جسّد صادق جلال العظم -فيلسوف الشّكّ والنقد والبناء في الثّقافة العربيّة- قيم المحاججة والسجال من أجل التحريض على التحرّر والانعتاق من كلّ ما يكبّل حريّة الإنسان، فهو مبتكر الأسئلة الصّادمة والإشكاليّة؛ في زمن اغتراب الفكر النّقديّ والتنويريّ، وهيمنة العقول الإطلاقيّة والمتكلّسة، المتواطئة مع الاستبداد، فقد كان النّقد متّهمًا بصورة مسبقة، بأنّه يشكّل حجر عثرةٍ أمام الاتّجاهات الثوريّة التّحرريّة، وأنّه تشكيكٌ في القدرات العربيّة، وإضعافٌ لها أمام التحديّات و(المؤامرات الكونيّة)، والنّقد لديه يعني نقدَ ذهنيّات التحريمِ والاقصاء والقمع بأشكاله وتعريتها كلّها، خلالَ التحليل الدّقيق من أجل تحديد مكامن الضّعف، وأسباب العجز والمؤثّرات المؤدّية إلى وجود العيوب والنقائص[1]، وبهذا يغدو النّقد هادفًا وإيجابيًّا مهما بدا لأوّل وهلة، سلبيًّا وقاسيًا، كما دافع عن ممكنات الحداثة بكلّ تجليّاتها، وضرورة تزوّد الإنسان بمنظورٍ حداثيّ متطوّر للعالم، إذ اعتقد أنّ الوعي المتخلّف يبدّد عمق الأفكار التّقدميّة ومعناها، وفي أثناء تحليله لهزيمة حزيران، تحدّث عن تصوّر علمانيّ للعالم، يحرّر “العقل المحارب” من الأساطير والخرافات والضمان المتعالي المجانيّ، وعن العلم كقوّة اجتماعيّة منتجة[2]، وكان شجاعًا في قبول نقد الآخرين له، و قراءة المختلف والمغاير لنمط تفكيره، لما في ذلك من فوائد علميّة وعمليّة وفكريّة وفلسفيّة، إذ إنّ تلك القراءة توسّع آفاق المعرفة عبر امتحان وعي الذّات بما تقدّمه من صدمات مثمرة فيما إذا أُحسِن استثمارها، وتجلّى ذلك كلّه من خلال مشروعه الفكريّ والذي كان نقديّا بامتياز، عبر مسار حياته كلّها، نظريًّا وعمليًّا.
وقد أتى إلى الماركسيّة عن طريق الثقافة الليبراليّة، الّتي اكتسبها في الجامعة الأمريكيّة ببيروت، من خلال الاطّلاع على مصادرها الكلاسيكيّة الأصليّة، ودراسته لكلٍّ من جون لوك وجون ستيورات مل وريكاردو، وهيوم، وجان جاك روسو وغيرهم[3]، لهذا كانت الماركسيّة لديه المحصلّة المنطقيّة الطبيعيّة لهذا المسار من المعرفة والثّقافة. إنّ تلك النقلة إلى الماركسية قد نضجت نضجًا طبيعيًّا و بشكلٍ تراكميّ، وليس بسبب انتماءٍ سياسيٍّ أو حزبيّ، أو تأثّرٍ بأشخاصٍ بعينهم، وبهذا كانت هذه المؤثّرات كلّها إرهاصات لنموّ شخصية المثقف المستقلّ والحرّ، والذي سوف يكون له الدور المهمّ في تطوير المنهج الماركسيّ ، وإثبات مرونة ذلك المنهج وقدرته على التطوّر عبر النقد والتجاوز، انسجامًا مع الرؤى الفلسفيّة الحديثة والمتجدّدة، والعلم الذي يتّسم بأنّه في حالة تغيّر دائم ، لذلك فهو ملزم في سياق سيرورة تطوّره أن ينظر إلى مكتسباته بعين النقد، من أجل التقُّدُّم.
تعامل العظم مع العلم على أنّه نسبيّ، وخاضع لصيرورة دائمة، حيث تقود كلّ مرحلة إلى ما بعدها، عبر تجاوزها، فالمعرفة العلميّة إذًا معرفة جدليّة، وهذه من البدهيّات الّتي كانت حاضرة في منظومته الفلسفيّة و الفكريّة، وكان العلم لديه الأساس الرئيس الذي يبني فوقه محاكمته الشاملة، إذ إنّه أداةٌ رئيسة لتحرير العقل والإنسان، والماركسيّة تتويجٌ علميٌّ لما سبقها، أي إنّها العلم التحرّريّ الأكثر تقدُّمًا، وهي لحظة متميّزة في تاريخ إنتاج المعرفة، وتتويجًا لهذا التاريخ، فهي علميّة، لأنّها تستند على إنجازات علميّة سبقتها ومهّدت لها، وهي تحرريّة لأنّها تقدم للعقل أدوات يقارب بها واقعه بشكل صحيح، وتتكوّن داخل تاريخ إنتاج المعرفة الموضوعيّة.
وبهذا كان فيلسوفا ماركسيًّا منفتحًا على العلم وتطوّره، ولذا تبنى العظم الماركسيّة التاريخيّة والجدليّة المتطوّرة بتطوّر العلوم، والّتي لا يمكن رؤيتها خارج البنى التّاريخيّة الّتي وُلِدت في أحشائها، انطلاقًا من الترابط العضويّ بين تاريخ الفلسفة وتاريخ العلم، الذي كان له الدّور الحاسم في الإنتاج التّدريجيّ للفلسفة الحديثة.
تبلورت الثقافة لديه بوصفها ممارسةً نقديّة، إذ تجسّدت نزعته النقديّة في فلسفته عبر نقده لذاته أوّلًا، والمنظومات المتكلّسة كلّها، الفكريّة والدينيّة والإيديولوجيّة، المعيقة للحريّة والتّقدُّم والعدالة، ولم يهادن السلطات ولم يستكِنْ للمألوف والسائد، وبهذا كلّه شكّل علامةً فارقةً في الثقافة العربيّة بوصفه أحد أهمّ فلاسفة الفكر النّقديّ الحديث، إلى جانب مفكّرين آخرين مثل: إلياس مرقص وجورج طرابيشي وياسين الحافظ وغيرهم…..
كان متواضعًا ومنصفًا وموضوعيًّا في تقويمه لتجربته الغنيّة وتجارب الآخرين، عندما نظر إلى ما أنتجه على أنّه جزءٌ من تيّار يعود إلى عصر النّهضة، وبدايات النقد الأدبيّ والفكريّ والاجتماعيّ الّذي تبلور آنذاك، وأشار إلى أنّ هناك سلسلة طويلة من الدراسات الشبيهة بـ”نقد الفكر الدينيّ” وغيره من أعماله، أثارت زوابع وسجالات وردود أفعال متباينة، منذ قاسم أمين وعلي عبد الرزاق وصولًا إلى فرج فودة ونصر حامد أبوزيد ونجيب محفوظ وغيرهم[4]…
ورأى أنّ هذه إنجازاتٌ لابدّ من الدفاع عنها، بالحجج والبراهين المنطقيّة والعقلانيّة، وقد اقترح في غير موضع على الإنتلجنسيا العربيّة، والمثقفين العرب عمومًا، وكلّ من يعمل في الحقل السياسيّ والفكريّ ميثاق شرفٍ:
“إذا كان أجدادنا قد قالوا: (العين بالعين والسنّ بالسنّ)، والتزموا الأشهر الحُرم، فلنقل نحن: الكتاب بالكتاب والقصيدة بالقصيدة، والبحث بالبحث والرواية بالرواية، ولتكن الأشهر كلّها حُرمًا[5]“.
وقد شكّل الواقع، بكلّ ما ينطوي عليه من إشكاليّات وممكنات – أضف إلى ذلك النصّ الماركسيّ- والمنابع الفلسفيّة المتنوّعة، القديمة والحديثة والمعاصرة، والتطوّرات العلميّة، أهمّ مرجعيّات العظم، فقد كانت ممارسته نقدًا ونقضًا لكلّ ما من شأنه أن يقمع الإنسان ويقيّد فكره، وبهذا تبلور النّقد لديه بوصفه منهجًا ورؤيةً، فكان مثقفًا ماركسيّا ونقديًّا بآن، ونمت سجالاته كلّها خارج سطوة النّصّ أو أيّةِ أيديولوجيا مغلقة، وينضوي مجمل ما كتبه في إطار النّقد، (نقد الفكر الدينيّ)، (نقد الفكر المقاوم)، (النّقد الذّاتيّ بعد الهزيمة)، (الاستشراق والاستشراق معكوسًا)، (ذهنيّة التّحريم)، (ما بعد ذهنيّة التّحريم)، (دفاعًا عن الماديّة والتّاريخ)، والذي كان عبارة عن قراءة نقديّة متميّزة في تاريخ الفلسفة الحديثة، إنّه دفاع عن الماديّة ليس استنادًا إلى نصوص مسبقة، بل استنادًا إلى قراءة لتاريخ الفلسفة الحديثة والمعاصرة؛ وللثورة العلميّة الحديثة الّتي كانت الفلسفة إحدى أهمّ ثمارها، وحكمت تطوّراتها منذ نهاية القرن الثّامن عشر في أوربّا، وأراد من خلال هذا الكتاب الدفاع عن الفكر النّقدي التاريخيّ، في تناول النظام الرأسماليّ العالميّ، وهو الفكر الذي تتجسّد صورته الأرقى في الماركسيّة وتنوّعاتها الكثيرة، ولاسيّما أنّ هذا النّوع من الفكر باقٍ ببقاء الرأسماليّة نفسها[6].
تجلّت ماركسيته النّقدية في منهج عقلانيّ، ينحت الأسئلة من البنى الاجتماعيّة، وكان يعتقد أنّ معيار صدق الأفكار وأهميّتها هو الواقع الملموس والمتعيّن، ويشكّل مفهوم العلم لديه المحور الأساسيّ الّذي بنى من خلاله منظومته الفلسفيّة والفكريّة، فهو من أهمّ إنجازات البشريّة الّتي سوف تُسهم في انعتاق الإنسان وتحرّره من كلّ القيود الّتي تقيّد طاقاته، (تقدّم العلم لا يعني شيئًا إذا لم يعنِ تحسين معرفتنا بالواقع الفيزيقيّ وقوانين حركتها وتوسيعها وزيادتها) [7]
وتُعدُّ فلسفة التّقدُّم أهمّ مراجع ماركسيّة العظم، إذ تتبلور وتثبت حضورها الحيويّ في صراعها المفتوح ضدّ الأفكار والقيم والممارسات التي تعيق مسار التّقدم، وهذا ما أشار إليه العظم عند تحليله مفهوم البنية الفوقيّة عند ماركس، الّذي تبلور وتطوّر بسبب النّقد الرّاديكاليّ الذي قدّمه اليسار الهيجليّ عمومًا، وماركس بالتحديد؛ إلى ظواهر مثل الدين والحقّ والفكر والثّقافة والدّولة…وبخاصّة الفلسفة السائدة في ألمانيا الّتي كانت تُرجع تلك الظّواهر إلى مصادر إلهيّة أو روحيّة متعالية[8]….
تعامل العظم مع الماركسيّة على أنّها عملٌ نظريّ، على الضدّ من التأويلات الفكريّة الباحثة عن الحقائق في ضمان خارجيّ، أي أنّها نظريّة تُحيل إلى الإنسان والفعل الإنسانيّ، من هنا يُقوِّم العظم الوحدة العضويّة بين الماركسيّة وفلسفة التنوير، حيث تكون الأولى استمرارًا للثانية، وتطويرًا متميّزًا لها، (إنّها استمرارٌ لتقليد علميّ ثوريّ تحرريّ طويل عريق، وتتويجٌ له في حقبتنا الحاضرة، علينا أن نؤكّد هذه النقطة كي لا نفقد ذاكرتنا التّاريخيّة، وكي لا تفقد الماركسيّة عمقها التّاريخيّ).[9]
وانطلاقًا من رؤيته -والتي انسجمت مع ما ذهب إليه سارتر- أنّ الماركسيّة فلسفة العصر بامتياز، وأنّ ماركس أسس منظومته الفلسفيّة والفكريّة من خلال الاستيعاب النقديّ لعلوم زمانه، فكان بذلك الوريث الشرعيّ لتلك العلوم، إذ ورث الاقتصاد السياسيّ الكلاسيكيّ وماديّة القرن الثّامن عشر الميكانيكية ومثاليّة هيجل؛ فإنّ العظم قد انتقد معظم تيّارات الفلسفة الحديثة ، وصولًا إلى آخر تيّارات الماركسيّة، في ارتباط هذه التّيارات بحركة التّطوّر والصراعات الاجتماعيّة ، منذ ديكارت وكانط وهيدجر، مرورًا بسارتر ولوكاتش ومختلف المدارس البنيويّة وصولًا إلى آلتوسير وتلامذته مثل باليبار، إذ اعتقد أنّ محاولة آلتوسير تنطلق من شرطين هما:
الإبعاد الضمنيّ والصّريح أحيانًا، لماديّة الماركسيّة، وإعادة تأويل معنى العلم والعلميّة تأويلًا مثاليًّا منسجمًا مع متطلبّات التيّار الفلسفي الّذي تجري مزاوجته مع الماركسيّة[10]، وينتج عن ذلك بطبيعة الحال، نزع أهمّ عناصر الماركسيّة، أي كلّ ما له علاقة بالصيرورة والتّاريخ والجدل من الماركسيّة، والسؤال المهمّ في هذه الحالة، ماذا يتبقّى من الماركسيّة بعد سلخ كلّ تلك العناصر منها؟
وفي هذا السّياق، يفصح العظم عن استنتاج مغاير للاستنتاجات الّتي توصّل إليها معظم نقّاد آلتوسير، مفاده: أنّه على الرغم من هجوم آلتوسير على هيجل وماركسيّة جورج لوكاتش الشّابّ، ومع نقده الشديد للماركسيّة التّاريخانيّة والإنسانويّة الّتي ارتبطت بكتاب (التّاريخ والوعي الطبقيّ) وسارتر، فإنّ الحصيلة العامّة لإنتاج آلتوسير النّظريّ والفلسفيّ أقرب بكثير إلى رؤى لوكاتش الشّابّ، ويرى العظم أنّ هناك تقاطعات بين آلتوسير ولوكاتش يمكن تكثيفها بما يأتي:
استمدّ كتاب لوكاتش (التّاريخ والوعي الطّبقي) تأثيره من كونه أبرز محاولة تجديديّة “يساريّة” جريئة للماركسيّة الغربيّة، واستمدّ كتاب آلتوسير (من أجل ماركس) تأثيره من كونه أبرز محاولة تجديديّة يساريّة للماركسيّة الغربيّة، والفرنسيّة بصورة خاصّة، بعد انحلال الستالينيّة عمومًا وستالينيّة الحزب الشيوعيّ الفرنسيّ تحديدًا.
يناقش العظم مشروع آلتوسير الّذي يمكن تكثيفه من خلال محاور أساسيّة، منها تأكيد علميّة الماركسيّة، وتبلورها بوصفها نقيضًا لكلّ الأيديولوجيّات التّاريخانيّة والإنسانويّة و الاقتصادويّة والتجريبيّة، أضف إلى ذلك التّبشير بموت الذّات والإنسان، مستنتجًا أنّ علميّة الماركسيّة عند آلتوسير تعني مركزيّة الموضوع في المعرفة لصالح أولويّة الجّهاز المعرفيّ ذاته، ولا إنسانويّة الماركسيّة عنده تعني موت مركزيّة الإنسان الفاعل الصّانع لصالح أولويّة البنى المفعولة المصنوعة، وبالتّالي لا تاريخانيّة الماركسيّة تعني موت مركزيّة التّعاقب التّطوّريّ لصالح أولويّة التّزامن الوظيفيّ، وتعني أنّ لا تجريبيّة الماركسيّة موت مركزيّة الواقع المادّيّ لصالح أولويّة النّموذج النّظريّ، ولا اقتصادويّة الماركسيّة تفسّر على أنّها موت مركزيّة القاعدة الاقتصاديّة لصالح أولويّة الكلّ الاجتماعيّ.
تقول الإنسانويّة بوجود مجموعة من الخصائص الجوهريّة المشتركة المعطاة مسبقًا، والتي تميّز الإنسان، مثل الوعي والفعل والحريّة والاختيار والمسؤوليّة، إذ لا يمكن محاولة تفسير تاريخ البشريّة دونها، وفي هذا السّياق يقع التفكير الآلتوسيريّ في إشكال، فالماديّة التّاريخيّة ترفض التّصوّر الرّوحي المثاليّ الطّاغي على إنسان الإنسانويّة وخصائصه، كما عند هيجل ولوكاتش الشّابّ وسارتر، ….لكنّها لا ترفض الإنسان وخصائصه المميّزة بالمطلق كما يزعم آلتوسير، فقد أحلّ ماركس في تفسيراته البشر الواقعيّين المنتجين لشروط حياتهم والذين يكتسبون بلا جدال الوعي والقصد وحريّة الاختيار والثقافة… محلّ (الإنسان) أو الجوهر الإنسانيّ المعطى مسبقًا بتمامه وكماله المثاليّ.
ويرى العظم أنّ الآلتوسيريّة بدل أن تردّ بالعلم على الأشكال الإيديولوجيّة المثاليّة للإنسانويّة، تكتفي بطرح أيديولوجيا مضادّة، هي أيديولوجيا موت الإنسان بالمطلق، وبهذا لا تقل مثاليّة عن الإنسانويّة الأولى، وقد بات من المعروف أنّ آلتوسير ومدرسته ومعه كلّ منظّري المدرسة البنيويّة من أمثال بولانتزاس، وأتيان باليبار، يرون أنّ البشر ليس لديهم وجودٌ فعليّ في حركة التّاريخ، وحتّى داخل علاقات الإنتاج الاجتماعيّة لا يحضر هؤلاء البشر بوصفهم ذواتٍ فاعلةً، وإنّما تحدّد بنية علاقات الإنتاج أمكنة وأعمالًا يحتلّها صانعو الإنتاج ويتكفّلون بها، فالممارسات السياسيّة والاقتصاديّة والإيديولوجيّة لا تعني بحال العودة إلى إشكاليّة الفاعل الّتي ترى أنّ الممارسة هي من صنع البشر كأفراد محدّدين أو طبقات اجتماعيّة، بل الأفراد باعتبارهم دعائم للعلاقات الاجتماعيّة الموزّعة بين الطّبقات الاجتماعيّة المختلفة أشخاصًا[11].
لنا أن نستنتج أنّ بنيةً دون فاعلٍ هي الرافعة الأساسيّة في الفهم البنيويّ للبنية الاجتماعيّة وتحوّلاتها، وبهذا نصل إلى دعوات موت الذّات، ونهاية التّاريخ، فالمقصود بالذات هو الإنسان الّذي يحمل بداخله إمكانيّات لا حصر لها لصنع التّاريخ، وتغيير الطبيعة والمجتمع.
والسّؤال المهمّ الّذي يهمله آلتوسير، بحسب العظم، يمكن تكثيفه بـ: ما هذه الماركسيّة العلميّة الخاصّة الّتي لا تتعامل مع دارون والبيولوجيا التطوُّريّة مثلا إلّا بعد طرح ذلك الكمّ الهائل من البراهين الحسيّة والملاحظات الاستقرائيّة والحقائق التّجريبية الّتي يزخر بها كتاب (أصل الأنواع) والّتي تشكّل ركيزته المعرفيّة والعلميّة الأساسيّة[12].
فقد تأثّر ماركس بأعمال داروين وأهمّها كتابه المذكور، إذ لاقت أفكار داروين استحسانًا لديه بسبب ماديّتها، الّتي سوف تدعم وجهة نظره، ومن الممكن أن نضيف تاريخًا ماديًّا للطبيعة، على الرُّغم من أنّ داروين لم يكن ديالكتيكيًّا مثل ماركس، إلاّ أنّه اكتشف قانون تطوُّر الطّبيعة العضويّة، كما اكتشف ماركس قوانين تطوّر التاريخ البشريّ.
قد لا نقع في المبالغة إذا وصلنا إلى استنتاج مفاده أنّ العظم استند أحيانًا إلى معايير صلبة في نقده الآخرين، كالنموذج الماركسيّ الّذي يعتقد بصحّته، من هنا فقد وجد في آلتوسير ولوكاتش وغيرهما ممّن وقع عليهم مبضعه النّقديّ، أنّهم خصومٌ لذلك النّموذج، على الرُّغم من أنّهم قدّموا العديد من القراءات الّتي تدلّل على حيوّية المنهج الماركسيّ، الذي يتكيّف مع المستجدّات العلميّة وبنى الحداثة ومفرداتها، وربّما رغب العظم في إقصائهم خارج ذلك الحقل، بدعوى أنّ قراءاتهم كانت إقحامًا لتيّارات فلسفيّة على تضادّ مع الماركسيّة، مثل: البنيويّة بكلّ اتّجاهاتها والوجوديّة وغير ذلك ..إذ نظر إلى هذه الاتّجاهات وسواها، على أنّها إعادة إنتاج للفكر المثاليّ الذي يتناقض مع التّقدُم والعلم والعقلانيّة لذا استنتج أنّ كلّ ما قدّمه آلتوسير يغدو لا أهميّة له، إذا ما أُخضع إلى معيار القوانين الماركسيّة.