظهور أغاني الثورة كبداية لخلق مفردات ثقافية مشتركة تجمع السوريين وتؤمن، من جهة، انخراطًا “آمنًا” لعدد كبير منهم (سماع هذه الأغاني وترديدها في الأماكن الآمنة)، ومن جهة أخرى، أدوات نضال لاعنفي سهلة الانتشار (عن طريق فكرة مكبرات الصوت الموقوتة). ومن الهم أيضًا الإشارة هنا إلى تنوع مصادر هذه الأغاني بين تلك التي نشأت من قبل “متخصصين ” (فنانين أو مجموعات شبابية فنية) أو من قبل مغنين شعبيين (قسم منهم حور بعض الأهازيج الرياضية لأندية كرة قدم معروفة).

وكذلك يجب لحظ الأهمية المطلقة لوسائل التواصل الاجتماعي (سكايب وفيسبوك وقتها)، ليس فقط لتأمين قنوات اتصال آمنة بين التنسيقيات، ولكن أيضًا لإنشاء شبكات تواصل آمنة داخل سورية وخارجها، سهلت عملية وصول سريعة لتبادل الأفكار وتحضير أدوات مساندة للكفاح اللاعنفي (موسيقى، أفلام، ملصقات، تصميمات، آليات تحقق، أدوات توثيق وأرشفة).

كما أمنّ إنشاء التنظيمات الجامعة للتنسيقيات مستويات مكملة ومهمة لعملها:

– التنسيق العابر للمناطق (بشقيه الإعلامي من خلال توحيد الرسائل، والأمني من حيث ضبط مواعيد انطلاق التظاهرات محليا بالتوازي المبرمج مسبقًا أو المقرر لحظيًا لتشتيت قدرات الأجهزة الأمنية على التدخل)؛

– الوصول للقنوات الإعلامية الكبرى والحصول على تغطيات مباشرة للتظاهرات (مما زاد من الحشد لها برأيي)؛

– الوصول لمعدات تقنية (بما فيها اشتراكات أنترنت فضائية) تمكنت هذه التنظيمات من تنظيم قنوات إمدادها باستخدام شبكاتها من الناشطين خارج سورية؛

– تأمين جهات مركزية تراقب تدفق الموارد المالية، الواردة بشكل أساسي من المجتمعات المحلية، ثم من السوريين في الخارج ومن بعض الدول المساندة (عبر سفاراتها في سورية قبل إغلاقها وعبر خارجياتها بالاستناد لشبكات السوريين خارج سورية)، وتنظيم توزيع هذه الموارد بين التنسيقيات؛

– وأخيرًا وصول وسائل الإعلام لصانعي القرار في عدة دول لحمل رسائل التنسيقيات والحراك الشعبي للرأي العام خارج سورية.

– بالوقت نفسه، وبسبب وجود عدة تنظيمات جامعة مختلفة، بدأ نوع من التنافس بين هذه التنظيمات بالظهور. ومع أن هذه الحالة بقيت كتنافس “ودي” لم يحمل أي نتائج سلبية في هذه المرحلة، إلا أنه مهد في المراحل اللاحقة لبدايات فواصل (تجنبًا لاستخدام كلمة شروخ) في الفضاء المدني السوري والذي كان تعبيره الأكبر وشبه الحصري خلال هذه المرحلة هو التنسيقيات المحلية وتنظيماتها الجامعة.

2– مرحلة التحول الاغاثي (من نهاية 2011 إلى منتصف عام 2013)

مع نهاية 2011، بدأت تظهر في عدة مدن في سورية، ما يمكن تسميته “أحياء آمنة”، أتاح حمل بعض الناشطين فيها للسلاح انخراطَ بعض أفراد الجيش المنشقين في الحراك، ومنعت القوات الأمنية للنظام من دخولها. وإضافة إلى كون هذه المناطق أو الأحياء أصبحت أكثر أمانًا للتظاهر، أصبحت أيضًا ملاذًا آمنًا لعدد من العائلات التي هجرت أحياء أخرى بسبب تصاعد غير محتمل لقمع النظام فيها. كما أدى “عزل” الأحياء الآمنة، لتحديد حركة بعض قاطنيها وبالتالي انقطاعهم عن النشاط الاقتصادي وبالتالي عن مصادر دخلهم.

تراكم الاحتياجات الاقتصادية لهذه العائلات أدى لنشوء حاجات إغاثية ازداد حجمها بالتدريج مع انتشارٍ وتوسعٍ لحالات خروج أحياء عن منال القوات الأمنية.

كان التفاعل الأكثر انتشارًا للتنسيقيات المحلية في هذه الأحياء مع هذه الاحتياجات هو تحمل مسؤولية تجاهها. وبالتالي بدأت التنسيقيات بتخصيص قسم من مواردها وكذلك قسم من جهودها لدور إغاثي ظهر وبدأ بالتنامي باطراد.

من المهم هنا لتجنب أي خلط، ذكر اختلاف ما ذكر مع التجربة في حماة كمنطقة “آمنة” والتي دامت حوالي الشهرين في منتصف 2011 والتي كان تحييد القوى الأمنية فيها “طوعيًّا” سببه، على ما يبدو الآن، تجربة قام بها النظام بتلبية طلب محافظ حماة بسحب القوى الأمنية وترك المدينة “تدير نفسها”. ظهرت في التجربة في حماة حركة تكافل وتنظيم مجتمعي عالية جدًا تمركز حول النشاط الأساسي وقتها وهو تنظيم تظاهرات كبيرة جدًا. هذه التجربة، التي أنهاها النظام باقتحام المدينة مستخدمًا قوات الجيش، كان لها برأيي أثر لاحق في سعي الحراك “لتحييد أحياء” كوسيلة لخلق أماكن تظاهر آمنة. لكنها كانت مع ذلك تجربة مختلفة، مبكرة، سمح بها النظام وكانت أقصر زمنيًا ولم تتعامل مع الحاجات الإغاثية التي بدأت بالظهور في بقية الأحياء الآمنة لاحقًا.

من جهة أخرى، أدى تغير التكتيك الثوري المرافق لظهور هذه الأحياء الآمنة إلى محاولات تنظيم تظاهرات كبرى متفاوتة الاحجام وواسعة الانتشار (وهو ما كان عامل إرهاق كبير للقوى الأمنية وساهم برأيي في إقحام الجيش بعملية القمع)، وإلى زيادة كبيرة في أعداد الضحايا والجرحى. وفي ما يظهر لغاية نهاية 2011، كان إطلاق النار على المتظاهرين ما يزال يسعى لتفريق التظاهرات (بقنص عدد من المشاركين فيها) وليس القتل الممنهج الذي ظهر لاحقًا، لكن اتساع عدد التظاهرات ومواجهتها بهذه الآلية لتفريقها أدى لتزايد كبير في أعداد الجرحى والقتلى ووضع على عاتق الناشطين في التنسيقيات (والذين زاد انخراط الممرضين والأطباء معهم بشكل متسارع خلال هذه الفترة) مسؤوليات عمليات استجابة طبية خصصت لها أيضًا نسب متزايدة من الموارد والطاقات.

بالتوازي، مع تركيز النظام على عمليات اعتقال واسعة جدًا ومتصاعدة ابتداءً من أواخر 2011 تصاعدت الاحتياجات التوثيقية التي تصدت لها التنسيقيات المحلية (في هذه المرحلة تحولت أهداف التوثيق لأهداف حقوقية وللضغط الإعلامي على النظام لإطلاق سراح المعتقلين أكثر منها لهدف تعرية النظام إعلاميًا).

إذًا، ومع بدء النشاط الإغاثي للتنسيقيات المحلية وتصاعد الاستجابة الطبية والدور التوثيقي، ظهرت بداية تحول جوهري في الفضاء المدني السوري. وأدى أيضًا تصاعد هذه الاحتياجات إلى حاجة متصاعدة “لتفرغ” قسم من الناشطين ضمن التنسيقيات، بالإضافة لكون احتماء قسم منهم من الملاحقة الأمنية ضمن الأحياء الآمنة نسبيًا، أو بالاختباء، قد عزلهم عن قدرة متابعة أي نشاط اقتصادي مدر للدخل، وبالتالي بدأت حركة “مهننة” العمل المدني وتحويل قسم منه من التطوع إلى التفرغ.

كما أدى إنشاء الجيش الحر لقرار عدد من الناشطين الفاعلين ضمن التنسيقيات للانضمام له. هؤلاء الناشطون شكلوا (وما يزالون يشكلون هم أو أقرباؤهم ضمن الفصائل العسكرية المختلفة) قنواتِ تواصلٍ مهمة ًبين الفضاء المدني والفضاء المسلح. وتمكن الإشارة خلال هذه المرحلة إلى محاولة دولة قطر لخلق تفاعل ممنهج بين التنسيقيات وبين “الجيش الحر”، وذلك عن طريق تقديم عرض للتجمعين الأساسيين للتنسيقيات (لجان التنسيق المحلية والهيئة العامة للثورة السورية) بتمويل مغرٍ مقابل انخراطهما مع الجيش الحر “لتنظيم عمله” (وهو عرض رفضته لجان التنسيق المحلية وقبلته الهيئة العامة وقتها). لم تؤدِّ هذه المحاولة لأي تفاعل بنيوي مثمر بين الفضاء المدني والفضاء العسكري.

كذلك، أدى قرار مشاركة لجان التنسيق المحلية في المجلس الوطني السوري الناشئ في نهاية 2011 (مقابل قرار الهيئة العامة للثورة السورية بعدم المشاركة) لتباعدٍ بين فاعلي المجتمع المدني على الأرض (التنسيقيات)، من جهة، ومن جهة أخرى، لبدايات دور سياسي للفضاء المدني السوري متمثلًا في مقاعد ضمن المجلس “للحركات الثورية”. لم يثمر هذا الدور عن أي فاعلية نظرًا لعدم التوازن الصارخ بين وزن هذه المقاعد ووزن المقاعد التي أعطيت لجهات سياسية وشخصيات سياسية معارضة.

في نهاية النصف الأول من 2012، ظهر تغيير في تكتيك النظام بعد عجزه عن التعامل مع تكتيك الانتشار الواسع لرقعة التظاهرات، وتزايد عدد الأحياء الآمنة و”استقلاليتها” (وساهم في هذه الاستقلالية تنظيم الدور الإغاثي للتنسيقيات المحلية وظهور آليات تنسيق محلية ببعض الحالات يقودها مجالس محلية ناشئة تنسق بين حاملي السلاح، ونشاطات التظاهر)؛ فانتقل النظام من محاولات اقتحام هذه الأحياء لقصفها عن بعد. وكانت ردة الفعل (وغالبًا كان كذلك وراءها دوافع أخرى سياسية، نابعة من محاولة استنساخ النموذج الليبي) هي انتقال الجيش الحر لاستراتيجية “التحرير”.

أدت هذه الاستراتيجية، وتفاعل النظام المتزايد عنفًا وقصفًا إلى تفاقم البوادر المتعلقة بالدور الإغاثي والطبي. كما أدى تزايد رقعة المناطق “المحررة” إلى انخماد شبه كامل في النشاط التظاهري فيها نظرًا لأن التظاهر في هذه المناطق فقد “معناه” بسبب خروجها عن سيطرة النظام التي كان قد تمحور التظاهر شيئًا فشيئًا ضدها (بمقابل التظاهر من أجل مبادئ الحرية والكرامة والعدالة). كما أن عددًا كبيرًا من الناشطين في المناطق التي بقيت تحت سيطرة النظام كانوا إما قد “نزحوا ” للمناطق المحررة أو قد “اعتكفوا” عن التظاهر، لكون الصراع مع النظام تحول إلى مواجهة عسكرية جعلت قسمًا منهم ينسحب إما لموقف شخصي رافض لحمل السلاح أو لوصول قناعة بعدم جدوى التظاهر طالما تحول الصراع لنزاع مسلح.

بدأ في هذه المرحلة نموذج المجالس المحلية في “المناطق المحررة” بالانتشار، ليضم ضمنه قسمًا من أفراد تنسيقيات هذه المناطق إضافة إلى أفراد من عاملين ضمن القطاع العام المحلي (بلديات، دوائر، مديريات، مدارس، مستشفيات، الخ) فقدوا وظائفهم ودورهم بانسحاب الدولة السورية الذي رافق فقدان النظام السيطرة على هذه المناطق. ولغاية منتصف 2013 (بالأصح لغاية خروج مدينة الرقة كأول مركز محافظة عن سيطرة النظام في الشهر الثالث في 2013)، جعل الانطباع السائد وقتها بقرب “سقوط النظام” تركيز هذه المجالس بشكل أساسي على تكرار دور التنسيقيات في تنظيم العمليات الإغاثية والطبية دون الالتفات بشكل أساسي في هذه المرحلة إلى ترميم البنى التحتية ولتقديم الخدمات العامة (حصل تغير جذري في هذه المقاربات خلال النصف الثاني من 2013 كما سنرى في توصيف المرحلة اللاحقة أدناه).

كانت هذه المجالس المحلية في بداياتها (ولغاية 2019)، بطريقة تشكيلها (هيئاتٍ عامة من الناشطين والوجهاء تنتخب فريقًا تنفيذيًّا، وهو أقرب لآليات تشكيل المنظمات أو الجمعيات) وبنوع مهماتها، جزءًا من الفضاء المدني أكثر من كونها جزءًا من الفضاء السياسي أو الإداري (القطاع العام) الذي كان من الطبيعي أن تنتمي إليه.

من المهم هنا أيضًا التذكير أن نشوء الائتلاف الوطني لقوى المعارضة والثورة السورية في نهاية 2012 وتخصيص مقاعد فيه “للمجالس المحلية” أدى لنشوء محاولة سياسية “من الأعلى للأسفل” لتشكيل مجالس محلية عن طريق “التعيين” (مرورًا بمجالس محافظات “حرة” متوافق على أعضائها سياسيًا بين مكونات الائتلاف، تسمى بدورها مجالس المدن والبلدات). فشل هذه المحاولة و”انتصار” نموذج المجالس المحلية المشكلة محليًا، حافظ إلى حد كبير على هذا الطابع المدني للمجالس المحلية، مقابل طابعها السياسي.

شهدت هذه المرحلة (نهاية 2011 لمنتصف 2013) تحولًا جذريًا في آليات التمويل الأساسية للتنسيقيات وللمجالس المحلية. حيث أدى إنهاك الموارد المالية للحراك الشعبي (من جهة بسبب طول الفترة منذ انطلاق الثورة ومن جهة ثانية لذهاب قسم من هذا التمويل باتجاه متطلبات حمل السلاح) وكذلك إنهاك موارد السوريين المقيمين خارج سورية، فأدى ذلك إلى أن تصبح أغلبية التمويل من مصادر غير سورية. يمكن هنا الإشارة إلى نوعين أساسيين للتمويل “الخارجي” خلال هذه المرحلة (مع التذكير بتحول الاحتياجات خلال هذه الفترة إلى الإغاثة، الاستجابة الطبية، توثيق الانتهاكات وأهمها الاعتقال التعسفي، والدعم المالي لقسم من ناشطي التنسيقيات): الدول الغربية، والتي كانت ما تزال تمول دعمها خلال هذه المرحلة إما باستخدام صناديق الدعم “السياسي” أو عبر تحويل استخدام ما كان قبل الثورة من مساعدات تنموية مخصصة لسورية، ومن دول الخليج العربي التي رصدت العمل الإغاثي والطبي “للمحتاجين” (طبعًا إضافة إلى دعم حمل السلاح كما ظهر).

جدير بالذكر أيضًا، أن الانتقال من نموذج العمل المدني كتنسيقيات لنموذج العمل كمجالس محلية أعاد وزن العمل التطوعي خلال النصف الثاني من هذه المرحلة نظرًا لاتساع عدد المنخرطين بشكل كبير جدًا بسبب توسع رقعة المناطق المحررة وعدم قدرة المصادر التمويلية المختلفة على تغطية مالية “لعمل متفرغ” للعاملين في هذه المجالس.

نهايةً، ساهم الاحتياج للاستجابة الطبية في هذه المرحلة بزيادة انخراط الأطباء السوريين خارج سورية من خلال منظمتين غير حكوميتين أساسيتين: سامز (جمعية الأطباء السوريين الأميركيين) والتي كانت منشأة قبل انطلاق الثورة السورية، والأوسوم (اتحاد المنظمات الطبية والإغاثية السورية) والتي نشأت خلال هذه المرحلة كاستجابة لتداعياتها (في منتصف 2012).

3– مرحلة المأسسة (من منتصف 2013 إلى نهاية 2015)

أنتج تصاعد المعارك منذ منتصف 2012 عمليات نزوح متزايدة طالت أعدادًا كبيرة من السوريين وجهز خروج عدد من المعابر الحدودية مع دول الجوار عن سيطرة النظام أرضية لموجات اللجوء الكبيرة التي أتت لاحقًا (ابتداءً من منتصف 2013).

كما أدى انعدام السيطرة على المعابر لتدفق عدد كبير من المقاتلين الأجانب وغالبهم من الجهاديين لينضموا لعدد من الجهاديين السوريين والعرب الذين كان يحتجزهم النظام في سجونه وأطلقهم بعد أشهر قليلة من انطلاق الثورة السورية. ولذلك تنامى خلال عام 2013 التوجه (أو بالأصح التوجهات) الجهادية ضمن صفوف حاملي السلاح الموجه وقتها ضد قوات النظام (قبل ارتداد الجهاديين على قوات الجيش الحر المعتدلة وانهائها/ابتلاعها بالتدريج مع الوقت لغاية 2019).

بدأت بوادر الصدام بين مكونات الفضاء المدني وحاملي السلاح من التيارات الإسلامية المتعددة (الوهابية، الصوفية، السلفية ومنها التابعة للقاعدة) منذ النصف الثاني من 2013، وبشكل أساسي بدءًا من تمركز داعش ضمن مدينة الرقة بعد أشهر قليلة من خروجها عن سيطرة النظام في آذار 2013 وقبل سيطرة داعش المطلقة عليها في مطلع 2014 (لتعلنها في منتصف 2014 عاصمة لخلافتها الممتدة على قسم من سورية ومن العراق).

وتنوعت أساليب الترهيب من قبل القوى المسلحة الجهادية، بدءًا من الترهيب النفسي والتهديدات، للاعتقال، الخطف والإخفاء ولغاية الاغتيال. دامت هذه الفترة من منتصف 2013 ولغاية بداية 2019، حيث ترجم استقرار سيطرة سلطات الأمر الواقع في 2019 بأساليب أقل عنفًا نسبيًا تمثل في عرقلة ٍأو إيقافٍ لعدد من أنشطة الفرق المدنية والتذكير المتواصل عن طريق رسائل مباشرة واستدعاءات مختلفة “بغلبة” هذه القوى الجهادية أمنيًا وعسكريًا في مناطق سيطرتها (وهي ممارسات أضحت مشتركة لجميع سلطات الأمر الواقع على اختلاف أنواعها ومناطق سيطرتها بما فيها النظام السوري بذاته). كما حاول عدد من الفصائل ذات الطابع الجهادي خلال هذه المرحلة الممتدة من منتصف 2013 لنهاية 2015 إيجاد مكونات مدنية تابعة لها عن طريق إحداث مجالس “شورى” كبديل عن المجالس المحلية الناشئة، إلا أن الأغلبية العظمى لهذه المجالس اختفت بسرعة أو التحق قسم من أفرادها بالمجالس المحلية “المنافسة” (كلٌّ في حيه أو بلدته) التي حصلت على قبول شعبي أوسع بسبب تضمينها لأفراد إما يحملون بعض الخبرات التقنية أو ذوي سمعة مجتمعية جيدة (غالبًا تم انتخابهم من هيئات عامة مجتمعية توافقية).

في هذا الوقت وفي هذه المرحلة، بدأت حالة إدراك عام لدى الناشطين المدنيين السوريين بتوجه سورية نحو صراع طويل الأمد لن ينهيه تدخل دولي مأمول من الدول “الداعمة للثورة” (وخصوصًا بعد مهزلة الرد الأميركي على الاستخدام الكبير، وإن ليس الأول، من قبل النظام للسلاح الكيميائي في الغوطة متجاوزًا بذلك الخط الأحمر الذي كان الرئيس الأميركي باراك أوباما كان قد رسمه). وترافق هذا الإدراك مع وعي مماثل بعدم قدرة الأجسام السياسية الحاضرة، وعلى رأسها الائتلاف، على تولي زمام إدارة المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام (كان مثال الرقة واضحًا. الرقة التي كانت أول محافظة تخرج بشكل كامل عن سيطرة النظام، والتي كانت تمتلك موارد مهمة أولها سد الفرات، والتي تقاعس الائتلاف عن الانتقال إليها وإدارتها). هذا الوعي بدأ يُشكل عند المجالس المحلية الناشئة قناعات بضرورة انتقال دورها لا ليشمل مواصلة العمل الإغاثي ودعم الاستجابة الطبية فقط ولكن البدء في عمل خدمي (ترميم للبنى التحتية الأساسية وإعادة تشغيل بعض الخدمات)، بما فيه الخدمي الإداري (سجلات النفوس والسجلات العقارية). وكان أداء هذه المجالس (والتي تنامى عددها لاحقًا ليتجاوز 400 مجلس محلي في المناطق التي لم تعد تحت سيطرة النظام) متفاوتًا إلى حد كبير بحسب قدرة المجالس، بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني (وخصوصًا تلك التي بدأت بالتسجيل خارج سورية، وبالأخص في تركيا ولبنان)، للحصول على الموارد المالية الضرورية، بما فيها قدرتهم على تأمين “رواتب” للعاملين فيها تقابل حجم عملهم واحتياجاتهم الاقتصادية التي لم تعد تتناسب مع ما كان يمكن تغطيته من خلال نموذج العمل التطوعي.

في هذه الأثناء، وبعد خسارته للرقة، أدى تغيير النظام لتكتيكاته القمعية والانتقال لحالة حرب كاملة مستخدمًا كافة الأسلحة الممكنة (المدفعية الثقيلة، الصواريخ البالستية، الطيران، براميل المتفجرات، السلاح الكيماوي)، معتمدًا على النموذج الحربي الذي طوره بالتعاون مع حزب الله في القصير (والذي كان قد بدأ بتجربته في الهجوم على بابا عمرو قبل عام من ذلك)، إلى حركات نزوح ولجوء دفعت بملايين السوريين خارج منازلهم وأنتجت أكبر كارثة إنسانية في العالم بعد الحرب العالمية الثانية.

بدأ تفاعل المجتمع الدولي مع هذه الكارثة أولًا بتفعيل عدد من الدول “الداعمة للثورة” لصناديقها التمويلية الإغاثية بالتوازي مع صناديقها الدولية “السياسية والتنموية” التي كانت مفعلة منذ انطلاق الثورة (وفي حالة دول الخليج والولايات المتحدة الأميركية تم أيضًا تفعيل الصناديق التمويلية العسكرية). هذا التحول الأساسي في بنية التمويل المتوفر انعكس على طبيعة الفضاء المدني السوري (والذي بدأ في هذه المرحلة يتحول إلى ثلاثة فضاءات متمايزة وهي فضاء ضمن مناطق سيطرة النظام، وفضاء داخل سورية الخارجة عن سيطرة النظام وفضاء خارج سورية تركز معظمه في تركيا ولبنان).

بدأ، بناء على هذا التحول، ظهور تجمعات سورية مدنية (كان قسم منها لمنظمات غير حكومية او تحول عنها) متخصصة بالإغاثة أو الاستجابة الإنسانية الطارئة. وإضافة إلى التباين الجغرافي، بدأ بالظهور تباين بين الفرق المدنية الإغاثية والفرق المدنية التنموية والحقوقية.

كما أدت زيادة المخصصات الدولية الكبيرة لمساعدة سورية إلى خلق حالة جذب للمنظمات الدولية الكبرى (إغاثية كانت أو تنموية/حقوقية) لتنخرط منذ منتصف 2013 في الشأن السوري وليبدأ معظمها في فتح مكاتب في دول الجوار وعلى رأسها تركيا ولبنان. وظفت هذه المنظمات لديها عددًا من الناشطين السوريين الذين كانوا جزءًا من الملايين المشكلين لموجات الهجرة. وبسبب عدم قدرة هذه المنظمات على الوصول الآمن المباشر للمناطق الخارجة عن سيطرة النظام، عملت وبشكل أساسي بالاستناد إلى شبكات علاقات الناشطين السوريين، الذين أصبحوا عاملين عندها، وتواصلوا مع عدد كبير نسبيًا من الفرق والمنظمات المدنية المحلية التي نشأت خلال هذه الفترة، إما كمظهر ثان ٍ لتحول التنسيقيات المحلية (إضافة للمظهر الأول المتمثل بالمجالس المحلية)، أو بفعل انخراط شرائح جديدة من المجتمعات المحلية (عاملين في القطاع العام سابقًا، شابات وشبابًا اضطروا للتوقف عن الدراسة الجامعية بسبب تعذر وصولهم لجامعاتهم ضمن مناطق سيطرة النظام). وكانت أيضًا هناك تجارب دعم من هذه المنظمات الدولية لبعض المجالس المحلية بشكل مباشر خلال هذه المرحلة (المجالس الأكثر نضجًا كمجلس حلب، الرقة، دوما، سراقب)، وهو نموذج أصبح أكثر انتشارًا في المراحل اللاحقة، خصوصًا بعد اعتماد عدد من المنظمات الدولية الإغاثية فرقًا لها داخل سورية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام.

كما أدى قرار مجلس الأمن 2165 في عام 2014، والذي نصَّ على إمكانية تزويد السوريين بمساعدات عبر الحدود بدون طلب موافقة من الحكومة السورية، إلى إنشاء منصتي أوتشا (الوكالة الأممية المتخصصة بتنسيق الاستجابة الطارئة في حالات الأزمات الإنسانية) الإضافيتين في الأردن (عمان) وفي تركيا (غازي عنتاب) إضافة إلى منصتها في دمشق (وهذه سابقة أممية بأن تكون الاستجابة الإنسانية في بلد عضو تتم عبر أكثر من منصة، منها موجودة خارج البلد المعني)؛ واللتين بدأتا، من جهة، في تنسيق عمليات الاستجابة الإنسانية بين المنظمات الدولية والسورية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام (من عنتاب باتجاه مناطق الشمال والوسط، بما فيها ريف دمشق، ومن عمان باتجاه مناطق الجنوب)، ومن جهة أخرى، في إدارة الصندوق الأممي المخصص للإغاثة لهذه المناطق.

صدور القرار الأممي والارتفاع المضطرد في حجم الاحتياجات الإغاثية والتمويل المخصص لها، وبالترافق مع تواجد عدد متزايد من الناشطين السوريين في دول الجوار، أدى لارتفاع كبير في عدد المنظمات السورية المسجلة في دول الجوار (ليتجاوز لاحقًا في مرحلة ما الـ 3000 منظمة). وساهمت متطلبات العمل مع المنظمات الدولية ومع الأوتشا في مأسسة سريعة لهذه المنظمات المعنية بالإغاثة، مأسسة تمت وفق المنظومة الدولية للعمل الإنساني أي وفق مبادئ التدخل الإنساني بدون أي محاولة مواءمة مع الوضع السوري وبتجاهل كامل لكون الكارثة الإنسانية في حالة سورية سببها سياسي/حقوقي (بمعناه المنطلق من حقوق الإنسان). يجب التنويه هنا إلى كون كلمة الأوتشا فيما يلي ستعني بشكل أساسي منصة الأوتشا في غازي عنتاب لأنها الوحيدة التي كان لها تأثير حقيقي في سيرورة الفضاء المدني السوري (لكون منصة عمان، ولغاية إغلاقها في نهاية 2018، قد تعاملت فقط مع المنظمات الدولية بسبب عدم سماح الحكومة الأردنية بوجود منظمات سورية تعمل انطلاقًا من أراضيها إلا فيما ندر، ولكون منصة دمشق تعاملت حصرًا مع المنظمات التي سمح بها النظام، وأهمها تلك التي ارتبطت به).

ظهرت في هذه المرحلة أيضًا بدايات عمل مدني مبني على الحقوق (حقوق الإنسان، حماية الأطفال، تمكين النساء)، واكتظ المشهد المدني السوري بعشرات إن لم نقل مئات الأنشطة المتعلقة برفع القدرات (كمكون أساسي لأغلبية المشاريع التي حصلت المنظمات الدولية غير الإغاثية على تمويل لها من الدول الغربية خلال هذه الفترة)، ساهم في ازدهارها حرية التنقل بين الشمال السوري وبين تركيا خلال هذه المرحلة مما أتاح إمكانية العمل على دورات تدريبية، أقيمت ضمن الأراضي التركية واللبنانية، لعدد كبير من الناشطات والناشطين الموجودات/ين في الداخل السوري وكذلك بعض العاملات والعاملين في بعض المجالس المحلية. وترافق ذلك مع استثمار كبير في المعدات الإلكترونية التي زود بها عدد كبير منهن/هم.

كما ظهرت في أواخر هذه المرحلة أيضًا، وخصوصًا في مناطق الشمال السوري الخارجة عن سيطرة النظام، بدايات التنافس بين المجالس المحلية ومنظمات المجتمع المدني المحلية أو الفرق المحلية للمنظمات الدولية والسورية المتواجدة في دول الجوار لتنفيذ المشاريع الخدمية أو الإغاثية (مع التذكير بأن شمال شرق سورية في هذه المرحلة، ولو أنه خرج لحد كبير عن السيطرة الأمنية للنظام، إلا أن الاتفاقية بين النظام وحزب الاتحاد الديمقراطي التي أدت لذلك في أواخر 2013، سمحت باستمرار مؤسسات الدولة السورية في تقديم الخدمات العامة في شمال شرق سورية). كان أحد أهم أسباب هذا التنافس هو رفض بعض الممولين وخصوصًا الصندوق الإغاثي الأممي الاعتراف بالمجالس المحلية والتعامل معها والطلب، عوضًا عن ذلك، من المنظمات السورية المنفذة والمرتبطة بها بتنفيذ المشاريع مباشرة. أدى هذا إلى خلق حالة تنافسية غير صحية وإلى تهميش عدد كبير من المجالس المحلية (وخصوصًا الأضعف منها) وخلط للأدوار نتج عنه عشوائية كبيرة في اختيار المشاريع وتحديد الأولويات المحلية (والتي كانت وما تزال تبنى على أساس قطاعي، وليس مناطقيًّا، من قبل منصات تنسيق الأوتشا التي تتسم آلياتها بإقصاء شبه كامل للصوت المحلي، إذ تعتبر أوتشا أن وجود منظمات سورية و/أو عاملة داخل سورية ضمن منصاتها هو كفيل بتمثيل الصوت المحلي، وهو افتراض خاطئ برأيي. تسبب كل هذا في هدر لا يستهان به للموارد.

بالتوازي، انحسر العمل المدني بشكل كبير جدًا في مناطق سيطرة النظام خلال هذه المرحلة (ربما باستثناء مناطق شمال شرق سورية التي أدى غياب السلطة الأمنية للنظام فيها إلى استمرار عمل مدني “توعوي” حول الحقوق عمومًا). حيث أبعد تحول الصراع إلى حرب عددًا من الناشطات/الناشطين عن الانخراط (قسم لا يستهان به منهن/هم غادر سورية، بينما ابتعد قسم آخر عن العمل المدني إما طوعًا أو خوفًا من استفراد الأجهزة الأمنية به بعد تضاؤل رقعة سيطرتها، بسبب خروج مناطق واسعة عن سيطرة النظام، ما أدى لزيادة تركيز لقدرات هذه الأجهزة على عدد أقل من الناشطين في مساحة جغرافية أقل بكثير). كما أن قرار المساعدات الإنسانية الذي شمل مناطق سيطرة النظام، والتي لجأت فيها الأمم المتحدة لتفعيل آلياتها التقليدية بالعمل مع الدول الأعضاء أي من خلال التعاون مع حكومة البلد المعني، أعطى للنظام إمكانية تحديد القنوات التي يمكن للمساعدات الإغاثية (ولاحقًا التنموية) العمل وفقها، وفرض على الأمم المتحدة أسماء عدة منظمات مرتبطة به ليتم التعامل معها (وعلى رأسها جمعية البستان، الأمانة السورية للتنمية والهلال الأحمر السوري). هذا الافتراق الجغرافي الأول بين مسارات الفضاء المدني ساهم في خلق تباينات واضحة ليس فقط في أساليب العمل ومحدداته ولكن أيضًا في تراكم الخبرات والقدرات للناشطات والناشطين وكذلك للفرق والمنظمات، حيث تطور هذا التراكم بسرعة أكبر في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام وفي دول الجوار عنه في المناطق التي بقيت تحت سيطرة النظام.

كما تجدر الإشارة هنا إلى أن هذه المرحلة شهدت، وخصوصًا في نهاياتها، بداية الافتراق المادي بين العاملين في المنظمات المتعددة وبين المجتمعات المحلية. بداية كان توظيف الناشطات والناشطين من قبل منظمات دولية في دول الجوار مؤسسًا لمستويات دخول فردية غير معهودة ومقيسة بحسب مستويات الدخول الداخلية لهذه المنظمات. ثم انتقلت هذه الآلية ولكن بمستويات أقل للمنظمات السورية وللعاملات والعاملين بها في بلدان الجوار لتسمح لهن/لهم بعيش كريم وآمن ضمن ظروف غير مستقرة وآليات إقامة لا تسمح لهن/لهم بالاستفادة من آليات الحماية الصحية والاجتماعية لهذه البلدان (إن وجدت). ثم، تم نقل هذا المفهوم للعاملات والعاملين ضمن المنظمات داخل سورية (السورية أولًا وفي مراحل لاحقة الدولية). وكان بدء انهيار العملة السورية وما نتج عنه من بدء انهيار الدخل ومستوى الرواتب، مقيمًا بالدولار، قد أدى إلى أثر آلي جعل مستويات دخل العاملين ضمن المنظمات (والمقدرة بحسب مستوى الرواتب ما قبل الثورة وهو 300-400 دولار شهريًا) يزيد بضعفين أو ثلاثة عن مستويات الرواتب المقارنة في سورية (والتي تحولت بنتيجة انهيار الليرة لتصبح حوالي 100-150 دولار شهريًا). تصح الإشارة هنا أيضًا إلى كون مستويات الدخل المطلوبة للعيش خارج مناطق سيطرة النظام خلال هذه المرحلة كانت أكبر من نظيراتها في مناطق سيطرة النظام التي كانت آنها ما تزال تتمتع بإسهام لا يستهان به من الدعم الحكومي (والمقدم عبر منظومة الأسعار المدعومة).

4– مرحلة النمو والتجمع العددي وبداية التباعد النوعي (من 2015 إلى منتصف 2017)

خلال عام 2015 حدثت عدة تطورات مهمة على صعيد القوى المقاتلة على الأرض السورية. فبينما بدأ التحالف الدولي ضد داعش بإيقاف تمددها على الأراضي السورية والعراقية (وحتى ببدء دفعها على الانحسار، ابتداءً من نهاية 2015 بالاعتماد على القوات البرية لقوات سوريا الديمقراطية، قسد، التي شكلت وقتها). تمكن جيش الفتح (والمكون بشكل أساسي من جبهة النصرة وبعض من انضم لها من فصائل ابتلعتها لاحقًا عند تكوين هيئة تحرير الشام) من انتزاع ثاني مركز محافظة من سيطرة النظام: مدينة إدلب. كما شهد عام 2015 بداية التدخل الروسي العسكري المباشر في الحرب على الأراضي السورية (على ما يبدو من خلال فهم ما قد يمكن تفسيره الآن، وبعد سنوات نشرت فيها بعض المحادثات بين أوباما وبوتين، على أنه إشارات تشجيع أميركية على هذا التدخل من خلال تعبير عن قلق أميركي من تداعيات سقوط النظام واحتمالية وصول جماعات جهادية للحكم في سورية).

كما تطورت في هذه المرحلة عملية انقضاض الفصائل العسكرية الإسلامية المتطرفة على باقي الفصائل المقاتلة ضد النظام (جيش الاسلام في الغوطة الشرقية، داعش في مناطق سيطرتها، جبهة النصرة من جهة وأحرار الشام، والتي اغتيلت قياداتها التي كان معولًا عليها نوع من الاعتدال في نهاية 2014، من جهة أخرى). تجدر الإشارة هنا لاستثناء بارز في فصائل “الجبهة الجنوبية” العاملة في درعا عن هذا الانقضاض (كانت هذه الجبهة مدعومة أميركيًا كما كان كذلك عدد من الفصائل “المعتدلة” في الشمال السوري والتي تُركت للابتلاع بعكس نظيراتها في الجنوب).

وفي نهاية هذه المرحلة (نهاية 2016 للربع الأول من 2017)، كان هناك نقطتا تحول أساسيتان، ليس فقط في مسارات الفضاء المدني السوري ولكن في تطور الحال السورية عمومًا، وهما: سقوط حلب الشرقية بيد قوات النظام وإعلان تركيا عملية درع الفرات لإخراج داعش من مناطق ريف حلب الشمالي والشمالي/الشرقي (مما ترجم بظهور سلطة أمر واقع إضافية وهي تركيا).

كل هذه العوامل أدت لمضاعفة كبيرة في أعداد الضحايا والجرحى وحركات النزوح والتي لم تعد تترجم بلجوء للدول المجاورة نظرًا إلى إغلاق الحدود مع سورية. فالحدود مع لبنان سيطر عليها حزب الله، الحدود مع العراق أصبحت ضمن الخلافة الإسلامية التي أعلنتها داعش، الحدود مع الأردن كانت قد أغلقت سابقًا من طرف الحكومة الأردنية، والحدود مع تركيا أغلقت بعد الاتفاق التركي مع الاتحاد الأوروبي، الذي سارع بعد وصول موجات اللجوء لأراضيه برًا عبر تركيا والذعر منها (ذعر أججته حركات وأحزاب اليمين المتطرف في دول الاتحاد الأوروبي )، إلى مقايضة مساعدات أوروبية لتركيا، مخصصة لتغطية قسم من تكاليف إقامة اللاجئين السوريين لديها (والذين وصلت أعدادهم لحوالي 3,5 مليون)، مقابل إغلاق حدودها مع سورية وإيقاف تدفق اللاجئين من سورية إليها.

تعاظم الكارثة الإنسانية في هذه الفترة وتزايد المساعدات الإغاثية الدولية تُرجم بزيادة في عدد المنظمات السورية وبالأخص العاملة بالإغاثة خلال الفترة 2015 إلى 2017 بالتوازي مع ازدياد في حجم بعض المنظمات السورية وعلى رأسها الإغاثية بعد مأسستها التي تمت خلال المرحلة السابقة (وخصوصًا، بالنسبة للمنظمات الإغاثية، من خلال تعاملها مع الأوتشا).

وتجب الإشارة هنا لظهور عدد متزايد (كان قد بدأ بالتزايد منذ الـ 2014) من المنظمات والفرق المتخصصة أو العاملة على مواضيع تمكين المرأة والمواضيع المرتبطة بحقوق الإنسان وانعكاس ذلك على نوعية الأنشطة غير الإغاثية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام.

كما ظهر في هذه المرحلة (2015-2017) عدد من الشبكات والتحالفات بين المنظمات المدنية السورية، كان أهمها التحالفات بين المنظمات الإغاثية المنخرطة في منصات التنسيق القطاعي التي أدارتها الأوتشا (كانت الأوتشا محفزًا أساسيًّا في إنشاء هذه الشبكات لحصر التخاطب بينها وبين المنظمات الإغاثية السورية عبر هذه الشبكات). وظهرت بمقابلها تحالفات أصغر حجمًا خارج نطاق العمل الإنساني بهدف أولي هو المناصرة للقضية السورية عمومًا وتنسيق بعض الجهود خارج نطاق التعامل مع الموضوع السوري كاستجابة إنسانية.

بدأ هنا ظهور شرخ بين المنظمات السورية العاملة بالإغاثة (والتي يمكن القول إنه كان يغلب عليها طابع تقاربي مع التيارات الفكرية “الإسلامية”) والمنظمات العاملة في القطاعات التنموية والحقوقية (والتي كان ضمنها تقارب أكبر مع التيارات الفكرية “العلمانية”). هذا الشرخ لم يكن فكريًا بل تنظيميًا (بطريقة العمل ومقاربته على الأرض) وماليًا (حيث اختلفت القدرات المالية بشكل كبير بين القدرات الكبيرة للمنظمات العاملة في القطاع الإغاثي وتلك الأصغر حجمًا في القطاعين التنموي والحقوقي).

لذلك يمكن القول إن مرحلة 2015 إلى 2017 كانت مرحلة التوسع الكبير بالعدد والحجم للمنظمات المدنية السورية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام. وهي بداية التجمعات “القطاعية” والتي ترجمت بتباعد وشبه انقطاع للتواصل العابر للقطاعات (إغاثة من جهة وتنمية/عمل حقوقي من جهة ثانية).

كما أدى عدم سماح الأوتشا خلال هذه المرحلة بالتعامل مع المجالس المحلية (وهو ما تغير لاحقًا) إلى تزايد شدة الحالة التنافسية بين هذه المجالس وبين المنظمات وخصوصًا الإغاثية، وبشكل واضح جدًا في الشمال الخارج عن سيطرة النظام (في المناطق المحاصرة كالغوطة الشرقية، وريفي حمص الشمالي /حماة الجنوبي، خففت ظروف الحصار كثيرًا من الحالة التنافسية، بينما ساهمت الرغبة القوية من قبل ناشطي درعا في الحفاظ على التعاون بتجاوز هذه الحالة التنافسية في الجنوب الخارج عن مناطق النظام). وبسبب قدراتها الأكبر، مالت كفة هذه الحالة التنافسية لمصلحة المنظمات الإغاثية في الشمال مما ترجم بضعف متزايد لدور المجالس المحلية وفاعليتها هناك ليتحول دور بعضها إلى دور تمثيلي / حل نزاعات /.

كانت هنالك، مع ذلك، حالات استثنائية مهمة ضمن المجالس المحلية خلال هذه الفترة (وعلى رأسها مجلس حلب الشرقية قبل سقوطها بيد النظام، “سراقب”، وعدة مجالس محلية أخرى في الغوطة الشرقية)، حيث وصلت هذه المجالس إلى حالات تنظيمية وقدرات وموارد مهمة (عبر مساعدات دولية وصلتها من خلال منظمات سورية وسيطة وداعمة لفكرة المجالس المحلية ودورها وأهميتها )، جعلت أداءها خلال هذه المرحلة نماذج واعدة لتجارب الحكم المحلي وأسست لبداية عملية انتقال آليات عمل المجالس المحلية ودورها في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام من شكلها كتجمعات عمل مدني لشكلها الواجب كإدارات محلية أو كجهات حكم محلي.

وبينما نجحت فكرة المجالس المحلية بفرض نفسها كواقع على الفصائل المقاتلة وخصوصًا الإسلامية منها، بدأ تمدد هذه الفصائل الإسلامية خلال هذه المرحلة يمهد “لاستيعاب” عدد من هذه المجالس وخصوصًا الرائدة منها (باستخدام القوة “الناعمة” كما حصل في إدلب بعدما حل جيش الفتح مجلسها الذي تم انتخابه بعد “تحريرها”، وفي سراقب التي التفت على مجلسها المنتخب عناصر تابعة لجبهة النصرة، أو بطرق أكثر ذكاء وأقل تحكمًا كما استطاع فعله جيش الإسلام عن طريق إيصال مرشحين مقربين منه لمجلس دوما عبر آليات الانتخاب من قبل الهيئة العامة للمجلس).

لكن، وعلى الرغم من هذا، يمكن عدّ هذه المرحلة عمومًا مرحلة ازدهار نسبي للمجالس المحلية وبداية في تحول دورها ليعود مناسبًا لماهيتها. كما ترافق أيضًا في نهاية هذه المرحلة (خلال 2016-2017)، مع بدء عمل مجموعة من المنظمات والفاعلين السوريين على آليات تكوين هذه المجالس وعملها ورفع لقدراتها وإعادة تفعيل مستوى مجالس المحافظات في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، والتي تحولت آليات تشكلها من الفرض من الأعلى (كما تم خلال عملية تشكيل الائتلاف) إلى آليات انتخاب من قبل هيئات عامة مشكلة من مرشحي المجالس المحلية (ظهرت بالأخص هنا مجالس محافظات “حرة” ومنتخبة في درعا، الغوطة الشرقية، حمص، حماة، إدلب وحلب).

ولا بدَّ هنا من ذكر الجهود الحوكمية القطاعية التي بذلت خلال هذه المرحلة في قطاعي الصحة والتعليم والتي ساهمت فيها لحد كبير منظمات مجتمع مدني معنية وأدت لتطوير عملٍ وآلياتِ تشكيلٍ وإدارةِ مديريات تقنية متخصصة والتنسيق بينها عبر المناطق الخارجة عن سيطرة النظام (وأدى عمق التأثير فيها لديمومة استقلالية عالية ليومنا هذا لهذه المديريات عن حكومة الإنقاذ في شمال غرب سورية).

كما يلحظ هنا في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام بدايات نشاطات أنواع أخرى من التجمعات المدنية خارج نطاق المنظمات وهي التجمعات “المطالبية أو المهنية” (روابط ونقابات واتحادات). ومع أن قسمًا منها بدأ منذ المراحل السابقة (نقابات مهنية “حرة”)، إلا أن معظمها كان (اوما يزال للآن ببعض الحالات) عبارة عن حالات استنساخية عن مثيلاتها في مناطق سيطرة النظام. ولكن، وخلال هذه الفترة، نشأ بعضها بدوافع تنسيقية ذاتية حقيقية (اتحاد الفلاحين في الغوطة الشرقية، بعض روابط ذوي الاحتياجات الخاصة) بينما فعّل بعضها الآخر دوره بشكل واضح (نقابات المهندسين، المحامين، الأطباء). لكن وبوسط التضخم الكبير عددًا وحجمًا للمنظمات والفرق والمبادرات المدنية بقي هذا النوع من الحراك المدني هامشيًا نوعًا ما من حيث الزخم والانتشار ضمن الفضاء المدني خارج مناطق سيطرة النظام.

عمومًا أيضًا، أدى إغلاق الحدود في الشمال والجنوب وحصر الحركة من خلال عدد من المعابر وبداية تمركز السلطات بيد بعض الفصائل وتحكم قسم منها بهذه المعابر وكذلك انتشار الحواجز بين مناطق السيطرة واحتدام المعارك إلى ازدياد كبير في كلف السلع داخل سورية أدى لتضخم اقتصادي (على الرغم من الثبات النسبي لليرة السورية خلال هذه المرحلة). زاد هذا التضخم من جهة، وازدياد تواجد المنظمات الدولية (معظمها إغاثية)، بسبب زيادة المساعدات وازدياد حاجاتها التوظيفية من السوريين (في دول الجوار ومن ثم انتقالها لتوظيف فرق داخل سورية)، من جهة أخرى، إلى تفاقم عملية تضخم رواتب العاملين في المنظمات (مع الانتباه أيضًا لعامل تضخم كلف الحياة في مدن تَرَكُّزِ هذه المنظمات في دول الجوار بسبب الإقبال عليها كغازي عنتاب أو مرسين في تركيا). انعكس ذلك، من جهة، بزيادة الحمل التشغيلي على المنظمات المدنية السورية (وخصوصًا الأصغر حجمًا منها وبالتالي بشكل أكبر على تلك المنظمات غير الإغاثية)، ومن جهة أخرى، بزيادة “التباعد الطبقي” بين “مجتمع العاملين في المنظمات” وبقية شرائح المجتمع في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام (بما فيها العاملون ضمن المجالس المحلية التي أصبحت المنظمات، وخصوصًا الإغاثية منها، منافسةً للمجالس ليس فقط في تقديم الخدمة وفي الحصول على التمويل، بل أيضًا في جذب الكوادر والكفاءات).

ولا يمكن الحديث عن الفضاء المدني السوري في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام خلال هذه المرحلة دون الإشارة للدور الكبير والمؤلم الذي لعبه الفاعلون المدنيون خلال عملية إخلاء حلب الشرقية من سكانها قبيل دخول قوات النظام إليها في نهاية 2016. فمن جهة، أدى المجتمع المدني دور الوسيط التفاوضي بين الفصائل المقاتلة في حلب الشرقية وبين قوات النظام/القوات الروسية، ومن جهة ثانية، كان له الدور الأساس في التنظيم اللوجستي لعملية الإخلاء وتنظيم عملية الإيواء والاستجابة الإنسانية لعشرات الآلاف من المدنيين الذين تم اخلاؤهم. كما شكل سقوط حلب الشرقية نقطة تحول بارزة في طبيعة التوازن بين الفضاء المدني والفضاء العسكري في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام ليبدأ معها ترجيح كفة الفضاء العسكري على الفضاء المدني (والمستمر في التقهقر إلى يومنا هذا).

ولا بدَّ لتوصيف هذه المرحلة، من الحديث عن الفضاء المدني في مناطق سيطرة النظام، والذي يمكن اختصاره بهيمنة شبه كاملة للمنظمات المرتبطة بالنظام على القسم الإغاثي مع ظهور بوادر فرق محلية لها استقلاليتها (خصوصًا في مناطق السلمية، حماة، الساحل، السويداء) تعمل على أنواع “آمنة” من الأنشطة مرتبطة بتمكين المرأة، وحقوق الأطفال والتدريبات المهنية.

وساهم استمرار الحالة الأمنية الاستثنائية في شمال شرق سورية، في المناطق التي لم تدخلها داعش، في الابقاء على هامش جيد للعمل المدني، ولكنه افتقر للوصول إلى التمويل الدولي اللازم والذي كان إضافة إلى تركيزه على موضوع المساعدات الإنسانية التي لم تحتجها بشدة هذه المناطق وقتها، …كان يرى في الحالة “الهادئة” نسبيًا في هذه المناطق عذرًا لعدم التركيز عليها.

ويمكن الحديث هنا عن الانفصال المتنامي في هذه المرحلة بين الفضاء المدني في مناطق سيطرة النظام وذاك الفاعل في المناطق الخارجة عن سيطرته ولتبقى صلة الوصل الصغيرة الممكنة هي لقاءات معظمها سرية في بيروت بمبادرات إما من منظمات دولية أو سورية.

كما تجدر الإشارة إلى أن اتفاقية تركيا مع الاتحاد الأوروبي حول الحد من حرية حركة السوريين من وإلى تركيا أدت أيضًا إلى ظهور تباعد متزايد بين منصتي العمل ِالمدني من خارج سورية وهما غازي عنتاب وبيروت (مع التنويه أنه مؤخرًا بدأت أربيل تظهر كمركز تجمع أو كمنصة للمنظمات العاملة في شمال شرق سورية). وأثرت أيضًا على طبيعة عمل المنظمات السورية في الشمال السوري انطلاقًا من تركيا لتخلق نمط عام من التوزيع الإداري (وخصوصًا في المنظمات الإغاثية) تمركزت فيه الإدارة وصنع القرار في تركيا تاركة فقط المستويات التنفيذية للعاملين في هذه المنظمات داخل سورية. وأصبحت غازي عنتاب خلال هذه الفترة مركزًا أساسيًّا ومجمعًا “للفاعلين القياديين” في مجتمع المنظمات المدنية (تليها بيروت) ومركز التقاء بين هذه المنظمات وبين المنظمات الدولية وممثلي المانحين الدوليين.

ونهاية لتوصيف هذه المرحلة، من المهم لحظ الأثر الذي خلقه إنشاء غرفة دعم المجتمع المدني التابعة لمكتب المبعوث الخاص الأممي لسورية في منتصف 2016 والذي كان في بداياته عامل تأزم إضافي ضمن المجتمع المدني السوري في تلك الفترة (بسبب آليات الاختيار والعمل غير الموفقة عند إقلاع هذه الغرفة) لتكون عاملًا مساهمًا في الشروخ العديدة التي بدأت تظهر في الفضاء المدني السوري والتي أشرت لها أعلاه.

5- مرحلة بداية الانحسار الكمي والجغرافي مع بداية نوع من “الصحوة” (2017 إلى 2019)

بدأت تحولات العمل العسكري تتضح بعد سقوط حلب الشرقية بيد النظام من جهة، وإطلاق عملية درع الفرات من قبل تركيا بالتوازي مع انتقال التحالف الدولي ضد داعش لاعتماد أساسي على قوات قسد كقوة برية مدعومة من التحالف لاستعادة القسم السوري من الأراضي التي كانت تسيطر عليها داعش، من جهة ثانية. ففي منتصف 2017 كانت داعش قد انتهت في شمال شرق سورية وقبلها بأشهر في شمال سورية. وكانت هذه السنة هي سنة تحضير وإعادة توزيع لقوات النظام باتجاه الجنوب، لبدء الحملة ضد الغوطة الشرقية في مطلع 2018، ثم السيطرة عليها في نيسان من هذا العام، لينتقل الهجوم بعدها باتجاه مناطق درعا والتي آثرت الفصائل فيها المصالحة، كما فعلت بعدها الفصائل القليلة التي كانت متبقية في القسم المحاصر من ريف حمص الشمالي وريف حماة الجنوبي. وبهذا كان النظام وداعموه قد أتموا السيطرة على مناطق غرب الفرات الوسطى والجنوبية كافة (باستثناء رقعة جغرافية صحراوية في الجنوب على الحدود الأردنية بقيت فيها قاعدة أميركية ومخيم للنازحين هو مخيم الركبان).

في هذه الأثناء، قامت جبهة النصرة، تحت مسماها الجديد “هيئة تحرير الشام”، بالقضاء شبه الكامل على تواجد أحرار الشام في مناطق إدلب في النصف الثاني من 2017 لتصبح القوة العسكرية الوحيدة في إدلب.

وكان إطلاقُ عملية غصن الزيتون من جانب تركيا والتدخل العسكري المباشر إلى جانب فصائل أصبحت تابعة للإرادة التركية بشكل مطلق منذ إطلاق عملية درع الفرات، وما نتج عنه من تهجير قسري لعشرات آلاف العائلات من مناطق عفرين، …تثبيتًا نهائيًّا للمعاداة التي كانت قد بدأت بالظهور بين قسد وبقية الفصائل في الشمال السوري (منذ بداية عملية درع الفرات وترافق انطلاقها مع هجوم قسد على تل رفعت في شمال حلب وعمليات التهجير القسري التي رافقته)، وأصبح بعد معركة عفرين مقسمًا لثلاث مناطق سيطرة عسكرية: قسد مسيطرة على كافة مناطق شرق الفرات وعلى قسم يمتد حتى منبج غرب الفرات؛ تركيا وما يتبعها من مجموعة فصائل مسيطرة على مناطق ريف حلب الشمالي من منبج لعفرين ( ثم على شريط حدودي بين رأس العين وتل أبيض استولت عليه القوات التركية وما يتبعها من فصائل في عملية نبع السلام في نهاية 2019)؛ وهيئة تحرير الشام مسيطرة على إدلب وريف حلب الغربي (بعد هجومها عليه في مطلع 2019)، ليتم بعدها اقتطاع أجزاء مهمة من مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام بعد هجوم النظام وداعميه في مطلع 2020 (بالأخص في ريف إدلب الجنوبي حيث سيطر النظام على مدينتين كانتا تتمتعان برمزية قوية وهما معرة النعمان وسراقب)، وليتم نشر قوات تركية في عدد كبير من نقاط المراقبة على خط النار الفاصل بين قوات هيئة تحرير الشام وقوات النظام.

تجمدت من بعد مطلع 2020 هذه الخارطة العسكرية إلى حد كبير.

لذلك، كانت الفترة من نهاية 2016 لمطلع 2020 أكثر الفترات التي شهدت حركات نزوح وتهجير قسري تعدد مسببوه، لينزع عن النظام وبشكل نهائي حصرية ارتكاب هذا النوع من جرائم الحرب وليخلق تراكبًا معقدًا جدًا من المظلوميات انعكس بقوة على الفضاء المدني السوري والذي بدأ فيه تثبيت لشرخ إضافي وهو شرخ شمال-شرق / شمال-غرب.

وفي الوقت الذي شهدت فيه بداية هذه المرحلة استمرارًا لتنامي مبالغ المساعدات الدولية لسورية (وبالأخص الإغاثية منها)، أدت التحولات العسكرية السابقة إلى انكفاء عدد أكبر من الدول المانحة على دعم العمل الإنساني بشكل شبه حصري (على حساب ما كان قليلًا أصلًا من دعم العمل التنموي/الحقوقي). وفي نهاية هذه المرحلة بدأت بوادر استقرار حجم الدعم (في مقابل ارتفاع مستمر في الاحتياجات)، قبل بدء انخفاضه بوتيرة مستمرة وإن كانت ضعيفة.

وبينما بدأت هذه المرحلة ببوادر تحول صحي لدور المجالس المحلية نحو حكم محلي في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام (انتخابات مباشرة لعدة مجالس محلية في الغوطة الشرقية، تحسن القواعد الحوكمية بين مجالس المحافظات والمجالس المحلية، تحسن دور المديريات في قطاعات الخدمات والتعليم والصحة)؛… أدت استعادة النظام لمناطق الجنوب والوسط، ثم سيطرة هيئة تحرير الشام على مناطق إدلب كافة وريف حلب الغربي، وكذلك سيطرة قسد على شمال شرق سورية، وتركيا على مناطق الريف الشمالي لحلب، إلى انحسار كبير في هذا الحكم المحلي، ولتكتمل عملية انتقال المجالس المحلية إلى خارج الفضاء المدني ليدخل ضمن الفضاء الإداري بشكل كامل، ولكن مع الأسف ضمن إدارات شديدة المركزية من جهة (النظام، الإدارة الذاتية التي أنشأتها قسد وأخذت مداها بعد انتهاء عملية التحرير من داعش، وحكومة الإنقاذ التي أنشأتها هيئة تحرير الشام في نهاية 2017)، أو إدارة مبعثرة فيها تدخل خارجي كبير تحت غطاء صوري للحكومة الموقَّتة السورية في مناطق سيطرة تركيا، من جهة أخرى.

وباستعادة النظام للغوطة الشرقية ولمناطق درعا من جهة، وسيطرة هيئة تحرير الشام على ريف حلب الغربي من جهة ثانية، لم يعد على الجغرافيا السورية أي منطقة جغرافية تحمل أي نوع من التوازن أو الندية بين الفضاء المدني والفضاء العسكري، وليصبح الفضاء المدني المتعدد الشروخ تحت هيمنة سلطات أمر واقع متعددة، يدافع في كل منطقة هيمنة فيها عن هوامش تحركه المختلفة، بما يسنح له من أدوات وقوة لمواجهة تسلط هذه السلطات.

كما عانت التجمعات المدنية السورية في دول الجوار هذه الفترة (والتي بأغلبيتها العظمى كانت منظمات غير حكومية) من تقلص كبير في حالة التعاون السياسي والإداري من حكومات هذه الدول، وبدأت تظهر في طريق هذه التجمعات عراقيل إدارية وقانونية متنامية لتحيّد قسمًا مهمًا من طاقاتها ومواردها بعيدًا عن المساندة للمجتمعات المحلية داخل سورية أو للاجئين خارجها، والتي أُنشئت هذه التجمعات من أجلها. وأدى الإفراط في الحذر الذي تعاملت به المنظومة المصرفية العالمية مع تصاعد العقوبات على سورية إلى زيادة تعقيدات عمل هذه المنظمات. كما أدى العرف السائد لدى معظم الدول المانحة الغربية منها بتدوير موظفيها، القائمين على إقرار المساعدات ومتابعة استخدامها، لوصول شريحة جديدة من موظفين لم يكن لديهم أي ارتباط سابق مع الملف السوري (وهو ما بدأ بالظهور في المرحلة السابقة، أي ابتداء من 2015، ولكن تفاقم أثره خلال هذه المرحلة)، وبالتالي بدون أي انخراط معنوي حقيقي (ما عدا بعض الاستثناءات الفردية)، لتتحول المساعدات لعمليات تقنية بحتة يسعى القائمون عليها للحماية القانونية الذاتية بشكل متزايد (ولاسيما تصاعد تواجد حركات اليمين المتطرف في البرلمانات وخصوصًا الأوروبية منها وقرب هذه الحركات من النظام السوري كان يزيد الضغط الرقابي على المساعدات المخصصة للمناطق الخارجة عن سيطرته). ترجم هذا كله بزيادة كبيرة في الأعباء الإدارية والمحاسبية للمنظمات السورية التي كانت تتلقى تمويلًا من هذه الدول (مباشرة أو عبر المنظمات الدولية)؛ وساهم في تضخم كبير في الكلف الإدارية للمنظمات السورية المتمركزة في الخارج، ولزيادة تمركز اتخاذ القرارات ضمن المنظمات في خارج سورية (بالقرب من السلطات الإدارية النافذة ومن ممثلي الدول والمنظمات الدولية المانحة).

وأدت عودة مناطق واسعة لسيطرة النظام وتهجير سكانها إلى الشمال (ومن بينهم فاعلون في الفضاء المدني لهذه المناطق) إلى تحييد عدد كبير من فاعلي الفضاء المدني داخل سورية، ودفع قسم كبير منهم (وخاصةً ًا الفاعلين في القطاعات غير الإغاثية) إلى خارج سورية (معظمهم تهريبًا) بسبب “الاكتظاظ” النسبي في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في الشمال (عمليات نزوح المدنيين نتج عنها تجمعات كبيرة ضمن مخيمات ما تزال للآن تفتقر لأي إمكانات أو مساحات عمل مدني مختلف عن الاستجابة الإغاثية، وبالتالي، فالفاعلون المدنيون في القطاعات غير الإغاثية فقدوا مساحات عملهم بسبب النزوح والتمركز السكاني للنازحين في مخيمات).

كما أدى قرار الأوتشا في تركيا في 2017 بإقرار مسموحية التنسيق مع المجالس المحلية للمنظمات الإغاثية المتعاملة مع الأوتشا، وانتقال هذه المسموحية بشكل تلقائي لمسموحية التنسيق مع سلطات الأمر الواقع في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، بدون أن تتم أي عملية مراجعة لهذا القرار… أدى إلى إنشاء “تفاهمات” تضمن لهذه السلطات تدخلات متفاوتة المستوى في عملية الاستجابة الإغاثية (من التدخل في تحكيم عملية التوزيع، لفرض أسماء مستفيدين معينين، لاقتطاع جزء من المساعدات).

وتنبغي الإشارة هنا أيضًا للتجربة الأليمة الثانية التي عاشها الفاعلون المدنيون لدى تهجير الغوطة الشرقية بعد سقوط حلب الشرقية. فبينما كان للفاعلين المدنيين دور مؤثر على الأقل في تأمين ظروف الإجلاء في حلب الشرقية (التفاوض والتحضير اللوجستي)، شهد الفاعلون المدنيون في الغوطة، وعلى الرغم من ما كانوا قد راكموه من فاعلية وتواجد خلال سنوات الحصار، تهميشًا كبيرًا في عمليات التفاوض وقرارات الإخلاء وتنفيذها بسبب إصرار المفاوض العسكري الروسي الذي كان يقود عمليات الهجوم على التفاعل حصرًا مع الفصائل العسكرية، والمكون المدني كان قد خسر تواجده في المفاوضات والقرارات في الغوطة الشرقية. هذا التهميش للمكون المدني جاء كإضافة لعدم قدرته قبل احتدام الهجوم على الغوطة الشرقية، على رأب صدع المعاداة بين فصيلي الغوطة الشرقية الأساسيين (جيش الإسلام وفيلق الرحمن)، والذي ظهر واسعًا في حملة قوات النظام مطلع عام 2018، كما كانوا قد نجحوا في تحييده في سنوات سابقة.

وفي سياق موازٍ داخل سورية، (ولحد مشابه في دول الجوار) أدى “تفاقم تضخم” رواتب العاملين ضمن منظمات المجتمع المدني في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام (بسبب تزايد أثر توظيف قسم منهم لدى المنظمات الإغاثية الدولية من جهة، وبسبب التضخم الاقتصادي الناتج عن ارتفاع كلف السلع في هذه المناطق الناتج عن المعارك وعن تقسيم سورية إلى مناطق، تفرض أتاوات من قبل سلطات الأمر الواقع المختلفة على عبور السلع إليها وبينها، من جهة ثانية)، و”انهيار” مستوى الدخل العام بالمقابل بسبب انهيار قوي في قيمة العملة السورية (خلال 2017 ومن ثم خلال 2019)، …أدى هذان العاملان إلى تعاظم التباعد الاقتصادي بين العاملين في المنظمات وغيرهم من المواطنين. هذا “التباعد”، متراكبًا مع عامل “التفاهمات” مع سلطات الأمر الواقع (والتي أصبح لعدد من المجالس المحلية دور “تنفيذي” فيها، بعدما أصبحت معظم هذه المجالس تحت سيطرة مباشرة لهذه السلطات)، بدأ يولد لدى المجتمعات المحلية، وكذلك لدى شريحة متنامية من الفاعلين المدنيين “المتنحين” إما “طوعًا” أو قسرًا (لأسباب أمنية أو بسبب الهجرة أو بداية انخفاض المساعدات الدولية)، ….يولد إحساسًا بانتشار للفساد المالي ضمن هذه المنظمات (يتطلب برأيي هذا الموضوع دراسة موضوعية جادة وواسعة لتقصي مدى حقيقة انتشاره وحجم هذا الانتشار). وهذا لا يلغي حقيقة نوع من “الانحراف” في مسار عمل بعض المنظمات السورية خلال هذه المرحلة، من خلال تحول وظيفتها وآليات عملها (أو على الأقل القبول بتحول كهذا فرض عليها من قبل المانحين) نحو مهنية بحتة، فقدت الروح الأساسية للعمل المدني وهو الانخراط الطوعي المؤمن بقضية، وليتحول قسم لا يستهان به، ممن يفترض أن يكون انخراطهم في العمل المدني نابعًا من إيمان كهذا، إلى “موظفين” يسعون أولًا لتأمين لقمة العيش (وهو سعي مشروع لكنه في حالة العمل المدني يجب أن يأتي دائمًا ثانيًا برأيي) ضمن قطاع اقتصادي أصبح “مغريًا”.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن مناطق سيطرة النظام في هذه المرحلة شهدت هوامش أكثر اتساعًا للعمل المدني من خلال انشغال النظام وقواه الأمنية بوضع المعارك المختلفة، في الوقت الذي ازداد فيه حجم المساعدات المخصصة لمناطق سيطرة النظام (بسبب استعادته للسيطرة على مناطق متعددة من جهة، ومن جهة ثانية، بسبب تمركز المساعدات الدولية أكثر فأكثر حول الاستجابة الانسانية الطارئة، وتفضيل الدول المانحة إمرارها إما عبر الوكالات الأممية، التي تفضل آلياتها التعامل مع الحكومات المعترف بها، أو عبر المنظمات الدولية التي بدأ قسم منها يطلب الحصول على الترخيص بالعمل ضمن مناطق سيطرة النظام، راضخة لطلبه منها حصرية العمل في مناطق سيطرته والانسحاب من العمل في غيرها).

وفي سياق موازٍ، بدأ تمويل عمليات إعادة الاستقرار من قبل التحالف الدولي ضد داعش لشمال شرق سورية المحرر من داعش (وكذلك لشمال حلب في الفترة ما قبل عملية غصن الزيتون)، يُترجم بإنشاء عدد متزايد من المنظمات السورية داخل سورية (بالأخص شرق الفرات) وخارجها (بالأخص في أربيل وفي ألمانيا)، تخصص جلها الأعظم في تقديم خدمات كبديل عن أو مكمل للمجالس المحلية، وخصوصًا في مناطق سيطرة قسد، نظرًا لعدم رغبة التحالف (وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية) في إعطاء شرعية كبيرة للإدارة الذاتية، شرعية قد تنتج من خلال تمكين كبير للمجالس المحلية التابعة لها.

ولكن، وعلى الرغم من مستوى تحديات غير مسبوق في هذه المرحلة (من 2017 إلى نهاية 2019)، وعلى الرغم من تعدد أنواع الشروخ ضمنه، بدأت تظهر ضمن الفضاء المدني السوري (والذي، بعد خروج المجالس المحلية منه، صار مركزًا على شكل منظمات أو فرق مجتمع مدني) بوادر “صحوة” إدراكية دفعته لتجمعات مختلفة نوعيًا عن سابقتها (والتي كانت عملياتية أو قطاعية لحد كبير). حيث أدرك عدد مهم من المنظمات الإغاثية السورية مسألة تماديها في فهمها “الحيادي” لمبادئ التدخل الإنساني، والذي كان لاستخدام الدول المانحة لصناديقها الإغاثية (وبالتالي لسيطرة موظفيها “المبرمجين” على هذه المبادئ الحيادية) من جهة، ولانخراط المنظمات الدولية الكبرى الإغاثية الواسع من جهة ثانية، ولآليات تدخل عمل الوكالات الأممية وعلى رأسها الأوتشا من جهة ثالثة… كان له أثر كبير في إنتاج هذا التمادي. كانت لاستعادة النظام للسيطرة على حلب الشرقية وهجومه على الغوطة الشرقية أثر في هذا الإدراك، سمح لمنظمات إغاثية سورية بالتوجه نحو التقارب مع المنظمات العاملة في القطاعين التنموي والحقوقي. وظهر هذا التقارب أولًا في جهد المناصرة والضغط السياسي غير المسبوق (حتى دوليًا) إبان الحملة على الغوطة الشرقية، والذي أتاح للمجتمع المدني السوري وصولًا مباشرًا إلى أعضاء مجلس الأمن (قمة الهرم في القرارات الدولية)، والذي، على الرغم من عدم قدرته على تغيير المخرجات (بسبب الفيتوات الروسية/الصينية)، إلا أنه أظهر وزنًا مهمًا للمجتمع المدني السوري (من وجهة نظري كان عاملًا أساسيًا في التخصيص الرمزي لثلث أعضاء اللجنة الدستورية للمجتمع المدني، رمزي لأنه لاحقًا تم ملء مقاعده بطريقة أعادت الوزن للمكونات السياسية بشكل رئيس). ثم ظهر هذا التقارب في محاولات إجراء لقاءات متعددة عابرة للقطاعات (إغاثة، تنمية، حقوق)، بهدف تدراك الشروخ أولًا، وثانيًا بهدف إطلاق بدايات إنتاج فكري/معرف مشترك حول مواضيع أساسية بدأت تبرز على الساحة السورية كمواضيع إعادة الإعمار والتعافي المبكر وترشيد المساعدات وحماية الفضاء المدني ورصد الانتهاكات والمحاسبة (على الجرائم المرتكبة) والعدالة الانتقالية والحفاظ على السردية الحقيقية لما حدث/يحدث في سورية.

كما تعاظم في نهاية هذه المرحلة التفاعل الدولي مع المجتمع المدني السوري كفاعل مهم في الشأن السوري. وبعد إحداث الآلية المستقلة المحايدة والمستقلة من قبل الأمم المتحدة حول الجرائم المرتكبة في سورية وتعاملها بشكل كبير مع المنظمات السورية المختصة، والبدء في تحسين آليات عمل غرفة دعم المجتمع المدني (ابتداءً من نهاية 2019) وتشكيل اللجنة الدستورية مع تخصيص ثلث مقاعدها للمجتمع المدني السوري (كرمزية قبل كل شيء)، فبدت مظاهر مهمة لهذا التفاعل بين المنظمات المدنية السورية.

6- مرحلة هيمنة سلطات الأمر الواقع (من 2020 إلى الآن)

بعد انتهاء حملة قوات النظام على الريف الجنوبي لإدلب والريف الغربي لحلب في مطلع 2020، حصل استقرار كبير نسبيًا في المعارك ومناطق السيطرة.

سورية أصبحت مقسمة لأربع مناطق سيطرة عسكرية (مع عدم عدِّ منطقة الركبان وما حولها منطقة بحد ذاتها نظرًا إلى صغر حجمها من حيث عدد السكان): منطقة سيطرة النظام، منطقة سيطرة قسد، منطقة سيطرة تركيا ومنطقة سيطرة هيئة تحرير الشام.

كل منطقة سيطرة عسكرية أضفت عليها القوات المسيطرة صيغة حكم مختلفة تتشارك كلها في كون القرارات الأساسية والحقيقية فيها بيد القوة العسكرية المسيطرة وتفرعاتها العسكرية والأمنية، وتترك بعض القرارات الإدارية والخدمية لواجهات “حكومية” لا سلطة حقيقية لها (غير تلك التي توفرها لها السلطة العسكرية/الأمنية في منطقتها).

أصبح لسورية أربع حكومات: الحكومة السورية، الإدارة الذاتية، الحكومة الموقَّتة وحكومة الإنقاذ، تعمل ثلاث منها بمركزية شديدة، بينما للرابعة منها (الحكومة الموقَّتة والتي، بقرارها أو رغمًا عنها، هي الوحيدة غير الموجودة فيزيائيًا في منطقة ممارسة دورها) دور صوري لحد كبير يترجم بما يشبه عشوائية حوكمية عالية في مناطق عملها (مناطق سيطرة تركيا).

لجأت قسد وهيئة تحرير الشام في 2018 و2019 لإجراءات علنية واضحة لكونها المتحكمتين المطلقتين بوضع الخطوط الحمر المحددة لهوامش العمل المدني (رمزيًا عبر اعتقالات طويلة الأمد قامت بها قسد وعبر اغتيالات قامت بها هيئة تحرير الشام آخرها كان اغتيال رائد فارس). بينما عاد النظام بعد “انتصاره” إلى عمليات التضييق على الفاعلين المدنيين من خلال زيادة تواتر “الاستدعاءات” (وهي التقنية التي تبنتها كل من قسد وهيئة تحرير الشام بدرجات مختلفة، ثم بدأت لاحقًا تتبعها الفصائل التابعة لتركيا في مناطق سيطرتها). التضييق على الهامش المدني في مناطق سيطرة تركيا بدأ بالظهور لاحقًا (2021) ولكن عبر أدوات الإسلام السياسي (المجلس الإسلامي السوري، منابر المساجد، بعض الفصائل العسكرية).

وفي الوقت نفسه، اتبعت قسد وهيئة تحرير الشام آلياتِ تحييد القسم “المطالبي” من الفضاء المدني (النقابات والاتحادات)، آلياتٍ طالما عمل عليها النظام، وذلك عن طريق ربطها بشكل أو بآخر بالسلطة الحاكمة. لتبقى فقط مناطق السيطرة التركية مكانًا لهامش عمل مستقل نسبيًا للنقابات والاتحادات (في نهاية 2022، فكان هناك 12 اتحاد/نقابة مهنية معلنة ومختلفة الأحجام والفاعلية في مناطق سيطرة تركيا).

ترجم توقُف النزوح (لغاية ما بعد الزلزال في مطلع 2023)، وثبات التعداد السكاني المترافق مع بدء حركات عودة لبعض النازحين (بشكل داخلي ضمن منطقة السيطرة الواحدة وأهمها منطقة سيطرة النظام)، إضافة إلى الانشغال العالمي بمواضيع أخرى (كوفيد في 2020 و2021 ومن ثم الحرب الروسية-الأوكرانية)، … تُرجم بتسارع انخفاض حجم المساعدات الدولية لسورية.

وبينما كانت بعض المنظمات السورية تنمو حجمًا، نتج عن انخفاض الدعم انخفاض ملحوظ في عدد المنظمات السورية المسجلة في دول الجوار وخصوصًا تلك العاملة في الشمال الغربي. وكانت سيطرة النظام على مناطق كاملة قد أنهى وجود المنظمات/الفرق المدنية المتواجدة فيها (تحدثنا أعلاه عن “الاكتظاظ” في مناطق الشمال، والذي منع ترجمة النزوح القسري لهذه المناطق بزيادة ملحوظة في عدد المنظمات/الفرق المدنية، وبالتالي أدى لعدم تعويض ما تم خسارته من أعدادها).

في مناطق سيطرة قسد، ظهر تزايد في عدد المنظمات المدنية “الخدمية والإغاثية” بسبب تزايد الدعم، على الأخص الأميركي (والذي تركز على هذه المنطقة بعد سيطرة هيئة تحرير الشام على ريف حلب الغربي من جهة وبعد عملية غصن الزيتون التي قامت بها تركيا على الرغم من المعارضة الأميركية من جهة ثانية). وعلى الرغم من نتائج الضغط الروسي في مجلس الأمن والتي أدت لإغلاق معبر اليعربية وإيقاف مرور المساعدات العابرة للحدود إلى مناطق شرق سورية من دول الجوار (العراق وتركيا)، أدى قرار عدد من المنظمات الدولية بطلب ترخيص للعمل من الإدارة الذاتية وتمكنها من توظيف فرق محلية تابعة لها إلى تكرار ما كان قد سبق في المرحلة السابقة من عمل المنظمات (بالذات الإغاثية) في شمال غرب سورية: “تركيز” على الإغاثة والخدمات، “تفاهمات” مع سلطات الأمر الواقع يتم من خلالها اقتطاع حصص، “”تضخم في رواتب العاملين في المنظمات أدى لشرخ اقتصادي بينهم وبين مجتمعاتهم المحلية، وتجمعات تشبيكية شبه “مفروضة من قبل المانحين”، ومع أهميتها في تنسيق العمل، فقد كانت مبنية على أساس “انعزالي” جغرافيًا ومحابية بشكل كبير لسلطات الأمر الواقع التي تسيطر على مناطق عملها.

وشهدت مناطق سيطرة النظام ازديادًا في “تطبيع” العمل الإغاثي مع الحكومة السورية، أولًا من قبل الوكالات الأممية المختلفة (التي أصدرت حتى في مطلع 2022 النسخة المحدثة من الإطار الاستراتيجي للمساعدات الأممية بالتعاون مع الحكومة السورية وفيه تبنٍّ صارخٌ لقسم من سردية النظام حول “عودة نسبية للأمن والاستقرار لثلثي الأراضي السورية”)، ومن قبل منظمات دولية إغاثية كبرى، وبعدها من عدد من الدول المانحة (إعادة فتح مكتب إغاثي سويسري، تلاه تقديم أوراق اعتماد السفيرة السويسرية لوزير الخارجية السوري على الرغم من إقامتها ببيروت، تلاه ارتفاع وتيرة الزيارات “التفقدية” لمناطق سيطرة النظام لعدد من الدبلوماسيين المقيميين في بيروت كسفيرة السويد ورئيس البعثة الأوروبية لسورية).

وزاد اختلاف الواقع التمويلي والعملياتي بين مناطق السيطرة المختلفة من تباعد منظمات المجتمع المدني وتضاؤل مساحات وفرص التواصل بينها وأدى تحابي بعضها مع سلطات الأمر الواقع في مناطقها إلى تنامي عدم الثقة وظهور اتهامات متبادلة بالتعامي عن الانتهاكات (ولا سيما بين شمال شرق وشمال غرب سورية).

ولكن يمكن القول إن هذه المرحلة شهدت بالتوازي ارتفاعًا ملحوظًا في قدرات المنظمات المدنية السورية التقنية أولًا ومن ثم المعرفية ثانيًا و”التواجدية”/التنسيقية أخيرًا.

فقد أدت التحديات المرتبطة بالعمل التقني للمنظمات السورية (التضييقات في دول الجوار والتضييقات المصرفية الدولية) من جهة، والتزايد المتنامي في الضغوط التمويلية “لحرفنة” العمل المدني السوري (وهو ما يفقده بالتوازي تأصله كعمل حامل لقضية كما ورد أعلاه)، من جهة أخرى، إلى تنامي القدرات العملياتية للمنظمات السورية (والذي ترافق بشكل طبيعي ومؤسف مع ارتفاع كبير في كلفها التشغيلية). هذا التراكم التقني كان، بعلى الرغم من آثاره السلبية الواضحة، عامل تراكم معرفي، سمح للمجتمع المدني السوري بإنتاج خبرات حقيقية مدركة لمنظومة المساعدات الدولية وآلياتها ونواقصها وقادرة على الاحتكاك بخبراء من سياقات دولية مختلفة (كحالة أفغانستان بعد الانسحاب الأميركي منها في 2021 وعواقبه الكارثية على المجتمع المدني الأفغاني)، وقادرة على ا إنتاج حالة تحليلية نقدية عالية المستوى لهذه المنظومة وقادرة على تصميم حلول لها (طبعًا في حال وجود إرادة سياسية دولية في تبني هكذا حلول كهذه، وهو شيء غير متوفر حاليًا مع الأسف).

ظهرت في هذه المرحلة أيضًا بوادر نضج في فحوى العمل المدني، بدءًا من ظهور بعض الروابط “المطلبية” داخل سورية (حقوق ذوي/ذوات الإعاقة، حملة متطوعين ضد كورونا، تجمعات نسوية مختلفة)، أو عابرة داخل/خارج سورية كروابط الضحايا المختلفة، ومن ثم تعاظم دور المنظمات العاملة على مواضيع المحاسبة والتفافها على حالة عدم القدرة على استخدام المحكمة الجنائية الدولية في حالة سورية بالذهاب نحو تفعيل محاكمات فردية متعددة في عدد من المحاكم الاوروبية لأشخاص وجهت لهم اتهامات بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية، إلى جهود المناصرة المركزة والتي استندت إليها تجمعات لسوريين في المهجر لتدفع دول لتحركات سياسية فردية (قانون قيصر، قانون العقوبات الفردية الأوروبية، الدعوى المشتركة الكندية-الهولندية على الحكومة السورية أمام محكمة العدل الدولية بتهمة استخدام التعذيب الممنهج).

كما تنامى الحضور السوري المدني كفاعل مؤثر على الساحة الدولية من خلال تنظيم عمل غرفة دعم المجتمع المدني، ومن خلال ظهور معرفي متين لكتلة “المستقلين” ضمن الثلث المخصص للمجتمع المدني السوري في اللجنة الدستورية (وهي الكتلة التي لم يطلب لا من النظام ولا من هيئة التفاوض المعارضة الموافقة عليها)، ومن خلال تنامي المشاركة الفعالة في أيام الحوار الموازية لمؤتمر بروكسل للمانحين، وكذلك تنظيم أول مؤتمر (ولو كان افتراضيًّا وليس فيزيائيًّا) بتنظيم سوري، دُعي للمشاركة فيه ممثلو المانحين حول المساعدات الدولية وضرورة كونها مبنية على المبادئ.

وظهرت في إطار هذا الحضور عدة مبادرات مهمة وواعدة للتنسيق والمناصرة، منها خارج سورية كتحالف المنظمات السورية الأميركية، المجلس السوري البريطاني ومنصة الشبكات المدنية السورية العاملة في الخارج، ومنها عابر للحدود والتقسيمات كتحالف روابط الضحايا ومؤخرًا مبادرة “مدنية”. وهي تعمل كلها وبآليات مختلفة وبأهداف متكاملة لحد كبير على زيادة وزن الصوت السوري وتأثيره في عمليات اتخاذ القرار على المستويات السياسية، القانونية والتمويلية (في المستويات السياساتية، التصميمية أو البرامجية لعمليات التمويل).

وأخيرًا، لا بدَّ من الذكر أن الزلزال الطبيعي الذي ضرب شمال غرب سورية وجنوب غرب تركيا في مطلع عام 2023، وبعلى الرغم من الدمار الذي أحدثه في مناطق في سورية كان قسم كبير منها أصلًا قد تعرض لتدمير بسبب الخيار الكارثي للنظام بالحل القمعي بمواجهة الثورة السورية، إلا أنه فتح بابًا مهمًّا لتعميق “الصحوة” التي كانت قد بدأت منذ سنوات، ولتزيد حالة الإدراك لدى الفضاء المدني السوري، أو على الأقل ضمن تمظهره الأكبر والأكثر فعالية حاليًا: المنظمات والفرق المدنية، بضرورة زيادة التعاضد (وبالذات بشكل عابر لمناطق الصراع من جهة، ومن جهة أخرى، عابر القطاعات لخلق نموذج سوري من مفهوم الـ triple nexus المقارب بين فاعلي العمل الإنساني، فاعلي العمل التنموي وفاعلي العمل الحقوقي)؛ وكذلك بضرورة إنتاج آليات سورية للتنسيق المشترك، وبضرورة الوصول والتأثير المباشر على صانعي القرار الدولي (سياسيًا، قانونيًا وتمويليًا)، وضمان وجود آليات لإشراك المجتمعات المحلية في عمليات اتخاذ القرارات التمويلية ومساءلتها عن هذه القرارات وعن تنفيذها.

ثالثًا: خاتمة

هذه المقالة هي محاولة تجميع أفكار وذكريات منبثقة من تجربتي مع مسارات العمل المدني في سورية وانخراطي فيها منذ انطلاق الثورة السورية إلى يومنا هذا. يحتاج إنصاف هذه التجربة الغنية إلى بحوث كثيرة ومتعمقة آمل أن تتناول بالدراسة الأفكار والترابطات التي أوردتها في المقالة.

في رأيي الشخصي، شهدنا خلال 12 عامًا منذ انطلاق الثورة السورية عملية نشوء سريعة جدًا لفضاء مدني واسع (كما قلت هناك حاجة إلى دراسة وضع وتداعيات المجتمع المدني ما قبل الثورة، لكن ما لا يمكن إنكاره هو حالة الانتشار الواسع الذي أوجدته الثورة للفضاء المدني) أوصلته إلى درجة من التعقيد (بمعنى الغنى وأيضًا بمعنى “التشربك”) تسمح بالقول إنه واعد لمستقبل سورية.

ركز المقال بشكل أساسي على أهم ثلاثة “تمظهرات” للفضاء المدني السوري منذ انطلاق الثورة السورية: التنسيقيات أولًا والمجالس المحلية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام (التي نشأت كفاعليات عمل مدني قبل تحولها لدورها الحقيقي كأدوات حكم محلي) وأخيرًا المنظمات/الفرق المدنية.

حاولت قدر الإمكان إدراج التحديات التي رأيتها، إما قد واجهت هذا الفضاء المدني أو تأصلت داخله، وربطها مع تطورات سورية منذ انطلاق الثورة. لكن وبعلى الرغم من كل التحديات، والتي يتطلب قسم منها حلولًا أساسية (وأهمها مخاطر استمرار التباعد عن هموم المجتمعات المحلية و”حرفنة” الفضاء المدني)، أعتقد أن انخراط عشرات الآلاف من السوريات والسوريين (إن لم نقل بضع مئات من الآلاف إذا أخذنا بعين الاعتبار كل من شارك في الأنشطة والفعاليات) في الشأن العام من خلال هذا الفضاء، وتراكم التجارب، الفاشلة منها والناجحة، التي تمت وتتم فيه، لا بد أن ينظر له بالعموم كتراكم مهم وحيوي لمستقبل سورية وبالتالي يجب حماية قدرته على التطور والاستمرار الإيجابيين. مع الإشارة إلى كوننا نمر، في وقت كتابة هذه المقالة، بتحولات سياسية متعلقة بسورية بعد بدء التطبيع العربي مع النظام. وقد تكون هذه المرحلة الحالية منعطفًا جديدًا يؤثر بشكل أساسي في تطور الفضاء المدني السوري.

 

 

مشاركة: