دور النضال المدني في بناء الخط الثالث في ظل مجتمع منقسم بالحرب؛ دراسة للحالة السورية

توطئة

على الرغم من وجود عدة تعاريف للمجتمع المدني، تعكس جميعها تجارب مجتمعات الغرب في القرنين السابع عشر والثامن عشر إلى أن أعاد تحديثه وإحياءه غرامشي في مطلع القرن العشرين، إلا أنها كانت في مجملها عاجزة عن ضبط الحالات الخاصة بمجتمعات الأطراف، وكما لا توجد حتى الآن نظرية حول الدولة، فإنه لا توجد نظرية تحدد الاستراتيجية الملائمة للنضال المدني في ظل الأنظمة التسلطية أو في ظل العولمة، حيث تسود الفوضى وتكثر التدخلات والضغوط الخارجية على الدولة الوطنية، وتضعف السيادة، أو تتحدث عن طرق معالجة إشكاليات العمل المدني السلمي ضمن المجتمعات التي تشهد نزاعات وحروبًا أهلية تحتجز تشكله وتمنعه من تعريف نفسه وتحديد دوره أمام الأطراف المتصارعة. لذلك شهدنا التناقض الواضح بين هذه التعاريف، بسبب كثرة التوظيف السياسي بالمفهوم خدمةً لأجندات للفاعلين الاجتماعيين في الواقع الملموس. بينما بالحقيقة ما يحدد مضمون أي تعريف ويكسبه معنى في نهاية الأمر، هو العمل المنظم القادر على تأمين وحدة المجتمعات المنقسمة واستقرارها في ظل الحروب كالحالة السورية، أو يمنع انقسامها بسبب الصراعات الاجتماعية على إدارة السلطة والثروة.

يسلط هذا البحث الضوء على المفاضلة بين استراتيجيتي عمل للمنظمات المدنية، الأولى نشأت في ظل بيئة غير آمنة أو غير مستقرة لا يوجد فيها توافق على عقد اجتماعي محدد ولا دستور جديد أو حل سياسي ناجز يفتح أبواب التحول الديمقراطي، بل جرى تفريغها من سلطة الدولة التوتاليتارية لمصلحة سلطة أشد خطورة وتحكمًا من سابقتها في حرية الأفراد والمجتمعات، هي سلطة منظمات العولمة ورؤاها الخاصة بالتوقف على أعتاب إدارة أزمة الإفقار والتهميش بالعمل المدني الإغاثي ومثالها الأوضح النزاع السوري، وتقويم أدائها في ظل الإنجاز والأهداف المعلنة، واستخلاص دروس التجربة منها.

والانتقال في شقه الثاني إلى مناقشة معالم استراتيجية عمل بديلة لتنظيمات مدنية ديمقراطية مستقلة القرار منبثقة عن الداخل السوري، تقوم على العمل التطوعي غير المأجور، مسنودًا بحراك شعبي متحرر من هيمنة سلطة الدولة وقيم المجتمع التقليدي معًا، وأيضًا من كل ما يحتجز التطور الذاتي التلقائي للشعوب، مثل حل الصراعات بعيدًا عن العنف، في مرحلة ما زالت تسيطر عليها تناقضات معقدة من ضمنها، وجود نظام تسلطي، تصدعت سلطة دولته، لكنه على الرغم من ذلك ما زال يشعر أنه خرج منتصرًا على ثورة الشعب ضده، وبات قادرًا بشكل منفرد على إعادة إنتاج نظامه التسلطي من جديد، إلى جانب صعوبة بناء مجتمع مدني في ظل قيم مجتمع أهلي وأخلاقه، يحتجز تشكله بإرادة أفراده الحرة، ويعرقل مسار تشكل كتلة تاريخية تمضي بعزم إلى الحداثة. لذلك شهدنا حالة تعارض في استراتيجيات العمل المدني ظهرت في تعريف الأمم المتحدة الذي ينسجم إلى درجة كبيرة مع متطلبات قوى العولمة ومفهومها الخاص للمجتمع المدني، بعد أن باتت الحاكم الفعلي للعالم، يقابله التعريف الأكثر مقاربة للحالة العربية، الذي قدمه رئيس مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية الدكتور (سعدالدين إبراهيم)، حيث أعطى دورًا أساسيًّا لمنظمات المجتمع في تحديد أولويات عمل هذه المنظمات المدنية، وفي رسم معالم طريق النضال المدني المحلي الخاص بها، من دون أن يفصل بين النضال المدني والنضال السياسي [1] .

والخط المدني حتى يتحول إلى قوة ثالثة تقف دون بلوغه غايته مجموعة من العقبات، ومن بينها تحديد طبيعة العلاقة التي تربطه بالعمل السياسي ذي الطابع النخبوي، هل هي علاقة منافسة على السلطة السياسية أم تنسيق من أجل إنجاح التحول الديمقراطي؟ والنضال المدني عبر تنظيماته المتعددة، وحتى ينجح يفترض عدم استهدافه السلطة بشكل مباشر، ويبقى دوره محصورًا في ممارسة الضغط على صانع القرار السياسي، ويمكن بذلك أن يؤدي دور الوسيط بين الأطراف المتنافسة، في أثناء عملية التفاوض مع النظام السوري، ويعتمد ذلك الخط بشكل كبير على الحراك الشعبي السلمي، في ممارسة ضغطه، من أجل تعزيز فرص الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، في مواجهة القوى المتمركزة في عملها حول السلطة، داخل أطياف النخب الحزبية والسياسية المتصارعة.

مقدمة

قبل عقد من اندلاع الثورة السورية عام 2011 عرفت البلاد نوعًا من الحراك النخبوي الذي يمزج بين النضالين المدني والسياسي، في حين جرت محاولات جادة من قبل النخب السياسية اليسارية ذات التوجه العلماني، لإعادة التأسيس النظري لمفهوم المجتمع المدني بما يتلاءم مع الظروف السورية بعيدًا عن موروثها الأيديولوجي السابق، ليأخذ عملها طابع التبشير بعقلانية العمل السياسي وديمقراطيته بعيدًا عن الحلول الانقلابية، وبثقافة منفتحة مضادة للأصوليات المستحكمة بالفكر من خلال العادات والتقاليد، إلى جانب نشاط ميداني تركز في مجمله على المطالبة بالمواطنة وحقوق الإنسان السوري، والدفاع عن حرية الأفراد بمواجهة أحادية النظام الشمولية، عبّدت جميعها الطريق أمام الثورة السورية.

استراتيجية النضال المدني في ظل الثورة

تشكلت تنسيقيات الثورة السورية خلال الأشهر الأربعة الأولى، بشكل تطوعي وفق استراتيجية النضال السلمي، ولكن ما لبثت أن انقلبت بحكم التدخلات الخارجية، وسيطرة العفوية على الحراك الشعبي إلى هيمنة استراتيجية منظمات العولمة المدنية على العمل المدني السوري، تلك الاستراتيجية القائمة على إفراغ المجتمع من هيمنة السلطة المركزية، وما ينتج عنها من تفكك المجتمع، وحالة الانقسام والفوضى، والضغط على الدولة باتجاه التفكك أيضًا، ليصبح دور هذه المنظمات حينها منصبًا على إدارة أزمة التهميش والفقر في البلاد، من خلال التركيز على العمل الإغاثي، ليتم إثرها تقاسم دور الدولة المركزية بين عدة إدارات محلية منفصلة ومتنافسة. وهذا ما حدث في التجربة السورية، حيث تركزت الجهود على الحوكمة المحلية، والعمل الإغاثي، وجهود محاربة الإرهاب والتطرف الإسلامي، عن طريق جمع المعلومات عن قوى الأمر الواقع، لمصلحة منظمات الدعم والتمويل، التي كانت مهتمة هي وأجهزة استخباراتها، برصد تمدد نفوذ قوى التطرف الإسلامي على الأرض السورية.

وقد وضحت معالم تلك الاستراتيجية من خلال ابتعاد أتحاد الدول الاوروبي عن ممارسة الضغط باتجاه الحل السياسي [2] ، والاكتفاء بدعم العمل المدني الإنساني في سوريا، عبر مؤتمرات المانحين في بروكسل، حيث ذهب التمويل على مشاريع قصيرة الأجل لتخفيف العنف الناتج عن الفوضى، وزوال سلطة الدولة الخصم اللدود للعولمة، بينما جرى إهمال مشاريع التمويل طويل الأجل، المتعلقة بالتنمية والتحديث، وتم تحويلها جراء ذلك إلى منظمات متنافسة متصارعة على استقطاب تمويل الدول المانحة للمساعدات، وتنشيط خبرات الكادر باتجاه الحوكمة كشكل من أشكال إدارة الأزمة، والتأسيس لسلطة سياسية بديلة مدعومة من الخارج كمقدمة لخروج المنطقة وشعوبها من الفعل والتاريخ [3] .

مر النضال المدني خلال سنوات الحرب بعدة مستويات من العمل، انتقلت على إثرها التنظيمات المدنية من الاستقلال الكامل في قرارها، ومرحلة السلمية والتشبيك والتنسيق إلى مرحلة العمل المسلح، والانقسام والصراع البيني، والتبعية بالتدريج للقوى الإقليمية والدولية، فأضحت بذلك أداة بيد تلك الأجندات، وخرجت عن أهدافها في بناء قطب مدني مستقل.

كانت البداية مع تنسيقات الثورة بمبادرة من شباب الحراك في الداخل بشكل عفوي وبقرارهم المستقل، التي لعبت دورًا أساسيًّا في تنظيم التظاهرات السلمية داخل المدن وتوحيد شعاراتها، ودعمها بالتغطية الإعلامية، وتأمين الدعم اللوجستي للمتظاهرين، نقلت الحراك السلمي من مرحلة العفوية المطلقة إلى مرحلة التنظيم النسبي، وسدت فراغ غياب القيادة السياسية للثورة. ومع اتساع الحراك تطورت هذه التنسيقات إلى مستوى أعلى من التنظيم وتم التشبيك فيما بينها، وخلال أربعة الأشهر الأولى، تأسست ثلاثة أجسام رئيسة داخليه مستقلة، هي لجان التنسيق المحلية بقيادة رزان زيتونة ومازن درويش، والهيئة العامة لقيادة الثورة بقيادة سهير الأتاسي ونضال درويش، والمجلس الأعلى لقيادة الثورة بقيادة عماد الدين رشيد وواصل الشمالي، انضمت هذه التشكيلات لاحقًا للمجلس الوطني السوري المعارض [4] . في مرحلة لاحقة بدأت هذه التشكيلات المدنية بالخروج عن سلميتها وأخذت تعمل على دعم الكتائب المسلحة التي انشقت عن الجيش، ثم تورطت أكثر في إنشاء المجالس العسكرية وفي عمليات شراء السلاح وتمويلٍ لفصائل الجيش الحر، وذلك بما يخالف مهمات المجتمع المدني الذي ينحصر دوره بإدارة الصراعات سواء كانت مع السلطة أو داخل المجتمع المدني بأسلوب سلمي، بعيدًا عن العنف والطائفية وكل ما يتسبب بالانقسام الاجتماعي، وما يفقد مبرر وجودها.

أما في مرحلة الصراع المسلح وفي المناطق السورية الخارجة عن سيطرة النظام، فقد بدأت تبرز للوجود تنظيمات جديدة ذات طابع مدني غير حكومي، تمولها دول أجنبية بأجندات عمل معولمة، ومقرات عملها الرئيسية موجودة خارج الحدود السورية.

فرص بناء المجتمع المدني في ظل الانقسامات الراهنة؟

تحدثت دراسة أوروبية صدرت حديثًا عن البيئة المحتملة لتمكين منظمات المجتمع المدني من العمل داخل سوريا، فحصرتها في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، ممثلة بمناطق: شمال شرق سورية حيث تسيطر وحدات حماية الشعب الكردية، وشمال غرب سوريا حيث تسيطر هيئة تحرير الشام، وعلى الرغم من ذلك تجد الدراسة، فرصًا ضعيفة للعمل المدني فيها، وبيئة مقيدة لهذه الأنشطة، أما في مناطق سيطرة النظام وبحسب تقديراتها، فهي فرص شبه معدومة، حيث تميز الدراسة بين ثلاث مناطق جغرافية، الأولى : اللاذقية ودمشق، والعمل العلني فيها مستحيل، أما ريف دمشق فهو أكثر فعالية وقبولًا له من المناطق السابق ذكرها، أما المنطقة الثالثة، الأكثر ملائمة للعمل المدني المنظم فهي السويداء، حيث يتوفر لديها الاستعداد لحمل أعباء تلك المهمة  [5] . وكل ما سبق ذكره ر يسوِّغ لاستراتيجية الانخراط الاوروبية القائمة على دعم منظمات المجتمع المدني الموجودة في الشتات، بدلًا من التوجه نحو الداخل السوري [6] ، في حين يتم تجاهل سائر المناطق السورية الخاضعة لسيطرة النظام، مثل حمص وحماة ودرعا، ففيها فجوة كبيرة بين أبناء المجتمع الواحد، نتيجة التمزق الاجتماعي الذي حدث بسبب الحرب الأهلية التدميرية.

ولعل حمص تبقى المثال الأوضح لذلك الانقسام الاجتماعي الطائفي الحاصل في سورية، حيث تحدثت دراسة حديثة للمحامية جمانة قدور [7]  عن طبيعة التناقضات الراهنة داخل المجتمع الحمصي، الذي تفكك إلى ثلاثة أقسام رئيسة بفعل الحرب، الأول بين أنصار النظام وخصومه، حيث يمضي النظام في سياسات التغيير الديمغرافي بالمدينة ومن ضمنها إعادة إحياء مشروع (حلم حمص)، واتباعه سياسة منع الخدمات عن الأحياء السنية بالمدينة، وكذلك الأمر استئنافه سياسة الاعتقال، خارقًا بذلك تعهده للذين أجروا التسويات معه، إضافة لمنعه إعمار الأحياء السنية وعدم سماحه لمن يرغبون بالعودة من المهجرين إليها إلا بموافقات أمنية، وتنفيذه سياسة الاستيلاء على الأملاك الخاصة بموجب القانون رقم 10 لعام 2018. أما التناقض الثاني، فهو التناقض الطائفي بين العلويين والشيعة والسنة، ما يؤكد وجود تفارق تام بين أبناء البلد الواحد. أما التناقض الثالث، فهو ببن الروس والإيرانيين على مد النفوذ بحمص. لتستنتج الدراسة من ذلك بأنه لا نجاح لمسار العملية السياسية، إن لم يتم ربطه بمسار آخر موازٍ للعدالة الانتقالية، لمقاضاة أولئك المسؤولين عن الاعتقالات الجماعية، والقتل، والتعذيب، والاغتصاب. فالنظام بسلوكه الثأري الطائفي الجديد، يضع أسسًا وقواعد لنزاع مستقبلي أشد خطورة من السابق. من العرض السابق ذكره، نجد أن النظام السوري، بات عاجزًا عن إدارة الأزمة أو حتى إدارة ملف التعايش بين مكونات محافظة حمص، وكذلك الأمر في محافظات حماة ودرعا وغيرها من المدن المختلطة، ويأتي وجود إيران ليزيد المشهد السابق تعقيدًا، ومن هنا وضمن مهمات الانتقال الديمقراطي، فإن تنمية المجتمع المختلط طائفيًا، سيقع عبء معظمها على عاتق المجتمع المدني السوري المحلي المستقل مستقبلًا، قبل أن يكون مسؤولية الدولة.

في الحقيقة هناك تناقض رابع أغفلت ذكره الدراسة السابقة، وهو الصراع الطبقي وانعكاساته على حياة السوريين، حيث قاد تدمير المدن الحضرية السورية ليس فقط لتحطيم التعايش الثقافي بين الطوائف، بل لتحطيم نمط عيش الطبقة الوسطى داخل المدن عند كل الطوائف، وهي الطبقة التي أدت دورًا رئيسًا في دعم سلطة البعث بدايةَ استيلائه على السلطة، وبنت معه عقدًا اجتماعيًّا استمر لحين حصول انقلاب 1970، الذي أحدث عملية فرز مهمة داخلها، وعلى وقع توجهات النظام الليبرالية بالانفتاح الاقتصادي التدريجي وتخليه عن المشروع الشعبوي في التنمية المستقلة، كفت بموجبه برجوازية الدولة البيروقراطية عن لعب دورها البونابرتي السابق، وانتقلت إلى التحالف مع تجار السوق السوداء، وسماسرة القطاع الخاص شركاء الاقتصاد الحكومي في نهب المال العام وهدره، ومع شريحة تجار غرفتي تجارة مدينة دمشق وحلب، مما سمح تدريجيًا بنشوء طبقة وسطى جديدة مختلفة عن سابقتها بأصولها الحضرية، وبكونها لا تدين بالولاء لشعارات البعث الشعبوية، بل لمصلحة أفرادها بالترقي الطبقي، كونها أكثر احترافًا وتعليمًا وأقل أيديولوجية من سابقتها، ولكنها أكثر استعدادًا للانغماس بتوجهات الفساد والهدر الاقتصادي الحكومي، ذلك الفرز الطبقي الجديد الذي شجع على حدوثه، سياسية الإفقار المتزايدة التي كان ينتهجها النظام، بحق أصحاب الدخل المحدود، مقللًا بذلك من عدد المستفيدين بالترقي الطبقي بين موظفي الدولة ما عدا أولئك الذين يظهرون ولاءهم المطلق له، كما أنها في أغلبيتها بسبب إغلاق المجال السياسي في سورية، طبقة غير منظمة في تنظيمات سياسية أو مدنية تكسبها تماسكا ً وهوية طبقية، بحيث يكون لديها الاستعداد لخوض نضال مدني ضد أجهزة السلطة المهيمنة، ونظرًا لكونها طبقة مدنية مستقرة في مدنٍ فرصُ العمل لدى القطاع الخاص فيها ما زالت قليلة، كان من السهل على النظام احتواؤها اقتصاديًا، بجعله العمل لدى الدولة لفترة خمس سنوات أمرًا إلزاميًّا لشريحتي الأطباء والمهندسين، حيث انصبت جهوده على محاولات تفريغ هذه الطبقة بشرائحها المتعددة أيديولوجيًا عن طريق إفسادها، أو تحييدها لتأخذ صفة التكنوقراط، كشكل من أشكال الهيمنة الطبقية عليها، ولكن ما لبثت عملية غسل الأدمغة أن ضعف تأثيرها في سنوات الألفية الثالثة، مع تفكيك دولة الرعاية الاجتماعية، وإلغاء قرار العمل الإلزامي لدى الدولة، وتفضيل قسم منهم العمل لدى القطاع الخاص المتنامي دوره خلال تلك الفترة، ما جعلها تتحرر تدريجيًا من التبعية للقطاع الحكومي. ومن أفراد أسر هذه الطبقة، تشكلت تنسيقيات الثورة السورية عام 2011، فجاءت الحرب لتدفع بها لمصاف المهجرين والفقر والتهميش الكاملين، وتفقدها سائر مكتسباتها المادية والمعنوية، لتكون هي وحدها من لديه المؤهلات من بين سائر الطبقات الاجتماعية المتعددة، لبناء أطر تنظيمية لمجتمع مدني جديد بهوية الاختلاف على وقع التناقضات الراهنة، وتخوض النضال المدني ضده وفق رؤية وإرادة مستقلة، باسم الشعب السوري الواحد، وبعيدًا عن الاستقطابات الخارجية، ومشاعر الخوف والكراهية التي زرعها النظام بين أبناء البلد الواحد، مما أعاد بناء عرى تضامن جديدة، قبل أن يحدث التصادم والانقسام مجددًا خلال الحرب، وما سهل قيامها بهذه المهمة، رأسمالها المعرفي والثقافي، وأن لديها خبرة في الشأن العام من خلال العمل البيروقراطي لدى الدولة، ومن تداخل شرائحها مع الطبقات الأساسية المتناحرة، وكل تلك الميزات سوف تمكنها في المستقبل أيضًا من خوض حرب ناعمة ضد هيمنة أجهزة الدولة التسلطية مستثمرة الثورة التكنولوجية السريعة آليةً لإنتاج الوعي المدني الجديد الداعم للحراك الاجتماعي، في حين تخترق بنيتها الثقافية وعلاقاتها الاجتماعية سائر الاختلافات إذ لا يوجد نمط إنتاج واحد يحدد مواقعها من الصراع الطبقي الدائر داخل المجتمع المدني، أو عصبية طائفية أو دينية أو إثنية واحدة، تتحكم في ردود أفعالها، لذلك موقفها أقرب ا لأن يكون مستقلًّا عن الصراعات الاجتماعية وعن سلطة الدولة، ويمكنها إضافةً إلى ما سبق ذكره، من لعب دور الوسيط بين الطبقات وموقفها من أطراف الصراع، ويمكن أن تتغير على المدى المتوسط والطويل، مع اشتداد عملية الفرز الطبقي بداخلها.

ولكن ما يمكن استخلاصه على المستوى النظري من تنامي دور الطبقة الوسطى في تفعيل الحراك الشعبي السلمي، أنه يأتي على حساب دور المثقفين الذي أخذ مؤخرًا بالتآكل والانحسار التدريجي، بعد أن كانوا شبه طبقة لديها الثقافة والمعرفة كثروة أو رأس مال رمزي، تمارس من خلالهما السلطة، حيث يكسبها دورها في إنتاج العقائد والأيديولوجيات المكانة والقوة، في حين ما تقدمه الطبقة الوسطى الجديدة في ظل الثورة التكنولوجية، يحقق ربط المعلومات بين أوسع شرائح المجتمع، دون تضمينها أيديولوجيا وتكون مضطرة إلى تقديم التحليل النظري، أو النقد والتفسير لثقافة خبرية بشكل يومي. وهذا لا ينفي قابلية التنظيمات المدنية المنبثقة عنها، لحمل أجندات الصراع المتضادة، إذا ما فقدت استقلالها الذاتي إزاء سلطة الدولة أو المنظمات الدولية أو حيادها المؤقت الهش عن الصراع الطبقي في المجتمع، وانزلقت باتجاه تأجيج مشاعر الخوف والكراهية، والصراع وعدم الاستقرار، بعيدًا عن التسامح ونبذ العصبيات.

بحثًا عن استراتيجية بديلة للنضال المدني

النضال المدني الذي يحتاجه المجتمع السوري في هذه المرحلة، هو الذي يعيد للبلاد الوحدة الاقتصادية والاجتماعية والاستقرار بنزع عوامل الأزمة بشكل تدريجي وسلمي، وبما يساهم في بناء كتلة تاريخية داعمةٍ لمشروع التغيير الديمقراطي مستقبلًا، وذلك بعد أن فرقته الحرب وصراع النخب السياسية على السلطة، حيث يمكن للمجتمع المدني من لعب دور القوة الثالثة، التي توازن بين أطراف الصراع من أجل تضافر الجهود خلال الفترة الانتقالية، والإسهام في خوض معركة الدستور الجديد للبلاد ليكون أساس تعاقد جديد يجمع الناس من حوله. وهذا يعيدنا للحديث عن ضرورة مأسسة هذه المنظمات على أسس وطنية ديمقراطية مستقلة القرار، حتى تكون مؤهلة لحمل خطاب ثقافي عابر للطوائف والإثنيات والطبقات، يستطيع التعبئة وتحشيد الجمهور وراءه، وتقديم رؤية للمتطوعين والمتبرعين والمشاركين في المشاريع التنموية، تستقطب القطاع الخاص المحلي، وترسم مسارًا تكامليًّا مع الدولة، وفي إرساء علاقات اجتماعية جديدة بين الطبقات والطوائف والإثنيات، فتؤدي المنظمات المدنية دورًا في إنتاجها وإدارة الصراع بين أطرافها بشكل سلمي، عبر قنوات تفاوض وديناميات داخلية مفتوحة مستقلة عن تدخلات السلطة. وحتى يكون النضال المدني ديمقراطيًّا شعبيًّا بشكل جوهري، يفترض قيامه على العمل التطوعي غير المأجور بما يؤمن استقلاله عن أي سلطة تسعى لاستتباعه سواء كانت سلطة الدولة أم عائدة لدول خارج الحدود السورية، وتطوير خبرتها في إدارة الصراع مع السلطة السياسية أو صراع الطبقات المتنافسة على السلطة والثروة سلميًا وبشكل تراكمي.

أبرز معالم هذه الاستراتيجية البديلة للمجتمع المدني الجديد

1- استقلالية القرار والتحرر من التبعية الراهنة بالابتعاد عن التمويل الدولي، وبشكل مخالف تمامًا لما يجري لدى منظمات الشتات السوري.

2- التركيز على العمل داخل مناطق سيطرة النظام، وقوى الأمر الواقع معًا، بما يؤكد الهوية الجديد للعمل المدني، ويكسبه رصيدًا اجتماعيًّا.

3- التركيز على مشاريع التنمية ذات التمويل الذاتي طويل الأجل، بما يتيح خلق نمط إنتاج تعاوني بين الفاعلين الاجتماعيين الجدد، ويعزز ثقافة الاعتماد على الذات وسد فراغ الثغرات التي تم التخلي عنها من قبل الدولة التسلطية الراهنة، ما يزيد من قدرة تحمل المجتمع على الصمود في وجه متغيرات مفاجئة، كما يتيح له ممارسة الديمقراطية من القاعدة من دون أن يتم فرضها عليه من الأعلى.

4- جوهر المجتمع المدني السوري الغائب حاليًا عن الفعل، هو العمل التطوعي غير المأجور.

5- إدارة الصراعات الاجتماعية والسياسية مع السلطة وبين الطبقات المتنافسة على السلطة والثروة بشكل سلمي، عبر قنوات تفاوض ومنصات حوار مفتوحة بين المناطق والمكونات بشكل دائم.

6- دعم المجتمع المحلي بقيادة مشاريع داخل سورية بما يعزز علاقات التنسيق والتشبيك في العمل المدني بين المناطق، بدلًا من التنافس بين المجموعات المدنية المختلفة.

7- تعتبر مهمة مشاركة المجتمع المدني المسنودة بحراك مدني في الداخل السوري، إحدى أدوات الضغط الجماهيرية في مرحلة التفاوض على الدستور المؤقت للمرحلة الانتقالية، والدستور الدائم خلال المرحلة الانتقالية.

8- بناء مفهوم الحوكمة داخل مناطق الحكم المحلي الموسع، على أساس ديناميات للمجتمع المدني، تقوم على الاعتراف بشرعية التعددية الثقافية والتعايش بين المكونات داخل المناطق المختلطة، بدلًا من العمل على بناء سلطات محلية بديلة لسلطة الدولة، بحيث يكون هناك نوع من التكامل بين مشاريع التنمية المدنية داخل المناطق السورية، والمشاريع التي ترعاها الدولة، بجدلٍ يقوم على الترابط لا على الانقسام. فإضعاف دور الدولة أو السعي إلى تغيبها عن الفعل والحضور، هو في الوقت نفسه إضعاف للمجتمع المدني، ويقود إلى اضمحلاله، وهذه النبوءة أطلقها ماركس الشاب سنة 1843، وقد أكدتها تجربة المنظمات المدنية غير الحكومية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، حيث فشلت هذه المنظمات في سد فراغ سلطة الدولة.

9– لعل الهدف الرئيس المطلوب إنجازه ضمن الاستراتيجية البديلة اليوم، هو استثمار عجز النظام في إدارة الأزمة الاقتصادية الخانقة، نتيجة تقطع أوصال الدورة الإنتاجية الواحدة على مستوى البلاد، بالعمل على عودة الحراك الشعبي السلمي إلى المحافظات السورية بشكل تدريجي، وهو مسار للنضال المدني السلمي، يجمع الناس في مختلف المناطق والانتماءات، وصولًا لمرحلة التشبيك وعقد مؤتمر وطني مدني شعبي لا يستثني أحدًا، مهمته الضغط باتجاه الانتقال الديمقراطي، والاعتراف بالآخر على قاعدة (لا غالب ولا مغلوب)، كمسار منفصل عن الحل السياسي الدولي، وهو لا يلغيه، ولكن لا يراهن عليه كمسار وحيد مسؤول عن الحل السياسي، بل يجب فتح مسار شعبي للحل من خلال التشبيك بين المناطق.

10- إن وجود مجتمع مدني سوري في الشتات، مستتبع للدول الداعمة بالتمويل والتخطيط، منفصل في ظروف عمله عن ظروف الشعب في الداخل السوري، يسعى بشكل لتمثيله والهيمنة عليه بشكل أحادي، هو خيار غير ديمقراطي، خصوصًا عندما يرفض الاعتراف بشرعية النضال المدني التطوعي المستقل في الداخل السوري، لذلك هو يشكل عامل كابح لتحقيق تلك الاستراتيجية، ويمكن أن يؤدي دورًا مساعدًا في إنجاح النضال المدني السوري، فيما لو تغيرت مساراته ومرتكزاته الحالية، ليصبح عاملًا داعمًا لإنجاح النضال المدني في الداخل، وليس التنافس معه.

11- عدم الفصل بين النضالين المدني والنضال السياسي، عندما يكون الأمر متعلقًا بنزع هيمنة الدولة التسلطية الراهنة عن المجتمع المدني والأهلي في سورية، فالتخارج القائم بين الجانبين يضعف الطرفين معًا، في حين اختراق حاجز الهيمنة، يستوجب منهما التنسيق والتكامل، وبشكل خاص في العمل ضمن إطار النقابات المهنية في مناطق سيطرة النظام.

النضال المدني في الحواضن الاجتماعية للنظام (الساحل السوري)؟

لا بد من الاعتراف بداية بوجود استعصاء لنهوض النضال المدني في مناطق مثل الساحل السوري ومحافظة دمشق، حيث هيمنة النظام ما زالت مستمرة ولم تتغير خلال سنوات الثورة السورية، ويتصرف فيها بتحكم شديد المركزية.

استطاع النظام السوري خلال العقود الماضية، فرض هيمنته على الطائفة من خلال سياسة الإفقار شديد للريف العلوي، وتقديم نفسه كمنقذ وحيد لها بفتح باب التطوع أمامها في الجيش وأجهزة الأمن، وساهم بإنجاح تلك الاستراتيجية، إغلاقُه المجال السياسي بوجهها، ومنعه تشكيل نخب سياسية معارضة له أو حتى مستقله عن هيمنته، حيث شن حربًا شعواء على النخب والمرجعيات بكافة أشكالها، وكان الاستثناء الوحيد الذي استطاع كسر تلك القاعدة في محاولة جادة لإفشال ذلك المخطط ونجح في ذلك إلى حين، هو حزب العمل الشيوعي الذي تمكن من استقطاب النخب العلوية المعارضة لنهج النظام على مدار عدة عقود من الزمن، على أساس برنامج يتناقض طبقيًا مع نهج الإفساد والانعزال الطائفي، وذلك بعد أن استعادت الحلقات الماركسية برنامج ٢٣ شباط، وقامت بتحديثه وتطويره في ضوء الظروف السورية. وقد تم مواجهة تلك المحاولة من قبله بقمع شديد قل نظيره، لأن مشروع الحزب نجح في استقطاب أبناء الساحل السوري، عندما عبر عن تطلعاتهم العلمانية على قاعدة العدالة الاجتماعية بدلًا من العصبية الطائفية، وفي تأطير عمل النخب السياسية، محدثًا فرزًا واضحًا داخل مجتمع الساحل على أساس البرنامج السياسي وليس الانتماء العشائري، وقد عبر عن تلك التناقضات بين النخب العلوية الرافضة ا للخطوط الحمر عند النظام، خلال عقد سبعينيات القرن الماضي، بوعلي ياسين في كتابه (الثالوث المحرم: الدين، والجنس والصراع الطبقي).

ومع بدايات تظاهرات الثورة السورية عام 2011 وبحسب دراسة للباحث (د. راتب شعبو)، فقد امتزجت توجهات الرأي العام العلوي، (بالخوف من التغيير مع التوق إليه، وقد تغلب الشعور الأول) بفعل الانزياح في مسارها باتجاه الأسلمة [8] ، وقد توزعت توجهات الرأي العام العلوي من الثورة السورية بحسب الدراسة المذكورة بين أربعة مواقف، هي موقف فئة المستفيدين من النظام والداعمين له. وموقف الفئة المعارضة التي انقسم موقفها بدوره إلى شطرين، الأول يمثل رأي الأقلية وقد دعم شعار إسقاط النظام. والشطر الثاني يمثل رأي الأكثرية، حيث وجدت بالنظام الشر الأهون بمواجهة الفاشية الإسلامية، لذلك اكتفت بالمطالبة بإصلاح النظام. والرابع، هو موقف فئة غالبية العلويين من الفقراء الذين يخشون التغيير على الرغم من بؤسهم، خوفًا من الاضطهاد الإسلامي [9] ، وهذه الكتلة السلبية الوازنة، هي غير مستفيدة من سلطة الدولة، لذلك هيمنة النظام السوري عليها كان ضعيفًا، بسبب تضررها من سياسة نقص الخدمات والرعاية الاجتماعية، وفقد الأبناء في حروب النظام الأهلية التدميرية.

ولكن مأساة الحرب الأخيرة بدأت بقلب كافة المعطيات السابقة التي أنتجها نهج الإفقار المتزايد والإفساد الطائفي من قبل النظام، نتيجة حجم الخسائر الكبير بين أبناء الطائفة الفقراء من المجندين والمتطوعين في أجهزة الأمن والجيش خلال سنوات الحرب، حيث زج بهم على خطوط المواجهة الأولى، ما وضع أسر الساحل السوري في تناقض مع سياسته، ودفع إلى بلورة موقف عام، أخذ يتصاعد بين صفوف فقراء العلويين، ويسوغ لأول مرة إحجام الشباب العلوي عن المشاركة في الصراع [10] ، في حين نجد النظام قد نزع عنه الرداء الطائفي، حين أبعد الحرس القديم للأسد الأب عن السلطة، وطور النظام باتجاه توريث السلطة، وخص العائلة وأبناء العشيرة المقربين منه، بمغانم السلطة، تاركًا تحمل عبء مخاطرها للطائفة، بدلًا من تقديم حلول مادية لتحسين الأوضاع المعيشية للأسر التي فقدت أبناءها بالحرب.

وقد كشف محضر اجتماعٍ لنخبٍ علوية في الشتات، مع البعثة الدبلوماسية الروسية الدائمة في الأمم المتحدة في جنيف بتاريخ 15 حزيران/ يونيو 2020، مقاربة النخب العلوية المغيبة عن الحضور للأزمة، نستخلص منه بعض الحلول المقترحة من قبل الحاضنة الاجتماعية للنظام، لفك ارتباطها به، وبحسب رأي هؤلاء، فإن الأمر يحتاج إلى الحوار والتوافق بين سائر المناطق السورية، للتوصل لعقد اجتماعي جديد، بتوجهات علمانية وخارج آليات الحل الدولي، يأخذ بالحسبان مخاوف كل من تركيا وإسرائيل في الحسبان، ويؤسس لإدارة محلية بصلاحيات موسعة للمناطق، قد تصل للحل الاتحادي بعيدًا عن التخوين بتهمة الانفصال، وبالمقابل هناك حالة من الرفض لربط مصير الطائفة بمصير النظام السوري ؛ وكما نقدر دافع هذا الموقف الإيجابي المشروط، هو الخوف من الإسلام السياسي السني، الذي بات يحتجز تشكل حراك شعبي ضاغط على النظام، للمطالبة بالعدالة الاجتماعية، والتعجيل في إعلان وقف الحرب، وبدء التفاوض على الانتقال الديمقراطي، ومسار الحوار بين المكونات حول عقد سوري جديد، يمكن البدء فيه على صعيد النخب أو الحراك الشعبي المدني كجزء من النضال المدني، وبشكل منفصل عن مسار التفاوض السياسي مع النظام.

النضال المدني في بيئة اجتماعية متغيرة تقطنها الأقليات (السويداء)

حقق النضال المدني خلال سنوات الحرب في السويداء، عدة قفزات إلى الأمام في مسار متصاعد، حيث شكلت المواجهة الأولى مع الجيش إبان أحداث البدو في تشرين الأول/ أكتوبر 2000 شرخًا عميقًا بين الجانبين، حدث في إثرها هبة شعبية على أدوات السلطة بالمحافظة، كسرت حاجز هيمنة الدولة التسلطية على المجتمع بأجهزتها القمعية والتي استمرت لعدة عقود، ،سقط على يد جيش النظام قرابة 300 ضحية بين جريح وشهيد، وكانت الخطوة الثانية مع تجربة المنتديات والاعتصامات في زمن ربيع دمشق حيث أعلن العمل السياسي المعارض عن نفسه وبدأ ينشط باتجاه عقد اللقاءات على نطاق واسع وقد تعززت هذه دون انقطاع داخل منازل المعارضة السياسية، وتجذرت بصورة أكثر فعالية مع إعلان دمشق، وإعلان بيروت دمشق، التي حاول النظام قمعها من خلال فصل العديد من النشطاء المدنيين من العمل الوظيفي حيث بلغ عدد من فصلوا آنذاك قرابة 11 مدرسًا وموظفًا نذكر من بين هؤلاء (أ. مروان حمزة، أ. غسان جنود، أ. فضل الله حجاز، أ. هيثم صعب وآخرون)، واعتقال بعضهم نذكر منهم (أ. غالب عامر، أ. جبر الشوفي)، ومع اندلاع تظاهرات الثورة السورية عام 2011، تأسست تنسيقية لتنظيم شؤون التظاهر، تحت مسمى ( لجنة العمل الوطني)، تحولت بعد أشهر إلى تجمع مدني سياسي يضم الأحزاب السياسية إلى جانب النقابات المهنية، التي انشقت عن التنظيمات الخاضعة لسيطرة النظام تحت مسمى (تجمع القوى الوطنية في محافظة السويداء )، وهو ما زال مستمرًا في نشاطه حتى تاريخه. وكان من أبرز إنجازاته، المحافظة على سلمية العمل السياسي، على الرغم من حملات الاعتقال الجماعية التي طالت طيفًا واسعًا من المتظاهرين، إذ تمكنت هذه القوى من ممارسة الضغط للإفراج عن حوالي 550 معتقلًا، تكفل المحامون الأحرار بالدفاع عنهم أمام المحاكم المتخصصة بدون مقابل وبشكل تطوعي، وتوثيق عشرات حالات الوفاة لأبناء المحافظة تحت التعذيب والتي بلغت قرابة 25 شهيدًا وبالاغتيال حيث بلغ عدد هؤلاء قرابة 47 شهيدًا. والإنجاز المهم الثاني لتجمعٍ تمثّلَ بالنأي بنفسه عن الانقسامات السياسية الحاصلة بين صفوف المعارضة السورية بين الداخل والخارج، على الرغم من الجمع في عضويته بين الأحزاب المنتمية لهيئة التنسيق الوطنية، وتلك المنضوية في المجلس الوطني، أمثال حزب الشعب الديمقراطي السوري وإعلان دمشق. ولعل المكون المدني الأهم الذي ظهر مع الثورة، ولعب دورًا رائدًا في تثبيت قيم السلم الأهلي، ووأد الفتنة الطائفية وإفشال محاولات الإيقاع بين الجارين مجتمعي درعا والسويداء، وبين المكون البدوي داخل المحافظة، هي (الهيئة الاجتماعية للعمل الوطني في السويداء)، التي مأسست نفسها بانتخابات دورية وفق لائحة تنظيمية معلن عنها، ورأسها فخريًا قامة وطنية تقليدية، تحظى باحترام وقبول شعبي، هو (أبو معين جمال هنيدي )، أمّن وجودُه للهيئة غطاء مهما ً من المجتمع الأهلي لحماية أنشطتها من قمع النظام ونجا بأعجوبة من محاولة اغتيال فاشلة. ولعل الحدث الأبرز الذي تحقق خلال الحرب على صعيد السلم الأهلي تمثل في تقديم ملجأ آمن للمهجرين من كافة المحافظات السورية، وبشكل خاص أبناء محافظة درعا، حيث وصل عدد هؤلاء قرابة 300,000 ألف نسمة من نساء وأطفال وأصحاب مهن حرة. أي بقدر العدد الفعلي لسكان المحافظة. إذ سمحت هذه الهجرة الموقَّتة، بخلق بيئة اجتماعية مختلطة بين مختلف المكونات السورية، وهذا يحدث لأول مرة في تاريخ المحافظة.

ولعل التطور الأبرز الذي طرأ على المجتمع الاهلي خلال الحرب، انقسام مشيخة العقل الموحدين الدروز على نفسها، وهي المؤسسة الدينية التي تم استتباعها والسيطرة عليها من قبل النظام طوال عقود، فكان موقفها يتراوح بين الحيادية الخاصة والولاء، إلى أن ظهرت إرهاصات الحرب الأهلية عام 2012، عندها برزت على الساحة (حركة رجال الكرامة) بأفق ديني محلي، لمواجهة تهديدات عمليات الخطف التي قامت بها جبهة النصرة لأبناء المحافظة ومحاولاتها الفاشلة في السيطرة على مطاري، الثعلة وخلخلة، والتي عززها الفراغ الحاصل نتيجة انحسار سلطة الدولة المركزية و وتراخيها في تقديم الخدمات للمواطنين، وعدم ضبطها الفلتان الأمني، وتفشي الغلاء في الأسواق وتفشي حالة الفقر وتلاشي الطبقة الوسطى، حيث تدرجت مواقفها، لتصل لمقاربة الحالة الوطنية نتيجة الأعمال العسكرية للنظام ضد أبناء محافظة درعا، وقيامه بتجنيد الشبان العاطلين عن العمل في ميليشيات رديفة للجيش لتشاركه في أعماله القتالية، والمبادرة إلى رفض توريط أبناء الجبل بذلك ،أو إرسال أبناء المحافظة إلى الجبهات لقتال أبناء الوطن الواحد، مما استدعى إلقاء الجرم الديني على زعيم الحركة (الشيخ أبو فهد وحيد البلعوس) وهدر دمه بتحريض من السلطة، انتهى باغتياله مع كوكبة كبيرة من قادة الحركة وبتفجير المشفى الوطني في 4 أيلول عام 2015، نشب إثرها حالة هيجان واضطراب داخلي ما لبثت أن توقفت، وعلى الرغم من ذلك لم تنجح سياسة العنف في تطويع موقف الحركة الرافض للانخراط في الحرب التدميرية، ما اضطر النظام الأمني لتطبيق سياسة الاحتواء بدلًا من العنف عن طريق اختراق الحركة بقيادة أقل تصلبا ً واستفزازًا للنظام، تقبل بالتنسيق الأمني مع الأجهزة الأمنية داخل المحافظة، حيث تم عزل التيار المعارض الرافض التنسيق معها من قيادة الحركة. وفشلت كل جهود السلطة في إدارة الفراغ الحاصل بشكل مباشر، على الرغم من الانقسام الاجتماعي الحاصل في المشهد السياسي داخل المحافظة، بين ثلاثة تيارات رئيسة، الأول تيار موالٍ، مكون من مشايخ المؤسسة الدينية الثلاثية المنقسمة بدورها على نفسها بين القبول بالتبعية المطلقة والنسبية للسلطة الأمنية إلى جانب ميليشيات محلية تسندها من تصنيع الأجهزة ومدارة من قبلها، كالدفاع الوطني، وقوات (الشيخ نزيه جربوع)، والحزب السوري الاجتماعي، وحزب الله السوري. وتيار وطني مدني وسياسي معارض يدير صراعه مع السلطة سلميًا. والثالث تيار رمادي محايد إيجابيًا، وهو التيار الأكبر من أبناء الطبقة الوسطى، فضل تهجير أبنائه إلى خارج البلاد، حيث بلغ عدد هؤلاء بحسب بعض التقديرات قرابة المئة ألف شاب وشابة، رفضوا الخدمة العسكرية والاحتياطية في الجيش، أو القبول بسياسية الحرب الأهلية التدميرية للنظام. كما شهدت دوائر الدولة نزيفًا حادًّا بعدد الموظفين الذين تم تسريح قسم كبير منهم، بسبب رفضهم الالتحاق بالخدمة الاحتياطية، وبشكل خاص داخل قطاعي الصحة والتعليم، ما انعكس سلبًا على الأوضاع المعيشية لأبناء الأسر الفقيرة والمتوسطة، وأدى إلى مغادرتهم مدارس التعليم الرسمي المجاني، والذهاب نحو التعليم الخاص على المستويات كافة.

ولعل التغيير السياسي النوعي، هي الانشقاقات السياسية التي حصلت داخل الجبهة الوطنية التقدمية للنظام في عام 2011، حيث غادرها معظم كوادر أحزابها، معلنة انحيازها لجانب ثورة الشعب السوري الواحد، وقد تشكل في المحافظة تجمع سياسي لكوادر الأحزاب الشيوعية، وتجمع للبعثيين الأحرار الذين انشقوا عن حزب السلطة السياسية، وأصدروا بيانات سياسية تدين عنف الأجهزة الأمنية والجيش بحق المتظاهرين، وداعمة لثورة الشعب السوري السلمية.

وكان يمكن لعملية الفرز لمصلحة خط النضال المدني أن تتطور أكثر فيما لو حافظت الثورة على سلميتها، حيث أدت العسكرة والأسلمة إلى توقف التظاهرات الداعمة لثوار درعا وسائر المدن السورية، وقد بقيت هذه التظاهرات متوقفة إلى أن جرى استئنافها بشكل متقطع ومتصاعد بدءًا من العام 2020 على شكل تظاهرات واعتصامات داخل وخارج المدينة وخارجها، وصلت لدرجة قطع طريق دمشق السويداء، اعتراضًا على سياسات الغلاء ورفع أسعار المواد الأساسية والعزل والحصار. وبعد انتهاء النظام من عملياته القتالية في درعا والتسويات هناك مع بدء تنفيذ اتفاقيات خفض التصعيد، حاول الارتداد على المجتمع المحلي وإعادة أحكام قبضته الأمنية عليه مجددًا، لكنه فشل في تغيير موقفه الرافض للتجنيد الإجباري أو المشاركة بالقتال على الجبهات خارج حدود المحافظة، وكان من بين محاولات الضغط تلك تنظيمه لغزو داعش عام 2017 الذي سقط إثره قرابة 273 شهيدة وشهيدًا، وإطلاقه يد عصابات المخدرات التابعة لحزب الله، ورعايته الخطف المنظم، والقتل والتعذيب والتصفية عبر شبكة إجرامية موزعة في المناطق، بقصد تمزيق وحدة أنسجة المجتمع، إلى أن انتفض المجتمع المحلي في الشهر السابع من عام 2022 مجددًا بوجه عصابات الأشقياء، وقام بتفكيك أهم تنظيم إرهابي بناه الأمن خلال سنوات بساعات، والذي كان يقوده المجرم ( راجي فلحوط)، المسؤول عن شبكة الخطف، وإنتاج المخدرات وتوزيعها في المنطقة الجنوبية، ليخلق ذلك الهجوم المفاجئ، توازنًا هشًّا بين المجتمع المحلي بقواه الأهلية والمدنية وبين السلطة الأمنية العميقة الكامنة في العلاقات العامة وميليشياتها التابعة، وفي مرحلة تالية تابع المجتمع المحلي هجومه على موقع الميليشيات، موجها ضربة جديدة لتنظيم إجرامي آخر يقوده المجرم (سليم حميد)، وبعدها لتنظيم (رامي مزهر)، وأخيرًا جاء تنظيم الاعتصام السلمي والصامت، في ساحة الكرامة في مطلع عام 2023 والذي استمر لمدة ثلاثة اشهر وأعقبه الهجوم على مبنى المحافظة بعد التضخم الاقتصادي المتزايد، الذي كان يضغط على معظم شرائح المجتمع، وبشكل خاص أبناء الطبقة الوسطى من ذوي الدخل المحدود، ليعبر عن بروز قوة مدنية جديدة، أعادت التوازن بين مجتمع ضربته الفوضى وبات مهددًا بالانفجار وبين السلطة الأمنية، ما أسقط ذلك المخطط الرهيب قبل أن يتوقف ذلك الحراك مؤقتًا، بعد التهديدات الأمنية المتزايدة للناشطين بالاعتقال والتصفية والفصل من الوظائف، حيث أرغمت السلطة على تنظيم اعتصامات مضادة مؤيده لها بشكل أسبوعي، ولكن جاء الحراك السلمي الأخير حاملًا رسالة واضحة للسوريين الشركاء بالوطن، بوجود أمل وإمكانية لخوض نضال مدني داخل مناطق سيطرة النظام، وأن المجتمع المحلي المكون من أقلية طائفية، قد تحرر من هيمنة الدولة التسلطية، ولديه القدرة على التوسع والاستقطاب، مسنودًا بخبرة متراكمة تؤهله لخوض حرب مواقع جديدة ضد سلطة أمر الواقع، وإفشال سياسة التركيع والحصار ا والإفقار الجارية ضده، والتوسع أكثر باتجاه الاعتماد على الذات في تنظيم شؤونه الأمنية والاجتماعية الداخلية بشكل جماعي تلافيًا لفوضى مفتعلة، والتعبير عن رأيه المستقل، فيما يدبر ضده، سواء جاء من جهة الداخل أو الخارج، وقد ساهم في تدعيم صمود المجتمع في مواجهة تحديات تلك الظروف الاجتماعية والاقتصادية الصعبة، مبادرةُ أبناء الجبل في دول الاغتراب، لدعم ذويهم في الداخل اقتصاديًا وماديًا، بحيث بات حراك السويداء، التعبير الأوضح لمجتمع متحرر من هيمنة الدولة التسلطية، ونقطة بداية لتشكل مجتمع مدني جديد بهوية الاختلاف بقواه الذاتية.

خاتمة

بينت الدراسة فشل استراتيجية التنظيمات المدنية غير الحكومية المهيمن عليها من جانب أجندات قوى العولمة في سورية، لذلك كان من الضروري البحث عن استراتيجية بديلة للنضال المدني، تأخذ بعين الاعتبار جوانب الضعف في التجارب السابقة. وقد قدمت الدراسة معالم لهذه الاستراتيجية البديلة.

كما أظهرت إمكانية النضال المدني في بعض المناطق بعكس ما تروجه المنظمات المدنية في الشتات، مع الاعتراف باحتجازه في مناطق سورية أخرى، لأسباب متعددة جرى الحديث عنها.

إن مشروعية بناء الخط الثالث على قاعدة النضال المدني في الداخل السوري كخط بديل، لخط المعارضات السورية المراهنة على الحل السياسي برعاية دولية، في تحقيق الانتقال السياسي بتقاسم مغانم السلطة مع نخب النظام، وبديل بالوقت نفسه للنهج الاستبدادي للنظام، يتمثل بانسداد أفق الحل السياسي التفاوضي للأزمة السورية، ومن تفكك الأطر السياسية للمعارضة بعد أن فقدت استقلالية قرارها، وباتت تستمد شرعيتها في تمثيل الشعب السوري من الإرادات الدولية والدول المتدخلة بالأزمة، بدلًا من الشعب نفسه.

لذلك بات النضال المدني خيارًا استراتيجيًّا لاستنهاض حراك شعبي سلمي بشكل تدريجي وبنضال متراكم، بعيدًا عن آلية التحالفات السياسية النخبوية، التي هدفها الصراع على السلطة، ما يعيد للسوريين فرصة الإمساك مجددًا بمصيرهم.

 

المراجع

1 – المجتمع المدني ومستقبل التحول الديمقراطي في الوطن العربي، سعد الدين إبراهيم، تقديم لكتاب الموجة الثالثة، مركز ابن خلدون لدراسات الإنمائية القاهرة، 1991، ص 10.

2 – استراتيجيات للانخراط الأوروبي مع منظمات المجتمع المدني السوري في الشتات، ص 10.

3 – المرجع السابق.

4 – كيف خسر المجتمع المدني السوري استقلاليته في حرب الأجندات المتصارعة، أسعد العشي، 2020، مركز كارنيغي.

5 – استراتيجيات للانخراط الأوروبي مع منظمات المجتمع المدني السوري في الشتات، إروبن فان فين، بباتريس نون، مؤسسة فريدريش إيبرت، أيلول/ سبتمبر 2021، ص6.

6 – المرجع السابق.

7 – حمص: انقسامات تعكس وتجسد الصورة الكلية للنزاع السوري العالق، جمانة قدور، مركز كارنيغي للشرق الأوسط.

8 – العلويون والثورة السورية، راتب شعبو، مركز دراسات الجمهورية الديمقراطية.

9 – المرجع السابق.

10 – المرجع السابق.

مشاركة: