المجتمع المدني الاضطراري محاولة في بارادايم جديد لعلاقة المدني بالسياسي

مشروعيّة السؤال وصعوبات البحث

ينتقل المجتمع السوري من حالة استثنائية إلى التي تليها، حتّى كاد هذا المجتمع ينسى طرق الحياة في الأوضاع العاديّة. ولعلّ العقد الأخير هو الأكثر استثنائيّة سواء في المناطق التي يسيطر عليها النظام، أم شرقيّ الفرات أم غربيّه.

هذه الحالة الاستثنائية في شكلها الأخير تستفزّ العقل التحليلي بشكل خاص، ليس بسبب المفاجآت التي يجب انتظارها في حالات عدم الاستقرار كالحالة السورية فحسب، وإنما لصعوبة فهم آليّات استمرار المجتمع بالحياة “كمجتمع وظيفي” في ظلّ الأزمات التي يعيشها. فالحياة في سورية الآن هي تحدّ حقيقي لحدود التصوّر. إحدى السيّدات كتبت أنّ شراء الفرّوج يكلّفها راتب شهر كامل. المنظومة الاجتماعية يجب نظريًا على الأقل أن تكون ممزّقة تمامًا. على الرغم من ذلك فقد استطاع المجتمع أن يتغلّب على كارثة طبيعية هائلة كالزلزال بشكل أو بآخر. سألت الكثيرين ممّن عايشوا تلك الكارثة هناك فأجمعوا على هذه الملاحظة الواقعية: لقد كان هناك تضامن اجتماعي هائل لا يتوقّف عند حدود العائلة. ليس فقط الكنائس والمساجد قدّمت ما عندها وما يصلها من منظّمات أخرى كمساعدات عينيّة أو مالية، أو كمأوى. ولكن هناك صيدليّات تتبرّع بالدواء ولجان تُشكّل بهدف تقديم خبراتها أو قوّة عملها ببساطة من أجل مساعدة المتضرّرين أو لتقويم وضع بيوتهم. ونقرأ عن إعلانات في الفيس بوك من نوع: عندي مجال لإيواء أسرة، أرجو الاتصال لتأمين ذلك. وقرأنا في الصحافة عن مساهمة نقابة المهندسين السوريّين الفنّية والمالية (من مصدر صحفي معارض هو السيريانيوز) … إلخ. وبخصوص هذه المساهمة نفسها سألت مساعدة مهندسة متطوّعة فحدّثتني عن استمرار دواليب البيروقراطية الاستبدادية الفاسدة في الدوران حتّى في مبادرات كهذه وأماكن أخرى في عزّ تلك الأزمة. لكنّ المحصّلة العامّة تدلّ على أنّ المجتمع مارس “وظيفيّته” المدنيّة على الرغم من كلّ شيء، أو ربّما بسبب ذلك “الكلّ شيء”.

بعض اللجان والجمعيّات التي نشطت خلال تلك الكارثة الطبيعية هي مؤسسات كانت موجودة سابقًا كنقابة المهندسين[1] التي ذكرناها آنفًا. وبعضها كان خاملًا فجعلها الزلزال تعود إلى النشاط وبعضها تمّ تأسيسه على عجل. وبعضها كان امتدادًا محلّيًا لمنظّمات إغاثة عالمية. لقد عمل المجتمع السوري في ظلّ حالة استثنائية هي أنّ الدولة مفلسة تقريبًا وقد عاشت لفترة طويلة في حالة “تنفّس اصطناعي” وهذا يعني عجزها عن الاستمرار في تقديم الكثير ممّا كانت تقدّمه من خدمات في الحالات العادية. إنّ تراجع “المجتمع السياسي” سمح إذًا للمجتمع المدني بأن يتقدّم ليحتلّ تلك الفراغات[2].

هذا هو إذًا “المجتمع المدني الاضطراري”.

هذا المجتمع المصرّ على الحياة لم يحظ بالكثير من الانتباه. لقد وضع العالم الخطّة “أ” فقط وهي إسقاط النظام بسرعة، ولم يضع الخطّة “ب“، أي ماذا إذا لم يسقط؟ وما العمل بخصوص المجتمع السوري في الداخل؟ لقد قرأت بنفسي وسمعت من الكثيرين ما يشبه قناعتهم بأنّ من بقي في سورية تحت سلطة النظام هو ببساطة موالٍ. وهل يستحقّ الموالون أيّ اعتبار إنساني؟ يكتفي هؤلاء بإرضاء ضميرهم الإنساني بالتفكير بوضع اللاجئين في المناطق غير الخاضعة لسلطة النظام. هذا الموقف الانتقائي للضمير الإنساني ليس غريبًا على العالم. الوعي انتقائي دائمًا، كما نعرف. لكنّ انطباق اهتمامات الضمير على مستلزمات الموقف السياسي (يعني المصلحة السياسية)، هو ببساطة تشوّه إنساني، يمكن عدّه أحد المظاهر المؤسفة للكارثة السورية الكبرى. قد لا نجد هذا الموقف بهذا الوضوح الفضائحي، لكنّني أكاد أجزم بوجوده، في اللاشعور على الأقل لدى الكثيرين. فإذا قارنت البحبوحة التي يعيش فيها هؤلاء “الكثيرون” يصبح الموقف المذكور سقوطًا أخلاقيًا كبيرًا. لقد كان مصير السوريّين الذين يعيشون في مناطق النظام أسوأ من مصير ركّاب طائرة مختطفة من قبل بعض القراصنة. حيث تمّ فرض الحصار على الطائرة على أمل أن يؤدّي جوع الركّاب إلى ثورتهم على القيادة الفاسدة الوالغة في دمائهم. لكنّ ما حصل هو ما كان يمكن أن يتوقّعه أقلّ الناس ذكاءً في هذا العالم، وما حصل أصلًا قبل ذلك في كلّ الحالات المشابهة. لقد ازدادت تخمة القبطان وزاد جوع الركّاب.

وليست السلطة القديمة في دمشق هي الوحيدة المشغولة بـ “حفظ البقاء”، وتكاد في الواقع الفعلي تختصر وظائفها بالوظيفة الأمنية وبطرق تمويل ذلك. نجد هذا الوضع نفسه في المنطقتين الأخريين من سورية شرق الفرات وغربه، حيث تحارب “سلطات الأمر الواقع” هناك من أجل حفظ البقاء أيضًا وبأي طريقة، على الرغم من الفوارق الكمّية المعروفة في سهولة تمويل ذلك البقاء أو صعوبته وبغضّ النظر عن مصادره.

من جهة أخرى، هذا الانشغال بحفظ البقاء لحكومة الاستبداد القديم في دمشق ولـ “سلطات الأمر الواقع” الأخرى في باقي مناطق الجغرافية السورية الحالية هو الذي يترك هامشًا واسعًا -وإن خارج مجال الممارسة السياسية المحضة- لكلّ من المجتمع الأهلي ولأشكال أخرى للحراك الاجتماعي لتتولّى مهمات الحدّ الأدنى من “التضامن الاجتماعي” التي لا بدّ منها للاستمرار بالحياة، ولمواجهة الأزمات والكوارث.

السؤال عن مشروعيّة استخدام هذا التعبير “مجتمع مدني اضطراري” مبرّر طبعًا. وهذه ليست المرّة الأولى التي تجعل فيها المجتمعات العربية السوسيولوجيا المعاصرة تراجع حساباتها لتكتشف نقصًا هنا أو هناك. في أكثر من مساهمة أكاديمية ألمانية يُذكر الحراك الاجتماعي الكبير إبّان الربيع العربي بأنّه أحد المظاهر التي فاجأت المراقب العالمي والتي تعبّر عن “مجتمع مدني نشيط” في تلك البلدان التي لم يكن الأوربّيون يتوقّعون وجود مجتمع مدني كهذا فيها. (المثال: د. إلِف أوزمن، جامعة غيسن، محاضرة بعنوان “ما هو المجتمع المدني)[3]. وقصّة هذا المجتمع المدني العجيب ليست جديدة تمامًا. فهو يلعب مع السوسيولوجيّين لعبة القط والفأر فيظهر حيث لا يتوقّعه أحد، ثم يغيب فترة طويلة ليظهر من جديد. كان أولئك العلماء قد قطعوا من وجوده الأمل في الأنظمة الشمولية الشرق-أوروبيّة لكنّه كان فقط مختبئًا ليفاجئهم في بداية الثمانينات لابسًا ثوب نقابات التضامن الحرّة. وكما سأوضّح أدناه فقد كان لتلك المفاجأة ما بعدها.

عمومًا فإنّ قيمة أي تعريف، وهنا نتحدّث عن تعريفات علم-اجتماعية تكمن في أنّه يشرح واقعة ما عندما يمكن التثبّت من وجودها. هذا الحكم يصبح ضروريًّا بشكل خاصّ في حالة المصطلحات الغامضة أصلًا، كما هو الحال مع تعبير “المجتمع المدني” سأستعرض أدناه المراحل المختلفة لذلك المفهوم وكيف تغيّر مدلوله، وأظنّ أنّه لم يستقرّ تمامًا بعد. وهذه حال كلّ ما يتعلّق بالمجتمعات، لأنّها هي نفسها غير مستقرّة. وهذا من طبيعتها على أي حال.

إذا كان كذلك فسيكون علينا طرح مجموعة من الأسئلة منها مثلًا إن كان ذلك “المجتمع المدني الاضطراري” هو مجرّد حالة اجتماعية استثنائية ستزول بزوال الأزمة الكبرى التي خلقته. أم أنّه حالة نشاط استثنائية لمجتمع مدني كان دائمًا موجودًا ولكن كانت تغلب عليه السلبيّة بسبب استفحال الاستبداد السياسي. ومنها مثلًا السؤال عن طبيعة ذلك المجتمع وإن كان العنصر الأهلي فيه طاغيًا إلى درجة الحكم بأنّنا في الواقع لا نتحدّث هنا عن مجتمع مدني وإنّما عمّا “علمتم وذقتم” من مجتمع أهلي يتمثّل بالأسرة والعشيرة والمسجد والكنيسة. وأخيرًا السؤال عن دور الخارج الحاسم في إمكانيّة استمرار “المجتمع المدني الداخلي” في الحياة والوظيفيّة، بسبب ضرورة التمويل من ناحية وإمكانية الضغط على السلطة السياسية لتخفّف من قمعها له من ناحية أخرى.

ولكن قبل محاولة الخوض في بعض ذلك، فلا بد من المرور العابر على هذه المسائل على أي حال، لا بدّ من ذكر بعض صعوبات البحث. هذا العمل يعاني من صعوبات متوقّعة تتعلّق بطبيعة الموضوع وحقل البحث وقلّة الدراسات ذات العلاقة…إلخ. لكنّ الصعوبات غير المتوقّعة أكثر إثارة للاهتمام. فمن ضمن حوالي الأربعين شخصًا الذين طرحت عليهم هذه المسألة لعلّ لديهم أي خبرات ميدانية تفيدني في بحثي تفاعل أقلّ من عشرة بطريقة تدلّ على أنّهم فهموا الإشكالية التي تكمن وراء السؤال وأدلوا بدلوهم بطريقة بنّاءة. الآخرون اكتفوا بترداد الأحكام المسبقة شديدة التشاؤم التي اعتدنا على سماعها كلّما دار الحديث عن الوضع السوري. ذلك “الكفّ” إن صحّ استخدام هذا الاصطلاح التحليلي النفسي هنا وهو إحدى آليّات الدفاع النفسية، هو بلا شكّ إحدى الصعوبات غير التقليديّة للبحث العلمي.

سبب هذا “الكفّ النفسي” ليس واضحًا من الوهلة الأولى. فهو شديد التغليف بـ “تعقيل/عقلنة” تجعل أي حديث عن ظاهرة إيجابية في المجتمع السوري، مهما كانت متواضعة، أمرًا ممنوعًا و”ارتكابه” يثير الإحساس بالخيانة. الصورة النمطية والوحيدة المقبولة نفسيًّا هي “نظام متوحّش” ومجتمع ضحيّة. وليس صعبًا صياغة المحاججة العقلانية التي تستنتج ذلك. وكلمة “عقلنة” (بالألمانية Rationalisierung أي استخدام تبرير يبدو منطقياّ لتغطية الدوافع الحقيقية لسلوك معيّن) هي بالمناسبة مجرّد ترجمة لآلية دفاع نفسية أخرى من إبداع فرويد كما هو معروف أيضًا.

الصراع على المفهوم

تنطلق الكثير من الأدبيّات السورية المعارضة من مُسلّمة أنّ الاستبداد الطويل استطاع قتل المجتمع المدني تقريبًا وأنّ علينا إحياءه. وهذه الكلمة الأخيرة هي نفسها التي اختارتها جماعة “إحياء المجتمع المدني”[4] في الفترة المعروفة باسم “ربيع دمشق”.

هيغليًّا يبدو هذا الحكم غريبًا تمامًا. إذ هل تستطيع أي سلطة على الإطلاق القضاء على المجتمع المدني؟ ولعلّ هذا السؤال يمكن طرحه بشكل آخر: هل يمكن لنا أن نتخيّل مجتمعًا يتكوّن فقط من مجموعات صغيرة منعزلة من الأسَر يتربّع فوقها جهاز الدولة الاستبدادي؟ وهذا السؤال ينطلق -كما هو واضح- من تعريف هيغل الأكثر شهرة للمجتمع المدني. الجواب نعم، عندما نبحث عن المجتمع المدني في رؤوسنا فقط، وليس في المجتمع الواقعي الملموس. لقد كان مفهوم المجتمع المدني الموجود في رؤوس “الإحيائيّين” لا ينطبق على ما هو موجود. ما كان موجودًا هو سبيكة خليطة يتداخل فيها الأهلي والمدني الخاضعان لتدخّلات الدولة الاستبدادية. وهم لا يريدون سبيكة مخلوطة، بل معدنًا صافيًا ووفق المواصفات الأوربيّة-الغربية الحالية. فجاء الحكم بأنّ المجتمع المدني غير موجود، تقريبًا. وأعترف بأنّ الأمر ليس سهلًا. فالمطلوب هنا هو الخروج عن الطريقة السائدة في التحليل. وهي طريقة مغرية كونها مدرسيّة جدًا وميكانيكيّة جدًا. لكنّ هذا بالذات ما يجعلها فاشلة جدًّا. ما زال أحد الطرق الأكثر نجاعةً للخروج من هذا المأزق هو مراعاة الظاهرة التي اشتغل على تحليلها المنظّر العربي الأكبر في مجال الاقتصاد السياسي، سمير أمين. أقصد قانون التطوّر غير المتكافئ، الذي يجعل تطوّر مجتمعات مراكز المنظومة العالمية مختلفًا عن تطوّر مجتمعات هوامشها. وهناك مجموعة كاملة من الظواهر الأخرى ذات الصلة إلى هذا الحد أو ذاك. منها مثلًا ظاهرة تداخل مراحل تطوّر تلك المجتمعات. وهي ظاهرة تنطبق على كلّ مجتمعات هذا العالم، وقد يتعايش القديم والحديث، سواء كأنماط إنتاج أو كأساليب للحياة. أخيرًا فهذه الصعوبات تظهر بوضوح أكبر عندما يكون الموضوع المدروس ملتبسًا أصلًا. إذ لا يكاد يتّفق اثنان على تعريف دقيق لمفهوم المجتمع المدني.

ولكن، لنتجاوز هنا هذه العقبة التعريفية/ النظرية. ولننتقل إلى الممارسة. وكي نرى كيف كان يفكّر “الإحيائيّون المدنيّون” في هذا الخصوص علينا أن نقرأ عن طريقة إحياء المجتمع المدني في الوثيقة الأساسية للجان الإحياء “لذلك كلّه تلحّ الحاجة اليوم إلى إحياء مؤسسات مجتمعية واجتماعية متحرّرة من هيمنة السلطة التنفيذية والأجهزة الأمنية التي منحت نفسها جميع الصلاحيات. ومتحررة من الروابط والعلاقات والبنى التقليدية، كالمذهبية والعشائرية والطائفية ومستقلة عنها، وذلك لإعادة إنتاج السياسة في المجتمع بوصفها فاعليته الحرة الواعية والهادفة، ولتحقيق التوازن الضروري بين المجتمع والدولة وتنسيق وظائفهما في سبيل تحقيق الحرية والعدالة والمساواة وتعزيز الوحدة الوطنية، من ثَمَّ توطيد هيبة الدولة وسيادتها وصيرورة القانون مرجعًا عاما وحكمًا للجميع. ففي نطاق المجتمع المدني فقط يمكن إطلاق حوار وطني شامل قوامه حرية الرأي والتعبير واحترام الرأي الآخر والاعتراف بما فيه من صواب”. إذًا المجتمع المدني مطلوب لإعادة إنتاج السياسة في المجتمع ومن أجل إطلاق حوار وطني شامل وهو أيضًا “إنتاج للسياسة”. وحول شروط ذلك الحوار المنشود: “وليس من حوار ممكن من دون حرية الرأي والتعبير، ومن دون نقابات حرة وإعلام حر وأحزاب حرة ومنظمات اجتماعية حرة ومؤسسة تشريعية تمثل الشعب حقًا وفعلًا”. وهذا كلّه إنتاج للآلات التي تعيد إنتاج السياسة في المجتمع أي بكلمات أخرى أنّها تفترض وجود الديمقراطية.

تعالوا نجرّب استبدال تعبير “المجتمع المدني” بتعبير “النظام الديمقراطي اللبرالي التعدّدي” وسنرى أنّ المضمون لن يختلف إطلاقًا، بل لعلّنا سنكون بعد ذلك الاستبدال أقرب إلى الدقّة.

ولعلّ هذا الاعتراض الأخير هو الذي جعل عزمي بشارة يطالب اليساريّين العرب بالنضال المباشر من أجل الديمقراطية بدلًا من الحديث عن مفهوم ضبابي من نوع “المجتمع المدني”. وسأتناول الموقف “العدمي” لبشارة من هذا الموضوع بشكل أوسع قليلًا أدناه.

يبدو لي أنّ لجان إحياء المجتمع المدني كانت في الواقع تنظيمًا سياسيًّا يناضل من أجل نظام ديمقراطي تعدّدي ليبرالي. ولكنّها جاءت بهذا الخليط “ديمقراطية زائد مساواة زائد عدالة” وسمّته “مجتمعًا مدنيًّا” لأسباب بعضها مفهوم وهو “التقيّة”. إذ إنّها توقّعت أنّ كلمة “مدني” سيكون وقعها أقلّ وطأةً على آذان النظام الاستبدادي من كلمة “ديمقراطي”. ومن تلك الأسباب أيضًا أنّ المدني هو تجاوز للأهلي، وهذه المطالبة بتجاوز الشكل الأهلي -أي العائلي والعشائري والطائفي والديني- للنضال الاجتماعي هي المتبقّي الوحيد من الوعي اليساري القديم لهؤلاء. أمّا السبب الأخير فهو أنّ هذا المفهوم الجديد هو “ذات النضال الجديدة” البديلة للطبقة. فالنضال الطبقي لم يعد “موضة” في بدايات القرن الحادي والعشرين.

هناك أطراف أخرى ستنافس تنظيمًا من هذا النوع على شرعية استخدام مصطلح المجتمع المدني من نوع “منظّمات المجتمع المدني اللاحكومية NGOs” أو المنظّمات الأهلية غير الحكومية وغير الربحية والتي كنّا نسمّيها عادة “الجمعيّات الخيرية” أو الجمعيّات المدنيّة التي كانت تعمل أصلًا منذ أن وجدت الدولة في مختلف المجالات ودون هدف الربح المادّي، كالنوادي الثقافية مثلًا. بل يمكن إضافة “الأوقاف الخيرية” التي قد تمارس وظيفة الرعاية أو التربية والتعليم لبعض فئات المجتمع الهامشية أو ذات الوضع الخاص لسبب أو لآخر، أو وظائف اجتماعية أخرى…الخ. يعني باختصار كلّ مكوّنات تلك “السبيكة الاجتماعية” المخلوطة التي ذكرتها أعلاه.

سيتمّ تجاوز مشكلات التعريف المذكورة أعلاه لدى “الإحيائيّين”، وهي في الواقع مشكلات وعي ذاتي أيضًا، تحت تأثير الحراك الاجتماعي الهائل خلال أحداث الربيع العربي. وكمثال على قفزة من هذا النوع ما نقرؤه لدى مجموعة أسّست عام 2017 من قبل بعض الناشطين باسم “حركة البناء الوطني” التي حدّدت لنفسها مساراتٍ ثلاثة: الهوية، والحوكمة، والعمل المدني. وهنا لا نرى فكرة إحياء من في القبور، بل العمل مع البشر الواقعيين. كما لا نرى “تبادل المواقع” بين مفهومي “ديمقراطية” و”مدنية” كما كان يفعل الإحيائيّون. فـ “الحركيّون” -أي جماعة حركة البناء الوطني- ليس للصراع السياسي على السلطة أولوية عندهم. السياسة عندهم هي عمل مدني وتثقيفي.

هيغل ينشطر من جديد بفضل غرامشي وليش فاليزا

يروي لنا عزمي بشارة في كتابه الذي خصصه لدراسة هذا المفهوم “المجتمع المدني” وتطوّره، أنّ نجاح نقابات التضامن في بولونيا الثمانينيات في المساهمة الحاسمة لقلب نظام الحكم الذي كان يوصف في الغرب بأنّه شيوعي كان هو ما جعل المنظّرين الغربيّين يبعثون مفهوم المجتمع المدني من مرقده ويحوّلونه إلى „تعبير موضة“. بالنسبة لهم كانت نقابة ليش فاليزا هي المثال الأنموذجي للمجتمع المدني وللتأثير النوعي الذي يمكن أن يخلقه. لقد انقلب نظام المجتمع البولوني رأسًا على عقب وجرّ بعده مجتمعات أوربّا الشرقية كلّها. لكنّ ما فعله عمّال نقابة سوليدارنوش “التضامن” هؤلاء بدءًا من 1980 كان يمكن وبكل بساطة تسميته “حركة النقابات الديمقراطية” مثلًا وليس بالضرورة “حركة المجتمع المدني” إلاّ إذا التزمنا من الآن فصاعدًا باعتبار الحراك النقابي هو المكوّن الأكثر أهميّة للمجتمع المدني، وهو ما لم يفعله السوسيولوجيّون البورجوازيّون الأوربيّون ولأسباب أيديولوجية محضة. فالكثيرون منهم رأوا في رفاق ليش فاليزا الصفة التي تعجبهم أكثر، أي مناضلين ضد النظام الشمولي، وليس صفة العمّال النقابيّين.

إلاّ أنّ ثمة حراكًا اجتماعيًّا مهمًا آخر حصل في أوروبّا الغربية وأمريكا قبل ذلك باثنتي عشرة سنة بدأه الطلاّب والشباب عمومًا وأدّى إلى ثورة على النظام الاجتماعي السلطوي السائد على كلّ المستويات تقريبًا بدءًا من النظام الأبوي للأسرة أو انتهاءً بنظام التعليم الجامعي. ولم تسلم السياسة الخارجية من هذه الثورة، وخاصّة الغزو الأمريكي لفييتنام. ولا يزال يسمّى أبطال هذه الثورة حتى الآن “الثمانية والستّينيّون” لأنها اندلعت عام 1968. كان بعض أساتذتي في الجامعة (برلين) من هؤلاء. هم جزء من نشطاء تلك الثورة أنشؤوا جمعيّات ومنظّمات صغيرة تمارس العمل المدني بأفق سياسة ال 68 المذكورة وتصرّ على أن تظلّ منظّمات سياسية “خارج- برلمانية “بسبب تفضيلها للديمقراطية المباشرة على الديمقراطية البرلمانية. بهذا المعنى فهي نوع من الامتداد للسينديكالية-الفوضوية التي راجت في القرنين الماضيين. وهي بذلك تمثّل الصوت الذي لا يُسمع لا في البرلمان ولا حتّى في الصحافة التي تسيطر عليها لوبيات الإعلام التمساحية. وهي ما تزال تجتذب الشباب وخاصّة الطلبة وإن كان الإعلام لا يوليها الكثير من الاهتمام. إذًا فهذه محطّة مهمة سبقت دخول “تضامن” إلى الذاكرة السوسيولوجية. هناك فروق سوسيولوجية مهمةّ بين الحركتين. ففي حين أنّ ثورة “تضامن” كانت ثورة نقابات حرّة، تميّزت ثورة الثمانية والستّين بأنّها ثورة جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية. لذلك قادها الطلبة (وحاولوا تثوير العمّال من دون الكثير من النجاح) وما نجحوا في تغيير النظام المدرسي والجامعي ليصبح أقلّ سلطوية وأكثر “إدارة ذاتية” فحسب، بل لقد حقّق مبدأ “اللاسلطوية” الذي رفعوه درجة من القبول الاجتماعي في كلّ المجالات المدنيّة إلى درجة يمكن أن يسمّيها غرامشي، لو كان حيًّا يومها، هيمنة ثقافية.

ما نسمّيه الآن بالعربية “المجتمع المدني” هو ترجمة للمصطلح الإنكليزي civil society الذي هو بدوره ترجمة تقريبية عن اللاتينية وهذه بدورها عن الإغريقية (يعني بقدر ما يمكن أن نقرّب لغويًا ما يفصل تاريخيًّا عصر الثورة الصناعية الأوربية عن أثينا وروما قبل ألفي سنة). أمّا في ألمانيا هذه الأيام فالمصطلح هو Zivilgesellschaft وهو نقل حرفي عن الإنكليزية. لكنّ هيغل كان يسمّيه هكذا Bürgerliche Gesellschaft وهو يعني المجتمع البورجوازي. عندما يستعمله “ناشطو” هذه الأيام يكون في مخيّلة من يعرف الألمانية منهم تعبيرًا آخر لم يستخدمه هيغل وهو Bürgergesellschaft ومعناه “مجتمع المواطنين” وهو هراء كامل، أو لنقل إنّه أدلجة لا معنى علميًّا لها. فالمجتمع المدني هو دائمًا جزء معيّن من المجتمع ككلّ. وذلك “المجتمع ككلّ” هو -حاليًّا على الأقلّ- مجتمع مواطنين قانونيًا. والواقع هو أنّ الألمانية هنا تعود إلى عادتها القديمة التي كانت “ترفع ضغط” ماركس، أي الغموض. فكلمة Bürger يمكن أن تعني بورجوازي أو مواطن. وقد كانتا مترادفتين تقريبًا أيّام هيغل، أي القرن الثامن عشر والربع الأوّل من القرن التاسع عشر. يفهم هذا من يعرف التاريخ الأوروبي. وقد ذكر هيغل نفسه ذلك على أي حال. وقد يبدو هنا أنّ الهروب إلى كلمة zivil التي تشير إلى المدنية هو محاولة لطمس البعد الاجتماعي-الطبقي للتعبير الأصلي. أي أنّه سلوك أيديولوجي. القارئ العربي سيتذكّر سلوكًا مشابهًا باستخدام الكلمة نفسها “مدنيّة” لدى الحديث عن “دولة مدنيّة” لطمس التعبير الأكثر جذرية، أي “علمانية”. و”الأيديولوجي” هنا هو طبعًا “الإسلاميّ السياسي” وأتباعه من المنافقين العلمانيّين. وهذا ليس في سورية فحسب.

تاريخ الكلمات هو مجرّد ظلّ لتاريخ الأشياء. فعندما انشقّ “الشيء الاجتماعي” إلى معسكر بورجوازي وآخر عمّالي في المدن الأوروبية كان لا بدّ للكمات من أن تنشقّ أيضًا. وهنا استعار الألمان الكلمة الإنكليزية zivil لتعبّر عن “المدني” وحافظوا على كلمتهم الألمانية bürgerlich لتعني “بورجوازي” فلم يعد من الغريب أن نقرأ هذا التعبير bürgerliche Zivilgesellschaft الذي يجمع الكلمتين ويعني المجتمع المدني البورجوازي. وعكسه طبعًا المجتمع المدني الاشتراكي. ومن نافل القول إنّ هذا التفريق لن يجده المرء إلاّ لدى من لم يزل يهتمّ بـ “الشيء الاشتراكي”. وقد سمعت هذا التعبير في إحدى محاضرات السيّدة سابينة كبير عند عرض أطروحتها لرسالة الدكتوراة حول موضوع “غرامشي والمجتمع المدني” والسيّدة المذكورة ألمانية وكتبت تلك الأطروحة في الأيام الأخيرة لجمهورية ألمانيا الديمقراطية.

المعنى السائد لتعبير المجتمع المدني حاليًا في الثقافة السائدة هو إيّاه في مشارق الأرض ومغاربها، أي المنظمات غير الحكومية NGOs. وقد أصبحت هذه الحروف الثلاثة ونصف من الشيوع بحيث تستطيع قولها بالعربية “ان جي أوز” بكل فخر. وهي تعطي الشعور بالشياكة وباتباع آخر موضة. وإذا كانت الكلمة هي ظلّ الشيء فهي قناعه أيضًا. والقناع قد يخفي عكسه. فالمنظّمات غير الحكومية قد تكون قناعًا إنسانيًا جميلًا للحكومات لتنفّذ سياساتها -بما فيها التجسّس-، عندما تكون هي المموّلة لتلك التنظيمات. وقد تكون قناعًا للمموّل الآخر وهو الشركات الكبرى. ونعرف أنّ البحث عن “مموّل لوجه الله” قد يطول. مسألة التمويل هذه هي ما جعل النقابات تلعب دورًا محوريًا في السياسة، لأنّها ذاتيّة التمويل، وهي ما جعل الحركات الطلّابية بذلك التأثير، لأنّها لا تحتاج إلى تمويل أصلًا. وهو الذي يجعل المنظمة غير الحكومية التي تحترم نفسها وبرنامجها تصرّ على تنويع وشفافية التمويل. وأخيرًا هو ما جعل بعض “الأن جي أوز” تنال احترام العالم كالأمنستي إنترناشيونال وبعضها سيّء السمعة يقضي بعض أعضائها حكمًا بالسجن بتهمة التجسّس.

إذًا فهناك “مجتمع مدني” و”مجتمع مدني آخر”. ولكي نفهم ذلك علينا سرد القصّة كاملة، باختصار. فقد أصابت هذا التعبير “غفوة” طويلة استمرّت حوالي القرن، حيث كاد أن يختفي من الدراسات الاجتماعية-السياسية إلى أن عاد إلى الحياة، كما رأينا أعلاه.

لنبدأ الرحلة إذن من “الجدّ الأوّل” الذي استخدم مفهوم المجتمع المدني وجعله جزءًا من مخطّطه الفلسفي، أي هيغل. وعلى الرغم من أنّه لم يكن هو من اخترع هذا التعبير، إلاّ أنّه هو من أشهره، بلا شك.

كانت ألمانيا هيغل هي بروسيا، الدولة الاستبدادية المتأثّرة بفكر التنوير. وكانت تخطو خطواتها الأولى في الحداثة متأثّرةً بمن سبقها سياسيًّا، أي فرنسا، واقتصاديًّا، أي بريطانيا. وبظهور البورجوازية والسوق من جهة ومفهوم الفرد (شكله الأنموذجي هو المواطن البورجوازي الذي أنتجته الثورة الفرنسية) والحريّات المدنية من جهة أخرى. كان المطلوب هو تميّز الدولة المركزية عن النبلاء (سواء النبالة الدنيوية أو الدينية) من جهة وتميّز علاقات السوق التعاقدية المعتمدة على “نظام الحاجات المادّية” عن العلاقة الطبيعية/العضوية التي تميّز الأسرة من جهة أخرى. وهذا ما جعل هيغل يقترح هذه الأنواع الثلاثة من الحيّز الاجتماعي: الأسرة والمجتمع المدني والدولة. بحيث يكون المجتمع المدني هو الحيّز الوسط ما بين الأسرة والدولة. وكلمة “وسط” هنا يجب فهمها بالمعنى الديالكتيكي/الحركي، كما هو الحال في كلّ مفاهيم هيغل. التي ينفي أحدها ما قبله إلى أن يتم “تجاوزهما” من خلال مفهوم ثالث، لا يلغيهما بل يكمّلهما و”يضمّهما في كلّية منطقية”. وإذ جعل هيغل الأسرة هي الأطروحة فلأنّها هي العلاقة المباشرة (الجنس والحب) الدامجة لأعضائها دون توسّط العقل. الأسرة عند هيغل هي شخص واحد. ثم جعل المجتمع المدني نفيًا لها لأنّه ينتج عن خروج أولئك الأعضاء (أعضاء الأسرة) عنها كأشخاص متميّزين مستقلّين. المجتمع المدني هو بهذا المعنى شخصيّات مستقلّة ذات حاجات تطلب تلبيتها من الآخر ولذلك فهي مضطرّة للدخول مع هذا الآخر بعلاقات عمل وتبادل عن طريق العقود والإقناع. التناقض الأساسي للمجتمع المدني بهذا المعنى هو ما بين خصوصيّة الفرد (المشخّص أو الشخصي بتعبير هيغل) وجماعية العلاقة الإنتاجية-التبادلية. وهو واحد من تناقضات وصراعات لا نهاية لها. الدولة هي التجاوز الذي يضمّهما في “كلّيته”. إنّها تريد أن تكون “العامّ” المطلق وفي الوقت نفسه الفرد المطلق الواعي لذاته (يجسّد ذلك المستبدّ العادل بالتعبير العربي). حدّد هيغل اللحظات الثلاث للمجتمع المدني كالتالي (الفقرة 188 من كتاب فلسفة الحق):

– نظام الحاجات، حيث تلبية حاجات الشخص الواحد تتم من خلال تلبية حاجات الجميع عبر العمل والتبادل.

– تحقيق (حرفيًّا: التنفيذ الواقعي) للحرّية (وهي العقلي-العامّ) وحماية الملكية من خلال تنفيذ القانون.

– تأمين المصالح الخاصّة باعتبار ما بها من عمومية (يعني للجميع) بمواجهة التعسّف. وذلك من خلال مؤسّسات الشرطة. والتغلّب على البؤس من خلال التعاونيّات.

نرى في هذه المنظومة الفكرية كلّ عناصر انشطارها. ولذلك لم يكن من الغريب انشقاق تلاميذ هيغل إلى معسكرين متعاديين، يساري مادّي ويميني مثالي. أخذ اليسار فكرة نظام الحاجات والعمل والتبادل والتناقض الطبقي وجعلوه ينتهي بالشيوعية. ورفضوا تمامًا المفهوم الهيغلي للدولة. نقْدُ ماركس التأسيسي معروفٌ ولكنّه نَسَفَ كلّ هذا المفهوم “المجتمع المدني” عمليًّا وفضّل أن يتحدّث عن طبقات. غرامشي من جهته حافظ على المفهوم وجعل المجتمع المدني يواجه الدولة بصفتها “المجتمع السياسي”، كما سنرى. وحتّى هذه الفكرة كان يمكن أن يصل إليها هيغل لو عاش أكثر وشهد ثورات نصف القرن التاسع عشر.

المجتمع المدني وِفْقَ هيغل لا يمكن وجوده بلا دولة. وجود دولة تعي دورها الموحِّد والضابط للصراع الاجتماعي هو شرط أساسي لوجود المجتمع المدني واستمراره. لكنّه يريدها استبدادية لا تنشأ عن عقد اجتماعي مثلًا، كما كان الفرنسيّون يقولون.

جرى الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية من خلال عملية طويلة، لم تجر على مستوى واحد فقط، ولا في بلد واحد فقط، وترافقت بعلاقة سببيّة معقّدة مع مجموعة من “الثورات” هي الثورة الصناعية والثورة على نظام الطبقات الثابتة القديم وانضمّ فلاّحو الأمس وأقنانه إلى بورجوازيّي اليوم ليشاركوهم لقب “مواطن”. وهكذا “امتلأ” الحيّز الاجتماعي الذي يتوسّط الأسرة من ناحية والدولة من ناحية أخرى بأفراد أحرار ذوي حقوق “طبيعية” باعتبارهم بشرًا (إعلان حقوق الإنسان). ترتّب على ذلك وجود حاجة إلى جهاز بيروقراطي ضخم تديره الحكومة ولجهاز قضائي وبوليسي مركزيّين تابعين للدولة. وهكذا بدأ “المجتمع السياسي” يأخذ شكله الذي نعرفه اليوم ويقف بمواجهة “مجتمع مدني” هو بقية المجتمع. وفي الوقت الذي تبدو فيه الدولة موحّدة فإنّ المجتمع المدني يعيش صراعًا داخليًّا إجباريًّا بين مكوّناته الطبقية والثقافية وصراعًا ضد الدولة لكبح تسلّطها وانحيازها للأغنياء. وضد الأسرة والروابط الأهلية الأخرى بقدر ما تحافظ هذه الروابط على نظامها العصبوي أو التسلّطي الأبوي أو كليهما.[5]

معادلة “الدولة هي حاصل جمع المجتمع السياسي زائدًا المجتمع المدني” نقرؤها في كرّاسات السجن لأنطونيو غرامشي[6]. لكنّ الصياغة الواردة قبل سطرين هي محاولتي الخاصّة لجعل المعادلة تناسب أوضاعنا في هذه الأيام.

يظلّ المفهوم الآخر والأكثر شهرة لدى غرامشي ضروريًّا هنا ليعيد للمعادلة السابقة بشكلها المعدّل ديناميكيّتها، أقصد مفهوم “الهيمنة الثقافية”.

لا تكفي السيطرة القمعية للسلطة السياسية ولا السيطرة الاقتصادية للطبقة السائدة لضمان خضوع الطبقات الدنيا. الهيمنة الثقافية فقط هي ما يضمن ذلك الخضوع. مكان إنتاج تلك الهيمنة وتدويرها هو المجتمع المدني، لأنّه هو المكان الذي يتم فيه التداول والتعامل عن طريق التعاقد والإقناع لا عن طريق السلطة والقمع (الدولة بالمعنى الضيّق)، ولا عن طريق التأثير العاطفي والعصبوي (المجتمع الأهلي وخاصّة الأسرة والمجموعة الدينيّة الضيّقة). ينتج أدوات الهيمنة الثقافية (فلسفة، أفلام، أغانٍ، أفكار موجّهة للحياة اليومية “العادية”…الخ) “المثقّفون الممارسون”، أي الممارسون للثقافة. لأنّ غرامشي يعتبر كلّ الناس مثقّفين. بل إنّه يقول: إنّ كلّ الناس فلاسفة. لكنّ جزءًا منهم فقط يمارس الثقافة كعمل منتج. وهذه الفكرة البسيطة والخاصّة ليست خاطرة عابرة أبدًا. إنّها أساس نظري لرأيه في طريقة كسر الهيمنة وإنتاج هيمنة مضادّة. إذ إنّ مهمّة “المثقّفين العضويّين” للطبقة العاملة ليست أن يُحرّروا طبقتهم من الهيمنة الثقافية للطبقة السائدة فقط، بل وأن يدرّبوها على ممارسة ثقافتها وإنتاج فلسفتها الخاصّة ونشرها في المجتمع المدني لتحويلها إلى ثقافة مهيمنة جديدة. يرى غرامشي أن الهيمنة الثقافية قد تسبق الهيمنة السياسية إذا أُحسن العمل عليها ونشرها. ونعرف أنّه جرّب ذلك في المدينة العمّالية الإيطالية “تورين”.

كان خروج الملايين إلى الشارع في ربيع 2011 في سورية دليلًا دامغًا على كسر الهيمنة الثقافية للنظام القديم. وبدأت تنتشر عناصر مشتّتة لثقافة جديدة أوضح ما فيها “النفي”. تعرف ما لا تريد لكنّها لا تعرف تمامًا ما تريد. كانت كافية للمرحلة الانتفاضيّة التي كانت “ضد”. ضد الديكتاتورية، ضدّ توريث الحكم، ضد القمع البوليسي، ضد المظاهر الطائفية في الجيش وقوى الأمن…الخ. أمّا الجزء الإيجابي فكان يقتصر على فكرة سياسية واحدة هي الديمقراطية. لا شيء بخصوص “ثقافة جديدة” ولا نظام اجتماعي-اقتصادي جديد. ولا شيء يشي بتحسّس المشكلة التي بدأت بالبزوغ قبل أن تنهي الثورة عامها الأول، أي مشكلة “الاستبداد الديني”.

نعرف الآن كيف فرضَتْ عسكرةُ الثورة وأسلمتها بتأثير المال الخليجي بشكل أساسي والإسلام السياسي العربي-التركي هيمنةً ثقافية جديدة بدأت “موازية” ثم لم تلبث طويلًا إلى أن أصبحت سائدة في أغلبية المجتمع السوري وهي الثقافة الدينيّة. ولقد أثبتت التجربة في البلدان العربية الأخرى أنّ السلطة السياسية تلجأ فورًا إلى تبنّي الثقافة الدينية لتزاود على الإسلام السياسي إذا شعرت بأنّه بدأ ينافسها على الهيمنة على المجتمع فكريًا. هذا ما حصل في سورية أيضًا وهو تفسير ظاهرة المدّ الديني المدعوم من قبل النظام الحاكم. ساهم في التسريع في هذا المد الديني التأثير الإيراني وكلّ ظاهرة الصحوة الإسلامية “المموّلة بتروليًّا” كما هو معروف.

لا تنجح ثقافة ما إن لم تناسب نمطًا إنتاجيًّا على مقياسها. ويبدو لي أنّ الهيمنة الثقافية كانت لا تزال ممكنة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي لأن النظام كان ما يزال قادرًا على “الإقناع”. انتهى ذلك في الثمانينيات على الأغلب. ونعرف كيف تحوّل النظام في سورية إلى منظومة اقتصادية يحكمها تحالف يجمع الكومبرادور مع مجموعة من كبار الضبّاط في الجيش والأمن تحت إشراف العائلة الحاكمة ومشاركتها. وهو نظام كان يضمن سكوت الفقراء من خلال تشغيلهم في القطاع العام وجهاز الدولة المتضخّم وسكوت الأغنياء من خلال ضمّهم إلى التحالف الاقتصادي الحاكم المذكور أعلاه. وهو ما يضمن مراقبتهم وابتزازهم في الوقت نفسه. أولئك الذين يؤهّلهم تعليمهم أو ثقافتهم أو مركزهم لأن يصبحوا “مثقّفين ممارسين” أو مؤثّرين بهذه الفئة من الناس، كالمعلّمين والمهندسين والأطبّاء، مشمولين أكثر من غيرهم في “آلة التشغيل والمراقبة” هذه. كان المجتمع السياسي طاغيًا حجمًا وتأثيرًا ولا يترك للمجتمع المدني إلاّ الحيّز الذي يجبره هذا عليه بحكم ضرورة استمرار وجود ووظيفيّة المجتمع (استمرار تلبية الحاجات وفق التعبير الهيغلي). لكنّ الصراع بينهما لم يخمد أبدًا، للسبب الأخير نفسه. وقد رأينا كيف تغيّرت ديناميكيّات هذا الصراع لصالح المجتمع المدني (فقط نسبيًّا طبعًا) في مرحلة ضعف النظام.

في الفهم الغرامشي للعلاقة ما بين المجتمعين السياسي والمدني لا يتم استبعاد المجتمع الأهلي من المدني. وهذا الموقف ناجم عن تجربته الشخصية وبرنامجه لإيجاد كتلة تشمل فلاّحي الجنوب الإيطالي. لكنّ هناك نقطة أخرى قد تكون أكثر أهميّة هنا وهي أنّ الحدود التي تفصل هذين المجتمعين ليست سورًا صينيًّا. والمثال الأوضح هنا هو تحوّل النقابات الحرفية التقليدية القديمة التي كانت تضمّ أهل مهنة معيّنة وتتبع على الأغلب في الوقت نفسه فرقة صوفية معيّنة إلى نقابات حديثة علمانية. بل إنّ تحوّلاتها في بولونيا كانت أكثر راديكالية فقد تحوّلت نقابة تضامن البولونية من نقابة تابعة عمليًّا لحزب شيوعي إلى نقابة حرّة ثم أعلنت بعد عدد من السنوات أنّها كاثوليكية. لا يغيّر من هذا الحكم كون الجزء المتحوّل لم يكن يشمل كلّ النقابة. ثم هناك مثال الوقفيّات. نظام الوقف في سورية أقرب إلى العلمنة فيما يخصّ جزأه الخدماتي. علاقة الشد والجذب، التعاون مع الصراع، الانتقال التدريجي من الصفة الأهلية المحدودة إلى الصفة المدنية المنفتحة على المجتمع. كل ذلك يشبه ما يسمّيه غرامشي “حرب المواقع” من أجل كسر الهيمنة. لكنّ هذه الحرب لا تنجح بلا خطّة للهيمنة الثقافية في الوقت نفسه.

المؤسّسة الأكثر خطورة في كلّ مؤسسات المجتمع المدني فيما يتعلّق بالهيمنة الثقافية هي اتحادات ومنظّمات الطلبة. إنّها الأكثر حيوية واستقلالًا ومقدرةً على تحدّي ابتزازات الدولة ومحاولات الرشوة من قبل رأس المال والسوق. حراك/ثورة 1968 في أوروبا وأميركا بدأه الطلبة مثلًا. تكرّر ذلك في مصر مثلًا وفي أكثر من مكان. كان نجاح الإخوان المسلمين بدعم (أو تغاضي) أجهزة أنور السادات في السيطرة على الجامعات (وكان جزءًا من حملتهم للسيطرة على المجتمع المدني، وقد نجحوا في ذلك في معظم النقابات) الإنجاز الأكبر للهيمنة الثقافية على مصر. ولأن الطلبة يتجدّدون باستمرار كالنهر فإن اليأس من إحداث تغيير ثقافي في الجامعات لا معنى له أبدًا.

بين النظرية والتطبيق

رأينا كيف جعل هيغل المجتمع المدني يكاد يتطابق مع المجتمع الإنتاجي-التبادلي الذي سمّاه “نظام الحاجات”. وجعل وجود دولة مركزية قويّة وموحِّدة شرطًا لوجوده. وفي حين استمرّ التقليد اليساري في هذا المسار، استبعد سوسيولوجيّو الثقافة السائدة منظمّات المجتمع المدني من “السوق” تمامًا وجعلوها منظّمات غير اقتصادية ولا تبتغي الربح وتبحث باستمرار عن مصادر للتمويل. فلو سألت مواطنًا عاديًا في إحدى متروبولات تلك الدول عن منظّمات المجتمع المدني فسيقول لك ما ستسمعه من أستاذ العلوم الاجتماعية نفسه تقريبًا، وهو نفسه ما ستسمعه من الدكتوره أوزمن التي ذكرتها أعلاه إذا سمعت محاضرتها (الرابط في الأسفل) واختصاره أنّ المجتمع المدني هو الحيّز ما بين كلّ من الفرد (في الأسرة) والاقتصاد (السوق) والدولة. بل إنّ الألمان وجدوا لهذه الحيّزات الثلاثة قافية مشتركة هي التاء (Staat, Markt, Privat) ربّما لسهولة الحفظ، أو كيلا يخطر ببال أحدهم تعريفات غير مناسبة تشمل النقابات والمجالس (والمدارس) العمّالية كما فعل غرامشي مثلًا.

معيار التفريق هنا هو الهدف والطريقة للتواصل والتبادل الاجتماعيّين في كلّ واحدة من هذه الحيّزات: ففي حيّز الاقتصاد (يعني السوق) يكون هدف التواصل هو إحراز الربح. وفي حيّز الدولة يحدث التواصل بهدف توصيل الأوامر والقوانين وتنفيذها والوسيلة هي القسر. وأخيرًا فالعاطفة والعصبية هي هدف التواصل والتعامل في حالة الأسرة والمجموعة الدينية أو العلاقات الشخصية المحضة الأخرى. منظّمات المجتمع المدني موجودة خارج ذلك كلّه. إذًا يجب أن تكون غير حكومية وغير شخصية أو أسرية (وعلى الأغلب ليست مؤسّسة دينيّة أيضًا) ولا تستهدف الربح المادّي. وعند السؤال عن تمويلها يكون الجواب ببساطة: إما الدولة أو الشركات. وإذا عرفنا أنّ الدول الرأسمالية الصناعية الكبرى تسير منذ نهاية الثمانينيات على الطريق النيوليبرالي، أي “بيع الدولة للرأسمال الخاصّ”، ما سيجعل الفرق بين مصدرَي التمويل المذكورين تافهًا جدًا.

هل كان غرامشي يتوقّع ذلك عندما جعل المجتمع المدني كلّه في مواجهة المجتمع السياسي كلِّه؟ لا أدري. لكنّ ما واجهه غرامشي في الفترة الثانية من حياته (توفّي الرجل عام 1927) هو الدولة الفاشيّة الإيطالية. إنّ الفاشية لا تسمح طبيعتها التوتاليتارية بقوّة مؤثّرة خارج سيطرتها. إنها تريد احتلال كل المجالات التي تستطيع احتلالها. ولذلك كان التخلّص من الفاشية مهمّة أولى لنضال كلّ القوى الاجتماعية غير المستفيدة مباشرة من الفاشية. وعند اللزوم وفق مبدأ “حرب المواقع”، أي الهجوم على المواقع الضعيفة للنظام. وليس العمل العسكري مقصودًا هنا. بل العمل المدني وخاصّة الثقافي لنزع الهيمنة الثقافية للقوى السائدة.

نجد هنا الكثير من نقاط التشابه بين الوضع السوري والوضع الإيطالي الذي واجهه غرامشي. وقد تفيدنا تنظيراته وتكتيكاته أيضًا.

أخيرًا، فقد تفيدنا العودة إلى الملامح النظرية الأساسية المعروضة أعلاه في تبرير التعبير “مجتمع مدني اضطراري”. رأينا أنّ وجود الدولة ونوعيّتها (قويّة مركزية موحّدة كشرط مطلق عند هيغل، وغير فاشية كشرط نسبي عند غرامشي) يقرّران في الوقت نفسه نوعية المجتمع المدني ومهمّاته. الدولة السورية الحالية ومن يقوم مقامها في المناطق الخارجة عن سيطرتها عندها كلّ العيوب المذكورة أعلاه. وأهمّها الضعف والنزوع الفاشي. لا يمنع ذلك طبعًا وجود المجتمع المدني “في ذاته” ولكنّه يعرقل وجوده “لذاته”. وبمجرّد ضعف هذه “العرقلة” يعود ذلك المجتمع المدني إلى ممارسة مهمّاته. نعم يبدو هذا العمل اضطراريًّا. لكنّه قد يستمرّ إذا استطاع الناشطون المدنيّون التجذّر في تربتهم الطبيعية، الناس.

 

الجمعيات السورية المشهَرة كإحدى إمكانيات الحراك المدني

ذكرت في ما سبق الدور المركزي للنقابات في التغيير الاجتماعي وأسباب ذلك وأهمّها الاستقلال الاقتصادي عن كلّ من الدولة والسوق. ولذلك فقد كانت وستبقى لفترة طويلة هي المنظمّة الأهم من بين منظّمات المجتمع المدني. ثم ذكرت الدور الخاصّ والمركزي للطلبة واتحاداتهم ومنظّماتهم في كسر الهيمنة الثقافية ونشر هيمنة بديلة. يبقى ذكر الدور الخاص للجمعيات المشهرة، أي المسموح بنشاطها رسميًّا.

لا بدّ من توضيح منهجي هنا. فالنظام السياسي السوري الحالي، والذي ما زالت طريقته في إدارة المجتمع والدولة محافظة بخطوطها العريضة على مبدأ حكم الحزب الواحد (مع جبهة أحزاب صغيرة تابعة)، هذا النظام احتفظ بما كان مسموحًا به (مشهرًا) من جمعيّات مدنية سبقت مجيئه إلى السلطة 1963. بل ولم يقفل الباب تمامًا أمام إنشاء جمعيّات جديدة ليست تابعة رسميًّا للحزب الحاكم (وجبهته)، لكنّه فعل كل ما يستطيع لكي يجعل نشاط تلك الجمعيّات لا يشكّل أي خطر على وجوده وهيمنته السياسية. ومن هنا نفهم المعاناة الكبرى لجمعيّات حقوق الإنسان مثلاُ. فإذا كانت الجمعية تعمل أيضًا من أجل الحريّات الديمقراطية فعليها أن تتوقّع أن يعاملها النظام كأي حزب سياسي معارض. وهو ما حدث مثلًا مع “لجان الدفاع عن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان” التي سُجن أعضاؤها كما يسجن أي معارض سياسي خطر. ولكنّ ذلك لم يمنع ممارسة بعض المنظّمات ذات الصفة النقابية لدور نضالي من أجل حقوق الإنسان، كنقابة المحامين في السبعينيات والثمانينيات مثلًا، مستفيدةً من صفتها الحقوقية. بل إنّها هدّدت بيوم إضراب إن لم تلبّ مطالبها. كان رد فعل النظام قاسيًا، لكنّ حراك المجتمع السوري الهائل التالي لا يمكن فهمه لولا هذه البدايات.

هناك جمعيّات ثقافية يقع عملها في المجال الرمادي ما بين السياسة والثقافة المحضة. وهي تمارس مع السلطة لعبة القطّ والفأر. فقد روى لي السيد ف.م. وهو أحد كبار المثقّفين والناشطين في مجالات العمل الثقافي السوري منذ أكثر من ربع قرن كيف أمكنهم الاستمرار في عملهم وبشكل علني وفعّال في مجالات الآثار والسينما. مما رواه أنّ أحد المخبرين كان يتواجد دائمًا لدى عرض الأفلام لكنّه لم يكن يفهم ما يكفي من الفيلم ليستطيع كتابة تقريره فيسأل أحد هؤلاء المثقفين عمّا يقوله الفيلم. وطبعًا شرحوا له بكل سرور، ما يريدون.

القانون الذي ما زال هو الأساس لتنظيم قبول الجمعيات المدنية وعملها في سورية، على الرغم من وجود تعديلات لاحقة، هو قانون الجمعيات والمؤسسات الخاصة رقم 93 لعام 1958 والذي أضيفت له بعض الموادّ التي قلّصت كثيرًا من حرية تأسيس الجمعيات وإشهارها وممارسة عملها. وقد دُرس هذا القانون كثيرًا ووجّه له الكثير من النقد، سواء من أطراف سورية أو دولية. ويمكن مثلًا مراجعة الدراسة النقدية التي قامت بها منظمة هيومان رايتس ووتش بهذا الخصوص[7]. ولا شكّ أن المواطن السوري لن يفاجأ بمحتوى تقرير المنظمة المذكورة، بل قد يستطيع إضافة الكثير من التفاصيل التي لا يعرفها إلاّ “الأدرى بشعابها”. بالخطوط العريضة هناك مشكلة “قانون الطوارئ” ومشكلة ضرورة التماشي مع السياسة العامة للحزب الحاكم، ومشكلة الصلاحيات شبه المطلقة الممنوحة لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل للتدخّل في نشاط الجمعيات، كحقّها في ضمّ جمعيّتين أو أكثر في جمعية واحدة إذا تشابهت الأهداف وفي المشاركة في اجتماعات المجلس الإداري وغير ذلك كثير. ليس الهم الأمني هو السبب الوحيد لهذه التدخّلات بالتأكيد، فهناك ضرورة تأمين طرق للابتزاز تضمن للمسؤولين الفاسدين الاستفادة من تدخّلهم.

السؤال هنا هو ماذا بشأن الجمعيّات والنوادي التي لا تضع العمل السياسي ضمن برنامجها المباشر؟ هناك مثال مشجّع هو “حركة البناء الوطني” والتعامل المتسامح للنظام معها. وربّما كان هذا التسامح دليلًا على ما جاء في بداية هذا المقال حول حظوظ العمل المدني في مرحلة ضعف النظام. هذا علمًا أنّ برنامج هذه “الحركة” لا يقع خارج السياسة طبعًا. إنّه فقط خارج “الصراع على السلطة”.

لكنّ هذه الحركة جديدة. فما هو حال الجمعيات المشهَرَة القديمة؟ لنأخذ محافظة صغيرة كطرطوس، لسهولة البحث. هناك 72 جمعية مشهرة. باستعراض الأسماء نخرج بالتوزيع التالي: الأكثرية المطلقة هي جمعيات خيرية (47 منها تحتوي هذه الصفة في اسمها نفسه). هناك بضع جمعيّات لإنعاش القرى، وبضع جمعيّات أخرى لحماية البيئة ودعم المرأة. وجمعيتان للعمل والعمّال. وهناك حوالي عشر جمعيّات ثقافية. بعضها يجمع الموضوع البيئي مع الموضوع الثقافي. ومنها جمعيّات ثقافية متخصّصة كالنادي السينمائي وجمعية العاديات والتراث والآثار والموسيقى. يلفت النظر وجود “جمعيّات دفن موتى” من ضمن هذه المنظمات المدنية، على الرغم من أنّها، فيما أعرف، ربحيّة وليست تطوّعية. وقد أكون مخطئًا.

حظوظ المجتمع المدني الاضطراري في الاستدامة

تحدّثت الأسطر السابقة عن المستويات والأصعدة المختلفة للمجتمع المدني التي نراها في سورية الحالية. هناك بعض النقابات التي تتمتّع بهامش استقلال نسبي، كنقابة المحامين. والاستقلال النسبي المقصود هنا يخصّ الممارسة ذات السمة السياسيّة. أمّا الممارسات ذات السمة الاجتماعية فهامش الحركة عندها أكبر بما لا يقاس ومثالها نقابة المهندسين. لكنّ هذه الاتحادات والنقابات تظلّ في نهاية الأمر مؤسسات سلطوية. ولذلك فكل ما تفعله في مجال العمل المدني يظلّ قابلًا للتدمير بهاتف واحد من قبل السلطة الحاكمة.

الصعيد الثاني هو الجمعيّات المدنية المشهرة. وهي منفصلة عن السلطة رسميًّا منذ لحظة تأسيسها. لكنّها عمومًا “تعرف حدودها”. هذه الحدود هي العمل السياسي المباشر، أي الذي يطال مسألة السلطة السياسية. لكنّ العمل ضمن هذه الحدود ليس بلا تأثير. وتأثيره قريب وبعيد. فهي إلى جانب الخدمات المدنية والتوعوية التي تقدّمها للشريحة الاجتماعية المقصودة بعملها تبني لنشطائها في الوقت نفسه “رأسمالًا رمزيًا” بين الناس إن أُحسِن استخدامه وتمت إعادة إنتاجه بالعمل المتواصل سيحوّل هؤلاء النشطاء مع الوقت إلى قادة رأي ليس من السهل إسكاتهم. ولا يقتصر ما يراكمه هؤلاء النشطاء من خلال عملهم في المجال المدني على “الرأسمال الرمزي” بين الناس. إنّهم يراكمون أيضًا خبرة العمل الاجتماعي-المدني. هذه الخبرة ستفيدهم كثيرًا في حالة استمرارية العمل، وستفيدهم للدفع باتجاه تلك الاستمرارية نفسها.

يُضاف إلى هذه الجمعيات “المنظّمات غير الحكومية” ذات التمويل الخارجي. فهذه المنظّمات تستخدم عمّالًا ونشطاء محلّيين. وعلى الرغم من السمعة السيّئة التي دمغت بعض هذه المنظّمات، كما هي الحال في فلسطين، إلاّ أنّ بعضها الآخر واضح البرنامج والتمويل والأهداف ويمكن الحكم عليه على هذا الأساس، كما يمكن لمشاريعه أن تبني في المجتمع المحلّي أرضيّة قابلة للاستمرار إن تمّ استغلالها. لا يعرف الكثيرون أنّ هذه المنظّمات لا تعمل في العالم الثالث فقط، بل وفي المراكز الصناعية المتقدّمة أيضًا. وهي تُعلن دائمًا أنّها تسير على مبدأ “مساعدة الآخرين على أن يستطيعوا مساعدة أنفسهم”، أي أنّ الهدف البعيد يُفترض أن يكون خلق الاستقلال الذاتي والمبادرة الذاتية بما يضمن الاستمرارية بدون مساعدة خارجية. هذا المبدأ المثالي غير ممكن دائمًا طبعًا، لكنّ الطرف المحلّي يُفترض أن يذكّر به ويعمل عليه. مشكلة التمويل شديدة الدقّة دائمًا. يسمح النظام الحالي عادةً بنشاط هذه الجمعيّات المموّلة خارجيًا، سواء من الاتحاد الأوربي أو غيره. لكنّه يحتفظ لنفسه بورقة “لا شرعية التمويل الخارجي” ليشهرها عندما يحتاج إليها، أي عندما يريد قمع النشطاء.

أخيرًا فهناك المجتمع المدني غير الممأسس أو الممأسس جزئيًا فقط وبشكل مطّاطي. تمثّله تلك المضافات الواقعية التي تجمع الجيران في منطقة ما. أو المضافات الإلكترونية عبر منصّات المحادثة الكثيرة جدًا. وفي حين أنّ رقابة السلطة السياسية قادرة على مراقبة الأولى وربما التأثير فيها فهي عاجزة تمامًا أو جزئيًا عن التأثير في الثانية. والواقع الفعلي الحالي يثبت ذلك. وهذا الشكل من نتائج الثورة الرقمية يستحقّ بحثًا وحده.

تكاد الثورة الرقمية تفصل التاريخ الاجتماعي الحديث إلى نصفين: ما قبلها وما بعدها. لقد أثّرت في التواصل الاجتماعي في كلّ الأبعاد الممكنة: الامتداد، الأمن، التواتر…إلخ. لقد جعلت اجتماع مئة شخص من مئة مكان مختلف ممكنًا دون أي انتقال وبكبسة زر. صحيح أنّ كلّ شيء قابل للاختراق والتجسّس، لكنّ مهمّات المجتمع المدني ليست كلّها متوقّفة على سرّية العمل. بل إنّ المهمّات الحقيقيّة للمجتمع المدني لا يمكن أن تُمارس إلاّ في العلن.

بارادايم جديد؟

في هذه المقالة طبّقت المعادلة الغرامشية: المجتمع هو حصيلة جمع المجتمع السياسي مع المجتمع المدني. وقد ساعدني تحويل هذه “الأداة البحثيّة” إلى إطار فكري-تحليلي على التخلّص من الابتسار المعيب الذي يكاد يختصر المجتمع المدني بالمنظّمات اللاحكومية. وهو اختصار أيديولوجي الهدف منه تهميش الدور الاجتماعي المركزي الذي تلعبه النقابات بسبب ثقل الطبقة التي تمثّلها.

أدّعي أنّ تعميم استخدام هذه المعادلة الغرامشية، ذات الجذور الماركسية، سيخلّص اليسار من “حرج فكري” يمكن التنبّؤ به. فالماركسيّون اتّبعوا حتّى الآن استراتيجيات في التحليل الاجتماعي- السياسي تعتبر أي توصيف للمجتمع لا يعتمد التحليل الطبقي الواضح والمباشر بورجوازيًا أو رجعيًّا، أو أيديولوجيًّا…الخ.

وقد ساهم غموض تعبير المجتمع المدني وعموميته وضبابيته في تكريس سمعته السيّئة. ونعرف نقد عزمي بشارة “راجع كتابه في هذا الشأن: عزمي بشارة “المجتمع المدني، دراسة نقدية”، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. وهو بالمناسبة جهد كبير ومفيد لكلّ مهتمّ بهذه المسألة”. لمن رفعوا شعار “النضال المدني” أو النضال من أجل إحياء المجتمع المدني. وحجّته واضحة: ناضلوا مباشرةً وبوضوح من أجل الديمقراطية، بدلًا من العمل من أجل هذا الشيء الغامض والضبابي. وحاجَج كثيرًا بأنّ الديمقراطيّة شرط سابق لوجود المجتمع المدني. وهو ما يبرّر نقده المذكور أعلاه. لكنّني أعتبر هذا الموقف عدميًا ببساطة، إن لم نقل إنّه فهم ميكانيكي ساكن للنظرية.

في استعراضي السابق لاستخدام المفهوم في شروط اجتماعية غير ديمقراطية، كألمانيا الاستبدادية أيام هيغل أو بولونيا الاستبدادية تحت حكم الحزب الواحد. حاولت إثبات أنّ المسألة ليست بهذه الميكانيكيّة. إنّها مسألة تعريف للمفهوم. ومسألة ديناميكيّة في فهم شروط التعامل معه وطرقه وتطبيقه.

لقد حاول الاستبداد اختراق كل طرق التفاعل والتواصل والتبادل الاجتماعيّة وربطها به ووضعها تحت المراقبة والتحكّم. لكنّ ذلك لم يكن ممكنًا ولن يكون ببساطة شديدة. يمكن أن نفهم سبب ذلك بتطبيق النموذج التحليلي الغرامشي كما حاولتُ ذلك أعلاه، وإنْ بكثير من “الاجتهاد”. لمسنا ذلك في بدايات الربيع العربي، حيث “بزغ” المجتمع المدني بزخم مفاجئ تمامًا. كما أنّه عاد إلى الظهور في الكوارث والأزمات التي كادت تصبح حالة دائمة. وهذه الطريقة في “البزوغ” ثم الكمون جعلتني ألجأ إلى تعبير “المجتمع المدني الاضطراري”.

أرجو أخيرًا أن أكون قد نجوت من طريقة التفكير الرغائبية. هذا أولًا. كما أرجو ثانيًا أن أثير بهذه المحاولة البحثية النقد والإكمال والتصحيح.

وإن كان لي من عذر في هذا “التفاؤل المدني” فهو موقعي كذات كاتبة في ذلك المجتمع نفسه الذي أكتب عنه، أي كمثقّف عضوي، شاء أم أبى. والمجتمع لا ينتظر من مثقّفيه العضويين أن يطالبوه بالاستسلام.

 

مراجع وإحالات

1 هيغل، مبادئ فلسفة الحق. النسخة الألمانية Grundlinien der Philosophie des Rechtes، هناك نصوص كاملة لكلّ ما كتب هيغل تقريبًا ولما كُتب عنها في صفحة إلكترونية مستقلّة بعنوان hegel-system.de. لمن لا يعرف القراءة إلاّ بالعربية: قام د. إمام عبد الفتّاح إمام بترجمة الكتاب الأول من “مبادئ فلسفة الحق” ووضع لها مقدّمة طويلة مفيدة. عنوان الترجمة “أصول فلسفة الحق”، دار التنوير، 2007، بيروت

2 أنطونيو غرامشي، كرّاسات السجن،، ترجمة عادل غنيم، دار المستقبل العربي، القاهرة، 1994.

3 عزمي بشارة “المجتمع المدني، دراسة نقدية”، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. الطبعة السادسة، بيروت 2012.

4 عبد الرزاق عيد، يسألونك عن المجتمع المدني، مركز الإنماء الحضاري، القاهرة 2005.

5 سيريانيوز، مجلة الكترونية عدد 26/2/2023.

6 حكاية ما انحكت “مجلة الكترونية، المجتمع المدني في مناطق النظام: انتبه، أمامك منعطفات سياسية! 15 حزيران/ يونيو 2017.

 


1 – كمثال على دور نقابة المهندسين الرسمية، هذا الخبر الذي ورد في صحيفة معارضة: وعد نقيب المهندسين السوريين، غياث قطيني، الأحد، بإعفاء متضرري الزلزال من أي رسوم أو أتعاب للمهندسين.وقالت صحيفة الوطن المحلية إن قطيني وعد بإعفاء كل بناء مرخص سابقًا من أي رسم رخصة تدعيم جديدة، ووعد أيضًا بإيجاد صيغة لأتعاب المهندس بالنسبة إلى تقارير السلامة الإنشائية وتنظيم داتا للمعلومات صحيحة ليصار إلى تأمين البيت البديل وتنظيم العمل الإغاثي وتكثيف الجولات الميدانية وألا نكتفي بإعداد تقارير بعيدة عن الواقع.وأضاف قطيني، في جلسة لمجلس الشعب، أن “هناك قانون هو القانون رقم 23 لعام 2015 الخاص بتنفيذ التخطيط وعمران المدن، وقد نصت الفقرة ب من المادة 49 من القانون المذكور على الآتي: (تعفى العقارات المنكوبة بسبب الكوارث الطبيعية أو الحروب من الرسوم المالية والتكاليف المحلية والرسوم الأخرى المترتبة على إعادة البناء)، وبالتالي أرى أن نقابة المهندسين ملزمة بتطبيق النص القانوني وليس خيارًا لها”.

يشار إلى أنه تم تشكيل عشرات اللجان في معظم المحافظات للاطلاع على السلامة الإنشائية للمباني.

سيريانيوز، 26 شباط/ فبراير 2023.

2 – من مقال حازم مصطفى، اسم مستعار، في “حكاية ما انحكت”، المجتمع المدني في مناطق النظام: انتبه، أمامك منعطفات سياسية!، 15 حزيران/ يونيو 2017:”لقد استفاد مجتمع مناطق النظام المدني كما يقول الدكتور الزعبي “من الظروف السياسية الراهنة ومن عجز السلطة عن تلبية كلّ الحاجات المجتمعية تاركًا بعض المساحة للمجتمع المدني التي ما تزال ضيقة على الرغم من أنّها أوسع من مساحات الأعوام قبل 2012، وقد تحرّك المجتمع المدني ليوسع هذه الساحة مع مزيد من اضطرار الأجهزة السلطوية لتركه يعمل بحكم الحاجة إليه والرغبة بالتغيير لدى الناشطين، فأغلبهم يرغبون اليوم بتوقف الحرب وحدوث تغيير جذري في المجتمع، سواء إيقاف الحرب أو تحقيق قيم مثلى للمجتمع، ولكن الأمور على الأكيد ليست وردية فحتى اليوم لم يطوّر المجتمع المدني وناشطوه أدوات كافية للمناورة كي يستمروا بعملهم ووجودهم”.

3 – https://www.youtube.com/results?search_query=Elif+%C3%96zmen+Zivilgesellschaft.

4 – لجان إحياء المجتمع المدني، الوثيقة الأساسية. من كتاب “يسألونك عن المجتمع المدني” لعبد الرزاق عيد، ص 135.

5 – بعد أقلّ من قرن من هذا الكلام ستأخذ المنظومة الاجتماعية شكلًا جديدًا تضمّ فيه الدولة مؤسّسة تمثيلية آتية من صفوف المجتمع المدني هي البرلمان. وستظهر الطبقات الجديدة لا ككتل إنتاجية فحسب، أي تأخذ تعريفها الاقتصاد-سياسي من خلال موقعها في علاقة الإنتاج، بل وكقوى ممثّلة سياسيًّا سواء في البرلمان أوفي المجتمع المدني نفسه بشكل نقابات وأحزاب. تختلف هذه الصورة المعقّدة في عشرينات القرن الماضي عنها في هذه الأيام. ونحن هنا نتحدّث عن الدول الصناعية الرأسمالية المتقدّمة. لو أخذنا معيارًا لفهم تلك الصورة المعقّدة هو التمويل لفهمنا جانبًا مهمًا منها. النقابات تموّل نفسها. لكنّ الأحزاب (الكبرى تسمّى الأحزاب الشعبية، وهي في ألمانيا الحالية اثنان قديمان نسبيًّا هما الاشتراكي الديمقراطي والديمقراطي المسيحي، وواحد جديد هو الخضر. وهناك أحزاب أصغر هي اليسار والليبرالي و”البديل من أجل ألمانيا” القومي) تحصل على مساعدات تمويلية من الدولة بقدر حجمها. أمّا نوّاب البرلمان فإلى جانب الراتب الذي يتقاضونه وما قد يكون لديهم من أعمال خاصّة يستطيعون التعاقد مع الشركات التجارية والصناعية. وقد كشف أحد تقارير المجلة الشهيرة “دير شبيغل” أنّ كلّ نوّاب البرلمان تقريبًا لديهم “عقود استشارية” من هذا النوع الأخير. وأنّ تلك العقود هي في الواقع رشوات خالصة مقابل تسهيل اتخاذ بعض القرارات لصالح الشركة المتعاقدة. العقد لا يحتوي ذلك حرفيًّا طبعًا، فهذا فساد صريح. كلّ ما يحتويه العقد هو أنّ على البرلماني أن يلقي محاضرة واحدة في السنة على الأقل في مقرّ الشركة مثلًا. وهناك طبعًا الجمعيّات الصغيرة NGOs غير الحكومية، “ذات النفع العام” كجمعيات البيئة وتمكين المرأة وحماية الطفل…إلخ. هذه الجمعيات هي ما يحتكر عادةً لقب المجتمع المدني في هذه الأيام. وتمويلها هو إمّا من الدولة أو من شركات القطّاع الخاص.أصبحت الفكرة التالية نوعًا من البديهيّات لدى كلّ من حكم ألمانيا منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية: مصلحة الدولة العليا هي نفسها مصلحة شركات التصنيع الثقيل وشقيقاتها من الشركات الكبرى الأخرى التي تشكّل المساهمة الأكبر في التصدير. ونعرف أنّ ألمانيا ظلّت وإلى فترة وجيزة تحمل لقب “بطل التصدير العالمي” (يرد هكذا حرفيًا في الأدبيات الألمانية المحلّية)، إلى أن سلبتها الصين هذا “الشرف”. نرى تطبيقات هذه الفكرة في السياسات الاقتصادية لسكّان “مقرّ المستشاريّة” -أي الحكّام والحاكمات- أيًّا كان حزبهم.فهل سنستنتج أنّ السياسيّين سواء أكانوا حكّامًا أم برلمانيّين هم مجرّد أدوات لأصحاب الشركات الكبرى؟ نعم، فيما يخصّ الاقتصاد على الأقل.

إذا أضفنا إلى هذا “التحليل التمويلي” تحليل الهيمنة الثقافيّة نعرف لماذا أطلق لويس ألتوسير لقب “مؤسسات الدولة الأيديولوجية” على الأحزاب والمدارس والجمعيّات والكنائس وطبعًا “مؤسسة الأسرة”. بهذا المعنى فالالتوسيرية هي تطوير لنظرية الهيمنة الثقافية الغرامشيّة.

6 – القارئ العربي يعرف غرامشي من خلال الترجمة العربية المختصرة جدًا لدفاتر السجن. الكاتب الألماني يعرف أكثر قليلًا، ولكن النسخة الأصلية، أي الإيطالية، ليست مترجمة بالكامل إلى أي لغة أخرى، كما تخبرنا الدكتورة المذكورة أعلاه، سابينه كبير. والتي نقلت الكثير من هذا الأصل الإيطالي في أطروحتها للدكتوراة.

7https://www.google.com/url?sa=i&rct=j&q=&esrc=s&source=web&cd=&ved=0CAIQw7AJahcKEwjA9Yrx-vH-AhUAAAAAHQAAAAAQAw&url=https%3A%2F%2Fwww.hrw.org%2Freports%2Fsyria1007ar.pdf&psig=AOvVaw3RKIAn49vCpM6gNkJKBo-5&ust=1684055800134260

 

مشاركة: