تناقش هذه المقالة نموذج الحكومة التوافقية وقدرتها على إنهاء الصراعات المسلحة في البلدان التي تشهد انقسامات إثنية أوطائفية أو دينية أو اجتماعية، وتحقيق مستوى من مستويات السلام من خلال مبدأ تقاسم السلطة. يعتمد هذا النموذج والذي يعد شكلًا من أشكال الحكم الديمقراطي على إشراك جميع (الخصوم المحليين السابقين) في الحكم معًا (كما هو الحال في أيرلندا الشمالية ولبنان والبوسنة). ولكن على النقيض من ذلك، قد يساهم تطبيق نموذج الحكم التوافقي في تعميق جذور الانقسام في مثل هذه المجتمعات، وتأجيج أسباب الصراع من خلال شرعنته في مستويات السلطة العليا، وجعله واقعًا لا فرصة لتجاوزه، ولا سيَّما مع تكريس أسس للمشاركة السياسية، قد تعطل فعليًا الجوهر الحقيقي للديمقراطية.
مقدمة
يعد الصراع الإثني القومي أحد أبرز مسببات النزاعات والاضطرابات الداخلية في جميع المجتمعات [1]، لذا فهو يشكل أحد المعوقات والتحديات الرئيسة التي تحول دون تطور مجتمعات سلمية تمارسُ الديمقراطية الفاعلة. إضافة إلى ذلك، فإن التجربة التاريخية أشارت إلى أن التصويت في الانتخابات، وهو من المفترض أن يكون أحد مظاهر الديمقراطية، يتم على أساس إثني أو طائفي في المجتمعات المنقسمة إثنيًا، ما يدل على أن ديمقراطية ويستمنستر ليست حلًا مثاليًا وواقعيًا لإنهاء هذا النوع من الصراعات[2]. ولأن هذا الواقع أثبت أن تطبيق الديمقراطية المعيارية أمر شبه مستحيل في المراحل الأولى التي تتلو إنهاء الصراعات الداخلية، فقد تم إيجاد آلية النظام التوافقي أو كما يسميها بعض المنظرين “الديمقراطية التوافقية” والتي تقوم على أساس تقاسم السلطة و وربما الحكم الذاتي كخيار محتمل لتنظيم وإدارة الانقسامات التعددية والطائفية والقومية المنتشرة حول بلدان مختلفة في العالم، لكن هذا الحل أعطى نتائج متباينة في التطبيق، ولم يحقق أهدافه ذاتها في كل الحالات.
وتعاني كثير من الحكومات التي تعمل في ظل نظام توافقي أزماتٍ تتمحور حول صراعات على السلطة والتمثيل، فلبنان البلد الأشهر بتطبيق هذا النموذج منذ استقلاله، يتعامل مع الحكم التوافقي بوصفه نمطًا لاغنى عنه، لكن ذلك لم يحل دون خوضه حربًا أهلية طويلة ومدمرة، وتعرضه لانقسامات أفقية حادة إضافية على مستوى الكيانات الطائفي نفسها، وكثيرًا ما أخفق في تحقيق استحقاقات سياسية جوهرية مثل انتخاب رئيس الجمهورية الذي ما زال منذ نحو عام كامل عرضة للمزايدات والخلافات[3]، وكذلك وصول البلاد إلى حالة غير مسبوقة من الانهيار الاقتصادي.
وفي مثال آخر، يعتقد الممثل السامي في البوسنة والهرسك أنه على مدار ثلاثة عقود بعد تطبيق الحكم التوافقي ما زالت أسباب الصراع قائمة بقوله «تسببت الأحزاب القومية في تعزيز الانقسامات السياسية داخل البوسنة وقسمت البلاد بينها».[4] أما في العراق فيبدو المشهد أكثر حدة؛ إذ يصف تقرير صحفي الأزمة السياسية بأنها أزمة وجودية تعود أسبابها لعدم إجماع الطبقة السياسية والذي يفترض أن يكون أساسًا في النموذج الحكم التوافقي المطبق في البلاد[5].
تثير هذه الأمثلة شكوكًا وأسئلة حول كفاءة النظام التوافقي كشكل من أشكال الحكم الديمقراطي في إنهاء الصراع وإدارته بشكل جذري، بغية نقل المجتمعات المنقسمة والمتشظية إلى أن تكون أكثر انسجامًا وتوافقًا.
أولًا: أهمية الحكومة التوافقية كنظام حكم في المجتمعات المنقسمة
يعود مفهوم التوافقية إلى كتابات الفيلسوف الألماني يوهانس ألثوسيوس (1557- 1638)، إضافة إلى أكاديميين آخرين مثل ديفيد إي أبتر الذي كان أول من صاغ المصطلح في عام 1961.[6] ولكن ارتبط تأطيرها كنظرية بأركان واشتراطات بالعالم السياسي الهولندي الأمريكي أرند ليبهارت في عام 1967 والذي درس مدى نجاح تجارب التوافقية في المجتمعات المتعددة، والإمكانات التي توفرها للوصول إلى الحكم الديمقراطي من خلال تطبيقها في الدول الإسكندنافية وهولندا وبلجيكا.[7] ويرى عزمي بشارة أنَّ مفهوم التوافقية كممارسة سبق النظرية، لكنه يؤكد أنها لا تمت للديمقراطية بصلة ولا تؤدي لها بعكس ما نظر له ليبهارت في بعض تطبيقاتها في دول عديدة.[8]
وبحسب أوليري فإن الديمقراطية التوافقية ترتكز على مبدأ “الائتلاف السياسي” “political consociation” بمعنى أنَّ مجموعتين أو أكثر من المجموعات الإثنية أو العرقية تتعايش في دولة واحدة على نحو سلمي، مع عدم تفوق أيٍّ منها مؤسساتيًا على الأخرى، وتتشارك سياسيًا في صناعة القرار على عدة مستويات من خلال الحكم الذاتي والحكومة المشتركة.[9] يوضح شيكنر أن الحكومة التوافقية مُصممة لتمكين التمثيل السياسي ومشاركة الأغلبية العرقية أو الإثنية والأقليات في الحكم، وإتاحة الوصول إلى السلطة السياسية والموارد بغية تحويل الأعداء والمتصارعين على الحكم إلى شركاء فيه.[10] ويفترض ليبهارت[11] أن الأركان الأساسية لتطبيق التوافقية تشمل: أولًا: ائتلاف واسع “”grand coalition مكون من عدة أحزاب تمثل مختلف مكونات المجتمع؛ ثانيًا: التمثيل النسبي ”proportional representation” من خلال نظام التصويت والتوظيف في القطاع العام؛ ثالثًا: حق النقض المتبادل “mutual veto” وذلك بمنح كل مجموعة سلطة استخدام حق النقض لمنع اتخاذ قرارات سياسية تهدد مصالحها أو حقوقها؛ رابعًا: الحكم الذاتي “autonomy”.
ويطلق ليبهارت على الديمقراطية التوافقية مصطلح “تقاسم السلطة”[12]، وبحسب تعريف أوليري وماكغاري فإن تقاسم السلطة يقتضي ضمان الحقوق والهويات والمساواة والحريات والفرص لجميع المجموعات الإثنيةوالقومية في مختلف المؤسسات السياسية والاجتماعية.[13] وهكذا نجد أن تقاسم السلطة في المجتمعات ذات المكونات الطائفية والإثنية المختلفة يمنح هذه المكونات القدرة على المشاركة السياسية، بدلًا من استفراد مجموعة واحدة بالحكم والموارد.
ويتعامل مبدأ تقاسم السلطة مع الإشكالية الأساسية في المجتمعات المنقسمة المتمثلة في “شخص واحد، صوت واحد”، فإذا كانت إحدى المجموعات الإثنية أو القومية أكبر عددًا من المجموعات الأخرى، كما هو الحال في كثير من الأحيان، وإذا صوت الناس على أساس إثني أو قومي، كما هو الحال أيضًا. وفي كثير من الأحيان، فإن الأغلبية سوف تكتسب السلطة مرارًا وتكرارًا. وهذا بدوره يمكن أن يؤدي إلى تهميش الأقليات مع الوقت، وجعلها غير مستعدة لإبداء الولاء لسلطات الدولة. لذا فإن الحكومة التوافقية أو تقاسم السلطة يمكن أن يكون خيارًا مناسبًا لمنح جميع المجموعات نصيب من السلطة ما يسمح للأفراد جميعًا بالمشاركة في حكم الدولة، وبحسب المسوغات النظرية للحكم التوافقي فإنه عندما يكون لجميع المجموعات الإثنية/ الطائفية/ الدينية الرئيسة حصة في السلطة، تفقد المنافسة السياسية إقصائيتها، ويضعفُ الحافز للقتال من أجل السيطرة على الدولة.[14]
ويعتقد معظم المنظرين السياسيين منذ زمن أفلاطون وأرسطو أنَّ تأسيس الديمقراطية والحفاظ عليها في المجتمعات المنقسمة لا يمكن تحقيقه إلا من خلال استخدام صيغ ديمقراطية أقل صرامة [15]؛ لذا يمكن للحكومة التوافقية أن تعبد الطريق تدريجًا للانتقال من الصراع الداخلي على السلطة إلى حكم ديمقراطي معياري عوضًا عن الانتقال بشكل مباشر للديمقراطية التي تنشدها الأغلبية، وهو ما تدعمه التجارب السياسية إلى حدٍ ما. وبالتالي فإن النظام التوافقي هو آلية لإدارة الصراع وليس هدفًا بحد ذاته كالديمقراطية. ويعتقد روثشيلد أنه في أفضل الأحوال، قد توفر الحكومة التوافقية الأساس للديمقراطية واحترام الدولة لحقوق الإنسان، كما كان الحال في جنوب أفريقيا، ولكن يبقى مدى فعالية ذلك بعد مرحلة الانتقال من الصراع موضع جدل.[16] وتتفرد التوافقية في تسهيل الانتقال السياسي بطريقة سلسة مقارنة بنماذج الحكم الأخرى، من خلال أنها لا تتطلب التعاون بين المجتمعات والقواعد الشعبية، بل بين النخب السياسية التي تثق بها مجموعاتها المختلفة لتمثيلها.[17]
يعطي كل منظر سياسي وزنًا مختلفًا لعوامل نجاح الحكومة التوافقية في تنظيم الصراع الإثني القومي ًاابتداءً من تجميده إلى إنهاءه بشكل مستدام. حيث يرى ليبهارت أنَّ التنفيذ الصحيح لاشتراطات التوافقية هو أساس نجاحها؛ وأن معظم إخفاقات أنظمة تقاسم السلطة ترجع إلى إتباع أسس لا تتوافق أو تعطل اشتراطات التوافقية الأربعة التي تم ذكرها سالفًا، ولا سيما ضعف التصميم المؤسساتي والسياسي الذي ينبغي أن يتيح المشاركة السياسية على نطاق واسع.[18]
أما البعد الآخر الذي يؤثر في نجاح الحكومة التوافقية فهو مدى التدخل الخارجي وتأثيره في درجة الإجماع بين النخبة الحاكمة المُؤتلفة. وليس كل تدخل خارجي هو سلبي بالضروة، حيث يعتقد مايكل كير أن تدخل القوى الخارجية، القادرة على تحريك المشهد السياسي أو تغييره، قد يصبح عاملًا إيجابيًا ودافعًا إلى التوافق وإنهاء الصراع، إذ يمكن للاعبين الخارجيين المؤثرين الضغط على النخب التمثيلية من خلال تقديم الحوافز والدوافع لإقناعهم بالمشاركة في الحكومة التوافقية كما حدث في أيرلندا الشمالية ولبنان في مراحل مختلفة، مقابل مصالح متحققة لهم من تواصل الأطراف المتنازعة.[19] بينما يعتمد نوردلينغ عاملًا آخر في تحديد أسباب نجاح أو فشل الحكومة توافقية في مرحلة الفترة الانتقالية أو مرحلة بعد الصراع، وهو الأداء السياسي ومستوى الإجماع بين القادة السياسيين.[20]
ثانيًا: واقع الحكم التوافقي
1 – نموذج البوسنة والهرسك:
بعد أن عانت البوسنة والهرسك صراعا دام أربع سنوات من 1992 إلى 1995، والذي شهد تطهيرًا عرقيًا وتهجيرًا لأكثر من نصف سكان البلاد، راح ضحيته أكثر من 100000 شخص، تمكنت اتفاقية دايتون التي اعتمدت نظام الحكم التوافقي من تجميد الصراع وتحويله من صراع مسلح مفتوحٍ إلى صراع سياسيّ[21]. إلا أن كثيرًا من الأكاديميين يعتقدون أنه ما حققه الحكم التوافقي في البوسنة أقرب إلى السلام السلبي الهش رغم وقف العمليات العسكرية على الأرض، كونه لم يتمكن حتى الوقت الراهن من خلق بيئة ديمقراطية حقيقية وفاعلة تلغي الانقسامات بين الأحزاب العرقية والإثنية ومجتمعاتها.[22] وقد يرجع السبب جزئيًا إلى تدخل القوى الخارجية مثل الولايات المتحدة وروسيا.[23]
2 – نموذج لبنان:
أدى تطبيق اتفاق الطائف في لبنان عام 1989 والمعروف رسميًا باسم وثيقة الوفاق الوطني إلى إيقاف الحرب الأهلية التي أودت بحياة أكثر من 120 ألف شخص بين عامي1975 -1990. فقد اعتمد الطائف على مبدأ التوافقية من خلال تفعيل العملية السياسية التشاركية وتقاسم السلطة والتي سميت بالفضاء اللبناني بالمحاصصة[24]، وعلى الرغم من وجود أعمال عنف متقطعة في عامي 2005 و2008 بين الأطراف المتحاربة، لكن الاتفاقية والضغط الخارجي الذي مورس من اللاعبين الاقليمين استطاعوا أن يغيبوا شبح الحرب الأهلية للعودة من جديد[25]، غير أن التوافقية ربما كانت أيضًا سببًا في أزمات سياسية حادة، أصابت المؤسسات السياسية والحكومية بالشلل النسبي، وكرست الانقسام على المستوى الاجتماعي، ولا سيَّما مع التدخل (السلبي) للأطراف الخارجية.
3 – نموذج ايرلندا الشمالية:
شهدت أعمال العنف في أيرلندا الشمالية، المعروفة ب «الاضطرابات» مواجهات مسلحة اتخذت طابعًا طائفيًا قوميًا، بين مجموعات شبه عسكرية كاثوليكية “القوميون” سعت لانفصال إيرلندا الشمالية عن المملكة المتحدة، وجماعات شبه عسكرية بروتستانتية ” الوحدويون” المؤيدة للتبعية لويستمنسر لندن.[26] ولما شهده هذا الصراع، والذي كان أساسه اختلاف الولاءات الوطنية، من جمود طويل دام ثلاثة عقود، فقد عدَّه عددٌ من السياسيين والمراقبين صراعًا ميؤوسًا منه.[27] لكن في عام 1998 نجحت اتفاقية الجمعة العظيمة، التي هندسها الأمريكي جورج ميتشل، في وضع حد للمواجهات العدائية المسلحة، وبتحويل الخصوم الذين كانوا يوصفون بالارهابيين والمطلوبين للاعتقال إلى شركاء في الحكم من خلال مبدأ تقاسم السلطة والذي يعد جوهر التوافقية.
وبمقارنة النماذج الثلاثة السابقة نستطيع أن نصل إلى نتيجة مفادها أن الحكومة التوافقية استطاعت إدارة الصراع الإثني الطائفي وذلك بتجميد الصراع المسلح بل وتحويل أطرافه إلى شركاء في الحكم واتخاذ القرار. مع الأخذ في الحسبان أن الحالات السابقة تباينت بتطبيقاتها وإعدادتها ما سبب اشكاليات وإفرازات زادت من الخلافات في المشهد الاجتماعي والسياسي بعيدًا عن المواجهة العسكرية. فالوضع في لبنان كان أقل نجاحًا من إيرلندا الشمالية ويرجع ذلك بسبب لعب القوى الخارجية دورًا سلبيًا يتمثل في دعم إيران لطرف لبناني داخلي”حزب الله” وتمويله بالأسلحة والمساعدات المالية[28]، بالمقابل الدعم الخليجي (السعودي خصوصا) للأطراف اللبنانية الأخرى “تيار المستقبل وحزب القوات اللبناني” ما أنتج ثنائية صراع أطلق عليها محللون غربيون اسم «الحرب الباردة» في الشرق الأوسط.[29]
4 – التوافقية العراقية- حالة معاكسة
لم يأت الحكم التوافقي في العراق سعيًا لإنهاء صراع مسلح بين إثنيات عراقية، كما في النماذج السابقة في البوسنة ولبنان وإيرلندا الشمالية، بل جاء لإشراك المكونين الشيعي والكردي في الحكم فضلًا عن السنة، على افتراض أن العراق بلدٌ متعدد الطوائف والأعراق، فشل في بناء هوية وطنية جامعة عابرة للطوائف منذ استقلاله، وقد تبنى الاحتلال الأميركي للعراق بعد الغزو عام 2003 سردية أن المكون السني استحوذ على السلطة في البلاد لسنوات طويلة ما عزز الانقسامات الاجتماعية والإثنية والقومية.[30] لكن الدستور الذي تم إقراره عام 2005 لم ينص كذلك على مبدأ التوافقية من خلال تقاسم السلطة ونسب التمثيل في الحكومة بشكلٍ واضح ومحدد، بل اكتفى بالإشارة في النص إلى النظام الفدرالي، الذي لم يتحقق إلا للأكراد في شمال البلاد، وإلى النظام الانتخابي النسبي في أوضاع محددة.[31]
يرى ماكغري وأوليري أن هذه الحكم التوافقي اتخذ شكل «توافقية ليبرالية» والتي تعني أنها بمثابة تسوية سياسية تتجنب التوافقية الواضحة ولا تتماشى كذلك مع نهج التكاملية والأغلبية.[32] أما دودج فذهب إلى أبعد من ذلك؛ إذ عرّفها بأنها اتحاد كونفدرالي غير رسمي يدعم مصالح النخب السياسية من خلال تقاسم المناصب واستخدام الموارد لتمويل الأحزاب السياسية وليس لدعم العملية الديمقراطية.[33]
تسبب النمط العراقي من التوافقية، فضلًا عن عوامل أخرى من تبعات الغزو الأمريكي، بنزاعات طائفية مسلحة عدة بين الجماعات السنية والشيعية الرئيسة، من أبرزها أعمال العنف الطائفي التي اعتبرت واحدة من أكثر الفترات دموية في تاريخ العراق بين عامي 2005 -2007، [34] إضافة إلى اتهامات مستمرة وُجهت للأحزاب الشيعية بأنها تتحكم وتستفرد بمفاصل القرار السياسي، وتعمل على إقصاء المكون السني من القرار من خلال خفض تمثيله في الحكومات والمؤسسات، كما حدث في حكومة إبراهيم الجعفري.[35] كما وقعت موجة عنف ثانية بين عامي 2010 -2014 بعد اتهام رئيس الوزراء الشيعي نوري المالكي بتهميش السنة والأكراد، ومحاولة الخروج علن النظام التوافقي، وفرض حكم (الأغلبية الشيعية) مستغلًا انسحاب القوات الأمريكية عام 2011.[36] أما الموجة الثالثة فكانت في عام 2022 عندما أصر الزعيم الشيعي مقتدى الصدر الذي فاز في انتخابات أكتوبر 2021 بأغلبية ساحقة على تشكيل حكومة أغلبية تجمع تياره الواسع مع ممثلين عن الأكراد والسنة، وهذا ما دفع بخصومه من الشيعة إلى مواجهته ما أدى إلى اشتباكات محدودة.[37] وهكذا استبدلت النخب السياسية التوافقية بنظام «المحاصصة» الذي يقوم على تقاسم السلطة السياسية في العراق على شكل حصص[38]، ما أدى إلى ضعف النظام السياسي، وانتشار الفساد، والتوتر الطائفي، وظهور الميليشيات المسلحة، وسوء الإدارة على نطاق واسع، ونقص الخدمات.[39] ورأى فنر حداد أن نظام المحاصصة هو أسوأ نسخة من التوافقية الذي يؤسس لأرضية خصبة للفساد والتواطؤ وشبكات المحسوبية التي أصبحت تميز الحياة العامة في العراق.[40] كما يرى كثير من مكونات الشعب العراقي في استطلاعات رأي متفرقة أنَّ المحاصصة تسببت في الواقع في إراقة دماء طائفية لأنها سمحت لبعض الأحزاب بالاستفادة من السلطة، بينما لا يزال يعاني معظم سكان الدولة الغنية بالنفط من الفقر.[41] لذا نجد أنَّ التوافقية في العراق لم تكن قادرةً على منع اندلاع أعمال العنف الطائفي، بل على العكس، فربما تكون مسؤولة نسبيًا عن التوترات الطائفية المستمرة نتيجة غياب الإجماع والتوافق بين الطبقة السياسية على أسس تشترطها التوافقية في حكم الدولة. وكانت تحت عاملين ضاغطين أولهما التدخل الخارجي متعدد الأطراف، ولا سيَّما إيران، وثانيهما غموض مبادئ التوافقية في دستور 2005. أيضًا لا يمكن إغفال أن الديمقراطية التوافقية في العراق أو لبنان لم تتمكن من التطور والعمل كما كان يأمل العديد من مؤيدي التوافقية ومهندسييها إلى حالة من الديمقراطية المعيارية، ويمكن إرجاع أحد أسباب ذلك إلى أن البلدان يقعان في منطقة بيئة إقليمية غير ديمقراطية بالأساس.[42]
ثالثًا: التوافقية لا تلغي الانقسامات الاجتماعية
على الرغم من أن النظرية التوافقية أصبحت الركيزة النظرية الرئيسة لعمليات السلام حديثًا، إلا أن جوهرها لا يستهدف معالجة الاختلافات الإثنية والثقافية بين المكونات المتصارعة في المجتمع المنقسم أو المتعدد ما بعد الصراع.[43] بسبب اعتقاد الاندماجيين بأن الاعتراف الرسمي بالانقسامات الإثنية القومية وإضفاء الطابع المؤسساتي عليها يزيد من بروزها داخل المشهد السياسي. ويرى هورويتز أنَّ الخطر في الترتيبات التوافقية القائمة على الإثنية يكمن في تمثيل المجتمع على أنه يتكون من مجموعات إثنية منفصلة، وأنَّ إنشاء مؤسسات لحماية حقوقهم يحافظ على هذه الهويات ويعززها ويحدُّ من بناء هوية وطنية واحدة.[44]
وعودة إلى التجربة فقد أدت الحكومة التوافقية في بعض الحالات إلى تسييس الهويات العرقية؛ فعلى سبيل المثال ما يزال المجتمع في أيرلندا الشمالية مقسّمًا إلى حد كبير على أسس طائفية مع استمرار المواطنين في التصويت بأغلبية ساحقة للأحزاب التي تشاركهم انتماءاتهم الدينية والسياسية[45]، وما يزال معظم الكاثوليك يفضلون حزب «الشين فين» أو الحزب الاشتراكي العمالي SDLP، بينما يؤيد البروتستانت” االاتحاد الديمقراطي” DUP أو«حزب أولستر الوحدوي» UUP.[46] حيث حلّت الأحزاب الأكثر تطرفًا كحزب «الشين فين» و«الحزب الديمقراطي الاتحادي» DUP محل الأحزاب الأكثر اعتدالًا مثل «الحزب الاشتراكي العمالي» SDLP و«حزب أولستر الوحدوي» UUP، وأصبحت الأحزاب المهيمنة في مجتمعاتها.[47]
وتتميز التجربة اللبنانية بأنها أكثر دراماتيكية من تجربة أيرلندا الشمالية، فالشعور بالهوية اللبنانية الشاملة لم ينضج بعد مرور أكثر من سبعة عقود على الاستقلال،[48] ويجري الاقتراع في لبنان على أسس طائفية أكثر من أيرلندا الشمالية، فبينما اكتسب حزب «التحالف بين المجتمعات» في أيرلندا الشمالية قاعدة جماهرية واسعة، فقد فاز حزب «كلنا وطني» غير الطائفي بمقعد واحد فقط في انتخابات 2018 لمجلس النواب اللبناني.[49] هذا يعني أن الانقسامات الأساسية ما تزال باقية، وهي قد لا تبدو عنيفة بشكل علني إلا أنها متجذرة بعمقٍ في الواقع السياسي.
الخاتمة
تكمن إحدى نقاط القوة في النموذج التوافقي في إدراكه للتحدي المتمثل في إدارة مرحلة ما بعد الصراع حيث تكون المجتمعات منقسمة بشكل كبير، وعلى الرغم من أنَّ هذا النموذج يمكنه إنهاء النزاعات المسلحة فقد يكون أقرب إلى «هدنة طويلة» منه إلى «سلام إيجابي». أضف إلى ذلك أنّه لم يتم التغلب على الانقسامات بشكل كامل على الصعيد العملي؛ لذا نجد من خلال الأمثلة السابقة أنّ الحكومة التوافقية نجحت نوعًا ما في تنظيم الصراعات الإثنية والطائفية والدينية، ولكنَّ الهويات المتعددة، وانتشار التصويت الطائفي والعرقي القومي ما يزال قائمًا، ويعتمد نجاحها في تحقيق السلام في مجتمع منقسم على عدد من العوامل المترابطة كالعوامل الخارجية الإيجابية، وتوثيق التصميم المؤسساتي في الدستور، وسلوك النخبة السياسية، وطريقة التمثيل النسبي المناسبة. قد يكون من المغري أن نعدَّ التوافقية شكلًا من أشكال الديمقراطية إلا أنَّها في الحقيقة شكل من أشكال التعايش، موقَّت في أفضل الأحوال، ومُعرّض للتفاقم إلى حالة الصراع في أيِّ لحظة عندما تتغير أي من العوامل المُخففة من حدته.