ليس سرًّا أن صادق جلال العظم كان علمانيًّا، لكن ماذا تعني العلمانية عمومًا، وفي فكر العظم خصوصًا؟ في الإجابة عن القسم الأول من السؤال، لن نقوم بسردٍ عامٍّ لتعريفات مختلفة للعلمانية – كما يحصل غالبًا، في مثل هذه السياقات – بل سنستند، في تحديد معنى العلمانية، إلى الأطروحات الثلاث الأبرز لنظرية أو نظريات العلمنة التقليدية، كما سنبرز مضمونها المعياري من خلال موقفها من الدين عمومًا، ومن خلال علاقتها بنظريات الحداثة والتحديث خصوصًا، ونشير إلى النقد الأساسي الذي تعرضت له تلك النظريات، والتحول المعرفي الذي جرى في الموقف من أطروحاتها أو مضامينها في العقود الخمسة الأخيرة. الإجابة عن القسم الثاني من السؤال هي الموضوع أو الهدف الأساسي من هذا النص. والفكرة أو الأطروحة الأساسية التي نتبناها، في هذا الخصوص، هي أنه ثمة تحوُّلًا مماثلًا أو موازيًا حصل في رؤية العظم للعلمانية. فتلك الرؤية لم تكن واحدةً عبر مسير الفكرية الطويلة التي استمرت لستة عقودٍ تقريبًا، بل انتقلت من مرحلةٍ أولى كان العظم يتبنى فيها “علمانيةً صلبةً أو صارمةً”، على الطريقة اللائكية الفرنسية و”التركية الأتاتوركية”، إلى مرحلةٍ ثالثةٍ كانت علمانيته فيها أقرب إلى أن تكون “علمانيةً لينةً أو مرنةً”، على الطريقة الأمريكية و”التركية الأردوغانية”. وفي ما بين المرحلتين، يمكن الحديث عن مرحلةٍ ثانيةٍ وسيطةٍ أو انتقاليةٍ بينهما. والمثير للانتباه والتفكير أن التحول في فكر العظم حصل في صمتٍ، أي بدون أن يتضمن تصريحًا من العظم بحدوثه، وبدون أن يترافق مع أي نقدٍ ذاتيٍّ منه، كما أنه لم يتضمن أي إشارةٍ إلى التحول المعرفي الذي طرأ في العلوم الاجتماعية من نظريات العلمنة التقليدية.
ما العلمانية؟
منذ نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بدأت تتبلور في العلوم الاجتماعية ما يسمى ﺑ “النظرية أو النظريات التقليدية للعلمنة” التي كانت موضع قبولٍ واسعٍ حتى ستينيات القرن الماضي على الأقل. وقد أوجز خوسيه كازانوفا وآخرون الأطروحات الرئيسة لتلك النظريات بما يلي: أفول الدين أو المعتقدات والممارسات الدينية، غياب أو تغييب الدين من المجال العام وخصخصته، التمايز بين المجالين، الديني وغير الديني (العلماني). [1] ولفهم مضامين هذه الأطروحات الثلاثة، ينبغي الانتباه إلى الروابط الوثيقة بينها، أو بين نظريات العلمنة، وبين نظريات التحديث. فوفقًا لنظريات التحديث، تتضمن سيرورة الحداثة أو تحديث المجتمع والدولة أو تقتضي تراجعًا تدريجيًّا في حضور الدين في المجال العام وفي المعتقدات والممارسات الدينية. وهكذا يبدو أن زيادة حداثة المجتمع تعني أو تقتضي ضعف أو زوال حضور الدين. وعلى هذا الأساس، يجري الحديث عن سلبية هذا الحضور، انطلاقًا من افتراض إيجابية الحداثة والتحديث.
تعرضت أطروحات نظرية العلمنة (التقليدية) إلى نقدٍ أو مراجعةٍ نقديةٍ صارمةٍ في العقود الخمسة الأخيرة، بعد أن تبين، عمليًّا ونظريًّا، أن حداثة المجتمع أو الدولة لا تقتضي، بالضرورة، ضعف حضور الدين في المجال العام وفي معتقدات الناس وممارساتهم. وإذا كان هذا الضعف قد حصل في الحداثة الأوروبية (الكاثوليكية خصوصًا)، فإنه لم يحصل في حداثة دولٍ ومجتمعاتٍ أخرى، كالولايات المتحدة الامريكية، على سبيل المثال. وعلى الرغم من التقاطع بين العلمانيات المختلفة، المذكورة، وغيرها، فإن اختلافاتٍ مهمةً موجودةٌ بينها، ولعل النظرة المعيارية أو التقييمية إلى الدين وإلى إيجابية و/ أو سلبية حضوره لدى المواطنين وفي المجال العام هي إحدى أهم هذه الاختلافات. ففي حين أن علمانية الولايات المتحدة الامريكية هي علمانيةٌ لينةٌ أو مرنةٌ تنظر إلى الدين نظرةً إيجابيةً، بوصفه أحد المصادر الأخلاقية للمواطنين وتقوم، بالدرجة الأولى على حماية الحقوق الدينية للمواطنين، ومنها حق حضور الدين في المجال العام، فإن العلمانية الفرنسية، على سبيل المثال، علمانيةٌ صلبةٌ أو صارمةٌ [2] تنظر إلى الدين نظرةً سلبيةً، وتعمل على حماية الدولة والمجتمع والمجال العام منه ومن “لوثته” أو “التلوث به”. وسأحاول، في ما يلي، أن أبين أن العظم قد انتقل، في مسيرته الفكرية، انتقالًا جزئيًّا على الأقل، من رؤية العلمانية الصلبة أو الصارمة إلى رؤية العلمانية اللينة أو المرنة.
المراحل الثلاث لعلمانية العظم
يمكن التمييز بين ثلاث مراحل متمايزة نسبيًّا، في مسيرة العظم الفكرية. تشمل المرحلة الأولى ستينيات القرن الماضي، وتضم، بالدرجة الأولى، كتاب “نقد الفكر الديني“، وبالدرجة الثانية، كتابي “الحب والحب العذري“، “النقد الذاتي بعد الهزيمة” [3] . أما المرحلة الثانية فتشمل كتابين منشورين في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي: “في ذهنية التحريم …“، و”ما بعد ذهنية التحريم” [4] . أما المرحلة الثالثة، فتمتد من بداية القرن الحالي حتى رحيله، ويعبِّر عنها، تعبيرًا نموذجيًّا، كتاب “الإسلام والنزعة الإنسانية العلمانية” [5] ، بالإضافة إلى المقالات والحوارات التي أجراها العظم في تلك الفترة. وقبل البدء بتناول كل مرحلةٍ على حدةٍ، ينبغي التشديد على نسبية هذا التقسيم، وتداخل هذه المراحل، من جهةٍ أولى، وعلى إمكانية وجود تمايزٍ واختلافاتٍ في فكر العظم، ضمن كل مرحلةٍ وليس بينها فقط، من جهةٍ ثانيةٍ. إذ يمكن التمييز، على سبيل المثال، بين مرحلتين فرعيتين ضمن المرحلة الأولى: مرحلة النصوص المكتوبة قبل هزيمة حزيران، ومرحلة النصوص المكتوبة بعد تلك الهزيمة. وفيما يتعلق بالمرحلة الثالثة، يمكن التمييز، جزئيًّا ونسبيًّا، بين أفكار العظم قبل قيام الثورة السورية وأفكاره بعد قيام هذه الثورة.
وعلى الرغم التحولات العاصفة التي شهدها الواقع العربي والعالمي منذ ستينيات القرن الماضي حتى العقد الثاني من القرن الحالي، بقي فكر العظم النقدي يتسم باستمراريةٍ ما تجعل من الممكن النظر إليه على أنه كلٌّ متكامل أو متناسق الأجزاء، جزئيًّا ونسبيًّا، على الأقل. وعلى هذا الأساس، يمكن القول، مع زهير هواري، إنه على مستوى نقد الدين أو الفكر الديني: «يبدو “ذهنية التحريم” استكمالًا ﻟ “نقد الفكر الديني” مع ملاحظة التحولات التي طرأت على مركز النقد الفكري بين العملين.» [6] وكلا العملين يرتبطان، ارتباطًا وثيقًا، بالأعمال السياسية التي نشرت في الفترة الزمنية الفاصلة بينهما [7] (“النقد الذاتي بعد الهزيمة“، على سبيل المثال)، من جهةٍ، وبالنصوص التي صدرت بعد ذلك، والمتعلقة بالمجال الديني والسياسي، في الوقت نفسه، (“الإسلام والنزعة الإنسانية العلمانية“، “نظرة جديدة الى الأصولية الإسلامية” [8] – الصادران باللغة الإنكليزية – على سبيل المثال)، من جهةٍ أخرى. والحديث عن الاستمرارية لا يقتصر على تلك الموجودة بين أعمال العظم فحسب، بل يتجاوزها، إلى الحديث عن استمراريةٍ بين هذه الأعمال وأعمال بعض المفكرين الآخرين. [9] لكن القول بوجود هذه الاستمرارية، على مستوىً أو من جانبٍ ما، لا ينفي وجود اختلافاتٍ معرفيةٍ و/ أو منهجيةٍ مهمةٍ وكبيرةٍ، قد تصل إلى مستوى القطيعة الجزئية والنسبية، على مستوىً أو من جانبٍ آخر، في تناول العظم النقدي للدين و/ أو الفكر الديني خصوصًا. والاستمرارية تعني في هذا السياق، ثباتًا، لا جمودًا. وعلى عكس الجمود، لا ينفي الثبات التغير والحركة مع الزمان. [10] وهذا يعني أننا نتبنى أطروحةً تتفق جزئيًّا، على الأقل، مع العظم الذي يقول: «منهجي منهج الاستيعاب والتخطّي والتجاوز، وليس منهج الانقطاع والقفزات الفجائية أو ما يسمى بالقطيعة المعرفية.» [11]
يحتوي كتاب “نقد الفكر الديني”، تحديدًا، أبرز وأهم النصوص التي مارس فيها العظم نقده للدين والفكر الديني. ويتناول العظم فيه الموقف الذي ينبغي للإنسان المؤمن “المثقف” و/ أو الذي “تأثرت ثقافته تأثيرًا جذريًّا بالثقافة العلمية”، أن يتخذه حيال “مشكلة النزاع بين الدين والعلم” [12] ، من جهةٍ أولى، وحيال مشكلة التناقض أو الاختلاف بين الفكر الديني والفكر العلمي، من جهةٍ ثانيةٍ. وخلال هذا التناول، يناقش العظم “ماهية” الدين الإسلامي خصوصًا، والدين عمومًا، بغض النظر عن كونه دينًا إسلاميًّا أو مسيحيًّا، ورؤيته المؤسسة له وللمواضيع التي يتناولها العلم بالدراسة والبحث. فيتحدث مثلًا عن أن الدين الإسلامي يحوي «آراء ومعتقدات تشكل جزءًا لا يتجزأ منه […] تتعارض تعارضًا واضحًا وصارخًا مع معلوماتنا العلمية […].» [13] كما يؤكد أن الدين «بطبيعة عقائده المحددة ثابت ساكن يعيش في الحقائق الأزلية» [14] ، وأن محاولة الدفاع عنه هي “محاولة يائسة” [15] . ولا يكتفي العظم، في هذا السياق وفي سياقاتٍ كثيرةٍ أخرى، بنقد الدين، انطلاقًا من فهمه الخاص له وبغض النظر عن رؤية الفكر الديني عمومًا للمسألة المطروحة، بل هو يتجاوز ذلك إلى رفض الكثير من الأفكار التي يتضمنها الفكر الديني ذاته – عندما تكون هذه الأفكار مخالفة لفهمه للدين – وإظهار أنها باطلةٌ وتفتقر إلى المصداقية، افتقارًا مقصودًا غالبًا وغير مقصودٍ أحيانًا. [16] وبذلك يمارس العظم نقدًا مزدوجًا للدين وللفكر الديني، في الوقت نفسه. وانطلاقًا مما سبق، نجد في نصوص العظم، في المرحلة الأولى، بعض المعالم الأولية للتمييز بين الدين والفكر الديني. لكن على العكس مما هو شائع، لا يتبنى العظم – ضمنيًّا على الأقل – هذا التمييز، من أجل توجيه نقده إلى الفكر الديني وتنزيه الدين مما ينسب إليه من سلبياتٍ وأخطاء، بحيث يتخلص من تهمة المس بالتابو الديني المقدس. على العكس من ذلك تمامًا، يستخدم العظم هذا التمييز لإبراز أخطاء الفكر الديني وعدم صدقه ولا-شفافيته، من جهةٍ، وسلبيات الدين ذاته، من جهةٍ أخرى، من دون اكتراثٍ كبيرٍ بإمكانية اتهامه بالمسِّ بالتابو الديني المقدس نتيجةً لذلك.
ولم يقتصر العظم على نقد دينٍ أو فكرٍ دينيٍّ دون آخر (الدين الإسلامي والدين المسيحي تحديدًا)، كما قام بنقد الدين بوصفه كلًّا يضم كل الأديان، بالإضافة إلى نقد الأشكال أو الصيغ الأساسية و/ أو الشائعة من الفكر الديني. وبعد قيام العظم بانتقاد كل الأشكال “الممكنة” من المعتقدات والآراء الدينية التي تقول بإمكانية الحفاظ على مكانٍ ومكانةٍ ما للدين في “المجتمع التقدمي العصري”، ميَّز بين الدين (الذي ينبغي التخلص أو التحرر منه) والشعور الديني (الذي ينبغي تحريره والاحتفاظ به). وانطلاقًا من هذا التمييز، ينبغي أن نحرر ذلك «الشعور المسحوق تحت عباءة المعتقدات الدينية التقليدية المتحجرة، وتحت ثقل الطقوس والشعائر الجامدة […] وأن نتنازل عن الفكرة التقليدية القائلة بوجود ثمة شيء كحقيقة دينية خاصة.» [17] وهكذا يخلص العظم إلى ضرورة التخلص من الدين، بوصفه معتقداتٍ وطقوسًا وشعائر وحقائق مزعومةً، بما يسمح بتحرير الشعور الديني الذي لا يتعلق، بالضرورة، “بكائنات غيبية وموجودات مخفية وقوى غريبة كما كان دائمًا”، إذ يمكن لهذا الشعور أن «يتمثل في موقف الفنان من الجمال، أو في موقف العالم من البحث عن الحقيقة، أو في موقف المناضل من الغايات التي يعمل لتحقيقها، أو في موقف الإنسان العادي من أداء واجباته الحياتية واليومية.» [18]
بالإضافة إلى كتاب “نقد الفكر الديني“، الذي يشدد على “الدور التزييفي” السلبي الهائل ﻟﻟ “الذهنية الدينية” أو “الفكر الديني” أو “الأيديولوجيا الغيبية” في الواقع والفكر العربيين اللذين أنتجا هزيمة 1967، نبرز تلك المركزية، بروزًا شديدًا، في الكتابين الأساسيين اللذين مارس فيهما العظم، خلال ستينيات القرن الماضي، نقده للتابوات في المجال الجنسي (في الحب والحب العذري)، وفي المجال السياسي (النقد الذاتي بعد الهزيمة). ففي كتاب “في الحب والحب العذري“، يبين العظم أن الحل الأمثل الممكن ﻟ “مفارقة الحب الكبرى” يكمن أساسًا في «التحرر من الآراء الدينية والأخلاقية والاجتماعية التي ورثناها من عهودٍ مضت وعصورٍ ازدهرت.» [19] وفي خصوص كتاب “النقد الذاتي بعد الهزيمة“، رأى كثيرٌ من النقاد أن العظم قد بالغ في إبراز العامل الديني في تحليله لأسباب هذه الهزيمة. وقد دفعت هذه “المبالغة” بغازي أبو عقل إلى مبالغةٍ مضادةٍ تمثلت في القول «توقعت أن أقلب صفحة ما من صفحات الكتاب فأجد أسماء المسؤولين الخمسة عن هزيمة حزيران الرسول وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي. صحيحٌ أنني لم أجد أسماءهم ولكن تحميلهم المسؤولية كان على درجة كافية من الوضوح.» [20]
لقد اتسم فكر العظم عمومًا، وفي المرحلة الأولى خصوصًا، بالجذرية أو الراديكالية الصارمة ورفض الوسطية أو النزعة التوفيقية/ التلفيقية التي تسعى إلى التوفيق بين طرفين متناقضين جذريًّا، ولا يمكن إقامة توافقٍ حقيقيٍّ ومناسب بينهما. [21] ومن هنا أتت نزعته الصدامية وتبنيه، في كثيرٍ من الأحيان والسياقات، لمنطق “إما …، أو”، أو بالأحرى، لمنطق “إما …، وإما”، بحيث يصيغ الخيارات او الممكنات في صورة قضيةٍ عناديةٍ مانعة الجمع. وقد ظهر ذلك واضحًا في نقده، على سبيل المثال، لموقف وليم جيمس «الممتلئ بالتردد والميوعة حيال الدين والمعتقدات الدينية.» [22] ، ونقده للمجاملات والتلفيقات والتعميمات الفارغة – في “الحوار الإسلامي المسيحي” في لبنان – حول التوافق المسيحي الإسلامي القائم بين الديانتين منذ زمنٍ بعيدٍ. [23]
وتبلورت أو تجسَّدت تلك الجذرية في نزعةٍ أيديولوجيةٍ وصداميةٍ صلبةٍ أو حادةٍ. ونعني بالأيديولوجيا هنا الماركسية أو الاشتراكية العلمية التي أعلن العظم تبنيه لها في مساندته لما رأى أنه يمثل آنذاك حركة تحررٍ عربيةٍ، في مصر وسورية خصوصًا. أما السمة الصدامية فتظهر بوضوح في استخدام العظم لكلمات “المعركة والحرب والمواجهة …إلخ”، لتوصيف المواجهة مع الدين و/ أو الفكر الديني. [24] ومن وجهة نظر العظم آنذاك، لا ينبغي، بل ولا يمكن لهذه الحرب أو المعركة أن تنتهي إلا بانتصار طرفٍ واحدٍ: هو الفكر التقدمي العصري “بالطبع”. بل يمكن القول إن العظم، وكثيرين غيره، اعتقدوا، في ذلك الوقت، أن انتصار الفكر التقدمي قد تحقق بالفعل، ولم يبقَ سوى ملاحقة فلول الفكر الرجعي (الديني) والتخلص منها. [25] فانتصار الفكر الديني الرجعي غير ممكنٍ، وكذلك هو حال التصالح أو الوصول إلى حلول وسطٍ معه؛ ولهذا لا ينبغي إضاعة الوقت في جدالٍ عقيمٍ مع هذا الفكر، ففي «المجتمع الدينامي النامي حقًّا السائر في طريق الاشتراكية العلمية […] ضرورات التنمية والتقدم والتحويل الاشتراكي هي التي تحسم النقاش.» [26] ، وعلى هذا الأساس، كتب العظم، بكل “طمأنينةٍ وتفاؤلٍ”: «بالنسبة لنا يبدو أن الموقف الديني القديم الممتلئ بالطمأنينة والتفاؤل في طريقه إلى انهيارٍ تامٍّ […]. لقد ولَّى بالنسبة لنا الموقف الحازم الإيجابي نحو الدين ومشكلاته مع أشلاء المجتمع التقليدي الإقطاعي الذي مزقته الآلة ونخرت عظامه التنظيمات الاقتصادية والاجتماعية الحديثة.» [27]
ويشدد العظم على أنه لا يمكن للفكر الديني أن يقوم بأي تغييرٍ ولو جزئيٍّ في الآراء والمعتقدات الدينية أو في دلالتها أو معناها، «لأنها تشكِّل نظامًا متماسكًا منسجمًا بعضه مع بعضٍ فإذا قبلت جزءًا منه عليك أن تقبل بالأجزاء الباقية، هذا إذا أردت أن تبقى منسجمًا مع نفسك. وفي اللحظة التي نبدأ فيها بالتنازل عن بعض المعتقدات لصالح العلم أو الفلسفة مثلًا سنجد أنفسنا مضطرين، بحكم منطق الامور، إلى التخلي عن المعتقدات الدينية برمتها.» [28] لا يرى العظم إمكانيةً لأن يكوِّن المسلم، بوصفه مسلمًا، أي رأيٍ، أو أن يقوم بأي اجتهادٍ، في خصوص هذه المعتقدات الدينية التي تمثل الدين، (الإسلامي، في هذا السياق، لكن ليس بشكلٍ حصريٍّ، إذ ينطبق هذا الكلام بطريقةٍ أو بأخرى، ومن حيث المبدأ، على كل الأديان عمومًا)، وتتعارض بالضرورة مع المعرفة العلمية” [29] .
ويفضي نقد العظم للدين، بوصفه يحمل جوهرًا ثابتًا، إلى الاشتباه بتبني العظم نفسه، تبنيًّا غير مقصودٍ أو غير مباشرٍ، لميتافيزيقا الجواهر الثابتة، التي قام بنقدها ورفضها، في مناسباتٍ عديدةٍ. وتبني ميتافيزيقا الطبائع الثابتة، يعني، فيما يعنيه، الاعتقاد بوجود جوهرٍ أو ماهيةٍ ثابتةٍ تميِّز أمرًا ما، وتعطيه خصوصيةً دائمةً غير قابلةٍ للتغيير، عبر التاريخ. ولهذا أعلن العظم، منذ المرحلة الأولى، أعلن العظم، إعلانًا واضحًا وصريحًا، رفضه الصريح لميتافيزيقا الطبائع أو الجواهر الثابتة، ووصفها بالخرافة. [30] وأشار إلى رغبته في أن “يكون كتاب “نقد الفكر الديني” خطوةً متواضعةً وأوليةً على طريق تبديد” «الوهم المثالي الكبير القائل بأن الأيديولوجيا الغيبية والفكر الديني الواعي الذي تفرزه مع ما يلتف حولها من قيم وعادات وتقاليد إلخ … هي حصيلة للروح العربية الأصلية الخالصة الثابتة عبر العصور، وليست أبدًا تعبيرًا عن أوضاع اقتصادية متحولة، أو قوى اجتماعية صاعدة تارةً، وزائلة تارةً أخرى، أو بنيات طبقية خاضعة للتحول التاريخي المستمر ولا تتمتع إلا بثباتٍ نسبيٍّ.» [31]
إن منطق تفكير العظم في هذه المرحلة بسيطٌ وواضحٌ: الحل لمشاكلنا يتمثَّل في تبني العلم والعصرية، وهذان يعنيان بالضرورة العلمانية التي تتجسد في فصل الدين عن الدولة، والحد من تأثيره في المجتمع، للانتقال من الفكر الديني إلى فكرٍ علميٍّ-علمانيٍّ وذهنيةٍ نقديةٍ يمثلان شرطًا لا غنى عنه، لحصول التقدم في الفكر والواقع العربيين.
بين العلمانية الصلبة والعلمانية اللينة
في “نقد الفكر الديني“، كان نقد العظم موجًّهًا عمومًا إلى الدين ذاته، أو إلى الدين، بوصفه دينًا (مسيحيًّا أو إسلاميًّا)، من جهةٍ أولى، وإلى الفكر الديني من حيث كونه مطابقًا للدين، وبالتالي يتضمن السلبيات ذاتها الموجودة في الدين، أو من حيث كونه زائفًا ومضلِّلًا، لأنه غير مطابقٍ للدين الذي يدعي الانتماء إليه والتعبير عنه. في المقابل، نجد أن العظم قد تابع في نصي “ذهنية التحريم …“ و”ما بعد ذهنية التحريم” مشروع نقده إلى الدين والفكر الديني عمومًا، لكنه أصبح أكثر تركيزًا على إبراز مشروعية “معارضة المقدس (والدين عمومًا)”، وعلى نقد الدين والفكر الديني الذي يمارس دور التحريم والتكفير والقمع .. إلخ. وثمة اختلافٌ مهمٌّ، بين المرحلتين. ففي المرحلة الثانية فقط، بدأ العظم بالإشادة بالفكر الديني الذي يمارس دورًا تقدميًّا وإصلاحيًّا وتنويريًّا، وبغض النظر عن مسألة كون هذا الفكر مطابقًا أو غير مطابقٍ للدين الذي يمثله ويحاول ممارسة التجديد والإصلاح فيه. والحديث عن فكرٍ دينيٍّ إيجابيٍّ، بمعنى ما، يفسح المجال للتمييز ليس بين الدين والفكر الديني فحسب، بل بين أنواعٍ مختلفةٍ من الفكر الديني أيضًا، بالإضافة إلى إمكانية الانتقال من المواجهة بين الفكر النقدي (العلماني العلمي التقدمي العصري … إلخ) من جهةٍ أولى، والدين بذاته أو بوصفه دينًا مسيحيًّا أو إسلاميًّا، أو بوصفه فكرًا يدعي تمثيله والتعبير عنه بحقٍّ أو بدونه من جهةٍ أخرى، إلى المواجهة بين الفكر التجديدي التقدمي – سواءٌ كان فكرًا دينيًّا إصلاحيًّا أو فكرًا لا-دينيٍّ وثوريًّا – والفكر الديني التقليدي الرجعي. وعلى هذا الأساس، بدأ العظم يتحدث عن كتابات بعض المفكرين الدينيين (الإسلاميين) ويصفها بأنها «كتب وكتابات عصرية معاصرة تناولت المقدسات بالمراجعة العقلانية والمحرمات بالنقاش العلمي والموروثات بالتقييم الحديث والاجتهادات المتخلفة بالسجال النقدي المفتوح.» [32] ويشير العظم، في هذا الصدد، إلى أسماء عددٍ كبيرٍ من المفكرين، لكننا نود التشديد على أهمية الإشارة إلى الإسلاميين منهم علي عبد الرازق، محمود محمد طه، محمد أحمد خلف الله، عبد الله العلايلي … إلخ. يتحدث العظم عن علي عبد الرازق، صاحب كتاب “الإسلام وأصول الحكم” [33] ، بوصفه «عالمًا أزهريًّا محافظًا دافع عن إلغاء مصطفى كمال للخلافة وعن فصل الدين عن الدولة في الإسلام بلغة العلماء العتيقة ومصطلحات الفقهاء المألوفة ومنطق الدراسات الشرعية المعروف.» [34] أما العلايلي – أحد علماء الدين المسلمين في لبنان، وصاحب كتاب “أين الخطأ؟ تصحيح مفاهيم ونظرة تجديد” [35] – فيشيد العظم به وبفكره إشادةً كبيرةً، لأنه رأى في كتابه المذكور «معارضة ألمعية ساخرة للفكر العقيم الذي مازال فيه هؤلاء العلماء؛ وللمناهج الساقطة التي ما فتئوا يتناولون بها قضايا العصر؛ وللحلول السخيفة والأجوبة الغبية التي يقدمونها لمشكلات المسلمين معه.» [36] وقد تحولت أعمال هؤلاء المفكرين الدينيين الإسلاميين وغيرهم إلى قضايا إشكاليةٍ ومشكلةٍ عامَّةٍ، مثلما حصل لاحقًا مع أعمال سلمان رشدي. ويرى العظم أن هذه السلسلة المستمرة من القضايا قد مارست «فعلًا تراكميًّا تحرريًّا وتحريريًّا في الفكر العربي الحديث وفي الحياة الثقافية العربية المعاصرة عمومًا بإقحامها موضوعات ممنوعة وموروثات مقدسة ومشكلات محظورة في ميدان النقاش المفتوح وحيز التدقيق العقلاني المستقل ومجال السجال الفكري الحر.» [37]
يفضي هذا التمييز المهم بين أنواعٍ مختلفةٍ من الفكر الديني إلى تمييزٍ مماثلٍ على مستوى الدين نفسه، ممثلًا بالنصوص المؤسسة له. ففي المرحلة الأولى، كان العظم يشدد على معنىً واحدٍ للدين وللنصوص الدينية المؤسسة لهذا الدين أو ذاك، وعلى سلبية هذا الدين/ المعنى، وضرورة نقده والتخلص منه. أما في المرحلة الثانية، فقد بدأ العظم بالحديث عن تعددٍ (ثنائيٍّ على الأقل) في معاني النصوص الدينية، وعن إمكانية التمييز بين معنيين لهذه النصوص: معنىً حرفي ومعنى مجازي أو رمزي. وإن تبني العظم لهذه الرؤية الهيرمينوطيقية الجديدة سمح له بالحديث عن إمكانية وجود دينٍ عصريٍّ خالٍ من الأساطير والخرافات والمعجزات ولا يتنافى مع العقل والمنجزات العلمية الحديثة والمعاصرة، بدلًا من الاقتصار على رؤيةٍ واحديةٍ للدين – وهي الرؤية السائدة في المرحلة الأولى – لا ترى فيه إلا معنىً واحدًا، وهو معنىً يتنافى بالكامل مع متطلبات التقدم والعصرية، من وجهة نظر العظم. وهكذا، أصبح العظم يميِّز بين التأويل التقدمي النهضوي والتأويل الرجعي المحافظ للدين، أي بين تناول الدين «بروح نهضوية تقدمية ساخرة تطلب الكشف وتسعى إلى التنوير وتميل إلى الهدم والإصلاح وتعمل على توسيع الافق وتجاوز الحرف وتخطي العقد [… وتناوله] بروحٍ معاكسةٍ تمامًا أي بروح استرجاعية إيمانية محافظة تكرس الاعتقاد الحرفي والمعنى التقليدي والتأويل الضيق والتعمية الصوفية والاستعادة الأصولية واللاهوتية الموروثة للعقيدة الدينية.» [38]
وتمثِّل هذه الجدة في رؤية العظم – والمتمثلة في قبول إمكانية التمايز أو التعددية داخل كلٍّ من الدين والفكر الديني المؤول له – قطيعةً جزئيةً، أو إرهاصات قطيعةٍ، مع رؤية المرحلة الأولى. وستتعمق هذه القطيعة، وتبرز، بروزًا أكبر وأوضح، في المرحلة الثالثة. ومن الضروري التشديد على السمة الجزئية لهذه القطيعة، في المرحلة الثانية على الأقل؛ لأن سمة الاستمرارية بين هاتين المرحلتين من فكر العظم النقدي، في المجال الديني، تظل هي الأقوى. فرؤية العظم الجديدة تظل هامشيةً أو ثانويةً، مقارنةً بأساسية نقد المقدس (والدين عمومًا) وكل ما يتأسس عليه من فكرٍ وذهنيةٍ أو عقليةٍ وأيديولوجيا وشريعةٍ. وهذا النقد الأخير هو الذي ساد في المرحلتين الأوليتين، وهو الذي يسوغ الحديث عن سمة الاستمرارية، في هذا السياق. ومن الضروري الانتباه إلى أن المساحة التي يشغلها نقد المقدس والدين عمومًا، وتأكيد مشروعية هذا النقد وضرورته، والرد على من لا يتبنون هذه الرؤية أو يهاجمونها، أكبر بكثير من الحيز الذي يشغله الحديث عن التمايز أو الاختلاف بين الدين والفكر الديني أو في كلٍّ منهما.
فالجدة في فكر العظم، في هذا الخصوص، تكمن تحديدًا في بدء قبوله بمشروعية الانقسام، داخل الفكر الديني، بين قطبين أحدهما تقليديٌّ محافظٌ، ينبغي بل يجب نقده، والثاني حداثيٌّ مجدِّدٌ، يمكن التعايش معه وقبوله بل وتقبله. فلم يعد العظم، في المرحلة الثانية، ينظر إلى الفكر الديني على أنه مجرد كتلةٍ متجانسةٍ لا مشروعيةً فيها إلا للونٍ واحدٍ، بل بدأ، في إشاراتٍ هامشيةٍ أو مقتضبةٍ نسبيًّا، وفي خصوص الفكر أو اللاهوت المسيحي تحديدًا، يقرُّ بأن هذا الفكر يضمُّ أو يمكن أن يضمَّ تنوعًا قد يصل إلى درجة التناقض بين أطرافه.
في هذه المرحلة الثانية، لم يتغير اعتقاد العظم، كثيرًا، في خصوص الانهيار القادم أو القائم لما أسماه بالموقف الديني، لكن السمة الصدامية لنقده لم تعد متأسِّسةً على هذا الاعتقاد، بالدرجة الأولى، لأسباب كثيرةٍ، يأتي في مقدمتها اضمحلال قناعته بوجود حركة تحرر عربية تقوم بالتحويل الاشتراكي المطلوب في البنية التحتية، ليتم مواكبة هذا التحول على صعيد البنية الفوقية. فالسمة الصدامية، في المرحلة الثانية، كانت ذات طابعٍ دفاعيٍّ؛ هي دفاعٌ شديدٌ عن القيم الليبرالية والعلمانية، على المستوى الثقافي على الأقل. وتأتي قيمة الحرية في مقدمة هذه القيم: حرية الاعتقاد والتعبير والنقد ومعارضة المقدس … إلخ.
لقد رأى العظم في الضجة الشديدة المثارة حول كتاب رشدي «مظهرًا هامًّا من مظاهر الصراع العنيف الذي تنطوي عليه الأزمة التاريخية – الاجتماعية – الحضارية المستحكمة في العالم الإسلامي عمومًا، وفي العالم العربي تحديدًا (بدرجاتٍ متفاوتةٍ من الطول والعرض والعمق)، نتيجة تراجع القديم واضمحلاله المتزايد والمتسارع من ناحيةٍ، واستعصاء ولادة الجديد ولادةً صحيةً سريعةً ونظيفةً من ناحيةٍ ثانيةٍ.» [39] لكن هذا التراجع أو الاضمحلال “المزعوم” ترافق عمومًا مع ازدياد شدة أو عنف هجوم الفكر الديني على من يزعم أنه يمس مقدساته. يمكن المقارنة مثلًا بين الهجوم الذي تعرض له طه حسين، في خصوص كتابه “في الشعر الجاهلي”، وذاك الذي تعرض له رشدي في خصوص روايته “الآيات الشيطانية”؛ ﻓ «على الرغم من أن كتاب طه حسين شكل نقدًا أكثر عنفًا وفعالية للفكر الديني من النقد الذي تقدمه الرواية، [… فقد] اكتفي من طه حسين بمحاكمة كتابه ومنعه، وتحولت رواية رشدي إلى مأساةٍ دمويةٍ.» [40] ومن يهاجم الفكر الديني، بشدةٍ كبيرةٍ، كما فعل العظم، في المرحلة الأولى، ليس مستغربًا قيامه بدفاعٍ شديدٍ، بل وبهجومٍ مضادٍّ، في التصدي للهجوم العنيف الذي قام به هذا الفكر تجاه رشدي، لقيامه بنقد الدين/الفكر الديني ومعارضة المقدس.
وقد احتفظت مقاربة العظم النقدية للدين والفكر الديني، في المرحلة الثانية، بطابعها الصدامي الراديكالي، لكن الهجوم الاستباقي الذي شنه العظم، في المرحلة الأولى، تحول إلى دفاعٍ هجوميٍّ، أو إلى هجومٍ مضادٍّ، في تلك المرحلة. وإذا كانت المعركة الفكرية التي انخرط العظم فيها، في المرحلة الأولى، تهدف إلى إقصاء الدين/ الفكر الديني من المجال أو الشأن العام، والحد تأثيراته السلبية أو إلغائها، فإن الباعث الأساسي ﻟ “معركة العظم”، في المرحلة الثانية، هو تأكيد حق الفكر الناقد للدين أو المعارض للمقدس في الوجود وأهمية ممارسة هذا الحق وضرورته. فلم يعد الهدف (الأساسي) إبعاد الدين أو الفكر الديني أو إقصائه، وإنما مواجهة الإقصاء الذي يمارسه هذا “الدين/ الفكر الديني، في ميدان الفكر والحياة الثقافية/السياسية عمومًا، والناتج عن، أو المتمثل في، “ذهنية التحريم وعقلية التجريم ومنطق التكفير وشريعة القمع”. صحيحٌ أن الكتاب يتضمن هجومًا شديدًا على الدين/الفكر الديني، إلا أنه، على خلاف المرحلة السابقة، لا يشدد كثيرًا أو غالبًا، على التخيير بين الدين/ الفكر الديني والفكر العلمي العلماني. فهذا الهجوم هو هجومٌ مضادٌّ للهجوم الذي تعرض له رشدي، بوصفه ناقدًا للمقدس/ الدين، ويهدف إلى الدفاع عن مشروعية هذا النقد وضرورته. وكما أشرنا سابقًا، بدأ العظم، في هذه المرحلة، تحديدًا، بالحديث، بطريقةٍ إيجابيةٍ، عن بعض أشكال او مضامين الفكر الديني؛ وهو أمرٌ جديدٌ كليًّا، بالمقارنة مع المرحلة السابقة. فلم يعد الدين/ الفكر الديني مرفوضًا بالكامل، وبغض النظر عن الاختلافات القائمة ضمنه، بل أصبح ثمة تمييزٌ بين جوانب أو أشكال إيجابية من هذا الفكر، يمكن قبولها وتقبلها والتفاعل إيجابيًّا معها. ولا ينفي هذا التغير بالتأكيد أن التركيز، في هذه المرحلة، كان على نقد الجوانب و/ أو الأشكال و/ أو المضامين السلبية من الدين/ الفكر الديني. فالطابع الصدامي بقي طاغيًا، لكن لهجةً تصالحيةً، لينةً او مرنةً، بدأت “تتسلل” إلى علمانية العظم ومقاربته النقدية للدين والفكر الديني.
العلمانية اللينة أو المرنة
لم تكتمل إرهاصات التغير، التي بدأت في المرحلة الثانية، إلا في المرحلة الثالثة، حيث أصبح العظم يتناول الدين/ الفكر الديني، ليس من زاويةٍ أيديولوجيةٍ صداميةٍ، ترى فيه عدوًّا أو خصمًا ينبغي الانتصار عليه وهزيمته، بل من زاوية التحليل الفكري الذي يدرس موضوعه ويبيِّن سلبياته وإيجابياته، بغض النظر، جزئيًّا ونسبيًّا على الأقل، عن اتساق أو عدم اتساق هذا الموضوع مع الرؤية الأيديولوجية المبدئية لصاحب هذا التحليل. في هذه المرحلة، لم يعد العظم يهتم كثيرًا بالدين/ الإسلام العقائدي، وبإظهار تنافره أو عدم توافقه مع متطلبات الحياة العصرية؛ إذ أصبح العظم يدرك أن هذا الدين/ الإسلام لا يتوافق، في التحليل الأخير، إلا مع ذاته؛ ولهذا لا ينبغي الصدام مع مختلف أشكال الدين/ الفكر الديني/ الإسلام التاريخي التي تعلن انتسابها إلى هذا الدين/الإسلام العقائدي، بل ينبغي تركيز الانتباه أكثر على التمايزات داخل الفكر الديني أو الدين/ الإسلام التاريخي، وعلى مدى إمكانية تفاعلها الإيجابي مع متطلبات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعاصرة، ويتضمن ذلك خصوصًا قيم الديمقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان عمومًا. ففي خصوص إمكانية اتفاق الإسلام مع العلمانية، على سبيل المثال، ما عاد الانقسام بين أنصار الفكر الديني و نقادهم؛ «فالانقسام بين كتلة الرفض وكتلة القبول، [موجودٌ] في دار الإسلام، بل غالبًا خارج دارة الإسلام أيضًا.» [41] وعلى العكس من المرحلة الأولى، حيث انصب تركيز العظم على رد الفكر الديني إلى الدين وإبراز تماهيهما وتأثيراتهما السلبية حصريًّا، ركَّز العظم اهتمامه، في تلك المرحلة، على النوع الإيجابي من الفكر الديني/ الإسلام التاريخي (إسلام البيزنس)، من دون أن يخفي مطلقًا تقييماته النقدية السلبية للأنواع المتطرفة تطرفًا سلبيًّا من الإسلام السياسي التاريخي (“إسلام الدولة الرسمي” أو “إسلام الحكم المطلق”، و”إسلام التكفير والتفجير”).
ففي كتاب/ محاضرة “الإسلام والنزعة الإنسانية العلمانية”، وفي محاضراتٍ ومقالاتٍ وحواراتٍ أخرى [42] ، يميِّز العظم بين “الدين/ الإسلام العقائدي أو الدوغمائي” و”الدين/ الإسلام التاريخي”. الإسلام الأول، “إسلام القرآن والرسول”، هو «إسلام البساطة، والمساواة، المجرد من المحسنات المضافة، والذي انبعث في مكة والمدينة قبل أربعة عشر قرنًا خلت والذي قاده وسيّر أموره النبي نفسه وخلفاؤه الأربعة […].» [43] أما الدين/الإسلام التاريخي فهو «الإسلام بوصفه إيمانًا حيًّا، ديناميكيًّا، مرتقيًّا، ومتجاوبًا مع بيئاتٍ شديدة الاختلاف، ومع أوضاعٍ تاريخية سريعة التقلب […].» [44]
وعلى العكس من أدونيس، [45] لا يرى العظم أي إيجابيةٍ في الإسلام التاريخي أو في الإسلام بوصفه ممارسةً تاريخيةً، إلا بقدر ابتعاد هذا الإسلام أو تلك الممارسة عن ذلك المستوى الأول من الإسلام، والمتمثل في الإسلام العقائدي، وتقبلهما لمتطلبات الحياة العصرية المعاصرة. ويبدو ذلك واضحًا في تمييز العظم بين تأويل المسلمين المتمسكين بالعقائد الثابتة dogmatist والحرفيين Literalist، والطهريين Purists، والنصوصيين Scripturalist» [46] ، من جهةٍ، و«حركة الإصلاح الليبرالي (الحر) التأويل الديني المتحرر للحياة والفكر العربي، [… التي] كثفت في جوفها، دفعةً واحدةً، الإصلاح الفقهي – القانوني، والانبعاث الأدبي الفكري والتنوير العلاني – العلمي، والتجديد السياسي والأيديولوجي، في آنٍ.» [47] فثمة نوعان أساسيان من الإسلام التاريخي: إسلامٌ/ فكرٌ دينيٌ رجعيٌّ، بقدر تركيزه على استرجاع ماضٍ ما، وتمسكه بحرفية العقيدة ونظرته بحنينٍ إلى ماضٍ يرى ضرورة استرجاعه أو السير على هداه، بطريقةٍ أو بأخرى، وإسلامٌ تقدميٌّ وإسلامٌ/ فكرٌ دينيٌّ تقدميٌّ، بقدر رؤيته الجديدة التي يسمح بالتجديد وتتناسب مع الحاضر وتفتح الآفاق لمستقبلٍ أفضل.
هذا التمييز – الغائب تمامًا في المرحلة الأولى – بين نوعين من الفكر أو التأويل الديني (التأويل التقدمي النهضوي، والتأويل الرجعي المحافظ) موجودٌ، كما بيَّنا، في المرحلة الثانية، لكن وجوده، في المرحلة الثالثة، أصبح أكثر وضوحًا، ودوره أصبح أكثر أهميةً ومركزيةً، في تناول العظم للدين. ففي حين يقتصر العظم، في “ذهنية التحريم”، على الإشارة إلى هذا التمييز، إشاراتٍ “عابرةً” [48] ، بدون أن يبني عليها أو ينطلق منها؛ فإنه يستند إلى هذا التمييز تحديدًا، في تناوله للموضوع/ السؤال الأساسي المطروح في كتابه/ محاضرته: «هل يتوافق الإسلام مع النموذج العلماني الحديث؟» [49] كما تجدر الإشارة، في هذا الخصوص، إلى أن هذا التمييز، كان يتعلق، في المرحلة الثانية، بالفكر أو اللاهوت المسيحي والغربي تحديدًا، في حين اقتصرت الإشارة إلى الفكر الإسلامي الإصلاحي، في هذا الخصوص، من حيث كونه ينتمي إلى معارضة المقدس، وهي المعارضة التي تثير ضجةً كبيرةً، وتمارس «فعلًا تراكميًّا تحرريًّا وتحريريًّا في الفكر العربي الحديث وفي الحياة الثقافية العربية المعاصرة عمومًا.» [50] وفي كل الأحوال، يمثِّل هذا التمييز قطيعةً جزئيةً مميزةً مع المرحلة الأولى من تناول العظم للمجال الديني، إذ انتقل بموجبها من التركيز على الدين العقائدي الثابت أو الجامد والفكر الإسلامي المطابق له، أو المنحرف عنه، رغم ضرورة تطابقه معه، إلى الدين التاريخي أو الفكر الديني التاريخاني المتجدد والمجدد. ويغيب الحديث عن الدين والفكر الإسلاميين، بهذه الصيغة والإيجابية، تمامًا في المرحلة الأولى، التي يقتصر العظم، فيها، في المقابل، على الإشارة إلى التجديد أو التغيير الذي حصل في الفكر الديني المسيحي (الغربي تحديدًا)، تحت قهر الظروف والتطورات التاريخية المحيطة به.
وفي إطار إقامة التمييزات داخل الدين/ الإسلام والفكر الديني، رأى العظم أن “الجزء الأهم من المسألة الدينية في عالمنا العربي” يتمثل في الصراع العنيف جدًّا بين ثلاثة أطراف رئيسيةٍ على “ضبط معنى الإسلام ذاته وتحديد تعريفه والهيمنة على فحواه وطبيعة تطبيقاته”؛ ومن هنا تأتي إمكانية التمييز بين ثلاثة أنواعٍ من الإسلام، وفقًا لكل طرفٍ من الأطراف الثلاثة المشتركة في ذلك الصراع: الإسلام الأول هو “إسلام الدولة الرسمي”، وهو “إسلام الحكم المطلق” الذي يجد نموذجه الأعلى في “إسلام البترودولار” (إسلام “ولاية الفقيه” الإيراني، وإسلام “القرآن دستورنا” السعودي)؛ “الإسلام التكفيري التفجيري” الذي يتخذ من الحاكمية عقيدةً أساسيةً له ونجد نموذجًا له في “الحركات أو الأحزاب الإسلامية المتطرفة في الجزائر ومصر وسورية”؛ “إسلام البزنس” وهو “إسلام الطبقات الوسطى والتجارية والمجتمع المدني”، وهو “إسلامٌ معتدل ومحافظٌ”، و”يميل إلى التسامح الواسع في الشأن العام، وإلى التشدد في الشأن الشخصي والفردي والعائلي والخاص”، ونجد مثله الأعلى في “حكم حزب العدالة والتنمية لتركيا. [51]
وقد انصب تركيز العظم على “إسلام البيزنس” تحديدًا، في محاولته لإظهار إمكانية تقبل الإسلام التاريخي – ممثلًا ڊ “إسلام البيزنس” تحديدًا – للعلمانية والديمقراطية. وهكذا نجد أن العظم لم يعد يرى في الدين/ الإسلام أو الفكر الديني/ الإسلامي خصمًا ينبغي إقصاؤه أو استئصاله، بالضرورة، كما كان الحال، في المرحلة الأولى، خصوصًا أو تحديدًا، وإنما طرفًا سياسيًّا يمكن تقبل وجوده، أو على الأقل قبول هذا الوجود، والتعايش معه، بقدر قيامه بالتكيف مع متطلبات الديمقراطية والعلمانية، وما يفترضه ذلك من فصلٍ للدين عن الدولة ومن تقبل وجود أطرافٍ أخرى غير دينيةٍ و/ أو إسلاميةٍ، مغايرة له ومختلف عنه، اختلافًا كبيرًا.
وقد رفض العظم «الموقف المتعالي، السكوني، اللاتاريخي، الإقصائي الذي يضع مجموعةً من القيم الغربية الجامدة (الصنمية) في مواجهة مجموعة صنمية (جامدة) لقيم إسلامية متنافرة مع الأولى […].» [52] وفي مقابل هذا الموقف الميتافزيقي، شدَّد العظم، في ذلك الكتاب وفي غيره، على تاريخية القيم السائدة في “الغرب” و”الشرق على حدِّ سواء، وعمل على تذكير كل المعنِيين بأن «أعمق قيم الغرب لم تكن دومًا على غرار ما تمثله اليوم. وإن عمق القيم الأصيلة المفترضة في العالم الإسلامي ليست بحاجة إلى أن تبقى بالصيغة التي نراها الآن، أو أن تستمر على هذا النحو.» [53] وهكذا يخلص العظم إلى القول إن “الإسلام التاريخي” «أثبت دومًا نفسه قادرًا على التوافق، بدرجة كبيرةٍ، مع كل الأنماط الكبرى من الكيانات السياسية والأشكال المتباينة من التنظيم الاجتماعي والاقتصادي مما أنتجه التاريخ البشري ورماه في حيوات الشعوب والمجتمعات، من الملكيات […]. الإسلام كان مرنًا، متكيِّفًا ومطواعًا، وقابلًا للتأويل وإعادة التأويل، والمراجعة على نحوٍ لا نهائي […].» [54]
وقد احتفظ العظم برؤيته أو فهمه للدين ذاته، في تلك المرحلة، لكن لم يعد يرى مشكلةً أو لا مشروعيةً في وجود اختلافاتٍ كبيرةٍ بل وجذريةٍ في التأويلات التي يقدمها الإسلام التاريخي، ممثلًا بالإسلام السياسي، للدين؛ كما لم يعد ينطلق من فهمه الخاص للدين، من أجل النظر في مدى تطابق هذا الفكر الديني أو ذاك مع الدين أو اتساقه معه، بل ذهب إلى حد القول إن الدين/ الإسلام العقائدي لا يمكن أن «يكون متوافقًا مع أي شيءٍ سوى مع نفسه.» [55] وبذلك أعطى العظم (لا)مشروعيةً متساويةً لكل الأشكال الموجودة، أو حتى التي يمكن أن توجد، من الإسلام التاريخي. وقد ساعده ذلك على تجنب، أو التخلص من، ذهنية التكفير التي تتجسد في نصب المحاكمات لتحديد مدى تطابق هذا الفكر الديني أو ذاك مع الدين “الصحيح” الذي لا يمكن إلا أن يكون واحدًا. وبذلك سلَّم العظم بإسلامية أي فكرٍ يعلن انتماءه إلى الإسلام، ويستند إلى الإسلام العقائدي في إظهار هذا الانتماء وتسويغه؛ ولا فرق، في هذا الخصوص، فيما إذا كان هذا الإسلام التاريخي إسلامًا رسميًّا، أو جهاديًّا أو مدنيًّا. هذه الاستراتيجية الجديدة في التعامل مع الفكر الديني/الإسلامي (الإسلام التاريخي)، في علاقته مع الدين/ الإسلام العقائدي، كانت غائبةً تمامًا في المرحلة الأولى، وقد ظهرت إرهاصاتها في المرحلة الثانية، واكتمل هذا الظهور في المرحلة الثالثة. وتتقاطع هذه الاستراتيجية الجديدة مع الاستراتيجية القديمة، وتقطع معها، في الوقت نفسه. وقد ترافق حصول هذا التغير المنهجي في مقاربة العظم النقدية للمسألة الدينية، مع تغيرين موازيين بالغي الأهمية، في خصوص المواضيع التي استهدفت هذه المقاربة نقدها عبر المراحل الثلاث، وفي التخلي تدريجيًّا عن السمة النقدية التصادمية، لصالح تحليلٍ فكريٍّ متصالحٍ معها، جزئيًّا ونسبيًّا. فلفهم كل أو أهم أبعاد هذا التغير في استراتيجية مقاربة العظم النقدية للدين والفكر الديني، ودلالات هذه الأبعاد وحيثياتها ومسوِّغاتها وغاياتها، ينبغي معرفة مدى حصول تغيرٍ موازٍ في المواضيع المنقودة من جهةٍ، وفي السمة الصدامية أو التصالحية لهذا النقد، من جهةٍ أخرى.
وقد شهدت المرحلة الثالثة تراجعًا كبيرًا وملحوظًا للسمة الصدامية لمقاربة العظم للدين والفكر الديني؛ ولم يعد نقده جذريًّا أو يهدف إلى استئصال أو إقصاء هذا الدين أو الفكر الديني، بشكلٍ كاملٍ، من الشأن العام؛ كما لم يعد يقتصر على إبراز سلبياتهما والتشديد على عدم إمكانية تخليصهما من هذه السلبيات والتوفيق بينهما وبين متطلبات التقدم والحياة العصرية. ومع ذلك، فقد استمر العظم، في تلك الفترة أيضًا، في الاعتقاد بأنه «في الفكر العلمي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو التاريخي أو القانوني المعاصر [و] حتى في الأدب والفن والشعر والحب والجمال والإنسانيات […] المنحى العام هو المزيد من الابتعاد عن الديني ومقولاته وتفسيراته وتعبيراته إلا بالمعنى الرمزي والأداتي والتراثي البحث للعبارة.» [56] في المقابل، بدا واضحًا للعظم ازدياد حضور الإسلامي التاريخي في المجال السياسي، متمثلًا بالأشكال الثلاثة الأساسية من هذا الإسلام السياسي: إسلام الحكم المطلق الرسمي، إسلام التكفير والتفجير الظلامي، إسلام البيزنس والوسطية والمجتمع المدني.
لمَ انتقل العظم، في تناوله للموضوع الديني، من العلمانية الصلبة إلى العلمانية اللينة أو من المواجهة الصدامية إلى المقاربة التصالحية؟ للإجابة عن هذا السؤال، ينبغي أن نأخذ في الحسبان تغير العامل الزمني/ التاريخي وما رافقه من تطورات وتغيراتٍ موضوعيةٍ. فالمراحل الثلاث التي نتحدث عنها تغطي فترةً تزيد عن خمسين عامًا. وقد حصلت، في هذه الفترة، تغيراتٌ كثيرةٌ وكبيرةٌ، ومن الطبيعي أن يتم أخذها في الحسبان في المقاربة النقدية للواقع والفكر العربيين.
لقد بدأ العظم نقده للدين والفكر الديني في فترةٍ كان يعتقد فيها أن هذا الدين والفكر المستند إليه زائلان لا محالة. وكان نقد العظم يروم تسريع هذا الزوال وتأكيد ضرورته وأهميته. وعلى أساس هذا الاعتقاد، انبنى الطابع الصدامي اللا-حواري، الذي اتسم به نقد العظم في تلك الفترة. فلِمَ الحوار مع عدوٍ متقهقرٍ ومهزومٍ بالتأكيد في النهاية؟ ونصوص العظم، في تلك الفترة، مليئةٌ بالشواهد على وجود ذلك الاعتقاد آنذاك. [57] فالدين والفكر الديني كانا، من وجهة نظر العظم، من مخلفات الماضي التي لا تنسجم مع معطيات الحاضر، وتقف عقبةً في وجه التقدم نحو مستقبلٍ عصريٍّ أفضل؛ ومن هنا تأتي ضرورة التخلص منهما أو العمل على تسريع عملية الخلاص منهما.
وباختصارٍ، ثمة عوامل متعددة ومتشابكةٍ أسهمت في انتقال العظم، في المرحلة الثالثة تحديدًا أو خصوصًا، من المواجهة الصدامية للعلمانية الصلبة إلى المقاربة التصالحية للعلمانية اللينة مع الدين والفكر الديني. ويمكننا تكثيف هذه العوامل في ازدياد بروز مساوئ الأنظمة السياسية الحاكمة في البلدان العربية عمومًا، وفي سورية ومصر خصوصًا، والحضور المتزايد للإسلام التاريخي في المجال السياسي العربي ونجاح تجربته التركية، وتأثيراتها (الإيجابية) المتزايدة على “إسلام البيزنس” العربي، وتزايد القناعة بعدم إمكانية استئصال هذا الإسلام وإبعاده، إبعادًا كاملًا، عن المجال السياسي، والحاجة الكبيرة إلى لإصلاح الديني الذي أقر العظم أنه لا يمكن أن يتم إلا من داخل هذا الإسلام التاريخي نفسه [58] . انطلاقًا من كل ذلك، بدأ العظم في الحديث عن إمكانية توافق هذا الإسلام مع النظام السياسي الديمقراطي العلماني؛ وتخفيف حدة نقده لهذا الإسلام تخفيفًا كبيرًا، لكن ذلك لم يمنعه من إبداء شكوك كبيرةٍ حيال فرص تحقق هذه الإمكانية والعبور مع الاستمرار في توجيه نقده الصدامي والإقصائي إلى الإسلامين الرسمي والتكفيري التفجيري.
خاتمة
على غرار التحوُّل الذي حصل في العلوم الاجتماعية حيال أطروحات نظريات العلمنة التقليدية، حصل تحولٌ مشابهٌ في رؤية العظم العلمانية، عبر مسيرته الفكرية الطويلة، حيث انتقل من رؤيةٍ علمانيةٍ صلبةٍ، ترى الدين عائقًا وعدوًا للحداثة والتقدم، ينبغي إقصاؤه من المجال العام وتحرير الدولة والمجتمع والأفراد منه، إلى رؤيةٍ علمانيةٍ لينةٍ ترى إمكانية انسجام الدين مع قيم الحداثة من ديمقراطية وعلمانية ومنظومة حقوق إنسانٍ، بدون نفي إمكانية أن يتخذ الدين صيغًا سلبيةً ينبغي انتقادها نظريًّا، والتخلص منها عمليًّا. وبذلك يكون العظم من المفكرين العرب الأوائل والبارزين الذين تضمن فكرهم تحولًا متناغمًا مع التحول في الذي حصل في تناول نظريات العلمنة. وقد مارس العظم هذا التحول او أنجزه بدون أن يعلن عنه، أي بدون أن يصرح بأن مواقفه قد تغيرت في هذا الخصوص، أو أنه قد قام بمراجعةٍ نقديةٍ لمواقفه ونصوصه السابقة، أو أنه تأثر بالتحولات الحاصلة في العلوم الاجتماعية حيال نظريات العلمنة التقليدية. وإضافةً إلى إمكانية تأثر رؤية العظم للعلمانية بالتحولات المعرفية التي حصلت في العلوم الاجتماعية حيال نظريات العلمنة التقليدية، ثمة عوامل أخرى، أسهمت في حصول ذلك التحول. ويمكن الإشارة إلى أن مرونة علمانية العظم ازدادت طردًا مع ازدياد اهتمامه بالديمقراطية (الليبرالية) وإدراكه لأولويتها، بعدما كان يعطي، في السابق، الأولوية لمشاريع التحرر والتحول الاشتراكي.